رواية سدفة ج2 (عن تراض) الفصل السابع والعشرون 27 بقلم أيه شاكر



 رواية سدفة ج2 (عن تراض) الفصل السابع والعشرون بقلم أيه شاكر

-يا جدو... يا تيته... أنا مش شايفة حاجة...

خرج صوت «رغدة»، مرتجفًا، يئن بين شهقاتها المتلاحقة.

أغلقت عينيها وفتحتها أكثر من مرة، حاولت أن تميز شيئًا، أي شيء... لكن لا شيء كان يُرى.

كل شيء أسود.

كأن الظلام ابتلعها، كأن العالم كله قد أُطفئ.

أصوات تتعالى من الخارج، جيران يصرخون، نيران تتوحش وتلتهم كل ما تقابله، وحرارة تلفح وجهها، لكن عيناها... لا تبصران شيئًا.


كانت يدها ترتعش وهي تتحسس الفراغ من حولها، تمسك الهواء، تفتش عن الأمان، أو حتى جدار تستند إليه، لكنها لم تجد فتعالت صرخاتها...


في الخارج، كانت «رحمة» تصرخ باسم أختها حتى بحّ صوتها، بينما شيرين أمسكتها بقــوة حتى لا تلقي بنفسها....


وقف «محمد» في وجه «ضياء» وزوجته «فاطمه» كانا يحاولان الدخول، فهدر «محمد»:

-رايحين فين؟ رايح فين يا بابا! 


حاولت «فاطمة» تخطي «محمد» هادرة:

-اوعى كده من قدامي هدخل لرغده...

وقف «محمد» حائلًا دون ذلك وأشار لريم لتُهدأ والدتها...

بينما صرخ «ضياء» بصوت يمزقه اليأس:

-رغــــــــــــــده...

تذكرت «فاطمة» ابنتها «رغدة» التي توفت قبل سنوات وانهارت باكية وهي تصرخ باسمها، وكأن الجرح انفتح مرة أخرى، كانت تنادي ولا تعلم اتقصد حفيدتها أم ابنتها...

اختلطت الصرخات، حتى اندفع «بدر» و«رائد» من بين الجموع، يحمل كل منهما مطفأة حريق وسرعان ما أفرغاها فانطلقت منها سحابة بيضاء خنقت جزءًا من النيران...


وبعد قليل خمدت النيران، وتركت وراءها أثاثًا متفحمًا وجدرانًا سوداء و... «رغدة».

كانت مستلقية على الأرض بغرفتها، جسدها ساكن، ووجهها شاحب، وعيناها مفتوحتان...

كأنها تنظر إلى نقطة بعيدة... لا تراها.

حملها عمها «محمد» بسرعة، وركض بها إلى الخارج.

كانت تصرخ بانهيار من خلف شهقاتها: 

-أنا... مش شايفة... أنا اتعميت...

وأخذت تكرر تلك العبارة ثم هدأ صوتها فجأة حين قدت الوعي...


دب الرعب في قلب الجميع.

كانت «رحمه» تبكي بهسترية وهي تردد:

-أنا عايزه أختي...


ضمتها «نداء» وقالت:

-اهدي يا رحمه أختك مفهاش حاجه... دلوقتي نطمن عليها...

ثم اخترق صوت سيارة الإسعاف الشارع وأخذوا «رغدة» في سرعة، بينما كان القلق يقتات على القلوب.

صلوا على خير الأنام 🌸 

*******

                   وبالمستشفى

مر الوقت ولم تهدأ القلوب خاصة حين فتحت «رغدة» عينيها مجددًا بعد وقت طويل، لكنها أخذت تحرك يدها أمام عينيها وتبكي، نطقت والدموع تغمر وجهها:

-أنا مش شايفه اي حاجه... أنا اتعميت.


تبادل الجميع النظرات تذكروا «رائد» و«عامر» حين فقدا بصرهما ثم سلطوا نظرهم عليها وهي تبكي...

       

مر عليهم وقت عصيب، حتى استعادوا وعيهم، لكن لم تستعد «رغدة» بصرها...


             عادوا لبيتهم

توقفت «رغدة» عن البكاء واستسلمت لما هي فيه وجلست تسمعهم يتشاورون في حالتها تلك...


وقد قرروا ألا يبدؤا بعرضها على الأطباء بل بأن يبدأ يحيى برقيتها بالقرآن، وبالفعل بدأ «يحيى» برقيتها...

                    ★★★★★

                   بعد صلاة الظهر

انسلّوا خارج المسجد...

كانت الشمس تتوسط السماء، مشرقة لكنها هادئة، كأنها قررت أن تُخفض صوتها قليلًا احترامًا للسكون الذي يرافق لحظات ما بعد الصلاة.

كان لون السماء أزرق باهت تتخلله خيوط من الضوء الأبيض، كأنها تستحي من أن تملأ الفضاء وحدها.


وقف «بدر» مع «عمرو» و«عامر» على جانب الطريق، وأصوات العصافير تختلط بأحاديث المارة.

وقف «عمرو» و«بدر» يتحاوران وكأنهما لم يتجاذبا بالأمس...


-غريب جدًا! يعني متخيلين إن النجفه توقع شرارة كهربا على مفرش السفره فالشقة تولع!

قالها «عمرو» باستغراب، فتنهد «بدر» وقال:

-الحمد لله إن محدش إتأذى و... وحتى الشقة... كويس إنها جت في الصاله والمطبخ بس.


-الحمد لله قدر الله وما شاء فعل.

قالها «عامر» ثم نظر لبدر وقال:

-كمل يا بدر كنت بتقول ايه عن جدك...

-بقول يا سيدي جدّي كان متجوز واحدة زمان... اسمها صفية... وهي أم طنط شيرين.... يعني هي اللي بندوّر عليها دلوقتي، طنط شيرين بنت تيته صفية.


رمش «عمرو» ببطء وكأن عقله يعيد ترتيب الأسماء، ثم قال مترددًا:

-بس جدك اسمه البدري... وجدي، الله يرحمه، كان اسمه عبد الوهاب.


ابتسم «بدر» ابتسامة سريعة، وقال:

-جدي اسمه الحقيقي عبد الوهاب يا عمرو... البدري دا اسم مشهور بيه.


أومأ «عمرو» بتفهم، ثم سكت وهو يمسح على شعر ذقنه بيده، وعينيه معلقتان بنقطة في الأرض لا يراها أحد غيره.

وبعد لحظة قال بنبرة فيها تردد:

-الموضوع ده... لازم يتأجل شوية... إحنا مسافرين شهر العسل، وبصراحة محتاج أفصل عن كل حاجة فترة... وبعدين نرجع نشوف الحكاية دي كمان...


