رواية قلب السلطة الفصل التاسع عشر 19 بقلم مروة البطراوي

         

 رواية قلب السلطة الفصل التاسع عشر بقلم مروة البطراوي

ظلّت كلمات رائد تتردد في أذن ليلى كهمسٍ ثقيلاً لا ينفكّ يطاردها، يثقل صدرها بنبضات متسارعة، كأن قلبها يرفض هذا القدر المحتوم. شعرت فجأة بأن الأرض قد انزوت من تحت قدميها، وأن الهواء يضيق حولها، وكأنها محاصرة في زجاجة صغيرة لا تقدر على التنفس فيها.

الغرفة التي كانوا فيها بدت ضيقة أكثر من ذي قبل، جدرانها البيضاء التي لطالما كانت مصدر أمان، بدت الآن كأنها تقترب منها، تضغط عليها بكل برودة ملمسها، تخنقها بصمتها الثقيل. النوافذ المغلقة كانت تسمح فقط برقائق خفيفة من ضوء النهار الباهت، كأن الشمس ترفض الدخول إلى هذا المكان، تاركة الظلال تتراءى كأشباح تحوم بين الأركان.

رائحة القهوة التي كانت تتصاعد من الكوب على الطاولة لم تكن تملك قوة تخفف من ثقل اللحظة، بل بدت كعبء إضافي يختلط مع رائحة الورق والأثاث القديم، وكأن كل شيء هنا محاصر بين الماضي والحاضر، ينتظر أن ينفجر.

في هذه اللحظات المشحونة، كانت أصوات الغرفة تبرز بشكل مزعج، كل صوت أصبح مكثفًا: خرير الساعة القديمة على الحائط، ينبض بصوت متقطع يشبه دقات قلب متوتر؛ طرقات خفيفة من الشارع تتسلل عبر النافذة المغلقة، تعزف إيقاعًا غريبًا من القلق؛ حتى همسات نيرفانا الطفولية كانت تتردد كصدى بعيد، يحاول اختراق سحابة الصمت الثقيلة.

وفجأة، عبر الشارع، تسللت نسمات رياح باردة تحمل معها همسًا غامضًا، تلاها اهتزاز خفيف للأرض، كأن العالم من حولهم يلتقط أنفاسه مترقبًا. كان هذا الاهتزاز الرقيق كأنه نبض خفي للطبيعة، يختلط مع همس الرياح ليشكلان معًا لحنًا من الغموض والانتظار، يزرع قلقًا عميقًا في صدور الجميع.

على الطاولة، كانت شمعة واحدة تشتعل بلهيب هادئ، لكن مع كل نفَس من الرياح التي تسللّت من النافذة، بدأت تتراقص ألسنة اللهب بخفة، ترقص في اهتزازات متقطعة، كأنها تحاول المقاومة بين النور والظلام. تلك الحركة الصغيرة، رغم ضعفها، كانت كرسالة خفية بأن هذا المكان، وكل من فيه، على حافة تغييرٍ عميق.

أما النوافذ، فكانت تغلق بإحكام، لكن الرياح التي تعانق الزجاج بين الحين والآخر كانت تسبب اهتزازات خفيفة في الإطارات، تسمع معها صوت خافت يشبه التنهدات المكتومة، وكأن النوافذ نفسها تئن تحت وطأة الأسرار التي تكتمها، تحاول أن تهمس بما لا يُقال.

وسط هذه الأصوات، بدأ قلب ليلى ينبض بعنف داخل صدرها، دقاته المتسارعة تتداخل مع صمت الغرفة، كأنه يعلن تمرده على هذا الهدوء الثقيل. كان صوت دقات قلبها وكأنه طبول حرب، تملأ أذنيها بصدى متزايد، يرفع من حرارة جسدها ويثقل أنفاسها، فتشعر بأن كل نبضة تقربها أكثر من المجهول الذي يخيفها.

نيفين جلست بهدوء، لكن وقع قدمها على الأرض الخشبية القديمة كان واضحًا، كخطوة تتحدى الزمن، تحاول أن تقرر بين الماضي والمستقبل. وصوت أنفاس ليلى كان يعلو أحيانًا، يتقطع بين التوتر والخوف، كأنه همس داخلي يُكافح لفهم ما ينتظرها.

كل لحظة تمرّ كانت تزرع في قلب ليلى بذور القلق، تخاف من اليوم الذي سيأتي فيه الفرح، ذلك اليوم الذي سيكون له ثمن، ثمن غالي لن تدركه إلا حين تعبر بوابة ذلك الحدث.

