رواية قلب السلطة الفصل الثامن عشر 18 بقلم مروة البطراوي

        

 رواية قلب السلطة الفصل الثامن عشر بقلم مروة البطراوي


ظل رائد جالسًا مكانه، بعد أن غادرت نيرفانا، وقد غمر الغرفة صمت كثيف، كأن الهواء نفسه توقّف عن الدوران.
نظر إلى انعكاس وجهه على الزجاج، ولم يرَ إلا ظلالًا متعبة... رجلًا أنهكته الحيرة، ومزّقته طرقٌ متفرعة لا يعرف أين تنتهي

رنّ الهاتف فجأة، فهزّه الصوت من شروده.

نظر إلى الشاشة، فانعقد حاجباه فورًا: الحاج صابر.

تردد لثوانٍ، ثم ضغط زر الإجابة، وجاءه الصوت من الجهة الأخرى جافًا كعادته، مشبعًا ببرود يعرفه جيدًا:

ــ "عرفت إنك رُحت لمدرسة البت."

لم يردّ رائد، فقط أغمض عينيه، وكأنه يشحذ صبرًا.

تابع الحاج صابر بصوت يحمل نبرة تهديد لا تُخطئها الأذن:
ــ "فاكر إنك طلعت منها سليم المرّة اللي فاتت؟!
لو ناوي تفتح باب اتقفل، تبقى بتحفر لنفسك يا رائد... وبتقرب من نار مش هتعرف تطفيها."

قال رائد بهدوء محسوب، لكن داخله كان يغلي:
ــ "اللي بيني وبينها مش من حقك تدخّل فيه. خلّي حدودك زي ما اتفقنا."

ضحك صابر ضحكة قصيرة لا روح فيها، ثم قال:
ــ "أنا ما بدخلش، أنا بنبّه... عشان لما توقع، ما تقولش ما حدش قاللي."

ثم أنهى المكالمة دون انتظار رد، تاركًا رائد يتنفّس ببطء، يحاول أن يطفئ نيرانًا اشتعلت في صدره من جديد.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
أعاد رائد الهاتف إلى سطح المكتب ببطء، وكأن أصابعه تتردد في تركه...
الصمت عاد، لكن هذه المرة كان أثقل.
أنفاسه المتقطعة فضحت اضطرابه، وعيناه ظلّتا معلّقتين في اللاشيء.

سُمع طرق خفيف على الباب، ثم فُتح بلطف، وظهرت يقين واقفة، بوشاحها الحريري وقلق واضح في ملامحها.

ــ "كنت فاكراك نزلت تنام، رائد."

رفع عينيه إليها، لم يردّ.

دخلت بخطوات هادئة، وجلست على طرف الأريكة، ثم نظرت إليه طويلًا وقالت:
ــ "هو كل مرة يكلمك فيها، بيهدّك كده؟"

تنهد ببطء، ونظر إلى الفراغ كأنما يحاول انتزاع كلماته من دخان أفكاره:

ــ "الحاج صابر ما بيكلمش... هو بيرمي قنابل، ويمشي."

أطرقت يقين برأسها قليلًا، ثم رفعت نظرها إليه:
ــ "عن ليلى؟"

هزّ رأسه، وقال بنبرة مُحملة بثقل القلب:
ــ "عارفة؟"

ابتسمت يقين ابتسامة حزينة:
ــ "من قبل ما يقول.
أنا بحسّ بيك، يا رائد.

سكت لحظة، ثم قالت بنبرة أكثر دفئًا:
ــ "بس خلّي بالك... الحاج صابر مش خطر في كلمته، هو خطر لما يلاقيك ضعيف.
قوم، وافق، أو انسحب... بس ما تسيبش نفسك معلّق، عشان هو ما يعرفش يرحم المعلّقين."

نظر إليها مطوّلًا، ثم قال بصوت خافت:
ــ "أنا ما كنتش ضعيف...
أنا كنت تايه."

مدّت يدها تمسك بكفه، وقالت برقة:
ــ "بس دلوقتي، الطريق باين.
وإنت لو مشيت فيه، أنا وراك... حتى لو وقف صابر نفسه." 
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
في السيارة، جلس رائد خلف المقود، لا يُدير المحرك، ولا يلتفت للساعة التي تومض أمامه. كانت يداه على عجلة القيادة، لكن روحه مشدودة للوراء... إلى تلك الغرفة، إلى عينيها.

