رواية سدفة ج2 (عن تراض) الفصل السادس والعشرون 26 بقلم أيه شاكر


رواية سدفة ج2 (عن تراض) الفصل السادس والعشرون  بقلم أيه شاكر

-افردي وشّك، اللي يشوفك يقول مجوزينك غصب عنك.

ضحكت «تقى» ضحكة مصطنعة، بالكاد لامست شفتيها، وسرعان ما انطفأت.

ثم ارتسمت على وجهها دهشة مفاجئة... حين وقعت عيناها عليه، وهو يدخل من باب الشقة...

ظهر «حسين» عند باب الشقة وعيناه تلمعان ببريقٍ مريب، وترتسم على شفتيه ابتسامة خبيثة كابتسامة ذئب يشم رائحة الدم.


دخل بخطواتٍ محسوبة، كأن الأرض تفسح له الطريق لا رهبةً منه، بل من شرّه.


التفتت له الأعين وهو يقترب، تسمرت تُقى في مكانها، وكأن قدميها انغرستا في الأرض...

نظرت إلى «عامر» بخوفٍ واضح، فأمسك يدها، ثم أومأ بعينيه يطمئنها....


وبحركة تلقائية وقف «عمرو» و«عامر» كدرعين بشريين أمام عروسيهما، في مشهدٍ لم يكن من المفترض أن يُلوّثه رجل مثل حسين...


توقف «حسين» أمامهم، أطلق ضحكة أشبه بزفرة ساخرة خرجت من جوفه، وقال:

-مبروك...


ثم مال قليلًا ناحية «عامر»، وهمس بصوتٍ لا يخلو من التهديد:

-بس أنا ما بسِبّش حد ياخد حاجة أنا عيني عليها.


اشتغل غضب «عامر» ولكن قبل أن يبدي أي رد فعل، تحرّك «عمرو» خطوة للأمام، غرس عينيه بعيني «حسين» وقال بصوت متهدج من الغضب:

-إنت عايز مننا إيه؟ حرام عليك... سيبنا فحالنا!


رفع «حسين» حاجبه، وكأن العرض الذي سيقدّمه منطقي وبسيط:

-مستعد أسيبكم واتنازل عن الحاجة اللي عجبتني...

قالها ثم حدج تقى بابتسامة خبيثة، فوقف «عامر» أمامه ليخفيها عن نظره، ضحك «حسين» ساخرًا وأردف:

-تسلّموني الحاجه بتاعتي... ومش هتشوفوا وشي تاني.


تبادل «عامر» و«عمرو» نظرة خاطفة، لكنها تحمل أكثر من سؤال.

وسأله «عامر» بجمود:

-عايز إيه؟


هز «حسين» رأسه ببطء، ثم تمتم ببرود:

-على أساس إنكم مش عارفين؟ مش عارفين أنا عايز إيه؟!


رفع «عمرو» صوته وهو يضغط على كل حرف:

-والله ما نعرف إنت بتدور على إيه! لو تقصد الذهب اللي كان مع عمي كارم، فإحنا منعرفش مكانه... وحتى عمي كارم نفسه اختفى!


ضحك «حسين» ضحكة قصيرة، ثم قال ببرود قاتـ..ـل:

-الذهب ده أنا اللي إديته لكارم... مقابل "الأمانة" اللي أنا متأكد إنها عندكم.


في تلك اللحظة، كانت العيون تتبادل النظرات الحائرة...

ثم فجأة، نظر حسين نحو «سراب»...

نظرة مباشرة، قاسية، فكانت كسهم طائش أصاب صدرها، قال بابتسامة خبيثة:

-مبروك يا حبيبة بابا.


اختلج قلب «سراب»، ووضعت يدها عليه لا إراديًا، فضحك حسين بصخب.

ثم رمق «عامر» بنظرة خاطفة قبل أن يسلط نظره على «عمرو» ويقول ببرود مستفز:

-طيب هسيبكم تفكروا وتجهزولي الأمانه و... ومبروك مره تانيه...

ثم استدار وغادر بخطواتٍ واثقة، لكنها لم تكن عادية... وكأنها خطوات رجل يُعلن بداية حـ ـرب جديدة.

*******

وبعد دقيقة من الصمت الذي خيم عليهم، ظهر «بدر» عند باب الشقة وهو يقول بلهفة:

-إيه اللي حصل؟


ثم ظهر خلفه بقية الرجال، «رائد» و«يحيى» و«محمد» و«رامي» المذهول...


تعالت الهمهمات والتوضيحات بينما التفت «عمرو» ينظر لسراب ثم هرول نحوها بخطوات مسرعة، ومد ذراعه ليغطي وجهها، لكنها رفعت الغطاء عن وجهها بغضب قبل أن تستدير وتعود لغرفتها بخطى سريعة، وتبعتها «وئام» و«نداء» و«تُقى» وهي ترفع طرف فستانها...


طالع «عمرو» أثرهن بشرود، ثم التفت لبقية الرجال الذين وقفوا يتبادلون النظرات، كأن الكلمات تختنق في صدورهم حتى قال «عامر» بنبرة متوترة، وعيناه تتنقل بين الوجوه:

-الراجل ده طلع هنا إزاي من غير ما حد فيكم يشوفه؟


رد «رائد» بارتباك وهو يشبك يديه أمام صدره:

-مش عارف... والله محدش خد باله غير وهو نازل.

قطب «عمرو» حاجبيه وهو يزفر بضيق، ثم قال كمن يفكر بصوت عالٍ:

-أنا نفسي أعرف هو عايز مننا إيه!


-فهموني يا جماعه، مين الراجل ده وايه اللي بيحصل؟

قالها رامي باستغراب فتبادلوا النظرات ثم تنهد رائد وأخذ يشرح لرامي في عُجالة ما يحدث معهم بداية من اختفاء كارم مرورًا بسفرهم لـ «البدري» وصولًا لما فعله «حسين» معهم.