وفي تلك الغرفة الصغيرة، حيث اختلطت أنفاس الحاضرين، بدا الصمت أثقل من الكلمات، كأنه إعلان صامت بأن شيئًا ما على وشك الانفجار، وأن رحلة ليلى لن تكون سهلة، وأنه في خلف كل ابتسامة مرتقبة، يكمن صراع داخلي يصرخ بلا صوت.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
وسط ذلك الصمت المطبق، شعرت ليلى بأن يديها ترتعشان بشكل لا إرادي، كأن جسدها يحاول أن يهرب من ذلك العبء الثقيل الذي يثقل صدرها. نظرت إلى أصابعها المتشابكة بإحكام فوق ركبتيها، تشعر بحرقة دفء الدم تتسرب من أعماقها إلى أطراف أصابعها.

تنهدت ببطء، لكن التنفس بدا لها متقطعًا وثقيلًا، كأن الهواء صار أثقل مما ينبغي. حاولت أن ترفع يدها لتُسرّح خصلات شعرها عن جبينها، لكن حركاتها كانت مترددة، مرتجفة، كما لو أن كل عضلة في جسدها تشهد تمردًا داخليًا.

عيناها التقت بنظرات رائد للحظة قصيرة، ثم أغمضت عينيها بإحكام، محاولة أن تستجمع قواها، لكن قلقة القلب لم تفارقها، فكان دقاته تتسارع مع كل ثانية تمرّ.

وفي هدوء، جلست ليلى تحرك قدميها في حركات صغيرة غير منتظمة، تكاد تكشف عن التوتر المكبوت، وكأنها تبحث عن توازنها وسط عاصفة المشاعر التي تجتاحها.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

نيفين، من جانبها، نظرت إلى ليلى بعينين مليئتين بالتفاهم والحنان، ثم أضافت بابتسامة خفيفة تحمل شيئًا من التحدي:

ــ "مفيش حاجة تستاهل الخوف لو إحنا متجمعين، حتى لو الدنيا هتزعل علينا. الفرح مش بس فرحة... ده بداية لفصل جديد. ومهما كان، إحنا مع بعض."

تنهدت ليلى ببطء، وأخذت تلك الكلمات تحفر في قلبها، محاولة أن تستمد منها بعض القوة لتواجه ما ينتظرها.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
بعد لحظات من الصمت الذي ملأ الغرفة، انسحبت ليلى بهدوء إلى ركن بعيد، بعيدًا عن نظرات الجميع. وقفت هناك، تنظر إلى الأرض، وكأنها ترى في تلك البقعة الصغيرة كل ما يحاصرها من مخاوف وأحزان.

داخلها كان عاصفة لا تهدأ، كأنها تتصارع مع نفسها في معركة صامتة. صوت رائد ونيفين لا يزال يتردد في ذهنها، لكنه لم يطفئ نار القلق التي تأججت من أعماقها.

همست لنفسها بصوت يكاد يكون شبحًا:

ــ "إزاي أكون قوية... وإزاي أضحك لما قلبي بيئنّ من الهم؟"

حاولت أن ترفع رأسها، لكن الدمعة الأولى لم تستطع مقاومتها، انزلقت ببطء على وجنتها، تلتقط معها كل ثقل الأيام والقرارات التي باتت معلقة على كاهلها.

رفعت يدها لتمسح الدموع، لكن في حركة لا إرادية، قبضت على طرف ثوبها بقوة، كأنها تحاول تثبيت نفسها وسط الفوضى التي تعيشها.

كل فكرة كانت تدخل إلى ذهنها تزرع فيها المزيد من الحيرة: هل ستنجح في مواجهة ما هو قادم؟ هل الفرح المنتظر سيحمل لها السلام أم المزيد من الألم؟

توقف الزمن حولها للحظة، وكأنها عالقة بين عالمين — عالم الطفولة البريء الذي ترغب في التمسك به، وعالم البلوغ المليء بالتحديات التي لا تعرف كيف ترد عليها.

ثم نظرت إلى النافذة، حيث الرياح تهمس من جديد، وألسنة اللهب في الشمعة ترفرف، وكأنهما يعكسان صراعها الداخلي — بين الضوء والظلام، الأمل والخوف، الحلم والواقع.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
سكنت الغرفة إلا من رفيف الشمعة التي تقاوم خفة الهواء العابر من النافذة، وحفيف ستارة تهمس في الفراغ كأنها تنذر بشيء قادم لا يُرى.