أخرج سيجارة، أشعلها دون شغف، ثم أطفأها قبل أن يأخذ منها نفسًا.

فتح درج التابلوه، أخرج ظرفًا صغيرًا، آخر ورقة لم يسلمها لليلى... تلك التي تحمل الاسم الآخر، الاسم الذي أراد أن يتركه لقرارها وحدها.

حدّق فيه طويلًا، ثم همس وكأنه يعترف لمرآته:
ــ "لو كانت ضحية... يبقى أنا الجاني مرتين."

رنّ هاتفه. اسم "يقين" ظهر على الشاشة. تردد، ثم أجاب:

ــ "رائد... فين؟ ليلى اتكسرت النهاردة، وأنا مش قادرة أوصلها."
ــ "أنا السبب يا يقين... بس كان لازم تعرف."
ــ "وهتسيبها بالوجع ده؟"

أغلق الهاتف دون رد، ووضع رأسه على المقود، بينما تنفّس المدينة في الخارج يمضي... وهو، في داخله، لم يغادر بعد.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
في شقتها المطلة على النيل و التي لا يعرفها أحد سوى شامل ، كانت يقين تجلس على الأرض، وقد فرشت أمامها أوراقًا قديمة وصورًا باهتة.
الشمس بدأت تميل، ودفء الضوء ينسكب على وجنتيها كأنّه يواسيها.
لكنها لم تكن بحاجة لمواساة...
كانت بحاجة لفهم.

**

مرّت أناملها على صورة تجمعها بوالدها، راسم الذهبي، ذلك الرجل الذي رحل وترك خلفه كثيرًا من الأسئلة، وأقلّ القليل من الأجوبة.

همست وهي تحدّق في صورته:

ــ "أبوك كان إيه فعلًا؟ عمود في العيلة؟ ولا ظلّ طويل لحد تاني؟"

**

رنّ هاتفها فجأة.
اسم المتصل: "يحيى الدالي" — محامي العائلة.

أجابت، وصوتها محايد:
ــ "اتفضّل، يا أستاذ يحيى."

ــ "مساء الخير، مدام يقين... آسف على الإزعاج بس فيه حاجة مستعجلة ظهرت النهارده."

ــ "خير؟"

ــ "ملف قديم طلع من أرشيف الشركة، بتاريخ ٢٠٠٣... توقيع والدك فيه واضح، لكن في طرف تاني توقيعه غريب."

ــ "غريب إزاي؟"

ــ "الطرف التاني هو نديم الغالي."

**

تجمّدت يقين في مكانها.
اسم... لم يُذكر منذ سنين في بيتهم.

ــ "نديم؟ والد ليلى؟"

ــ "أيوه. بس الأغرب، إن الملف مافيش له نسخة في سجلّات الشركة، كأنه اختفى عمداً... ولولا إنه كان ضمن مستندات تانية مرميّة في أرشيف الأدوار العليا، ماكنّاش لقيناه."

**

قالت يقين بعد لحظة صمت:

ــ "ابعتلي نسخة فورًا... ما تتكلمش مع حد تاني في الموضوع. مفهوم؟"

ــ "تمام يا فندم."

**

أغلقت الهاتف، وظلّت ممسكة به بيد مرتجفة.
نهضت، سارت نحو النافذة، وحدّقت في النهر.

نفس الاسم... يعود ليطفو من جديد.
نفس الوجع الذي لم يفهمه أحد غيرها...
ذاك اليوم، الذي سمعت فيه والدها يصرخ في وجه عمّها،
ثم يختفي صوت نديم من بيتهم إلى الأبد.

**

همست كأنها تحاور الظلّ:

ــ "لو اللي في الورق ده حقيقي... يبقى إحنا كلنا كنا بنعيش في كذبة كبيرة."

**

وفي قلبها، بدأت تقرأ المشهد من زاوية أخرى،
بعين لم تكن أبدًا بريئة،
لكنها هذه المرة... كانت حادّة كالسيف.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

دخل رائد إلى الصالة بخطوات هادئة، لكنه ما إن لمح يقين جالسة بشيء من الحماسة، حتى ارتسمت على وجهه علامات الريبة.

قال بنبرة متوجسة:
ــ "فيه إيه؟"

رفعت عينيها إليه، وابتسامة خفيفة تلوح على شفتيها وهي تحتسي الشاي:
ــ "ليلى جاية تتغدى معانا النهاردة."