كان «بدر» يتابع الكلام في صمت بينما سأل «رامي» بفضول:

-طيب تفتكروا إيه الأمانه اللي هو عايزها دي؟ واللي ممكن شخص يدفع فيها فلوس ذهب!! 


-أكيد حاجه كبيرة، والأكيد إنها حاجه تخالف القانون.

قالها «رائد»، وأيد الجميع ما قاله بينما كان «بدر» يفرك لحيته في اضطراب قبل أن ينطق:

-حسين عايز كتاب... الأمانه والحاجه اللي بيدور عليها هي كتاب!


التفتوا إليه في آن واحد، وبدت الحيرة في أعينهم، سأله «عمرو» والاستفهام يتجلى على وجهه:

-كتاب إيه؟


تنحنح «بدر» قليلاً، وكأن الكلمات عالقة في حلقه، لا يدري هل تسرع بقول هذا؟ وهل كان عليه الانتظار لحين مرور تلك الليلة؟ ورغم تأنيب ضميره تابع موضحًا:

-باسل كلمني... قالّي إن نرمين، اللي هي هند، كانت بتدور على كتاب.

-كتاب!! كتاب إيه ده؟

قالها «عمرو» وقد ارتفعت نبرته قليلًا، فرد بدر بلجلجة:

-معرفش... وباسل كمان ميعرفش التفاصيل.


ارتفعت نبرة «عمرو»، وهو يقول بانفعال:

-يعني إيه ميعرفش؟! اومال مين اللي يعرف يا بدر؟ يعني الكتاب شكله إيه؟


اشتعل غضب «بدر» من لهجة «عمرو» وانفعاله عليه، فلوح بيده بانفعال شديد وهو يقول:

-معرفش يا عمرو! إنت بتزعقلي كده ليه... أنا ماشي يا عم... دي مبقتش طريقه دي!

قال أخر جملة بعدما استدار ليغادر وخطواته تصطك على الأرض، وخرج يهملج بذراعيه، فتبعه «عامر» و«يحيى» وتبادل «رائد» و«رامي» و«محمد» النظرات ثم نظر «رائد» لعمرو وقال بحدة:

-كام مره أقولك اتحكم في عصبيتك... إنت ايه!! مش هتتغير!

أشاح «عمرو» وجهه بعيدًا وزفر بقــوة، فاقترب منه «رامي» يعبث بخصلات شعره وهو يقول:

-وحشتني ووحشتني شقاوتك...


لاح على شفتي «عمرو» شبح ابتسامة، ثم ضم «رامي» قبل أن يجلس على أقرب مقعد خلفه، بينما جلسوا حوله يتبادلون الحديث ويشرحون لرامي ما يحدث بالتفصيل...

★★★★★

بالأسفل، في الشارع المزيّن بأضواء الزفاف، كانت الزينة تتلألأ فوق رؤوسهم كنجوم اصطناعية، وأصوات الأغاني تتسلل من السماعات المعلّقة على الجدران، لكنها بدت باهتة مقارنة بثقل اللحظة.


وسط هذا البهاء، جلس «دياب» جوار «البدري» على أحد المقاعد بجوار مدخل البيت، كانت وجوه المارّة تنطق بالفرح، أما هما، فكانت وجوههما عابسة، كأنهما خارجان من زمن مختلف.

ملأ التوتر ملامح «البدري»، أخذ يعبث بمسبحته بين أنامله بتوتر، ثم تمتم بصوت خفيض أقرب للهمس:

-أنا شايف إن العيال يطلعوا من الشقة على التانية من غير دوشة، ملهاش لزمة الحفلة، خصوصًا بعد ظهور حسين... محدش يضمن يكون ناوي على إيه!


هز «دياب» رأسه ببطء، وهو يطالع الأرض بشرود يتذكر كيف خرج حسين من البيت وتعمد أن يُشير لهم قبل أن يستقل سيارته، بينما كانت ملامحه تقطر خبثًا، قال دياب:

-عندك حق يا حج... ده اللي المفروض يحصل فعلًا...


في هذه اللحظة، خرج «بدر» من البيت بخطاه المتوترة.

كانت ملامحه متجهمة، وعيناه تضيقان قليلًا...


توقف مكانه حين لمح جده يجلس قبالته، استدار ليشيح وجهه بعيدًا وأطبق شفتيه كمن يحبس ثوران الغضب داخله.

لم يكن يعرف تمامًا إن كان غاضبًا من «عمرو» أم من كل ما يحدث حوله، من تلك الأسرار المتناثرة كالألغام...

أي كتاب هذا الذي يبحث عنه «حسين»؟ ولماذا يدفع أحدهم ذهبًا مقابل كتاب؟! وما سر «راشد» الذي أخبره عنه «نادر»؟! وهل «شيرين» هي عمته كما زعمت «سعيدة»!!


قُطع حبل أفكاره حين وقف «عامر» قبالته، عاقدًا ذراعيه أمام صدره، بينما ربت «يحيى» على كتفه بلطف، محاولًا تهدئته، وقال بمرح:

-كنا فاكرين إن عمرو هو العصبي الوحيد... خف شوية يا بدر، امسك أعصابك.


هز «بدر» رأسه سريعًا وقال بتبرم:

-عمرو كل ما يتضايق يتفنن يزعلني ازاي... يا شيخ يحيى هو بيطلع غضبه فيا دايمًا.


ضحك «عامر» ضحكة خافتة وقال بصوت مائل للمزاح، يخفي به قلقه:

-يا سيدي صاحبك ولازم تستحمله... وإنت عارف هو بيحبك قد إيه، حتى لو مش بيقولها.


تأمل «بدر» وجه «عامر» لثوانٍ، بعينين يملؤهما الأسى، ثم خفض رأسه يفكر بصمت.