ليلى لا تزال في ركنها، تتنفس بصعوبة، وكل نبضة في قلبها كأنها طبول تُنذر بمعركة لا تعرف متى تبدأ. ورائد كان يراقب بصمت، كأن بينه وبينها حديثًا صامتًا لا يحتاج إلى كلمات.

وفجأة، قطع رائد الصمت، ورفع رأسه ببطء، ونظراته جمعت كل ما فيها من حزم وثبات:

ــ "مفيش مجال للتراجع، ليلي. القرار اتاخد، واللي جاي مش بس مفاجآت... ده تغيير كامل في قواعد اللعبة."
سكت للحظة، كأنه بيهزّ الأرض تحت رجليهم بصمته، ثم أضاف بصوت أعمق وأهدأ:

ــ "اللي فاكر إن الدنيا هتفضل زي ما هي، ده غلطان. كل واحد فينا هيدفع تمن القرارات دي... وأنتِ أول واحدة."

نظرات الحضور اتبدلت بين صدمة وخوف، ونيفين حاولت تكسر الجمود بابتسامة نصفها حقيقية ونصفها قلق:

ــ "يا رب نكون قدّها..."

تنهدت ليلي ببطء، والرهبة متغلغلة في كل كلمة خرجت من بين شفتيها:

ــ "دي بداية مش بس لفصل جديد... دي بداية لعاصفة ممكن تبلعنا كلنا."

وصمت الجميع، وصوت خافت لصدى المستقبل يُسمع في المكان، كأنه بيهمس لهم: استعدوا، لأن اللعبة ما بقتش لعب.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
بعدما انتهى رائد من كلمته، وعمّ الغرفة صمت ثقيل، تحركت ليلى من مكانها ببطء، خطواتها كأنها تجرّ أثقالًا غير مرئية، حتى وقفت أمامه مباشرة.

عينيها كانت مليانة نظرات متأرجحة بين الدهشة، والغضب، والخوف. وقلبها كان بيخبط في صدرها كأنه بيطالبها تخرج اللي جوّاها من سنين.

قالت بصوت مكتوم، لكن نبرته كانت مشتعلة:

ــ "وإمتى خدت القرار؟ لوحدك؟ من غير حتى ما تبصّ وراك وتشوف أنا واقفة فين من اللي بيحصل؟"

رمش رائد ببطء، وكأن السؤال لسّعه، لكنه ما اتكلمش.

تابعت، وصوتها بدأ يرتفع، بس مش بالصراخ، بالمرارة:

ــ "أنا مش ورقة في إيدك، ولا تفصيلة صغيرة في خطتك الكبيرة! أنا بني آدم يا رائد! بتهزّني كلمة، وبتكسرني نظرة، وبتخوفني ليلة ساكت فيها! إزاي قررت إننا هنعدي للمرحلة اللي بعد كده... من غير ما تفهم أنا مستعدة ولا لأ؟!"

ابتلع رائد ريقه، وقال بهدوء ظاهر يخفي ما لا يقال:

ــ "كنت فاكر إنك أقوى من كده... وإني لما أسبق بخطوة، إنتي هتجري ورايا مش تتراجعي."

قهقهت ضحكة صغيرة مليانة وجع:

ــ "لا... إنت مش فاكر إني قوية، إنت بتراهن إني هفضل أسكت... وأستحمل! بس أنا تعبت... ومش عايزة أدفع تمن قراراتك لوحدي."

سكتت، ووقفت لحظة كأنها بتحاول تستعيد نفسها... عينيها كانت مليانة دموع بتتشبث بالتماسك.

همست بعدها:

ــ "الجمعة...؟!
لو فعلاً ناوي تكمّل، يبقى تبصلي وأنا ماشية جنبك مش وراك...
وتسمعني مش تحسبني...
لأني مش هكمل في طريق أنا مش شايفاه غير من ضهرك."

وقف رائد في مكانه، ملامحه اتبدلت، كأنه لأول مرة يسمع صوت خوفها على حقيقته، مش مجرد رد فعل.

نيفين كانت واقفة على الجانب، ملامحها مشوشة، لكن نظرتها لليلى كانت كلها تقدير... كأنها أخيرًا سمعت اللي هي نفسها كانت بتكتمه زمان.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
جلست يقين في مقعدها بهدوءٍ تام، ثم فتحت حقيبتها الجلدية بعناية، وأخرجت منها مجلدًا أنيقًا وضعتْه أمامهم، وقد بدا الحماس يرقص في نبرتها وهي تقول:

ــ "جمعت أفكار بسيطة... حاجة كده هادية على قدّنا، زي ما بتحبي، لا صخب ولا بهرج. هنعمّله هنا، في بيت العيلة، في الجنينة، شوية ورد وشمع وفوانيس، والجو هيكون كله دفء وحب."