توقف مكانه، حدّق بها كأنّه لم يسمع جيدًا:
ــ "عزمتيها؟!"

أومأت برأسها ببساطة، وكأن الأمر لا يستحق الدهشة:
ــ "حد كان لازم يحرك المياه الراكدة."

لم يرد على الفور، فقط ظل ينظر إليها، ثم تمتم بنبرة خافتة:
ــ "انتي بتلعبي بالنار، يقين."

ردّت بنظرة واثقة وصوت هادئ:
ــ "ما هو أنت اللي ولّعت أول شعلة."

---

قلب السلطة
بقلمي: مروه البطراوى 💜

دوّى جرس الباب بصوتٍ خافت لكنه ثقيل، كما لو أنّ الطرق نفسه متردّد.
اتجهت يقين بخطًى رشيقة نحو الباب، وفتحته على مهل.
كانت ليلى تقف هناك، بملامح محايدة أكثر من اللازم، وابتسامة بالكاد تُرى.

قالت يقين بنبرة مرحة خفيفة، تحاول بها إذابة الجليد:
ــ "نورتِ، يا ليلى."

هزّت ليلى رأسها بأدب:
ــ "البيت منوّر بأهله."

تبادلت الفتاتان نظرة قصيرة، تحمل الكثير مما لا يُقال.
ثم تراجعت يقين قليلًا لتفسح لها المجال، وأشارت بيدها:
ــ "ادخلي."

خطت ليلى إلى الداخل، كأنها تخطو فوق أرض لم تطأها من قبل...
المنزل نظيف، مرتب، دافئ... لا يشبه شيئًا مما يدور في رأسها.

وما إن دخلت حتى رفعت عينيها لتجده هناك.

رائد.

واقف في الصالة، بجانب الكنبة الجلدية، بذات الهيئة الهادئة التي تسبق العاصفة...
عيناه لا تفضحان شيئًا، لكن سكونه يشي بكل شيء.

تبادل النظرات بينهما لم يدم سوى لحظات، لكنه حوى تاريخًا كاملاً.

قالت يقين، وهي تلتقط إشارات التوتر وتُعيد توزيعها بلطف: ــ "الغدا قرب يخلص، تعالوا اقعدوا شوية لحد ما أجهز السفرة."

أومأت ليلى، وتقدّمت ببطء نحو الأريكة المقابلة لرائد.

جلس هو أولًا، دون أن ينبس بكلمة.
ثم جلست هي، محافظة على استقامة ظهرها، ووضعت حقيبتها بجانبها كأنها درع.

قال أخيرًا، بصوتٍ هادئٍ لا يخلو من الحذر: ــ "أهلاً بيكِ، يا أستاذة ليلى."

قالت، دون أن تنظر نحوه: ــ "أهلاً، يا أستاذ رائد."

استقرت الكلمات بينهما كأنها تُختبَر…
لا فيها دفء، ولا عداء... مجرد نبرة مُحايدة تُخفي خلفها جبهات متعددة.

وفي المطبخ، كانت يقين تُراقب الموقف من بعيد،
بينما تغلي في داخلها فكرة واحدة:
هل تكفي مائدة واحدة لجمع قلوب تمزّقت على نفس الطاولة؟

---
قلب السلطة
بقلمي: مروه البطراوى 💜

جلس الثلاثة حول السفرة المستطيلة…
يقين تتصدر المشهد بنشاطها المعتاد، تملأ الصحون، وتوزّع الابتسامات.
رائد على يمينها، وليلى على يسارها… بينهما أطباق كثيرة، وكلمات قليلة.

قالت يقين وهي تضع قطع الدجاج في طبق ليلى: ــ "دي وصفة جديدة جرّبتها امبارح… قولوا رأيكم بصراحة."

ردّت ليلى بابتسامة خافتة:
ــ "ريحة الأكل تشهي، أكيد هيعجبنا."

أما رائد، فاكتفى بهز رأسه وهو يمد يده نحو صحن السلطة، وقال: ــ "مفيش أكلة بتفلت من تحت إيدك يا يقين."

ضحكت يقين، لكنها لم تفوّت نظرة رائد السريعة لوجه ليلى…
نظرة قصيرة، لكنها تشبه الغصة.

بدأت المعالق تصطكّ بالأطباق في صمت…
كلٌّ يأكل دون نهم، وكأنّ الطعم ليس هو الهدف.