لاحظ «يحيى» شروده فسأله بلطف:

-إيه موضوع الكتاب ده يا بدر؟

-مش عارف والله! 

قالها «بدر» بلهجة حائرة مشوبة بالإمتعاض.

فاقترب منه «عامر» أكثر وقال بصوت كان بالكاد يُسمع:

-اسمعني يا بدر... عديها واقفلوا على الموضوع ده كمان الليلة دي... نعدي الليلة دي بس على خير، وبعد كده نبقى نشوف.


كاد «بدر» أن يرد، لكن «دياب» وصل أمامهم، أخذ يتفحص ملامحهم وحاجباه معقودان، وخرج صوته حاد رغم هدوئه الظاهري:

-واقفين كدا ليه؟ إيه اللي حصل فوق؟


حك «عامر» أنفه، ثم قال مترددًا:

-مفيش يا بابا... كالعاده، حسين جاي يبوّظ علينا فرحتنا...


زفر «دياب» بقــوة، وقال بنبرة مفعمة بالحسرة:

-حسبنا الله ونعم الوكيل...


سكت «دياب» للحظة، أدار وجهه بعيدًا، كأن قراره لم يكن سهلًا عليه، ثم أشار لعامر دون أن ينظر إليه، وخرج صوته حازمًا لكن فيه نبرة تعب:

-طيب يلا... خلينا نخلص الليلة دي على خير... اطلع هات عروستك، وخلي عمرو يجيب عروسته، هتدخلوا على طول... أنا لغيت الحفلة.


نظر «عامر» لوالده ثوانٍ، وعينيه تتفحصان ملامحه، كأنه يبحث عن أثر تردد، لكنه لم يجد سوى الحسم في وجه دياب، فأومأ أخيرًا، وقال بنبرة اقتناع:

-حضرتك عملت الصح يا بابا.


ابتسم «دياب» ابتسامة شاحبة، يحاول أن يُبقي على شيء من الفرح وسط هذا الزحام، قال:

-طيب يلا يا عريس...

ابتسم «عامر» وتحرك نحو باب البيت بخطوات سريعة، بينما بقي «دياب» في مكانه، يمد يده ليصافح أحد المهنئين القادمين، ووجهه يحاول أن يحتفظ بثباته أمام الناس، رغم اضطراب قلبه.


اقترب «يحيى» من «بدر»، وربت على كتفه برفق، كانت ابتسامته صافية لكنه متفهم للتوتر الذي يعتمل بداخله...

قال يحيى:

-تعالى... نتكلم شوية.

لكن وقبل أن يتحرك أقبلت نحوه ابنته «مريم» تسير على استحياء، فاستأذن «يحيى» وهرول إليها...

سألها:

-إيه يا مريوم في حاجه ولا ايه؟

أومأت، وزحفت نظراتها نحو «البدري» الذي يتابعها بتركيز، فاضطربت من نظراته لها، فمؤخرًا كلما رآها حدق بها بتلك الطريقة، ابتلعت لعابها وانتبهت حين جذبها «يحيى» من ذراعها برفق وأدخلها للبيت بعيد عن أنظار الرجال، غيّرة عليها فقد كانت فاتنة في فستانها الكحلي الذي عكس هدوءها وغموضها، وحجابها الكريمي، الذي ينسدل بنعومة على كتفيها، ليكمل وقارها بخفّة وأناقة.


وقف «يحيى» قبالتها وابتسم قائلًا:

-ايه يا حبيبتي؟ عايزه ايه؟


تنفست «مريم» بعمق وقالت:

-تيته بتقولك آآ... تعالى خد الحاجه الساقعه عشان توزعها.

ربت «يحيى» على كتفها وقال:

-ماشي يا حبيبي يلا جاي وراكِ.


اومأت بابتسامة وهمت أن تتوجه لبيت «تُقى» و«سراب» لكن أوقفها «يحيى»:

-رايحه فين تاني؟

-هروح عند العرايس...

-طيب تعالي أوصلك...

قالها بجدية، فضحكت «مريم» وقالت بمرح:

-توصلني فين دول خطوتين؟

-ما أنا مينفعش أسيب القمر ده يمشي لوحده كده...

توردت وجنتاها بحياء وشقت ابتسامة خجولة شفتيها...

خرجت جوار والدها الذي كان يُطالع وجوه الرجال ليمنع أي أحد من مجرد النظر لابنته، فاصطدم بنظرات البدري المسلطة عليها، لكنه لم يكترث...


وحين اختفت «مريم» داخل البيت مال «البدري» على «دياب» الذي جلس جواره للتو، وقال:

-هو إنت متعرفش ست كبيره، اسمها صفيه؟


عقد «دياب» بين حاجبيه يفكر للحظة ثم قال:

-لأ... مـ... معرفش حد بالإسم ده...


أومأ «البدري» وزفر عميقًا وقد يأس أن يجد أبناءه في تلك البلدة الواسعة، لكنه نظر إلى السماء برجاء، وقال:

-يارب... 

استغفروا 🌸 

                          ★★★★

أُمطرت «سراب» بوابل من النصائح والتي لم تزدها إلا عصبية، لمعت عيناها ببريق الغضب، وكانت أنفاسها تتسارع دون أن تتفوه بكلمة....

وفجأة، هبت واقفة، كأنما تطرد الألم من صدرها بقــوة الحركة، ومدّت يدها تمسح المكياج بعــنف عن وجهها، وهي تصرخ:

-أهو وشي اللي مزعلكوا! مسحته! بس مش هتجوز عمرو! ومش هخرج من هنا يا تُقى... ارتاحي بقى!


لم تتحرك «تُقى» لكن عيناها كانت معلقة على «سراب»، وصدرها يعلو ويهبط بسرعة.

نظرت لوئام، وبصوت بدا هادئًا لكن ارتعاشه الخفيف فضح النار المشتعلة بداخلها، قالت:

-أنا مش هرد عليها يا أبله وئام... ردي إنتِ.