ثم التفتت إلى ليلى، وكأنها تنتظر منها ابتسامة رضا، أو على الأقل موافقة صامتة تزيح عن صدرها عبءَ القلق.

لكن ليلى لم تُجِبْ فورًا. ظلّت تحدّق في المجلد المفتوح بعينين خاليتين من الانفعال، ثم سألت بصوتٍ خفيض ينطوي على ما يشبه العتاب:

ــ "يعني... قررتوا كل ده؟ من غيري؟"

تدخّلت نيفين بسرعة، محاولة امتصاص التوتر الذي بدأ يلوح في الأفق:

ــ "مش قررنا، يا بنتي... بس حاولنا نسهلها عليكي. قلنا نخفف الحمل ونخلّي الجو بسيط. دي لحظة ليكي، مش علينا."

رفعت ليلى عينيها نحو رائد، نظراتها كانت تختبر صدقه لا كلامه، وكأنها تسأله عن النوايا لا التفاصيل.

ــ "وإنت؟... موافق؟"

أومأ رائد برأسه، ثم مال بجذعه إلى الأمام، وقال بصوتٍ هادئ ينطوي على ثقة ثابتة:

ــ "أنا وافقت نعمل حاجة بسيطة علشانك... بس الأهم عندي إننا نكمّل. بالشكل اللي يريحك، بس ما نرجعش تاني للخلف."

طال الصمت بينهما، فبدت ليلى وكأنها تحاول أن تلتقط أنفاسها بين ركامٍ من التردد والخوف. ثم قالت بنبرةٍ خافتة:

ــ "أنا مش خايفة من الفرح... أنا خايفة من المعنى اللي بعده."

همّت يقين بالكلام، ولكن رنين هاتفها قطع عليها الطريق.
أخرجت الهاتف، وما إن وقعت عيناها على اسم المتصل حتى تبدّل لون وجهها، وقالت بتوترٍ واضح:

ــ "شامل..."

تحوّل انتباه الجميع إلى يقين، كأن الزمن توقف ينتظر الكلمة القادمة.

ضغطت زر الإجابة، وقالت بصوتٍ سريعٍ يحمل القلق:

ــ "أيوه، شامل؟"

ثم خيّم الصمت الثقيل. لم يُسمع في الأرجاء سوى همس الرياح التي تسللت من النافذة المفتوحة، تراقص معها ستار رقيق، وارتجف لهب شمعة موضوعة على الطاولة، كأنها تهمس بشيء لا يُقال.

فجأة تغيرت ملامح يقين، جمدت في مكانها، وانعكس في عينيها ذهول لا يمكن وصفه. همست كأنها لا تصدق ما تسمعه:

ــ "إنت بتقول إيه؟!"

اعتدل رائد في جلسته بسرعة، ومال بجسده نحوها، قال بنبرةٍ حادة:

ــ "في إيه يا يقين؟!"

رفعت يقين رأسها ببطء، نظرت إليه، ثم إلى ليلى، ثم إلى نيرفانا... وكأنها تخشى أن تنطق بما تعلم، ولكنها لم تجد مفرًا.

فقالت بصوتٍ متهدّج، كأن كل حرف يسحب من روحها جزءًا:

ــ "شجن... أم نيرفانا... اتقتلت!"

وقعت الكلمات في المكان كقنبلةٍ صامتة.
تاهت نظرات نيرفانا في الفراغ، ثم همست:

ــ "ماما...؟"

وانهارت على المقعد، بينما وضعت ليلى يديها على بطنها كمن يحتمي بشيء هشّ لا يكفيه، ورائد وقف فجأة كأن الأرض سُحبت من تحت قدميه، وصوته خرج مشروخًا:

ــ "إزاي؟... فين؟ إمتى؟"

لكن أحدًا لم يجب...
فالحقيقة حين تُقال، لا تحتاج إلى شرحٍ إضافي.
كانت النهاية قد كُتبت، والمشهد الأول من العاصفة قد بدأ.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

❈صرخاتٌ في الظلام ❈

كان الليل قد أرخى سدوله الثقيلة، يمدّ ستائره السوداء فوق كل شيء، كأنما يحاول إخفاء الحقيقة أو تهدئة صخبها الجارح. لكن بعض الحقائق لا تختبئ، لا تذوب في العتمة، بل تنفجر في وجهك كرصاصةٍ طائشة، تدوي في الأرجاء ولا تترك لك مهربًا.