ابتسم «عامر» وشبك ذراعيه وقال:

-وأنا كمان شايف كده... أنا متشوق جدًا للسفرية دي عاملك حتة مفاجأة يا عمرو هتدعيلي...


-أنا كمان متشوق أوي للمفاجأة اللي أخويا حبيبي مجهزها.

قالها «عمرو» بحماس وهو يلكزه بكتفه، فالتفت إليه «عامر» بنصف ابتسامة وقال بنبرة مشاكسة:

-بص، هبهرك... عايزك بس تنجز وتجهز إنت والمدام، عشان هننطلق كمان ساعة... وعلى فكرة... الرحلة نصها على حسابي.


اتسعت عينا «عمرو» بدهشة، وضــرب كتف أخيه بخفة:

-يا راجل نصها؟! تصدق... إنت طلعت أخ جدع.


عدل «عامر» من ثيابه بزهو وهو يقول:

-جدًا، أنا طول عمري جدع جدًا.

ضحك الجميع، حتى «بدر» الذي سرق لحظة ضحك قصيرة، اغتصبها اغتصابًا، قبل أن تنسحب ابتسامته ببطء من على وجهه... حين مرّ طيف «رغدة» أمام عينيه، وهي تتلمس الجدران بيديها المرتجفتين، فاقدة نورها بين ليلة وضحاها.


تغيرت ملامح «عامر» هو الآخر، كأن الذكرى سرت إليهما معًا دون استئذان.

زفر «عامر» تنهيدة عميقة وقال بصوت منخفض:

-يا ترى... اللي بيحصل لرغدة، هو نفس اللي حصل ليا أنا ورائد زمان؟


حدق «عمرو» في وجهه لحظة، ثم تمتم:

-ممكن يكون وراثة؟


ساد صمت ثقيل، تبادلوا فيه نظراتهم القلقة الحائرة، ثم تحركوا ببطء نحو منزلهم، وأفواههم تطرح أسئلة بقيت معلقة في الهواء... بلا إجابات.

استغفروا 🌸

                        ★★★★★

طرق «نادر» باب غرفة «راشد» مراتٍ متتالية، ونبرة صوته تزداد قلقًا كلما نادى اسمه دون أن يلقى ردًا، فقد قرر أن يتحدث معه بوضوح لن يتراجع تلك المرة! سيضغط عليه حتى يعترف أنه هو نفسه كارم!

ويحكي له ما يخفي...

ولمّا طال الصمت، مد يده بحذر ودفع الباب ببطء، وهو ينادي بحرج:

-عمي راشد...؟

جال بصره بأرجاء الغرفة التي خلت من أي حركة...

تقدّم خطوة، وعيناه تتفحّصان المكان...

التفت خلفه بتوجس كمن يخشى أن يُضبط متلبسًا، ثم دلف إلى الداخل وأغلق الباب خلفه بهدوء.


بدأ يقلب في الأرجاء، يفتش بين الأغراض، الأدراج، الخزانة... إلى أن توقفت يده فجأة، واتسعت عيناه بدهشة لا تصدق...

كل شيء... فارغ!!!

الغرفة خالية من أي أثر لـ«راشد»... لا ملابس، لا أوراق، لا حقيبة... كأن أحدًا لم يسكن هنا قط.


خرج «نادر» مسرعًا، خطواته تلهث، وعيناه تمتلئان بالقلق.

صاح وهو يطرق الأبواب المجاورة بلهفة:

-يا عمي توفيق! عمي فاروق!


خرج «توفيق» أولًا، يرمق ناد بقلق وهو يفرك عينيه:

-إيه يا نجم؟ حصل حاجة؟

-عمي راشد... مش في أوضته!

-ما هو يمكن راح المستشفى كالعادة.

-بس... الأوضه فاضية! ما فيهاش حاجة خالص! ولا هدومه حتى!

ارتسمت على وجه «توفيق» علامات دهشة حذرة، وشدّ فمه في استغراب قبل أن يقول:

-يعني هيروح فين؟ هو دايمًا بيختفي ويظهر فجأة... يمكن واخد حاجته عشان المرة دي هتطول شوية...


وحين سأل «فاروق»، لم يكن جوابه سوى هزّة رأس مرتبكة وهمهمة غير مفهومة.


قضى «نادر» ما تبقّى من يومه في قلق، يتنقل من ركن لآخر، يسأل كل من يصادفه عن «راشد»...


لكن الجواب كان واحدًا:

لا أحد رآه.

«راشد»... اختفى.

ما إن بدأ نادر يستوعب اختفاء راشد، حتى وصله نبأ آخر زاده حيرة، تم استبعاده من عمله، بعدما عاد الموظف السابق لاستلام منصبه.


جمع نادر حاجياته، وودّع توفيق وفاروق، ثم قال:

-رقمي معاكم لو احتاجتوني في أي وقت...


قال فاروق وهو يتشبث بيد نادر بحب:

-هتوحشنا يا نجم النجوم.


ربت نادر على يده وبدل نظراته بين الاثنين، ثم قال:

-هتوحشوني جدًا... لو ظهر عمي راشد كلموني.


شيعاه بنظراتٍ تشع حزنًا وغادر نادر دار المسنين بعدما لوح لهما بابتسامة باهتة...


لم يعد إلى بلدته مباشرة، بل حجز غرفة في فندق قريب، ليستوعب أولًا ما يحدث...


سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸 

                         ★★★★

مع مطلع الشمس، بدأت أشعتها الذهبية تلامس أطراف الصحراء، بينما امتدت حافلة سياحية على الطريق الرملي المؤدي إلى واحة الفرافرة، تزحف ببطء بعد رحلة ليلية طويلة أنهكت أجساد الركاب.


بدت ملامح التعب بادية على وجوه الجميع، خاصة من لم يألفوا السفر لمسافات طويلة أو النوم ورؤوسهم تتأرجح على نوافذ مهتزّة.

بعضهم بالكاد يفتح عينيه، والبعض الآخر يئن بصمت.

وحده «عامر» بدا مختلفًا، منتشيًا، وكأنّه شرب النشاط بدلًا من القهوة.

ترجل الرُكاب ما إن توقفت الحافلة وقفز عامر منها قبل الثلاثة المذهولين والمترقبين.

خرجت «تُقى» من الحافلة بخطوات حذرة، تعثّرت في الرمل قليلًا ثم رفعت رأسها تتفحّص الأفق الغريب بعينين متسائلتين.


تنفّس «عامر» الهواء الجاف بعمق، وفتح ذراعيه كأنّه يحتضن الصحراء بأكملها، ثم استدار نحوهم وصاح بحماسة مسرحية:

-أهلاً بيكم في أحلى مكان ممكن تبدأوا فيه حياتكم الجديدة! هااا... إيه رأيكم في المفاجأة دي؟


التفتت «تقى» نحوه وضحكت، لكن ضحكتها لم تُخفِ ارتباكها:

-إيه دا يا عامر؟! هي دي المفاجأة؟ جايبنا شهر عسل في قلب الصحرا؟!