ثم وقبل أن تنطق وئام انفــجر شيئًا بداخل «تقى» فانطلقت الكلمات من فمها كالرصاص، ووجهها يشحب شيئًا فشيئًا:

-قوليلها إنها أصلًا متجوزاه، مش لسه هتتجوزه... وقوليلها كمان إني زهقت... قرفت من حياتي كلها بسببها.


سادت لحظة صمت ثقيلة، قبل أن تقطعها «نداء» بصوت خافت فيه رجاء:

-اهدوا يا بنات... روقوا كده.


أغلقت «وئام» عينيها لحظة، ثم تمتمت بحزم وهي تلوّح بيدها كأنها تدفع الشيطان بعيدًا:

-أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخه وهمزه ولمزه... استعيذوا بالله... واصبروا يا بنات...


انفـــجرت «سراب» من جديد، وجهها مبلل بالدموع التي كانت تصر على إنكارها، وخرج صوتها يرتجف:

-ماشي يا تُقى! طالما زهقتي مني كده... متشغليش بالك بيا بقى! عيشي حياتك يا ماما وسيبك مني! قومي روحي مع جوزك... وملكيش دعوة بيا!


نهضت «تُقى» بدورها، شفتاها ترتعشان وعيناها تغرورقان بالدموع، ثم صاحت:

-أنا فعلًا هعمل كده! وإنتِ حرة مع جوزك! الحمد لله... بقى ليكي راجل يلمك... وهو حر فيكي!


-متقوليش جوزك وعمرو ده كمان ملوش دعوة بيا! محدش ليه دعوة بيا!

صاحت بها «سراب»، ثم هوت جالسة على طرف الفراش، وارتج جسدها وهي تشهق بالبكاء.

تساقطت دموعها وهي تستحضر في ذهنها جدها «كارم»... ونظرات «حسين» الحادة..

ارتفع نشيجها فجأة، حتى بدا وكأن صدرها لا يتسع لكل ما تحمله.

اقتربت «نداء» منها، فيما أحاطت «هيام» بـ «تقى» تحاول تهدئتها، ويدها تمسح على ظهرها بخفة. 


أما «وئام»، فكانت نظراتها تتنقل بين الأربعة في حيرة وقلق.

وفجأة... دوّى طرق خفيف على الباب، تبعه صوت «عمرو» و«عامر» من الخارج، فانتفضت «وئام» واقتربت من «سراب» وهمست برجاء:

-مش عايزين فضايح يا سراب، أبوس إيدك... عدي الليلة الطويلة دي على خير.

ثم سحبت «وئام» منديلًا من فوق التسريحة، وانحنت تمسح وجه «سراب» بلطف، وفعلت هيام المثل مع تُقى، بينما اتجهت «نداء» بخطوات مترددة نحو الباب، تفتحه قليلًا وتطل برأسها منه، فقال «عامر» بابتسامة مرحة:

-فين عروستي؟

تظاهرت «نداء» بالابتسام، وجاهدت ألا تهتز نبرتها وهي تقول:

-جايين حالًا... ثواني بس...


كان عمرو يقف بعينين حادتين ترصدان ما وراء الباب.

وما إن سمع شهقة مكتومة حتى توقف، وسأل بلهفة:

-هي سراب... بتعيط؟


تلعثمت نداء:

-آآ... هتبقى كويسة...

-طيب... خليني أدخل، أتكلم معاها...

قالها «عمرو»، ترددت «نداء»، ثم استدارت تنظر نحو «سراب» التي ما زالت منكسة الرأس، تغرق بين أنينها وبكائها، وتُقى بجانبها، جامدة القسمات.


ثم فتحت الباب على اتساعه، فدخل «عمرو» و«عامر» بخطوات ثقيلة.

وقف «عمرو» قبالة سراب، يحدّق بها، وصدره ينقبض كلما رأى كتفيها يهتزان.

اقترب منها ببطء، بينما اتجه «عامر» إلى «تُقى»، وجلس إلى جوارها يمسح على وجهها بحنان، فانهارت مرة أخرى بالبكاء.


مرر «عمرو» يده على وجهه بتوتر، وقال بنبرة مضطربة:

-بتعيطوا ليه دلوقتي؟


قال «عامر»، يحاول التخفيف:

-حسين أصلًا ميقدرش يعملكوا حاجه...


جلس «عمرو» على ركبتيه أمام «سراب»، ومد يده ليمسك بيدها المرتجفة، وقال بصوت خافت، كأنما يقطر رجاءً:

-إنتِ... بتعيطي ليه؟ كل ده علشان حسين؟


لم ترد. فقط ارتفع نحيبها، وكأن كل الإجابات مدفونة في صدرها...


شدّ على يدها قليلًا وقال:

-كفاية... كفاية عياط... إنتِ مش ضعيفة يا سراب... أنتِ أقوى من كده.


وقف «عامر» وقال ساخرًا:

-حسين كان جاي ينكد عليا مش أكتر... وأعتقد إنه نجح.


سكت الجميع، للحظة، إلا من صوت بكاء «سراب» الذي ملأ الغرفة، حاولت أن تتوقف لكنها لم تستطع...

مال «عمرو» نحوها قليلًا، محاولًا أن يُطفئ شرارة التوتر في الجو بابتسامة باهتة، نزعها عن شفتيه رغمًا عن انقباض صدره، وقال بنبرة مرحة مفتعلة:

-طيب بالله عليكي يا سوسو... فيه عروسة زي القمر كده، وعريسها زيي... تقعد تعيط بالطريقة دي؟ 


رفع حاجبه مازحًا ثم غمز لها، لكن ضحكتها لم تأتِ... فقط، خفّت شهقاتها، كأن دفء كلماته بدأ يرمم شيئًا صغيرًا داخلها، شيئًا بالكاد يُرى...