قالت ليلى فجأة، وصوتها كان مزيجًا من مجاملة واختبار: ــ "البيت شكله متغيّر عن اخر مرة كنت هنا … شكلك اشتغلت عليه كتير، يقين."

ردّت يقين بخفة، وهي ترشف من كوب الماء: ــ "كل حاجة اتغيّرت، مش بس الديكور."

تبادل رائد وليلى نظرة قصيرة، ثم أسرعت ليلى بتقطيع قطعة لحم في طبقها.
قال رائد بصوتٍ هادئ، وهو يضع شوكته: ــ "أحيانًا التغيير بيبقى هو الحل… لما المكان يختزن وجع، بنغيّر وشه… يمكن نعرف نعيش."

نظرت إليه ليلى، وبدا لوهلة أنها ستردّ، لكنها ابتسمت بسخرية خفيفة: ــ "بس مش دايمًا الوجع في المكان."

سقط الصمت للحظة، حتى قاطعته يقين بمرح مفتعل: ــ "اللي مزعلك يا ليلى، قوليلي… أنا هغيّره فورًا."

أجابت ليلى بنظرة دافئة يقين: ــ "أنا مش زعلانة، يا يقين… أنا بس لسه بتأقلم."

ثم أضافت، وهي تنقل نظرها لرائد: ــ "لما الواحد يكتشف إنه مايعرفش الناس اللي حوالينه بجد… بيحتاج وقت عشان يثق في أي حاجة."

قال رائد ببطء، وصوته كمن يمشي على الجمر: ــ "الثقة ما بتيجيش بالساهل… بس لو جت، لازم تكون كاملة."

رمقته ليلى بنظرة طويلة…
كأنها تحاول أن ترى فيه ذلك الشخص الذي اختبأ عنها طويلًا.

ثم وضعت شوكتها، وقالت برقة مغلفة بحدّة: ــ "أنا ما بطلبش حد يثق فيّ… أنا بس عايزة أعرف أنا وِقفتي فين."

همّت يقين بالكلام، لكن رائد أشار لها بنظرة أن تترك الأمر.

ثم قال بوضوح: ــ "وقفِتك في وش الحقيقة، يا ليلى… والباقي قرارك."

ساد صمت ثقيل…
حتى الملاعق بدت كأنها تتردد قبل الحركة.

وفي قلب تلك السفرة الأنيقة،
كانت أرواح ثلاثة تتذوّق شيئًا مريرًا لا يُطهى على نار،
بل على صدق لا مفر منه.

---
قلب السلطة
بقلمي: مروه البطراوى 💜 
كانت الأجواء بعد الغداء مشوبة بصمت ثقيل، تتنقّل فيه النظرات أكثر مما تتحرّك الكلمات. رائد جلس في طرف الصالة يتظاهر بالانشغال بتقليب صفحات كتاب مهترئ، بينما يقين توضّب الصحون في المطبخ، وليلى تقف خلفها تهمّ بمساعدتها، وإنْ بدا عقلها بعيدًا تمامًا عن الأطباق.

رنّ جرس الباب.

رفعت يقين رأسها، نظرت بسرعة إلى الساعة، ثم إلى ليلى، ثم ابتسمت كأنّ شيئًا سرّيًا على وشك أن يُكشف.

قالت وهي تمسح يديها في المريلة: ــ "أنا هافتح."

فتحت الباب، لتقف امرأة خمسينية، ملامحها مرهقة لكن نظراتها حادة، تحمل في يدها حقيبة أنيقة، وتخفي في قلبها ما لا يُقال. كانت السيدة عفاف، والدة ليلى نديم الغالي.

نظرت يقين إليها بحنان: ــ "أهلاً وسهلاً، كنت مستنياكي."

دخلت الأم بخطى واثقة، لكن قلبها كان مترددًا في كل خطوة. لمحها رائد من مكانه، فاعتدل في جلسته، ثم نهض واقفًا، ولم يتكلم. أما ليلى، فما إن سمعت صوت السلام، حتى توقّف كل شيء في يدها، التفتت ببطء... وعيناها اتسعتا بدهشة أقرب للذنب منها للفرح.

قالت الأم بصوت ناعم، لكنه يحمل شيئًا من اللوم: ــ "ما تسأليش فيا يا ليلى بقالك اكتر من اسبوع بره البيت ؟"

تقدّمت ليلى نحوها بخطوات مترددة: ــ "ماما...؟ انتي إزاي...؟"

نظرت يقين إلى المشهد، ثم انسحبت بهدوء إلى عمق المطبخ، تاركة الماضي يتكلّم.