في الجهة الأخرى، كان «عمرو» واقفًا بصمت، يعضّ على شفته السفلى وقد ظهر الغيظ في عينيه اللتين لم تغادرا المرشد الذي بدأ يشرح، بنبرة تحمل مزيج من المعرفة والتشويق، عن كهفٍ بعيد يلوح في الأفق:

-دا كهف الجارة، معروف بتكويناته الصخرية الفريدة، والرواسب الكلسية اللي رسمت أشكال طبيعية عجيبة... ناس بيقولوا الكهف دا له تاريخ غامض، وإنه كان مأوى لعشيرة قديمة، بتحكي الحكايات إن ليهم طقوس غريبة وكنوز مخفية، وفي ناس بتزعم إن الكهف مسكون بروح حارسة... لكن في الآخر، هو أعجوبة طبيعية تستحق الزيارة.


كانت «سراب» تقف بجوار «عمرو»، نظراتها قلقة وصوتها بالكاد خرج:

-عمرو... أنا خايفة، مش عايزة أدخل المكان ده.


ابتلع «عمرو» قلقه، رسم على شفتيه ابتسامة باهتة وهو يحاول أن يُخفي تردده:

-متخافيش... دا... دا مكان جميل... هتحبيه، صدقيني.


نظرت إليه نظرة طويلة ثم رفعت حاجبها وقالت بنبرة ساخرة، محاولة أن تغلّف خوفها بالمزاح:

-هحب إيه؟! هو إحنا جايين شهر عسل ولا طلعنا معسكر كشافين؟!


كان «عامر» مبتسمًا بحـ ـماس، رمقه «عمرو» بنظرة حادة، وعيناه تضجّان بالتحذير فنظر «عامر» إلى السماء متظاهرًا بالاستمتاع بنسيم الصباح، وكأن لا شيء في الدنيا يشغله...

لكن حين التقت نظراتهما مجددًا، حرّك «عمرو» حافة يده على عنقه ببطء، في إشارة واضحة لا لبس فيها...

اتّسعت عينا «عامر» قليلًا، ثم ابتلع ريقه وهمهم بشيء غير مفهوم، قبل أن يلتفت فجأة إلى «تُقى» ويمسك يدها متظاهرًا بأنه يشرح لها تفاصيل الصخور والجبال:

-بصي هنا مثلاً، الصخور دي من آلاف السنين...


ضحكت «تُقى» بسخرية وهي تنظر حولها بنصف دهشة:

-هو أنا ليه حاسة إني طالعة رحلة مدرسية مش شهر عسل؟!

-ليه كده؟! دي هتكون أحلى رحلة في حياتك! والله! الأماكن هنا روعة... هتحبيها، أكيد!


لم يكن دخول الكهف بالمهمة السهلة؛ المدخل كان ضيقًا، مظلمًا، وكأنهم يزحفون داخل فمٍ حجريٍّ عملاق...

زلّت قدم «سراب» أكثر من مرة، وكلما ارتطم ظلّ بجدار أو دوّى صوت فجائي، كانت تصرخ وتتشبث بذراع «عمرو» بقــوة.


وفي داخل الكهف، تشعّبت الممرات الضيقة والمعقّدة كشبكة عنكبوت قديمة... ورغم الظلام، كان المكان مدهشًا؛ أعمدة صخرية ترتفع في صمت شاهق، جدران مرسومة برسوم غامضة، وقاعات فسيحة يتردّد فيها صدى الخطوات والهمسات.


توقفت «سراب» فجأة، قبضت على يد «عمرو» بشدة وقالت بذعر:

-إيه الصوت ده؟!


سمعها المرشد فقال بهدوء مطمئن:

-متقلقيش، ده مجرد صدى الهوى وخطواتنا.


لكنها هزّت رأسها بقــوة، وصوتها بدأ يرتعش:

-عمرو... أنا مش مرتاحة، عايزة أخرج من هنا.


اقترب منها وضم كتفيها بذراعه، وقال بصوت منخفض لكنه حازم:

-أنا معاكي... متخافيش.


كان المرشد يتنقّل بينهم، يشرح تكوين الصخور والرواسب الرملية التي صنعت هذا المكان على مدار العصور، بينما ابتعد «عامر» قليلًا، وتعلقت عيناه بجدار تملؤه رموزٌ محفورة بدقة...

كانت تلك الرموز مألوفة جدًا... يعرفها، بل رسمها بيده من قبل.


راح يحدّق في النقوش وكأنّ كل ما حوله اختفى، لم يعد يسمع صوتًا ولا يشعر بخطوات، سوى نبضه المتسارع، حتى أخرجه من شروده يد «تُقى» التي لامست ذراعه برفق.

فأخرج هاتفه والتقط أكثر من صورة لتلك الرموز قبل أن يلقي نظرة أخيرة على الرموز ويبتعد...


وحين خرجوا من الكهف، بدا «عمرو» مشوشًا، يتلفت حوله كأنه يستوعب أنهم لا يزالون في هذا المكان الغريب.

التفت لأخيه وقال بغيظ مكتوم:

-حسبي الله ونعم الوكيل... شهر عسل في الفرافرة يا عامر؟!


ابتسم «عامر» بثقة وقال:

-إيه رأيك في المفاجأة بقى؟

-منيلة.

قالها «عمرو» بصوت عالٍ جذب انتباه من حوله، فخفض صوته بسرعة واقترب منه هامسًا، وأسنانه مطبقة:

-بس تصدق... أنا غلطان إني كملت الرحلة لما عرفت بالمكان... المفروض كنت أخدت مراتي رجعت.


كان «عامر» ما زال شارد الذهن في تلك الرموز وعيناه تسرحان في الفراغ وكأنهما تقرآن شيئًا لا يُرى...

لكنه قرّر أن ينسى ذلك الأمر الآن، فتنفّس بعمق وقال بابتسامة خفيفة:

-متقلقوش... لسه الرحلة ما بدأتش... هنروح الفندق نرتاح، وبعد كده نطلع على أجمل مكان ممكن تشوفوه... الصحراء البيضاء، يا جماعة.


كانوا يُحدّقون في «عامر» بدهشة من حماسه المبالغ فيه، بينما هو يوزّع ابتساماته الواسعة كمن يروّج لحلمٍ لم يصدّقه سواه، انطفأت ابتسامته حين لاحظ تجهمهم، وقال:

-اعتبروها تجربة، يا جماعة... وبعدين، الطبيعة بتعلّمنا الصبر، صح ولا لأ؟


زفر «عمرو» ضحكة قصيرة، لكن نبرته كانت مشبعة بمرارة خفية:

-الصبر؟! يا حبيبي، إحنا عندنا في حياتنا أكتر من جامعة بتدرّس الصبر! حسين ومشاكله، بدر وحوراته... كان بقا ناقص الطبيعة عشان ناخد شهادة الامتياز!