وحين لاحظ «عمرو» أن كلماته أصابت قلبها، أضاف بمرح:

-دا إنتِ يا بختك بيا يا بت يا سوسو... هدلعك، وهخليكي تعملي فورمة محصلتش، شوفتِ أد إيه إنتِ محظوظه يا سوسو...


مسحت دموعها بكفها المرتعش، وزفرت بنفاد صبر:

-بس متقولش سوسو!


ارتبك للحظة، ثم اعتدل واقفًا وقال مستسلِمًا وهو يرمقها بعينين فيها مزيج من السخرية والحذر:

-بـ... بلاش سوسو؟ بس إيه دلع سراب؟

نظر «عمرو» حوله وكأنه يستعين بالموجودين، فحدقت به سراب بعينين كالجمر وقالت بحدة مكتومة:

-اطلع بره يا عمرو، أنا أصلًا مش طايقاك... إنت فاكر إنك هتمشي كلامك عليا وتتحكم فيا... ألبس ايه... وأحط مكياج ولا لأ... ويمكن تخليني أقعد في البيت بقا وكلام من ده.


لكزتها وئام بذراعها، تحاول التخفيف من التصعيد وهي تقول:

-ما تهدي... خلاص بقى!


تراجعت سراب خطوة للخلف، لكن خرج صوتها أعلى قليلًا:

-لا مش خلاص... أنا مبحبش حد يتحكم فيا!


رفع «عمرو» حاجبيه، وقال بنبرة أكثر جدية:

-حد مين؟ أنا مش حد... أنا جوزك.


قاطعته سراب بحدة وهي ترمش بانفعال:

-بس متقولش جوزك!


اقترب منها خطوة وقال بنبرة صارمة لا تقبل النقاش:

-لا جوزك غصب عنك يا سراب...


رفعت يدها أمام وجهه كأنها تدفعه بالكلمات:

-مش هتجوزك، يلا بقى... واطلع بره!


-مش هتتجوزيني إزاي! احنا أصلًا متجوزين!

قالها بانفعال ساخرًا، واشتبكت نظراتهما الغاضبة، وكأن الزمن توقف للخطة بين نظرتين... واحدة تتمرد والأخرى تتشبث.


وقفت «وئام» بينهما، ترفع يديها وكأنها توقف حلبة مصارعة:

-ما خلاص بقى يا عمرو إنت كمان!


أغمض «عمرو» عينيه للحظة، كأنه يحاول حبس الغضب خلف جفنيه، ثم مسح وجهه بكفيه وتنهد طويلًا ثم قال:

-طيب... يلا... بابا مستنينا تحت.... خلينا ننهي الليلة دي.


قالت «سراب» بعناد:

-أنا مش طالعة من هنا.


نظر «عمرو» إليها، للحظة صامتة، لم يتحرك فيها سوى حاجبه المرفوع على مهل... ثم أدار وجهه لعامر وقال:

-خد عروستك ويلا... أنا جاي وراك.


قالت «وئام» بقلق وقد شعرت بأن شيئًا ما يتشكل خلف صمته:

-هتعمل إيه يا عمرو؟


أومأ «عمرو» مطمئنًا، لكن عينيه لم تبثا الطمأنينة.

وقبل أن يفهم أحد ما ينوي فعله، كان قد تقدّم من سراب...


فاتسعت الأعين، وتجمدت الأصوات، حين انحنى وحملها بين ذراعيه دون مقدمات!


صرخت «سراب»:

-بتعمل إيه يا له!! نزلني!

ثبتها بين ذراعيه كمن يحمل حقيبة قرر أن لا يتركها، خرج من الشقة متجاهلًا لها وجهه متجمدًا وكأن لا شيء يهم، قال ببرود:

-يلا بينا يا جماعة.


راح الجميع يتبادل النظرات، مشدوهين، بينما «سراب» تصرخ وتحاول التملص منه، ووجهها يغلي بالخجل والذهول، فمال نحو أذنها وقال بحدة:

-اهمدي بقى، وإلا والله العظيم أرميكِ من فوق السلم ده.

تسمرت بين ذراعيه، وكأن جسدها تلقى تهديدًا حقيقيًا... لا تدري لمَ نبرته تلك جعلت الرعشة تسري في أطرافها، فصمتت... وابتلعت ريقها باضطراب.


وبعد ما نزلوا درجات السلم نظر «عامر» لتقى وقال بابتسامة مرحة:

-منك لله يا عمرو... هيخليني أشيلك وأنا أصلًا ظهري واجعني...

وقبل أن ترد «تقى» حملها هو الأخر، ومن حولهم تعالت الزغاريد والتصفيقات حتى دخل كل منهم إلى شقته...


ووقف بقية العائلة يودعون المهنئين...

وكانت «رغدة» تقف جوار «رحمه» شاردة تتذكر الكتاب الغريب الذي أخذته، وعيناها مسلطتان على «بدر» لكنها لم تكن تراه...


لاحظ «بدر» نظراتها المركّزة نحوه، فارتبك قليلًا وتحرك من مكانه.

انتبهت على الفور، وأزاحت بصرها بخجل.

كانت «سعيدة» تراقب المشهد من بعيد، فتقدّمت منها وقالت بمكر:

-ابقي قوليله يدفعلي تمن الكفّارة عشان السر اللي قولتهوله.

-مش فاهمة! أقول لمين؟ وكفّارة إيه؟ وسر إيه؟

ضحكت سعيدة بدلال وقالت:

-قولي للي شاغل قلبك... وهو هيفهم..


اضطربت «رغدة» ولم ترد عليها بل جذبت «رحمه» من ذراعها وقالت:

-يلا نمشي...

وسارت معها «رحمة» دون مقاومة بينما ظل «بدر» يراقبهما بطرف خفي حتى دخلتا للبيت...