قالت الأم وهي تمسك بيد ابنتها: ــ "أنا جيت أسمع الباقي... لأن اللي حصل ما ينفعش يتسكت عليه، لا زمان ولا دلوقتي."

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜

الصالة كانت مشبعة برائحة الطعام الباقية، لكن الهواء مشحون بشيءٍ آخر...

جلست نيفين على الأريكة، تحتضن حقيبة يدها وكأنها تتشبّث بيقين داخلي، بينما تقف ليلى على بُعد خطوة من رائد ويقين، نظرتها ثابتة، وكتفيها مشدودان.

قالت يقين، بنبرة حاولت أن تكون دافئة لكنها ارتطمت بالجمود: ــ "ماما نيفين، ليلى جت النهارده عشان نقعد مع بعض بهدوء... يمكن نوضح حاجات."

ردّت نيفين بنبرة حاسمة، وهي تنظر إلى رائد: ــ "أنا ماجيتش عشان أسمع توضيحات... أنا جاية مع بنتي."

نظر إليها رائد بصمت، لم يرد، فقط رمق ليلى بنظرة قصيرة قبل أن يحوّل عينيه إلى الأرض.

ليلى استجمعت شجاعتها، ثم قالت بصوت أقرب للهدوء الحازم: ــ "أنا مش طالبة تبريرات، ولا جاية أسمع خطب... بس فيه ورق، طلعلي، بيقول إن بابا ماكانش بريء زي ما كنت فاكرة... وإن اللي بيننا، يا رائد، ماكنش صدفة."

رفعت نيفين رأسها بسرعة، وقالت بحدة: ــ "مين سمحلك تفتحي الدفاتر القديمة؟! أبوك مات من سنين، وسايبنا على قد حالنا."

أجاب رائد، للمرة الأولى، بهدوء ثقيل: ــ "اللي سمح... هو الورق اللي اتسرب من خزنة جدي. ماكانش قصدي أوجّع، بس كان لازم تعرف الحقيقة."

قاطعتهم يقين، وعيناها تلمعان بخوف: ــ "بس الحقيقة مش دايمًا بتصلح... أوقات بتكسر أكتر."

تقدّمت ليلى بخطوة، نظرت نحو أمها، ثم رائد، وقالت: ــ "أنا مش هنا عشان أنتقم... أنا عايزة أعرف أنا واقفة فين. لأن طول عمري شايلة ذنب ماعرفوش... وخوف من شخص، طلع مظلوم زيه زيّا."

سكت الجميع للحظة، سكون مربك... فقط عقارب الساعة تملأ الفراغ.

قالت نيفين، وصوتها يرتجف رغم صلابتها الظاهرة: ــ "وإنت يا يقين؟ ليه ماقولتليش من الأول؟"

قالت يقين وهي تقترب من والدتها، تمسك بيدها: ــ "كنت مستنياهم يواجهوا بعض، من غير وساطة... ومن غير ما نحكم مسبقًا. بس كنت لازم تكوني معانا في اللحظة دي."

اقترب رائد ببطء، وعيناه على ليلى: ــ "أنا مش طالب منك تصدقي كل حاجة... بس على الأقل شوفيها، بعينك، مش بعين اللي ربّانا على رواية واحدة."

سكتت ليلى، ثم قالت بصوت منخفض: ــ "أنا شوفت... وباقي أصدّق. ودي أصعب خطوة."

تنهدت نيفين، ثم نظرت إلى ابنتها بحنان ممزوج بالخوف: ــ "لو حسّيتي إن قلبك مش مطمن، نمشي حالًا يا ليلى."

لكن ليلى لم تتحرك.

المشهد لم ينتهِ بالحسم... لكنه كان أول خيطٍ في نسيج جديد، قد يُخاط من الألم صدقًا، أو يُمزّق إن عاد الجميع للتكذيب.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

قبل أن تهبط نيرفانا وتكسر بصخبها البريء جوّ الاحتقان المتجمّد، كانت الأبواب ما تزال تستقبل القادمين... ومع كل طرقة، كان التوتر يتزايد كأنّه يجرّ وراءه ماضٍ بأكمله.

رنّ جرس الباب للمرة الثانية، فتقدّمت يقين بخفة لفتحه، كأنها تنتظر أحدًا... وحين انفتح الباب، انكشف وجه مهاب، مترددًا، حذرًا، لكنه لم يكن غريبًا عن هذا البيت.