تبادلت «سراب» و«تُقى» نظرة سريعة، نظرة تقول كل شيء دون أن تنطق...

أما «عامر»، فقد بدأ الخذلان يرتسم على ملامحه:

-يعني... مش عاجبكم المكان؟


ساد صمت قصير، كأنهم كلهم ترددوا في الرد... لتكسر «تُقى» الموقف، وتبتسم برقة تحاول بها انتشاله:

-لـ... لأ، أنا شخصيًا عاجبني المكان جدًا... فيه حاجة كده ساحرة في الصحراء.


نظر «عمرو» تلقائيًا نحو «سراب» ينتظر تعليقها، لكنها اكتفت بأن مطّت شفتيها، ثم أشاحت وجهها بصمت.


عادوا إلى الحافلة، الطريق إلى الفندق بدا أطول مما هو عليه...

جلس «عامر» قرب النافذة، عينيه لا تفارقان شاشة هاتفه، يتفحص صورة الرموز التي التقطها من الكهف، وكأنها لغز يحاول تفكيكه بصمت.


عندما توقفت الحافلة أمام الفندق، ونزلوا، تنهدت «سراب» وهي تنظر حولها، ثم سألت بنبرة بريئة لكن تحمل في طيّاتها خيبة:

-هو... مفيش بحر هنا؟


رفع «عامر» رأسه سريعًا، وكأنها منحته فرصة جديدة للعرض الترويجي:

-لأ، بس فيه رمل... أبيض، وأصفر، وأسمر! وفيه كمان عيون رومانية، وهنخيم في قلب الصحرا، و...


لكن قبل أن يُكمل، قطع «عمرو» حماسه بضــربة على ذراعه، جعلته يتأوه وهو يضحك:

-آآه! ليه كده؟! والله هنستمتع! مش فاهم إنتوا مكشرين ليه من ساعة ما وصلنا؟


*****

وكانت الصدمة الحقيقية بانتظارهم عند الاستقبال.

-أوضه واحدة؟!

قالها «عمرو» بذهول، وهو يلتفت نحو أخيه وأضاف:

-بجد؟! مفاجآتك مش بتخلص! حاجز أوضة واحدة؟!


رفع «عامر» يديه معتذرًا، وصوته يحمل مزيجًا من الدفاع والارتباك:

-ما أنا كنت بحسبها واسعة! وبعدين يعني... مش هنقلبها دراما! نعمل ستارة كده على السريع، «سراب» و«تُقى» يناموا على السرير، وأنا وإنت نرمي نفسنا على الأرض...


تبادل الثلاثة نظرات ثقيلة، لم يُعلّق أحد...

كان الصمت أبلغ من أي رد.

ابتسم «عامر» ابتسامة خفيفة يحاول بها تلطيف الأجواء، وقال وهو يهمّ بدخول المرحاض:

-يا جماعة... دول تلت أيام يعني ليلتين بس. نستحمل بعض... أنا هدخل آخد دش... حضّروا الستارة على ما أرجع.


لكن قبل أن يخطو خطوة واحدة، شعر بقبضة قوية تشدّه من ملابسه... التفت فوجده «عمرو»...


ضحك «عامر» وهو يرفع حاجبيه:

-عيب يا عمرو! مش قدام مراتي... أنا مبحبش حد يضــربني قدام مراتي! تعالى... تعالى نخرج برا نتفاهم.

قالها وهو يسحبه بخفة إلى خارج الغرفة، وصوته ما زال يمزج المزاح بالهروب.

انطلقت من «تُقى» و«سراب» ضحكة خافتة، كأنها محاولة فطرية لكسر الجمود الذي خيّم منذ شجارهما الأخير. تبادلت «تُقى» نظرة مع «سراب»، نظرة دافئة لكنها مترددة، وكأنها تبحث عن إشارة للصلح.


تقدّمت «تُقى» منها بخطوات هادئة، وجلست إلى جوارها، وقالت بنبرة مفعمة بالحنان:

-طمِّنيني عليكي... عاملة إيه؟


أجابت «سراب» وهي تشيح بعينيها لحظة ثم تعود تنظر إليها بابتسامة خفيفة:

-الحمد لله... وإنتي؟

-بخير... والله بخير.

قالتها «تقى» ثم مالت برأسها وسألتها بلطف:

-هااا... فرحانة؟


أطلقت «سراب» ضحكة صغيرة ممزوجة بالقلق وقالت:

-فرحانة؟! أنا مرعوبة من المكان اللي جوزك جايبنا فيه ده!


ضحكت «تُقى» بدورها وقالت وهي تربت على يدها:

-طيب والله المكان حلو... بس محتاج شوية خيال وهدوء.


ساد لحظة من الصمت المُريح، ثم سألت «تُقى» بنبرة مازحة لكنها قلقة:

-إوعي بس تكوني اتخانقتي مع عمرو امبارح؟


تذكرت «سراب» كيف بدت الأمور في الليلة الأولى بشقتهما... لم يتكلما كثيرًا، لكنّه عاملها بلطف، ترك لها الغرفة الواسعة، واختار الأخرى.

كانت لفتة صامتة، لكنها حملت اعتذارًا لم يُنطق.


ابتسمت «سراب» ابتسامة دافئة وقالت مطمئنة:

-لأ لأ، متقلقيش... اتفاهمنا.


ثم نظرت إلى «تُقى» بعينين مليئتين بالندم وقالت:

-وإوعي تكوني زعلانة مني بسبب اللي حصل ليلة الفرح... كنت متوترة ومشدودة بسبب حسين ده كمان... ويمكن طلعت غضبي فيكِ إنتِ وعمرو.


هزّت «تُقى» رأسها بابتسامة مليئة بالمحبة وقالت بمرح:

-أنا خالتك يا بت... يعني إزاي أزعل منك أصلًا؟


ودون تفكير، ارتمت «سراب» في حضنها، تحتضنها كما لو أنها تستند إلى بيتها الأول، وقالت بصوت خافت يختنق بالمشاعر:

-خالتي، وصاحبتي، وأختي، وكل عيلتي أصلًا...


ضمّتها «تُقى» بقــوة أكبر، تربت على ظهرها وتغمض عينيها، كأن هذه اللحظة كانت دواءً لكل توتر لتلك الليلة.

لا تغفلوا عن الدعاء لإخواننا في فلســ 🌸 🌸 ـطين.