في ذلك البيت، الذي طالما ظنوه حصنًا، خيّم الصمت فجأة، لا كراحة، بل كفزعٍ مؤجل.
الأضواء الخافتة عجزت عن تبديد البرودة المخيفة، والأرائك الوثيرة غدت بلا معنى، كأنها حجارة صماء... حتى الهواء نفسه صار أثقل من أن يُتنفّس، مثقلاً برائحة الغياب الأبدي.

وقف الجميع وكأنّ الزمن قد توقّف. أحدهم خفّض رأسه، كأنه يهرب من العيون المتسائلة، وآخرون تظاهروا بعدم الفهم، لكن الحقيقة كانت أفصح من أن تُنكر... وأقسى من أن تُحتمل.

لكن نيرفانا... لم تكن مثلهم.

لم تبكِ. لم تنهَر. لم تصرخ كما توقّع الجميع.
بل وقفت في قلب العاصفة، كأن الحياة قد انسلّت من عروقها، كأنها جدارٌ بلا صوت...
غير أن عينيها...
كانتا تهيمان في الفراغ، تبحثان عن منفذ، عن صدعٍ صغير تتسلل عبره، عن يدٍ تمتدّ فتوقِف الزمن، لكنها لم تجد.

في طرف الغرفة، جلس رائد الذهبي على المقعد الجلدي، جسده مائلٌ للأمام، أصابعه متشابكة، ظهره مقوس، ووجهه منحوتٌ كصخرٍ بارد. لكن ذلك الجمود لم يكن إلا قشرة.
في داخله، كانت العاصفة تعربد.
غضب، فوضى، سؤالٌ يتكرر دون إجابة: "لماذا الآن؟ لماذا هكذا؟"
لكن عينيه لم تفشِ شيئًا... إلا بريقًا قاتمًا وامضًا، كاشفًا عن هاويةٍ تتسع داخله.

أما يقين، فقد ظلت تمسك بالهاتف، وجهها شاحب، أنفاسها متقطعة، وكأنها تسمع النبأ من جديد كل دقيقة. كانت عاجزة عن النطق، تبحث عن الكلمات ولا تجدها.

وليلى...
كانت تراقب كل شيء.
تعرف أن هذه الصدمة لن تمر كأي عاصفة.
تعرف أن الشرخ الذي انفتح الليلة... سيظل مفتوحًا إلى الأبد.

ثم...

ــ "إنتو بتقولوا إيه؟!"

خرج صوت نيرفانا أخيرًا.
مرتعشًا، لكنه محمَّلٌ بالغضب، بالرفض، بالذعر.
كان صوتها كصفحةٍ مبللة تقاوم الريح، تتمايل، لكن لا تنكسر.

وقفت بثباتٍ هشّ، واجهت الجميع، تحدّتهم بصمت عينيها، والدموع تحترق خلف الأجفان، لا تسقط... بل تشتعل.

لم يجبها أحد.
لا أحد استطاع أن ينظر إليها في عينيها.

ــ "ماما... ماتت؟"

نطقتها وكأنها تختبر وقع الكلمة على لسانها.
كأنها تنتظر أن ينكرها أحد.

لكن يقين لم تنطق، فقط انخفض رأسها...
وذلك كان كافيًا.

نيرفانا فهمت.

ثم...
جاءت الصرخة.

صرخة شقّت الهواء، مزّقت السكون، دكّت جدران الغرفة، وأصابت قلب كل من سمعها.
لم تكن مجرد ألم، كانت انفجارًا داخليًا... موتًا صامتًا بصوتٍ عالٍ.

انهارت على الأرض، قبضت على السجادة بأصابعها، كأنها تحاول الإمساك بالحياة، بمن تبقّى، بما يمكن إنقاذه... لكنها كانت تسقط في هاويةٍ لا قرار لها.

ورائد؟
رفع رأسه أخيرًا، نظر إليها، طويلاً...
لكن عيناه كانتا خاويتين.

لقد بدأ كل شيءٍ ينهار داخله بالفعل.و نظراته الي ليلي كلها اتهامات انها نذير شؤم لذلك انسحبت علي الفور و هو لم يحاول اللحاق بها 

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
❈  قرارٌ بلا يقين 
كان الليل قد أوشك أن يسدل ستاره الثقيل على نوافذ المكتب، ورائحة تبغٍ محترق تتسلل إلى الستائر في صمتٍ قاتم. جلس "رائد" خلف مكتبه، عيناه غائرتان في صفحة بيضاء، لا يدري كم من الوقت مضى وهو يحدق في الفراغ كمن ينتظر صفعة توقظه من غيبوبةٍ طويلة. أصابعه تعانق الولاعة الفضية بإصرار، يفتحها ويغلقها، كأنها حبل نجاته الأخير من دوّامة أفكاره.