رفعت يقين حاجبيها بتودد: ــ "كنت قلتلك تيجي... يمكن وجودك يفتح باب ماكانش حد قادر يقربه."

لم يُجِب، فقط أومأ برأسه، ودخل بخطوات مترددة، كأن الأرض لا ترحب به بعد، وكأن صمت الجدران يراقبه.

دخلت ليلى الصالة بعد دقائق، ثم توقفت فجأة... عيناها استقرتا على مهاب، لكنها لم تنطق بشيء. فقط نظرة سريعة، صامتة، امتزج فيها العتاب بالغربة.

رائد لاحظ كل شيء. التفت نحو يقين بنظرة جانبية، لكنها لم تُبدِ ندمًا، فقط جلست بهدوء ورفعت كوب الماء إلى شفتيها.

قال مهاب أخيرًا، بصوت خفيض: ــ "أنا جيت لأني ماقدرتش أرفض لما يقين كلّمتني... ولو ده مش مناسب، ممكن أمشي فورًا."

ردّت ليلى دون أن تنظر إليه: ــ "مش مهم الوقت... المهم الكلام."

وبهذه الجملة، جلس مهاب، وانضمّ إلى الطاولة، وفي قلبه أكثر مما قال، وفي قلبها أكثر مما سُمع.

ثم نزلت نيرفانا، وانقلب الجو كأن الحياة قرّرت أن تُذكّرهم بأن الأطفال لا يعترفون بالضغائن، ولا يقرؤون التوتر في الوجوه. ابتسامتها، وقهقهتها الصغيرة، كسرت الحاجز، ودفعتهم واحدًا تلو الآخر للجلوس حول الطاولة، وكأنّهم أُجبروا على الهدنة.

**
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

نيرفانا تجلس بجانب ليلى، وعيونها تلمع بفرح الطفولة وهي تتحدث بلا توقف:
ــ "هنتعيش مع بعض، يا مامي ليلى... وهروح أوضتي وأختار فساتين جديدة، ونخرج سوا نشتري حاجات كتير، وأنتي بس تبقي 'مامي ليلى' بس!"

ليلى تبتسم بابتسامة هادئة، لكن عينيها تبحثان عن رائد، الذي كان يجلس مقابلها، صامتًا لكنه يراقبها بتركيز.

نيفين، أم ليلى، تنظر إلى رائد، وتقول بجدية:
ــ "رائد، أنت عارف إن الموضوع مش سهل، خصوصًا مع نيرفانا، ولازم تكون مسؤول عن بنتي برضه."

رائد يرد بهدوء وثقة:
ــ "أنا مش  بلعب لعبة، ولا  هأقدم نفسي كبطل في قصة.
أنا هأبدأ صفحة جديدة بصدق، وبكل المسؤولية."

نظر إلى ليلى مباشرة وقال:
ــ "أنا عارف إن بينا مش سهل، يا ليلى... بس ماقدرش أعديه  من غير ما ندي نفسنا فرصة.
لو في فرصة... لازم تبدأ منك."

نيفين تمسك يد ليلى بحنان، وتقول:
ــ "أنا عارفة إنك قوية، يا بنتي.
بس خايفة عليكِ.
وأنا هبقى جنبك، مهما حصل."

نيرفانا تهمس ببراءة:
ــ "أنا نفسي تبقي عيلتي سعيدة."

ليلى تبقى صامتة، لكن في عينيها صراع كبير بين الأمل والخوف.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
داخل العاصفة...

رغم ما بدا من الهدوء الظاهري، خيّم على أرجاء المنزل شعورٌ خفيّ، كثيفٌ كالسحاب الداكن قبيل المطر. لم تكن الكلمات المتبادلة تكفي لحجب التوتر الكامن في نظرات العيون، ولا لستر ذلك الشعور المُعلّق في الهواء، وكأنّ الجميع يتحسّسون شيئًا ما دون أن يصرّحوا به.

كانت نيرفانا قد أنهت حديثها المبهج، وجلست قرب ليلى تلتصق بها بحنوٍّ طفولي، تهمس لها بحماس لا ينضب:

ــ "أنا ونِتِي بقى نروح نشتري الفستان سوا، ماشي؟ هو أنا هسيبك تعملي حاجة من غيري؟ ده أنا هابقى مع مامي ليلي طول الوقت!"