                     ★★★★★★

جلست «رغدة» على فراشها وملامحها تغرق في يأسٍ صامت، عيناها شاردتان كأنهما تبحثان عن مخرجٍ من دوامة لا تنتهي، فيما كان رأسها يستند بخفوت على كتف رحمة، التي تشاركها الوجع بصمتٍ ثقيل...

بدتا وكأن الهم قد تسلل بينهما وتكفّل بتوزيع الأحمال بالتساوي.

«رغدة» لم تكن ترى شيئًا... فقط ظلام كثيف يلف عالمها، وكأن النور اختار أن يتخلى عنها طوعًا.

ومن خلف الباب، تكرّر صوت الجد «ضياء» للمرة الخامسة، يطرق جدار الصمت بصبرٍ متعب:

-يا رغدة، قومي يا بنتي، خلي الشيخ يحيى يقرألك قرآن...


استدارت «رحمة» فجأة، وقالت بغضب مكبوت وممزوج بالخوف: 

-الرقية الشرعية هتعمل إيه؟! لازم نكشف عليها! نوديها لدكتور يا جدو، مش كده!


تنهّد «ضياء» ببطء، وعيناه تفرّان من نظرات «رحمة»، وكأن قلبه معلق بين الماضي والحاضر: 

-هنوديها... بس استني شوية يا بنتي... جدك دياب داخ بعامر ورائد، والنور مرجعلهمش إلا بالقرآن...


وقبل أن ترد، خرجت شهقة مباغتة من صدر رغدة، اختنقت في حلقها، ثم انسكب بكاؤها دفعة واحدة... شهقة هزّت قلب رحمة، التي التفتت بذعر، وعيناها تلمعان بدموع لم تجد إذنًا للانتظار.

أسرع «ضياء» نحو الباب، أغلقه خلفه بهدوء مرتبك، ثم احتضن حفيدته وهمس بكلماتٍ مرتعشة:

-متعيطيش يا حبيبتي... كل حاجة هتتحل، والله هتتحل...

كرر جملته بهدوءٍ خافت، وهو يربت على ظهرها بإيقاع منتظم، كأن يده تكتب تعويذة أمان.

وما إن أدار عينيه، حتى رآى «رحمة» تضم يدها لفمها، تحاول كبح شهقة قادمة، والدموع تسيل بلا صوت. فتح ذراعه الآخر، فلم تتردد... اندفعت نحوه، وذابت بين ضلوعه، باكيةً بصمتٍ موجوع.

********

حلّ المساء، و«يحيى» لا يملّ من التلاوة، صوته يسري في الغرفة كسريان النسيم، يهمس للقلق أن يهدأ، وللأرواح أن تسكن.

**********

وفي مكان أخر كان «بدر» يجلس إلى جوار جده، يتململ بين رغبته في الكلام وصمته الثقيل، يفتح فمه ليبوح، ثم يغلقه ثانية، وكأن شيئًا ما يعيده إلى الصمت في كل مرة وصوت داخله يجبره أن يتمهل... 

فيعود لغرفته مثقلاً، يطالع الجدران ويسألها عن كارم! والكتاب! ورغده! وكلام سعيدة وينتظر أن يسمع جوابها وكأنها ستنطق!!

********

وفي القاهرة جلس «نادر» غارقًا في أفكاره، عيناه معلقتان بنقطةٍ وهمية في السقف، يتلوى في داخله السؤال: أين كارم؟ ولماذا اختفى راشد؟ ولمَ طُرد من العمل فجأة...

ولمَ كل خيط يظنه بداية، ينتهي به إلى عقدةٍ أخرى؟

وهل يعود أم يبحث عن عمل أخر!!

***********

وعندما غابت الشمس، بدا وكأن النهار زفر زفيره الأخير، قبل أن يطوي ضوء النهار في عباءته المظلمة، ويُسدل على العالم ستار الصمت الليلي.


في عمق الصحراء، انتشرت الخيام كجزرٍ صغيرة تتناثر على الرمال، كانت ألسنة اللهب تتلألأ في مواقدها، فيما تراقص صوت المزمار في الهواء، مختلطًا برائحة الشاي والنعناع.


جلس «عامر» بجوار «تقى»، يتكئ بارتياح، وعيناه تلمعان بدهشةٍ خفية: 

-إيه الجمال ده أنا مستمتع جدًا هنا... في حاجة مريحة كده...


هزّت «تقى» رأسها موافقة، لكن نظرة عينيها كانت باهتة، خالية من الاقتناع، كأنها تسايره مجاملةً، لا أكثر...

وفي خيمةٍ أخرى

جلس «عمرو» إلى جانب «سراب»، التي بدت كأنها غريبة عن هذا العالم، عيناها لا تستقران لحظة...

كانت تتأمل المشهد أمامها بتركيز؛ لهب النار يتراقص في هدوء مريب، الخيمة تغرق في ألوانٍ زاهية لا تشبه مزاجها، والهمسات المتقطعة تدور كأطياف، بينما الأهازيج تأتي وتذهب كنَفَسٍ متردد.


وفجأة... شعرت بلمسة خفيفة على يدها.

ارتجف جسدها للحظة، واستدارت بسرعة خاطفة فالتقت عيناها بعينَي «عمرو»، وقد مد يده نحوها محاولًا الإمساك بها في حركة بدت بريئة في ظاهرها.


سحبت يدها بعــنف، وفي عينيها شرارة لا تخطئ، كأنها طعنة مُعلنة...

حدّقت فيه طويلاً، بنظرة تشتعل توعد، لو تحدثت لنطقت: "اقترب ثانية... وستدفع الثمن".


ارتبك للحظة، ثم تدارك نفسه وأطلق ضحكة قصيرة، فيها شيء من التحدي، ورفع هاتفه بسرعة، يلتقط لهما صورة وهو يبتسم كأن شيئًا لم يكن، ثم قال بلهجة ساخرة: 

-للذكرى...

رمقته «سراب» بنظرة ضيقة، وقالت بجفاف: 

-أخوك جايبنا هنا يعذبنا! طيب أنا عايزه أروح الحمام دلوقتي، أعمل إيه بقى؟


ردّ وهو يمد ذراعيه كمن يفتح الصحراء أمامها:

-الصحرا واسعة يا قلبي.


قطّبت جبينها وأشاحت بوجهها عنه دون كلمة، كانت شفتيها مزمومتان ونفسها ثقيل...

التفت «عمرو» يراقب من حوله بحذر، ثم اقترب منها أكثر وكأنه أراد أن يتقرب منها علها تلين له...

لكنها شعرت به، كأن جسدها كان متأهبًا له منذ البداية.

قفزت واقفة دفعة واحدة، التفتت إليه بصوت حاد:

-برده! مش هتبطل اللي في دماغك؟!