وحين لاحظت «سعيدة» وقوف بدر بمفرده اقتربت منه وقالت:

-فين فلوس الكفاره يا هندسه؟


التفت لها بدر وصمت هنيهة قبل أن يضع يده في جيبه، فابتسمت سعيده وفتحت يدها...


أعطاها النقود وهو يقول:

-ياريت بقا يا خاله سعيده متقوليش الكلام ده لأي مخلوق لحد ما نتأكد...


تلاشت ابتسامتها وقالت:

-يعني ايه! مقولش لستات الشارع الإكتشاف ده؟ ازاي مش هقدر!


وضع يده في جيبه مرة أخرى ليعطيها المزيد مقابل صمتها لكنها قالت بنبرة مرتفعة:

-إنت بتعمل ايه! أعوذ بالله إنت عايز تديني رشوه!! 


التفت «بدر» حوله باضطراب حين انتبه لنظرات من حوله، وقال بخفوت:

-رشوة إيه بس!! يا حجه سعيده الموضوع مش بسيط وأنا مش عايز أعشم جدي بأمل على الفاضي...


صمتت «سعيده» تفكر هنيهة ثم قالت:

-طيب... بس قدامك أسبوع ومتزعلش مني بعدها لاني هقول...


لا تغفلوا عن الدعاء لإخواننا في فلســ 🌸 🌸 ـطين..


********

استلقت «رحمة» على فراشها بإرهاق وسُرعان ما غطت في نوم عميق بينما فتحت «رغدة» الكتاب وأخذت تقرأه مرة أخرى بتركيز...

كان هناك صفحات تشبه الفيزياء وصفحات أخرى لرسومات ورموز غير مفهومة، أخذت تُقلب الصفحات بعشوائية حتى توقفت عند جلد الكتاب من الداخل أثار انتباهها حوار مكتوب بخط اليد فقرأته وهي تحرك شفتيها دون صوت:

-وكم من أناسٍ أسرك مظهرهم الجذاب، فشغفت بهم، ورغبت في التقرب منهم! فتوددت إليهم بحماس، حتى جاءت الصدمة حين تكتشفت أنهم ليسوا سوى قطعة مظهرها حلوى لكنها مالحة! خدعك بريقهم، فابتلعت الطُعم، ثم باغتك الطعم الحقيقي؛ كذِبٌ مستترٌ خلف قناعٍ براق! فكنت كمن أغراه لمعان قطعة حلوى، فمدّ يده متلهفًا، وما إن تذوقها حتى لسعه مذاقها اللاذع! فالمظاهر ليست سوى شِباك تُلقى لاصطياد السطحيين أمثالك.


-أعلم أن المظاهر خادعة! لكننا بحاجة إلى الخدعة لترويج بضائعنا، وتلك مهارة وليست بإحتيـ.ال، ولا تُنكري أن البيع يتم عن تراضٍ.


-سحقًا لك! أولًا تخدع الناس ثم تقول تلك مهارتي والبيع قد تم عن تراض!!


وبعده أحرف متشابكة لم تفهمها لكنها حاولت نطقها...

مطت شفتيها بإعجاب من الحوار، ثم أخرجت هاتفها وكتبت ما قرأته على ملفها الشخصي على الفيسبوك...

ثم أغلقت الكتاب وتنهدت عميقًا قبل أن تضعه أسفل وسادتها وتستلقي قبالة أختها غارقة في النوم....

                    🌸🌸🌸🌸

ثمة لحظات لا تُقاس بالعقل، ولا تُوزن بالمنطق... لحظاتٌ تسبق العاصفة، تلامس الروح بنبضٍ خفيف، كأنها تعزف لحنًا مألوفًا لم يُسمع من قبل...

                     🌸🌸🌸🌸

في صمتٍ مهيب جلس «عمرو» قبالتها بعدما خلع جاكيت بدلته ووضعه بجانبه بعناية.

لم يكن بينهما كلام، فقط نظرات تتسلل خلسة؛ يزحف كلٌّ منهما ببصره نحو الآخر حين يظن أن الطرف المقابل لا ينتبه، لكن كلاهما كان يراقب الأخر بصبرٍ متحفز، حتى التقت العيون فجأة...

ابتسم «عمرو» بهدوء، بابتسامة نصفها خجل ونصفها مودة، فأسدلت «سراب» عينيها سريعًا، كمن انكشف دون استعداد... رفعت رأسها مجددًا وحين رأته لازال يطالعها بابتسامة، ثم وعلى غير توقّع، انفــجرت ضاحكة...

ضحكة حقيقية، خرجت من أعماقها، دفعت رأسها قليلًا للخلف، وهزت كتفيها بخفة.

لم يفهم «عمرو» سبب الضحك لكنه ضحك معها، كأن الضحك في حد ذاته كان مبررًا كافيًا.

قال، والضحكة لا تزال عالقة في صوته:

-هو إحنا بنضحك على إيه؟


نهضت «سراب» فجأة واقتربت منه بخطوات سريعة وهي ترفع طرف فستانها الأبيض، وعيناها لا تزالان دامعتين من أثر الضحك.

ضــربته بخفة على كتفه بقبضة يدها الصغيرة، وقالت بنبرة تجمع بين الحدة والعتاب:

-بتشيلني ليه؟!


رفع «عمرو» حاجبيه بدهشة طفيفة، لكنه سرعان ما استعاد هدوءه:

-عشان إنتِ عنيدة يا سراب!


زفرت وهي ترفع حاجبيها بشدة وهدرت به:

-وإنت مستفز!


قال بابتسامة مائلة، وصوته صار أكثر رقة، كأنه يحاول تهدئتها:

-يا بت أنا خايف عليكي... زعلانه عشان بقولك مينفعش تخرجي قدام الرجالة بالمكياج؟


ردت وهي تشيح بيدها:

-ما البنات كلها بتمشي في الشارع بالمكياج! جت عليا وأنا عروسه...