الباب انفتح فجأة دون طرق، ودخل "شامل"، لكن دون ضجيج هذه المرة، وكأن بينه وبين رائد ما صار لا يحتاج استئذانًا.

قال بنبرة باردة كالسُخام:

– "بعتّه."

رفع رائد رأسه إليه، دون دهشة، دون رد.

– "بعت الولد... أوس، مش كده؟"بلغت عنه 

لم يُجب. بل أغلق الولاعة مرة أخرى، ببطء، ووضعها على سطح المكتب بينهما كأنها فجوة زمنية فصلت بين رجلَين لم يعودا يعرفان بعضهما.

اقترب شامل، جلس دون استئذان، مائلًا بجذعه للأمام، وقال بصوتٍ منخفض:

– "ليه يا رائد؟ عشان يهدى ضميرك؟ عشان تبين لبنتك إنك بتحميها؟ ولا عشان تنتقم لمشاعرك اللي مش عارف تعترف بيها؟"كل ده علشان شجن استخدمته ضدك ؟

أخذ رائد نفسًا عميقًا من سيجارته، ثم قال دون أن يلتفت نحوه:

– "أوس غلط. وغلطه ما ينفعش يعدي. نيرفانا تستاهل اللي أحسن من كده."و يستاهل اللي يتخالف مع الشيطان ضدها 

قهقه شامل ضاحكًا، لكن بمرارة:

– "نيرفانا؟ ولا إنت اللي شايف نفسك فيها؟ إنت مش بتعاقب الولد، إنت بتعاقب نفسك، بس على طريقة واحد مايعرفش يغفر."عمرك ما هتنسي أن كنت لعبة في ايد شجن 

صمت رائد للحظة، ثم حدق في شامل بعينين متصلبتين:

– "أنا مش بدوّر على غفران. أنا بدوّر على نجاة."ليا و لبنتي و بعدين اكيد له ايد في قتل شجن 

هز شامل رأسه بيأس:

– "نجاة لمين؟ ليها؟ ولا ليك؟"ما انت كنت من المتهمين

ابتسم رائد بسخرية، ثم وقف، دار حول مكتبه، واقترب من النافذة، وهو يقول بصوت خافت:

– "فيه ناس لازم تتقصقص ضوافرهم بدري... قبل ما ينهشوا اللي بتحبهم."الواد ده انا اتغديت بيه قبل ما يتعشي بيا 

نهض شامل بدوره، اقترب منه، وقال بنبرة فيها رجاء أخير:

– "مش كل حاجة حلّها الحزم... ولا كل غلط نكسره بالنفي. أوس كان بيحبها بصدق، حتى لو كان مش قدها."و لا فدك يا رائد 

استدار رائد ناحيته ببطء، وقال بهدوء مخيف:

– "وأنا كمان...  بحبها. بس لما الحب يهددها، يبقى لازم أموت الحب."معنديش اغلي منها 

ارتجف جفن شامل للحظة، كأنه أدرك أخيرًا عُمق الحفرة التي غاص فيها رائد. ثم قال بصوت خفيض:

– "وإنت متخيل إنها هتشوفك بطل؟"

لم يجب رائد. فقط زفر بقوة، كأن كل الحوارات باتت عبئًا لا يريده.

تحرك شامل نحو الباب، لكنه قبل أن يفتحه، استدار وقال:

– "نيرفانا مش هتنسالك ... و يمكن ما تسامحكش."و ليلي لما تعرف هتخاف منك اكتر 

فتح الباب وخرج، يترك خلفه رائحة تبغ ثقيلة وصمتًا مشبعًا بالندم المؤجل.

رائد لم يتحرك. فقط مد يده وأطفأ سيجارته بقسوة في الطفاية، ثم أغلق الولاعة، أخيرًا... وكأنّه أغلق بابًا لن يُفتح أبدًا.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 

المواجهة: ما بعد الفقد

كان السكون قد استقر في أرجاء البيت كأنما الحزن نفسه أغلق الأبواب والنوافذ بيديه. لا صوت سوى أنفاس متقطعة، متخبطة، تُسمع من خلف بابٍ نصف مفتوح لغرفة نيرفانا.

دفع رائد الباب ببطء، لم يكن يعرف ماذا سيقول... أو إن كانت هناك كلمات كافية.

كانت نيرفانا تجلس على طرف السرير، عيناها جافتان من فرط البكاء، لا دموع الآن، فقط ارتجاف صامت في الأصابع وصوت خافت ينبض في صدرها.