ثم خرجت من الخيمة مبتعدة بخطى غاضبة، ورمال الصحراء تشتعل تحت قدميها...

أما هو، فظل في مكانه يراقب ظلها يتلاشى، وعيناه تزدادان عتمة...

زفر زفرة طويلة، كمن يكبح جمرة داخله، ثم تمتم بنفاد صبر: 

-مُتعبة...

★★★★★

مرّت أيام الرحلة بثقلٍ وإرهاق، والضيق ينهشهم من الداخل.

كانوا أربعة ينامون في غرفة واحدة، يفصل بينهم ستار سميك... بالكاد يحفظ الخصوصية، ولا يمنع الأصوات ولا الأنفاس المكتومة.


عامر كان الأكثر شرودًا بينهم، غارقًا في الرموز التي لاحقته منذ بداية الرحلة.

حاول جاهدًا أن يبدو مستمتعًا، يشاركهم الأحاديث والضحك أحيانًا، لكن عينيه كانتا تفضحان غيابه.

★★★★★★

في صباح اليوم الأخير لهم في الفرافرة، استيقظ «عامر» من نومه، كان مستلقيًا على الأرض، اعتدل جالسًا وأسند ظهره إلى الجدار...

كانت عيناه شاردتين، تتنقلان بين الباب المغلق والستارة الرقيقة التي فصلته عن «تقى» و«سراب»، وصوت همساتهما يتسلل خافتًا، كنسمة حذرة، بينما سكون الغرفة يزداد ثقلاً.


ألقى نظرة سريعة حوله؛ عمرو لم يكن هناك، يبدو أنه خرج قبل قليل.

زفر بضيق، ثم التقط هاتفه بتكاسل...

مرّر إصبعه على الشاشة بملل، يتصفح فيسبوك وسط شبكة بطيئة، كأنها تزحف بثقل الرمال الحارة. لكن فجأة... تجمّد حين ظهر منشورٌ أمامه، فبدّل ملامح وجهه في لحظة...

اتسعت حدقتاه، وتجمدت أنفاسه في صدره.

شعر كأنه ابتُلع في دوامة من الحيرة والرعب.

كان منشور لـ «رغدة».

قرأه مرة... مرتين... ثلاثًا... وفي كل مرة، كانت يزدرد لعابه باضطراب شديد..

ارتعدت يداه، وتقلص وجهه، ثم شهق بصوت مرتجف:

-إيه الكلام ده! البت دي جابت الكلام ده منين؟! وازاي؟!


تخبّطت أفكاره، وأخذ يمسد ذقنه بعصبية ونبضات قلبه تتسارع، حتى كاد يسمعها في أذنه...

يتسائل... هل ما كتبته رغدة له علاقة بذلك الكتاب؟

ذاك الذي قرأه ليلة كاملة، ثم استيقظ لا يرى شيئًا!

ذاك الذي قال عنه رائد بأنه “غريب”...

أيمكن أن يكون... ملعونًا؟

وقبل أن تغرقه الأفكار أكثر، باغته صوت «تقى» التي سمعت كلماته من خلف الستار، سألته:

-بتعمل إيه؟

ارتبك... رفع رأسه بسرعة، وشفتاه مفتوحتان لكن دون كلمات، فقط هز رأسه، كأنّه ينفض الأفكار العالقة به...

ثم نهض فجأة، كمن فزّ من كابوس، وغادر الغرفة بخطى متوترة.


نظرت«تقى» خلفه بدهشة، ووضعت الحقيبة أرضًا، تنهدت بقــوة، ثم نادت:

-سراب، ارفعي الستارة... هما الاتنين خرجوا.


مطت «سراب» فمها، وقالت ضاحكة:

-تلاقيهم بيودعوا الفرافرة قبل ما نمشي.


ابتسمت «تقى» ابتسامة حزينة، وقالت بنبرة رصينة:

-عامر بيحاول يبين إنه مبسوط، بس أنا حاسة إنه ندمان على الرحلة.

قالت «سراب» ضاحكة:

-يا ستي الحياة تجارب، نعتبرها تجربة... المكان حلو، بس مش في شهر عسل يعني...

استغفروا🌸

********

على الجانب الآخر...

كان «عامر» يقف وسط الزحام، عيناه تبحثان بقلق عن أحد المسؤولين عن الرحلة، قلبه يقرع صدره كطبول الحــرب، ونفسه يعلو ويهبط كما لو كان يعدو، رغم أنه لم يبرح مكانه.

كان يتوق للرحيل، يريد أن يصل إلى بيته بأقصى سرعة... يريد فقط أن يطمئن... أن يرى الكتاب في مكانه، حيث تركه.


كان ذهنه يغزل الخيوط بسرعة جنونية، يعيد تشغيل كل لحظة مرّت كأنها مقاطع من فيلم رعب تتكرر بلا توقف.

وفجأة، انطلقت من ذاكرته جملة واضحة، كأنها صرخة في رأسه:

"حسين بيدوّر على كتاب."


تسمرت قدماه في الأرض، وشهق شهقة قصيرة لكنه لم يستطع كتمها، حدقت عيناه باتساع، ونظراته تشعّ فزعًا...

ذلك الكتاب... ليس عاديًا.

ذلك الكتاب... لعنة.

ليس مجرد اكتشاف عابر.

بل ربما... بداية شيء أكبر من قدرته على الاستيعاب.


وفجأة، انتفض كمن لسعته نــار، حين ربت أحدهم على كتفه.

التفت بجزع، كأن صوتًا داخليًا يصرخ: لقد كُشف أمرك!


كان «عمرو»، يرمقه بقلق صادق:

-إيه يا ابني مالك؟ واقف تتلفت حولين نفسك كدا ليه؟

لم يرد «عامر»، كانت الكلمات عالقة في حلقه، كأنها حجارة.

حدق في «عمرو»، لكن نظرته كانت خاوية، كأنه ينظر خلاله لا إليه.

قطّب «عمرو» جبينه، وتأمل وجهه الشاحب، ثم قال بجدية وحنان: 

-مالك يا عامر؟ فيك إيه؟


ظل «عامر» صامتًا لحظة، يقلب الأفكار في رأسه، ثم نطق بصوت مخنوق:

-مش عارف أحكيلك ولا لأ... بس لو اللي بفكر فيه صح... تبقى كارثة يا عمرو.


اقترب «عمرو» خطوة، وقد تملّك منه التوتر، وقال:

-كارثة؟! في ايه؟ احكي... 


هز عامر رأسه بيأس وهو يقول:

-أبدأ منين؟ أنا مش عارف أقول إيه...


-احكي من أي حتة... المهم تحكي... يابني قول، متفكرش!