أطرق قليلًا ثم رفع عينيه نحوها وقال بثبات:

-الحرام هيفضل حرام، ولو عمله كل الناس يا سراب.

سكن جسدها قليلًا، وكأن كلماته استقرت في مكان ما بداخلها... فهي عنيدة للغاية...


جلست ببطء، وأراحت كفيها في حجرها، ثم قالت بصوت خافت:

-ماشي يا عمرو... إنت معاك حق... بس متحسسنيش إنك بتأمرني... أنا مبحبش كده.


ابتسم ابتسامة صغيرة وأومأ برأسه:

-حاضر.


-ومتشلنيش قدام الناس كده تاني... أنا كنت مكسوفة أوي.


-حاضر.


ارتبكت بسبب هدوءه، صمتت كأنها تغوص في أعماقها لتستخرج كلماتها التالية، ثم قالت:

-و... وحاول تستحملني، أنا عارفة إني مزاجية، و... وبحب العند... وبتعصب بسرعه بس برجع بسرعة برضه...


-حاضر.

سكتت لحظة، تتأمل ملامحه، ثم همست:

-و... وكمان متتعصبش عليا... اتحكم في نفسك شوية.


نظر لها للحظة طويلة، وعيناه تلينان مع كل كلمة، ثم قال بنفس الهدوء:

-حاضر.


سكتا كلاهما بعد ذلك، لا صوت سوى أنفاسهما الهادئة...

التقت أعينهما من جديد، هذه المرة لم تُسدل سراب نظراتها، ولم يُشِح عمرو ببصره.

كانت نظرة مطوّلة... صامتة، لكنها ممتلئة بكل ما لم يُقَل.

ابتسم هو أولًا، نصف ابتسامة مطمئنة، تبعته هي بابتسامة خفيفة، خجولة، لكنها دافئة.

ثم تحركت أصابعها في توتر، تعبث بتطريز فستانها الأبيض، وأطرقت من جديد...


فقال عمرو:

-عامر عاملنا مفاجأة بيقول مش هتتخيلوها...


رفعت رأسها وقالت:

-مفاجأة!!


أومأ وقال بابتسامة عذبة:

-مش عارف حاجزلنا فين عشان نقضي شهر عسل ونريح دماغنا شويه من التفكير ومن كل اللي حوالينا...


ابتسمت بخجل وأومات، وساد الصمت مرة أخرى حتى نهض «عمرو» وهو يفك زر القميص العلوي من بدلته وقال بلطف وهو يبتعد نحو الغرفة:

-هدخل أغير هدومي...


هزّت رأسها بصمت، ثم وقفت وهي تمسك بطرف الفستان وترفعه قليلًا كي لا تتعثر به وقالت بصوت شبه هامس:

-وأنا كمان هدخل أغير.


التفت إليها وتبادلًا نظرة سريعة قبل أن يفترقا، ثم اختفى كلٌّ منهما في غرفة، يُواجه هدوءه وتوتره على طريقته...

                       *******

وفي شقة «عامر» كان مرتبكًا يبحث بالأدراج وبجيوبه، فوقفت تقى خلفه وقالت بلطف:

-بتدور على ايه؟

-مفتاح مكتبي... مش عارف حطيته فين؟

قالها بارتباك، فقالت:

-ممكن تكون نسيته تحت!!


نظر لها ثم أطلق تنهيدة طويلة وقال:

-مش عارف والله يا تقى أنا بقالي فتره مش مركز في أي حاجه.


وأضاف بابتسامة عذبة:

-معلش يا حبيبتي هنزل أشوفه تحت كده... مش هتاخر عليكِ.

اومأت «تقى» بابتسامة خجولة، وخرج «عامر» من الشقة مسرعًا فيما جلست هي تتذكر والدها، ونظرات «حسين» وكلماته، وكلمات «شيرين» أن عامر يُعتبر عقيم، وتبكي بقلة حيلة حتى لاحظت حركة المفتاح بباب الشقة فجففت دموعها في سرعة وتظاهرت بالبسمة...

دخل عامر بوجهه البشوش وجلس جوارها فقالت بلطف:

-لقيت المفتاح؟

-أيوه.

قالها بابتسامة وأخذ يتأملها بنظرات تقطر حبًا، بدا وكأنه لم يدرك بعد اختفاء كتابه!


أطرقت «تقى» بخجل وأسدل الليل ستاره بهدوء على أولى لياليهم حيث لا صخب... لا ضجيج... فقط بداية صغيرة تُكتب بخطى خجولة. 


سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸 

                      ★★★★★

وفي مكان أخر 

في دار المسنين

كان «نادر» يتقلب في فراشه كأن الفراش نفسه يلفظه...

كان عقله ساحة حــرب، تتناطح والأفكار داخله بعنــف...


تذكر حين أخبر «بدر» بكل ما يعتمل في صدره فقد كان بحاجة لصوت آخر، لشخص يشاركه الشك، لكن... ثم ماذا؟

زفر بضيق ونهض من فراشه...

اقترب من النافذة وأزاح الستارة برفق.

الضوء المنبعث من نافذة «راشد» اخترق عتمة الليل كنداء خفي.

حدّق نادر طويلاً، وعيناه معلقتان بزجاج النافذة، كأن نظراته تستجدي كشف المستور.


تناول هاتفه بتردد.

لم يعد يهتم بالسوشيال ميديا والشهرة كما كان يفعل، لكن لا ضرر من التصفح الآن...

ظل يقلب المنشورات بلا تركيز حتى توقّف عند صورة قديمة لكارم... فتحها، وحدّق فيها مطولًا...


ارتسم العبوس على وجهه، وكأن وجه «كارم» يتحدث إليه، لكنه لا يفهم اللغة...

في النهاية، أسند رأسه إلى الوسادة واستسلم للصمت... لا شيء يمكن فعله الآن سوى الانتظار.


عاد يتصفح هاتفه، مرّ على رسائل «رحمه».