لم تلتفت له حين دخل، فقط قالت بنبرة متيبسة:

– "عرفت."

تجمد في مكانه، ثم قال بصوت خفيض:

– "كنت عارف إنك هتعرفي."

استدارت نيرفانا نحوه فجأة، كأن الصوت أيقظ ما حاولت دفنه، وصرخت:

– "عرفت إنك بعت الشخص الوحيد اللي كان بيفهمني! بعت أوس يا بابا... بعد ما أمي ماتت! بعد ما اتقطعت نصين!"استحاله يكون قتلها 

اقترب منها خطوة، مد يده كأنما يريد أن يطبطب، لكنها انكمشت بعيدًا، فظل واقفًا مكانه، يهمس:

– "أوس مش آمن عليكِ... وأنا... أنا ماقدرتش أغامر بيكِ."هو غامر بيكي و كان ممكن يغامر بيا 

ضحكت بمرارة، ثم نهضت واقفة أمامه، وقالت بقهر:

– "ما قدرتش تغامر بيا؟! طب وأنا؟! أنا كنت أمان لنفسي؟! ولا حتى كنت عارفه أعيّط على أمي من كتر اللي حصل حواليّا؟! كل حاجة اتسحبت من تحت رجلي فجأة، وأنت الوحيد اللي كنت فاضل... وطلعت أنت كمان مش سند!"و بتاخد كل حلو 
تنفّس ببطء، عيناه بدأت تترنّح فيهما نظرة ألم قديم:

– "أنا سند... بس مش بالشكل اللي تتوقعيه. أنا لو سِبتِ نفسك تنهاري، مين هيشيلك؟ أنا يا نيرفانا لازم أكون الأرض اللي تقفي عليها، حتى لو كانت خشنة."

اقتربت منه وهي تقول بنبرة مجروحة:

– "ماكنتش عايزاك تكون أرض... كنت عايزاك تكون حضن."

ارتعشت الكلمات في حلقه، لكن الكبرياء الذي يسكن قلبه كبل لسانه، فما قال شيئًا.

سألته وهي تحاول كبت شهقتها:

– "كنت شايفه خاين؟ ولا ضعيف؟ ولا مش قدّي؟"

ردّ بعد تردد طويل:

– "كنت شايفه خطر... ومكنتش قادر أستحمل أخسرك انتي كمان، لو فضلتوا مع بعض."

شهقت، وقالت بصوتٍ أقرب للانكسار:

– "بس أنا اللي خسرته... بإيدك."

صمته هذه المرة كان إقرارًا، لا إنكارًا.

نظرت إليه طويلًا، ثم همست:

– "أمي ماتت، وأنا كأني متّ معاها... بس الفرق إن هي ارتاحت، وأنا لسه هنا... في بيت كله ألم، وحب ناقص، وأسئلة مالهاش رد."

تحركت ناحيته، وقفت مقابله تمامًا، ثم قالت وهي تبكي بصمت:

– "كنت بحبك، وكنت شايفاك أقوى راجل في الدنيا... بس دلوقتي؟ أنا مش شايف غير حد بيخاف من مشاعره... وبيهرب من كل حاجة مش بيفهمها."

مدّ رائد يده إليها للمرة الأخيرة، لكن يدها لم ترتفع.

استدارت، وفتحت الباب، وقبل أن تغادر، قالت:

– "أنا هقفل علي نفسي شوية... بس لو جيت يوم ولقيتني مت، ماتزعلش. لأن الحزن عمره ما قتل حد... بس كتمانه بيعمل أكتر من كده."

غابت نيرفانا خلف الباب، ورائد ظل واقفًا، كأن صدى الخطوات وهي تبتعد، كان بيهدم جواه حاجة مش هتتبني تاني.

أشعل سيجارة، لكن الدخان هذه المرة لم يكن هروبًا... بل عقابًا.

---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜 
❈العروس الغاضبة ❈ (بعد ثلاثة أسابيع من مقتل أشجان)

مرّت ثلاثة أسابيع، كانت كافية ليصير الصمت سيّد البيت. منذ رحيل أشجان، توارت الضحكات خلف الأبواب المغلقة، وغرقت الشرفات في كآبةٍ رمادية لا تطفئها شمس.

في صالة بيت ليلي ، جلست نيفين بصمت ثقيل، تتفقد مسبحتها كمن يبحث في الخرز عن مخرجٍ من كابوسٍ لم يُفِق منه أحد. مهاب كان يمشي جيئة وذهابًا كقنبلة موقوتة، يلعب بأصابعه، ينظر إلى باب غرفة ليلى، ثم يزفر في ضيق.