سقطت نظرات «عامر» على بقعة في الأرض، ثابتة كأنه يرى ما لا يُرى، ثم بلع ريقه بصعوبة، وقال بنبرة مرتعشة:

-الإختراع بتاعي...

-ماله؟

قالها «عمرو»، وقد ضاق جفناه، وعيناه لا تفارقان وجه أخيه، يقرأ ملامحه كأنها خريطة خطر، منتظرًا الكلمة التالية وكأنها قد تُغير كل شيء...

بدأ «عامر» يروي ما لديه، وصوته يعلو ويخفت كالموج، تتخلله أنفاس متقطعة وتعبيرات قلقة وعيناه لا تستقران في مكان، بينما يداه تتحركان بتوتر واضح، تارة يشبك أصابعه، وتارة أخرى يفرك راحتيه كأنه يحاول طرد القلق من جسده... بدا وجهه كأنه ساحة معركة، تتصارع فيها الخوف والشك والارتباك.


وكان «عمرو» يصغي بكل حواسه، عيناه لا ترمش، يتتبع كل كلمة تخرج من فم عامر كما لو كانت مفتاحًا للغز كبير، كان حاجباه مرفوعين، وجسده مائل نحو أخيه، كأن روحه تسبقه في محاولة الفهم.


وحين انتهى «عامر»، لم يرد «عمرو» على الفور بل نظر إلى الأفق أمامه للحظة ثم قال بنبرة مدهوشة مشوبة بالصدمة:

-أنا... مش فاهم حاجة. كتاب؟ رموز؟ واختراع؟!!

إيه اللي بيحصل يا عامر؟

-أنا مش عارف... ولا فاهم...

قالها عامر وابتلع ريقة يبلل حلقه الذي جف، ساد بينهما صمت ثقيل، كأن الزمن نفسه توقف ليلتقط أنفاسه.

ثم التفت «عمرو» إليه بعيون متسعة، وكأن فكرة مروعة اخترقت رأسه فجأة، وهتف بهمسة مذعورة:

-عامر! هو... ممكن يكون ده... سحر؟!!

                        ★★★★★★

كانت شمس الظهر تتسلل عبر الزجاج المثلّم لواجهة السنتر، ترسم خطوطًا ذهبية على الأرضية المتربة. وصل «نادر» في صمت، ووقف للحظة يتأمل الباب قبل أن يدفعه بخفة...

وفي الداخل، كان صوت بدر يعلو في غرفة الدرس، نبرته واثقة تشرح، وأصوات الطلاب تتبعها بنصف انتباه.


دخل «نادر» بخطى مترددة، تسبقها ابتسامة باهتة، كأنها محاولة للتوازن بعد دوار طويل...


سار حتى وقف عند الباب، ونادى بصوت مرح:

-إزيك يا مستر بدر؟


التفت بدر من عند السبورة، اتسعت عيناه بدهشة حقيقية، وملامحه أضاءها الفرح:

-أهلًا... إيه المفاجأة الحلوة دي!


تقدّم نحوه بسرعة، صافحه بحرارة، وربت على كتفه ثم أشار إلى أريكة صغيرة بجوار الحائط:

-استناني هنا خمس دقايق وجايلك.


جلس نادر، وظهره يتكئ إلى الوراء قليلًا، يمدّ ساقيه بتعب واضح...

كانت حرارة الشمس تتسلل إلى الغرفة، والهدوء يتسلل إليه ببطء، بعد أيام من الضوضاء والتفكير.


انتهى الدرس، وبدأ الطلاب بالخروج، تتداخل خطواتهم مع همساتهم المتسرع...

أتى بدر، وجلس بجانبه، ثم قال بنبرة عتاب الخفيف:

-مقولتليش إنك جاي، مع إننا كنا متكلمين من تلت أيام!


تردد نادر للحظة أن يخبره بحقيقة استبعاده عن العمل أم لأ...

ثم أطلق تنهيدة طويلة، أرخى معها كتفيه وقال:

-ما أنا ماكنتش جاي أصلًا... بس سبت الشغل... قولت أرجع أساعد أبويا، وأقف جنبه... على إيه يعني الغُربة!

-وراشد؟

ضحك نادر ضحكة جافة، أشبه بزفرة:

-راشد؟... اختفى.

-اختفى!!!

قالها بدر بصدمة واعتدل في جلسته، في حين حاجباه ارتفعا بدهشة، فأخذ نادر يشرح له ما جرى بصوت خفيض دون التطرق لموضوع استبعاد من العمل...

استغفروا 🌸 

            ★★★★

في الجانب الآخر من السنتر، كانت «رحمة» تُغلق دفترها وتدسّه داخل الحقيبة بعصبية...

وقفت مترددة، تتذبذب نظراتها، وتضع كتابًا على صدرها كدرع، فبعدما سمعت صوت نادر يتحدث مع بدر، ارتجف قلبها كمن سمع نبضه للمرة الأولى منذ زمن.


تقدّمت بخطى بطيئة نحو الباب، كل خطوة تتبعها رعشة في أطرافها، وحين أوشكت على المرور أمامهم، لمحها بدر فنادها فجأة، وقال:

-رغدة عاملة إيه دلوقتي يا رحمه؟


توقفت لحظة، لم تلتفت فورًا، ثم أدارت وجهها ببطء، وعيناها لا تقدر على النظر نحو نادر، تلعثمت:

-الحمد لله... راحت عند تيتة أم ماما.

-ولسه برده مفيش جديد؟

سألها بدر، فهزّت رأسها نافية، وصمتت، زحفت نظراتها نحو «نادر»، الذي كان يختلس النظر إليها ويرهف السمع لكل كلمة تنطق بها!


أدرك «بدر» الموقف، وكأنه تذكّر وجود «نادر» فجأة، فالتفت إليه للحظة، ثم قال لرحمة بلطف:

-طيب روحي إنتي يا رحمة، عشان ما تتأخريش على دروسك.


اومأت برأسها، وأسرعت بخطواتها لتخرج من الباب، بينما ظل صدى حديثهما يرافقها.


سكن بدر فجأة، كأن الصمت انسكب عليه، وعيناه شردتا في نقطة بعيدة لا وجود لها إلا في رأسه...


يفكر فيما حدث لرغدة وينتظر بفارغ الصبر أن يسمع خبر أن بصرها قد عاد إليها...


التفت إليه نادر بهدوء، ومدّ يده يربّت على فخذ صديقه برفق وقال بنبرة دافئة:

-أنا سمعت عن اللي حصل لرغدة... والله زعلت عليها... ربنا يشفيها يا رب.


همس بدر بصوت مبحوح كأن الكلمات ثقيلة عليه:

-يا رب... يا رب كل حاجة تتفك يا نادر...


وقبل أن يرد نادر، قطع رنين هاتف بدر الجوّ، وظهر اسم «عمرو» على الشاشة... 