ابتسمت ليلى، ابتسامة باهتة، متكلّفة. لم يكن ذهنها في ما تقوله الصغيرة، ولا حتى في تفاصيل الجلسة حولها. كانت تائهة بين تلك الكلمات القليلة التي قالها رائد منذ قليل، والتي بقيت ترنّ في رأسها بصوتٍ خافت لا ينطفئ: "أقرب مما تتخيلوا".

لم تكن تفكر في الفرح، بقدر ما كانت تغوص في أعماق قرارها، ذلك القرار الذي بدا لها، الآن، أثقل من احتماله. كيف تتخذ موقفًا وهي بعد لم تتيقن من مشاعرها؟ وكيف تردّ وهي محاطة بعينَي والدتها، وصمت مهاب، وتلك الابتسامة الثابتة على وجه رائد؟

نظرت ليلى نحو أمّها التي كانت تتبادل الحديث مع رائد حول ترتيبات أوليّة. بدا صوت نيفين خافتًا، محسوبًا، كما لو كانت تمشي على خيطٍ دقيق. أما مهاب، فظلّ صامتًا، يراقب المشهد بنظرة لا تُقرأ، ولا تُفصح عن انطباع صريح.

في تلك اللحظة، أدركت ليلى أنها تقف، بالفعل، على حافة العاصفة. لكن الغريب أنها لم تكن تخشى العاصفة ذاتها، بل ما يليها... الهدوء الذي يأتي بعدها، وقد يحمل معه ما لا يمكن التراجع عنه.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
ساد صمتٌ قصير، قطعه صوت خطوات رائد وهو يقترب أكثر. لم يجلس، بل ظل واقفًا، مستندًا بكفه إلى ظهر الكرسي الخشبي، ناظرًا إلى نيفين ثم إلى ليلى بنظرة حاسمة، وكأن لحظة الإعلان قد حانت.

ــ "أنا شايف إننا نخلّص كل حاجة قريب."

رفعت نيفين حاجبيها، بينما ليلى عقدت حاجبيها في توتر، تظاهرت بعدم الفهم.

ــ "قريب يعني إمتى بالظبط؟" سألت نيفين، نبرة صوتها خليط من الحذر والاستفهام.

أجاب رائد بنبرة ثابتة، لا تحتمل الكثير من التأويل:

ــ "الجمعة الجاية."

شهقت نيفين خافتًا:

ــ "الجمعة؟ دا بعد أسبوع يا رائد بيه! ده مش وقت كفاية خالص!"

ابتسم بخفة، وعيناه تتنقلان بين الأم وابنتها:

ــ "أنا مش بحب أطوّل في الحاجات اللي اتحسمت. والليلة دي... بالنسبالي، كل حاجة بقت محسومة."

ليلى ظلت صامتة، لكن وجهها بدا كمن تلقى صدمة خفيفة. أرادت أن تعترض، أن تطلب وقتًا أطول، أن تقول شيئًا يوقف هذا الاندفاع، لكنها وجدت نفسها تهمس فقط:

ــ "بس... إحنا لسه ما اتفقناش على التفاصيل..."

اقترب منها أكثر، وخفَّ صوته وهو يوجه حديثه إليها فقط:

ــ "التفاصيل؟ التفاصيل دايمًا بتيجي بعد القرار... مش قبله. وأنا قررت يا ليلى."

كلماته لم تكن قاسية، لكنها لم تكن قابلة للنقاش.

ثم التفت نحو نيفين مجددًا، يحاول أن يمنحها بعض الطمأنينة:

ــ "هنعمل حاجة بسيطة، أهلية. لا فرح كبير ولا صخب. وهنرتبها سوا لو حبيتي تساعدي في التفاصيل."

أومأت نيفين ببطء، وكأنها لا تزال تحاول اللحاق بما يُقال، ثم قالت في صوت أقرب إلى الهمس:

ــ "طيب... لو ده قراركوا... إحنا ما نملكش غير الدعاء بالتوفيق."

ثم نظرت إلى ليلى، بعين أمٍّ لا تعرف إن كانت تسلّم ابنتها لقدر جيد، أم ترسلها إلى قلب العاصفة.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
تبدّلت أجواء المنزل تدريجيًا، وإن ظلّ الغموض والقلق يتغلغل في تفاصيله، محيطًا بالحاضرين كسحابة قاتمة لا تبرح السماء. جلست نيرفانا بين ليلي ونيفين، تنثر حكاياتها الطفولية بحماس عن تحضيرات الفرح، الفستان، والأحلام التي تلوّنت في خيالها البريء، بينما كانت ليلي، بعينيها التي تحملان ألف سؤال، بالكاد تستمع، كأنها تائهة في عالمٍ آخر.