— يا ماما… هو إحنا هنفضل كده لحد إمتى؟ دي تالت مرة يوصّل لينا طرد، وكل مرة ترفض تفتحه!

رفعت نيفين نظرها إليه ببطء، ثم قالت بصوت خافت ممتزج بغضب مكتوم: — الظرف ده مش زي اللي قبله.

— أيوه ما هو ولا واحد كان زيه. أول مرة بوكيه ورد اختفى، وتاني مرة خاتم رجّعته، ودلوقتي...؟

لم ترد، بل نهضت دفعة واحدة، كأنها سئمت دور المتفرّج، واتجهت نحو غرفة ليلى بخطى صارمة.

طرقت الباب مرة، مرتين، ثم صرخت: — ليلي! افتحي، لازم تتكلمي، الوضع ماينفعش يفضل كده!

لم يأتِ أي رد.

فتحت الباب، كان مواربًا كعادته مؤخرًا، ودخلت، يتبعها مهاب وهو يحمل الطرد الذي وصلهما صباحًا.

كانت ليلى جالسة على طرف السرير، وجهها هزيل، وشعرها مربوط في كعكة فوضوية، والهالات السوداء تحت عينيها تنطق بما لا يُقال.

رفعت عينيها ببطء نحو أمهما، ثم إلى الطرد، وقالت بجفاف: — مش هيبطل يبعت حاجات؟ مش كفاية اللي حصل؟

ردّت نيفين وهي تقترب: — اللي حصل مش هيتصلّح بالهروب يا ليلي… ولا بالصمت. افتحي وشوفي بعينك.

ضحك مهاب بسخرية، وهو يضع الطرد أمامها: — أنا شايف إنه هيبعتلك عمارة في التجمع المرادي… إنتِ بس افتحي وهتعرفي.

لكن ليلي لم تتحرك. مدت يدها ببطء إلى الطرد، ثم توقفت، وكأنها تراجعت عن قرارها. قالت بصوت مخنوق: — مفيش حاجة هتصلّح اللي اتكسر… لا بوكيه ورد، ولا فستان، ولا حتى كلمة.

صرخت نيفين فجأة، وقد نفد صبرها: — بس كفاية! إحنا بقالنا تلات أسابيع ما نعرفش نتصرف! لا رائد عارف يتكلم معاكي، ولا إحنا فاهمين إنتِ عايزة إيه! وإنتِ ما بقتيش تعرفي نفسك!

هنا، انفجرت ليلى، نهضت واقفة، وقد تحوّل وجهها إلى كتلة من الانفعال: — أنا؟ أنا اللي ما بقيتش أعرفني؟! طيب اسألوا نفسكوا، هو أنا كنت فين يوم اللي حصل لطليقته؟ كنت بتعاقب على إيه لما الدنيا وقعت فوق دماغي؟!كأني انا اللي قتلتها 

رد مهاب بحذر: — محدّش بيعاقبك، يا ليلي… بس كلنا بنتعامل مع اللي حصل بطريقتنا، وهو…

قاطعته بحدة: — بطريقتكم! وأنا؟ أنا ماليش طريقة؟ أنا لازم أبلع كل حاجة وأسكت؟!

ثم نظرت إلى الطرد، كأنه عدوّ، ومدّت يدها، شقّته دون حماس، حتى خرج منه فستان زفاف ناصع البياض، مرصّع بكريستالات رفيعة، بطرحة تشعّ كأنها نور نازل من السّماء.

سادت لحظة صمت. عيناها اتسعتا في دهشة مشوبة بالخوف. لم تلمسه، لم تقرّب وجهها منه، فقط همست: — ده بيعبّر عنّي؟ عن كل اللي حصلي؟ عن الوجع اللي في قلبي؟

ثم رفعت الفستان، ببطء، تملكه للحظة، ثم سقط من بين يديها كأنه شيء لا يُطاق.

قالت نيفين وهي تكاد تبكي: — رائد عايز يفتح صفحة جديدة… عايز يصلّح اللي كُسر.

هزّت ليلى رأسها ببطء، ثم قالت بهدوء غريب: — اللي اتكسر… أنا. ومحدش بيصلّح البني آدمين بالفُستَان.

ثم فجأة، دون مقدمات، أمسكت المقص الموجود على مكتبها، وغرسته في قلب الفستان، وبدأت تقطعه كما لو كانت تمزّق شيئًا من أعماقها… شيئًا لا تريد أن يبقى.
تعليقات