تردّد، ثم فتحها.

كانت الكلمات هناك، صادقة كما تركتها.

وخْزُ ضميره لسع قلبه حين تذكر ما فعله معها. تسارعت أنفاسه، وضاق صدره، فأغلق الرسائل في عجالة، ثم حذفها... كأن الحذف سيمحو ما ارتُكب.

ظهر إشعار يخبره أن بدر نشط الآن، فكتب له هروبًا من أفكاره:

-هااا الفرح خلص؟


جاء الرد سريعًا، كأن «بدر» كان بانتظاره:

-من بدري... صاحي ليه دلوقتي؟ مش عندك شغل الصبح؟

-عندي... بس موضوع عمي كارم مش سايبني أنام... إنت بقا صاحي ليه؟

-مواضيع كتير أوي شغلاني.


قرأ «نادر» المحادثة أكثر من مرة.

تردّد... أيرسل سؤاله؟ هل يفتحه من جديد؟ لكنه كتب أخيرًا:

-صحيح هو إنت بتشوف رحمه؟


مرت لحظة، ثم وصل الرد:

-أيوه... ومنه لله أبوها، كان هيضيعها النهارده.


انتفض «نادر» جالسًا كمن لدغته صاعقة.

تسارع قلبه، وغضب حارق تسلل إلى ملامحه، وعلى الفور طلب رقم «بدر،» وصوته حين تحدث؛ كان مزيجًا من القلق والغضب.


راح يصبّ لعناته على «صالح»، شاتمًا إياه بحرقة.

وبدر ظل يسمعه بصبر، حتى فرغ كل ما بداخله... ولم تُغلق المكالمة إلا بعدما حكى له بدر كل ما يشغله هو الأخر...

صلوا على خير الأنام 🌸 


                         ★★★★

أشرقت الشمس على استحياء، تداعب أطراف الستائر البيضاء المفرودة، تتسلل منها خيوط ذهبية خفيفة تنثر دفئها على أرضية الغرفة الهادئة.


هدوء الصباح كان مطبقًا... كأن المدينة بأكملها تتنفس ببطء، تستعد ليوم جديد.

ظهر هدير خافت لعربة تمرّ، وزقزقة عصفور على حافة الشباك، ورائحة قهوة بعيدة تشق طريقها من نافذة مفتوحة.

كل شيء بدا طبيعيًا، مطمئنًا، ساكنًا.


وفجأة...

شقّت صرخة عالية هذا السكون، كانت صرخة امرأة اخترقت الهدوء، وترددت أصداؤها في الشارع.


ظهر بعدها صوت خطوات متخبطة، أبواب تُفتح، وستائر تُزاح بعنف، وأصوات تتساءل، تتداخل، تلهث، ترتجف...


استيقظ «عامر» على صوت الصرخات بينما خرجت «تقى» من المرحاض مفزوعة وهي تسأل «عامر» الذي لازال بالفراش مشدوهًا:

-في إيه؟ صوت الصريخ جاي منين؟


وثب «عامر» من فراشه وهو يقول:

-مش عارف....


فتح «عامر» الشرفة مسرعًا فرأى «بدر» يخرج من شقته راكضًا بحمل مطفأة الحريق و«رائد» أيضًا يحمل مطفأة حريق ويركض وغيرهما من الجيران...


كان «البدري» يقف في الشرفة المقابلة مترقبًا ومتلهفًا فسأله عامر:

-هو فيه ايه يا خالي؟

-حـ ـريقه في بيت عمك ضياء... 

-حد اتأذى؟

سأله «عامر» بلهفة فقال البدري:

-والله يابني مش عارف...

دخل عامر مسرعًا وركض جهة الباب وهو يقول لتقى:

-خليكِ هنا... هروح أشوف فيه ايه؟


وقفت «تقى» عند باب الشقة مضطربة، ثم هرولت ترتدي حجابها وتخرج للشرفة تشرئب برأسها لتتابع ما يحدث...

استغفروا 🌸 

                      ★★★★

تصاعد الدخان كثيفًا من نوافذ الشقة، يتلوى في الهواء كأفعى سوداء غاضبة، فيما اللهب يلتهم الأثاث والجدران بنهم مجنون.

وقف الجيران في الخارج، يتسابقون في إلقاء دلاء المياه، وجوههم متوترة، وصرخاتهم تتداخل مع فرقعة النار.


فقبل دقائق حين استيقظت «رحمة» من نومها دخلت المرحاض وعندما خرجت وجدت أمامها تلك النيران فصرخت بأعلى صوتها واستيقظ جدها وجدتها لكن «رغدة» كانت مستغرقة في النوم بغرفتها المغلقة...


كانت الأصوات تصرخ باسم رغده...

انتفضت «رغدة» من نومها على أصوات الصرخات وحين فتحت عينيها لم ترى سوى الظلام، وأصوات صرخات مرتفعة ونداءات باسمها...


وثبت من فراشها وهي تمدّ يديها في الهواء كأنها تبحث عن جدار تستند إليه، أو شخص ينتشلها. 


شحب وجهها وهي لا تفهم ما يجري تساءلت أهذا كابوس؟ اتسعت عيناها لكنها لم تكن ترى شيئًا.


صرخت بصوت مرتجف، صوت يائس يعلو على أصوات الانفجار الخافتة:

-انتوا فين؟! أنا مش شايفة حاجة! مــــــش شــــــايـــفة... مـــــش شــــايــفة!


كانت تتلمس الفراغ كأنها تغوص في عالم آخر، عالم أعمى ومرعب...

خرجت من غرفتها فاصطدمت يدها بحافة طاولة محترقة، ارتدت للخلف وهي تصرخ من الألم، ثم وقفت مكانها تبكي وتردد بلا وعي:

-يا جدو... يا تيته... أنا مش شايفه حاجه... 

الفصل السابع والعشرون من هنا

تعليقات



×