أما رائد، فكان مستندًا إلى مسند الأريكة، يراقب الجميع بعينين لا تفوتهما أي حركة، لكن اهتمامه الأكبر كان منصبًا على ليلي، يترقب كل انفعال منها، كل همسة تحاول إخفاءها.

وقفت نيفين فجأة، ابتسامتها تحمل شيئًا من الذكاء وربما السخرية اللطيفة، لتقطع حديث نيرفانا:

ــ "بس يا نيرفانا، خلي العروسة تاخد نفسها شوية."

التفتت نيرفانا إلى ليلي بحيوية، وضعت يدها الصغيرة على يدها وقالت:

ــ "إنتي مش فرحانة،  مس ليلي؟!"

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
رفعت ليلى رأسها ببطء، ونظرت إلى عيني ابنتها نيرفانا بحيرةٍ واضحة، لم تجد ما ترد به على ذلك السؤال المباشر.

أفاقت من شرودها فجأة، وكأن كلمات الطفلة جذبتها من دوامة أفكارها المتشابكة، فارتبكت للحظة قبل أن تنطق بصوت هادئ، مُحاولًة أن تبدو متماسكة:

ــ "أنا... أكيد فرحانة، بس لسه مش مستوعبة. كل حاجة حصلت بسرعة، وكل حاجة حواليّا بتتغير."

حينها، جاء صوت رائد العميق، هادئًا لكنه مشحون بمعانٍ خفية، يقطع الصمت وكأنه يرسم حدودًا جديدة:

ــ "أحيانًا، أحسن الحاجات في الدنيا بتجي فجأة، من غير ما تكون متوقّعها."

التفتت إليه ليلى بنظرة طويلة، متفحصة، كأنها تحاول أن تخترق ذلك السكون الذي يلفه بهدوءه المعتاد، لكنها لم تجد سوى صلابة رجل لا يُكشف بسهولة.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
نيفين، التي لم تغب عنها حالة التوتر المكبوتة بين ليلى ورائد، قررت أن تضيف بصمتها على المشهد، قالت بنبرة ساخرة تمزج بين المتعة والحذر:

ــ "وأحيانًا برضه، الحاجات اللي بتيجي فجأة بتكون زي الصاعقة، ما بتديش فرصة لحد يستوعبها."

ابتسم رائد بابتسامة خفيفة، لم يكن قد وقع في الفخ، بل بدا وكأنه يرحّب بهذا التحدي اللفظي:

ــ "الصاعقة مشكلتها الوحيدة إنها بتكشف الحقيقة، مش بتخلقها."

ضحكت نيفين بمرح، ثم رفعت حاجبها بدهاء، وكأنها تزن كلماته بدقة قبل أن تردّ:

ــ "كلامك مظبوط، بس برضه الصاعقة بتمحي أي حاجة في طريقها."

ظلّت الكلمات تحوم في الجو، تضع خطوطًا رفيعة بين التوتر والهدوء، بين ما يُقال وما يُخفى، ولم يكن أحد منهم على يقين تمامًا بما يخبئه القادم.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
تدخلت نيرفانا بسرعة، بنبرة طفولية ملؤها الإلحاح، محاولة أن تكسر التوتر:

ــ "يا جماعة، إحنا بنغوص في كلام كبير وحاجات غريبة، بس محدش قالنا إمتى الفرح؟"

لمحت ليلي نظرات رائد مع نيفين، ثم وجدت نفسها تواجه عينيه مرة أخرى، كأنهما يختبران مدى استعدادها للدخول في هذا المشوار.

ابتسم رائد بخفة، وأجاب بثقة:

ــ "الفرح يوم الجمعة الجاي، إن شاء الله."

وقعت الكلمة في أجواء الغرفة كقطعة ثلج باردة، جعلت ليلي تغمض عينيها للحظة تستوعبها، ثم همست بصوت خافت:

ــ "فعلاً... الجمعة؟"
أجاب رائد بصوت خافت لكنه حازم:

ــ "عمري ما بهزر في القرارات الكبيرة، ليلي."
تعليقات