نظر «بدر» إلى «نادر» مستغربًا، وقال:

-ده عمرو!


رفع «نادر» حاجبه وقال بسخرية خفيفة:

-هو مش المفروض في شهر عسل؟!


ابتسم «بدر» ابتسامة باهتة وقال بصوت منخفض وهو يحاول أن يبدو طبيعيًا:

-هبقى أحكيلك عامر عمل إيه فيهم... بس خليني أرد الأول.

ثم ضغط على زر الإجابة وقال بنبرة مرحة:

-إيه يا عريس؟!


لكن ما جاءه من الطرف الآخر لم يكن ضحكًا، بل صوت عمرو، جادًا، لاهثًا، وكأنه يركض:

-اسمعني كويس يا بدر... وركز معايا.


تبدّل وجه «بدر» في لحظة، شدّ على الهاتف وكأنّه يريد أن يدخل من خلاله...

نهض واقفًا وهو بيقول بلهفة:

-في إيه؟!! انتوا كويسين؟!

انتبه «نادر» للحديث ونظر لبدر الذي بدأت ملامحه تنقبض بترقب وتركيز...

                           ★★★★★

في بيت ضياء...

ساد الصمت كما لو كان يُشارك فاطمة وحدتها... كانت تجلس على الأريكة القديمة، تُطالع الفراغ بعينين زجاجيتين، يغلفهما حزن عتيق...

راحت أفكارها تتجول في أروقة عمرها، تتلمس أيامًا مضت، وتنبش في زوايا ذكرياتها التي بدت لها كأنها وُلدت من ظلمة، وظلت فيها، دون أن ترى شعاع نورٍ حقيقي.

ولتهرب من أفكارها الحالكة فرت إلى الشرفة فأثار انتباهها سعيدة تتحدث مع كل من يمر وتتدخل في أمور لا تُعنيها، وفور تجاهل الناس لها تتمتم:

-آه يا شوية متكبرين!


ابتسمت «فاطمة» وعادت تجلي على الأريكة قبل أن تراها سعيدة وتسألها عن أمورها الخاصة... ساد صمت ثقيل حتى رن جرس الباب، فقطع صوته سكون اللحظة.

نهضت فاطمة ببطء، وكأن قدميها تحملان ثقل السنين، وفتحت الباب لتُفاجأ بمريم تقف هناك، بابتسامة خجولة.

قالت الفتاة، بصوت متهدج قليلًا: 

-إزيك يا تيتة فاطمة؟ آآ... هي رغدة موجودة؟ كنت جاية أشوفها...


لمعت عينا فاطمة للحظة، وارتسمت على وجهها ابتسامة دافئة نادرة، وقالت بصوت حنون:

-فيكي الخير يا حبيبتي، تعالي ادخلي... ده أنا قاعدة لوحدي مش لاقية اللي يسليني.


دخلت مريم، تتلفت حولها بنظرة مستكشفة، ثم علّقت مداعبة بابتسامة:

-بقى العيلة الكبيرة دي مفيهاش حد يقعد معاكي يا تيتة!


ضحكت «فاطمة» ضحكة قصيرة، تخفي خلفها مرارة:

-محدش بيحبني يا مريم... ولا حد بيفكر فيا، حتى ولادي!


اقتربت «مريم» منها، وأمسكت يدها برفق:

-مش صح الكلام ده يا تيتة... كلنا بنحبك، والله.


تنهدت فاطمة، ثم قالت وهي تتجه نحو المطبخ: 

-طيب، تشربي إيه؟ البت رحمة لسه مكلماني، وقالتلي إنها جاية في الطريق.


سألت «مريم»، وهي تخلع حذاءها: 

-أومال رغدة فين؟


ردّت فاطمة من خلف جدار المطبخ:

-راحت عن جدتك داليا... ادخلي يا حبيبتي على ما اعملنا كوبايتين وأجيلك...


انشغلت «فاطمة» بإعداد العصير، بينما سارت «مريم» بهدوء داخل المنزل، تحدق في الجدران التي ما زالت تحمل آثار الحريق القديم، كانها ندوب لم تُمحَ...

لمست بأناملها بقعة سوداء على الحائط، قبل أن تدخل غرفة «رغدة» بخفة وفضول، تتأمل أكوام الكتب المبعثرة على المكتب والرفوف.


راحت تعبث بين الكتب، تبحث عن رواية تأسرها. فجأة، توقفت عيناها على كتاب ذي غلاف باهت، يحمل عنوانًا بأحرف إنجليزية غامضة، دون اسم مؤلف...


شعرت بشيء غريب يجذبها نحوه، وكأن غلافه يتنفس ويدعوها همسًا لتفتحه...

التقطته ببطء، وعيناها تتفحصان تفاصيله، قبل أن تجلس على طرف السرير، وبدأت تقلب صفحاته...

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸 

                      ★★★★★★

كانت خطوات «رحمة» بطيئة، متثاقلة، كأنها تسير وسط وحل من الذكريات...

كل خطوة تسحب معها ألمًا، وكل ذكرى تُبعث من رمادها. تراءى لها وجه نادر...

صوته، لمسته، ونظراته التي كانت تخترقها حين حاول الهجـ ـوم عليها...

عضّت على شفتيها وهي تلعن قلبها الذي ما زال معلقًا به رغم كل شيء.

لكنه تغيّر... أليس كذلك؟

تاب وعاد، ترك طريقه المظلم خلفه... لكنها لا تستطيع أن تنسى... لا تزال روحها تئن من الطعنة القديمة.


تنهدت تنهيدة طويلة، من عمق صدرها، كأنها تحاول طرد ثقلًا عن كاهلها، لكن... ذكرى والدها هجمت فجأة، أكثر قسوة من أي شيء...

كيف؟ كيف وافق أن يبيعها لرجل يكبره بسنوات؟

كيف جرؤ على أن يسلمها بيده؟ كأنها شيء، لا ابنة!


غامت عيناها، ودمعة ساخنة انسلت على خدها رغمًا عنها...

رفعت يدها تمسحها بسرعة، كأنها تحاول إخفاء جرحًا لا تريد لأحد أن يراه...

التفتت حولها بسرعة، تبحث بعينيها المتوجستين عن أي عيون تتلصص على هشاشتها...


حسنًا! لا أحد... لحُسن الحظ.


لكن قبل أن تخطو خطوة أخرى، انقطع تفكيرها حين وقف أمامها، فجأة، بجسده المنتصب وملامحه المتصلبة.

شهقت دون أن تشعر، وارتدت خطوة للخلف بفزع، كأن جسدها تحرك من تلقاء نفسه، يدفعها للهروب...

الفصل الثامن والعشرون من هنا

تعليقات



×