رواية علاقات سامة الفصل الواحد والعشرون
وقفت تطالع الفراش بتمني، آهٍ لو باستطاعتها العودة إليه والاستلقاء! تذكَّرت اهتمام والدته بها وقت حملها الأول، ثم شحب وجهها بمرور ذكرى مكيدته وتعذيبه لها؛ فسالت دموعها رثاءً لحالها معه.
تحركت سريعًا تبدأ رحلتها للعذاب اليومي بأعمال المنزل، تأمل انهائها قبل عودته ولو بدقائق قليلة لتريح جسدها المنهك، قرأت قائمة الطلبات التي ألزمها بشرائها، فضَرَبتها الصَّـدمة لطولها، كيف سَتَحْمِل هذا الكم؟! المبلغ الذي تركه بالكاد يكفي، لم يترك نقود تستقل بها أي مواصلة، ستذهب للسوق وتغدوا سيرًا على قدميها، ترددت بعلقها جملته «هينزل بطريقة تانية، انتظري اللي جاي»، حاوطت بطنها تحْتَضِن جنينها بحماية وأغلقت مقلتيها متألِّمة، ثم أسرعت تتجهَّز لتبدأ مهامها.
تشعر بالتيه؛ منذ أمَد طويل لم تذهب لأي مكان دون سجانها، وها هي تقصد واجهة لا تعرف سبيلها، خطواتها ثقيلة، تتحرك بوهن، تسأل مَن تقابله عن السبيل لوجهتها، تتبع ارشاداتهم، تحاول أن تستمد الطاقة مِن نسيم الحريَّة لتواصل يومها.
بنفس الوقت، بدأ مؤنس يومه بحالة من النشاط، يتوق لرؤياها، جلس داخل سيارته يرفع رأسه باتجاه شقتها يُمني نفسه برؤياها، لم يكد يحيد ببصره فوجدها أمامه، وكعادته معها تغـزُوه مشاعر متناقضة، سعادة وحزن، فرؤيتها تحيه، كما يحزنه ويؤلمه تعبها المرسوم على وجهها، ضرب عجلة القيادة يفرغ غضبه، لا يعلم كيف يمد لها يد العون؛ لينقلها مِن العذاب للهناء، تبعها عن بُعد فلم تنتبه، وبالسوق جال بعينه المكان، يبحث عن وسيلة لمساعدتها، لمح سيدة تعمل على سيارة متهالكة وآخر يفاصلها بأجرة المشوار؛ فقاطعهما منهيًا جدالهما:
- قالت مش هينفع خلاص.
- ليه يا باشا؟ قطعت برزقي كان شوية ويوافق.
أخرج من جيبه ورقة فئة مائة جنيه، ثم عرض عليها مراده:
- اللي عايزه ياخد وقت أقل وفلوس أكتر، شايفة الست اللي هناك دي.
- اللي مش قادرة تمشي، مالها يا باشا؟ دي شكلها غلبانة زينا وفي حالها.
- عايزك تساعديها لازميها لحد ما تخلص وطلعي لها الحاجة لحد الباب، خدي دي ولما تخلصي ليكِ زيها.
- حسب المشوار والوقت.
- قريب ولو عايزة زيادة مش مشكلة، المهم أفضلي معاها لحد الباب.
عرض مغري؛ فأومأت موافقة أخذت المال وتوجهت إليها، افتعلت حديث تغلبت به على تجاهل طيف، التي استسلمت سريعًا؛ لشدة إرهاقها مع إصرار الأخرى، وبعبارات مجاملة ولسان لبق أصرت السيدة أن تُقِلها للمنزل، احمر وجه طيف خجلًا؛ فالنقود نفذت بالكامل، لم يبقَ منها جنيهًا، لم تنتظر السيدة موافقة طيف حملت الأغراض ووضعتها بالسيارة ودعتها مرحبة لتستقلها، بعد دقائق أصبحت طيف بقلب المنزل، رغم حرجها إلا أنها سعدت وحمدت الله على عونها؛ فلولا هذه الملاك لكانت طاقتها نفذت دون انتهاء تسوقها.
أما مؤنس فتابعهم بإشفاق على مَن ملكت قلبه، تمنى لو يستطيع تقديم ما هو أكثر، ثم ذهب لعمله بعد أن أتفق مع السيدة على مساعدتها كلَّما رأتها وهو سيتكفل بالمصاريف وبسخاء.
انهت طيف قائمة مهامها وحازت على بضع دقائق تختلي فيها بعض الراحة قبل عودة جلادها. توقع شهاب ألَّا تنجز كل ما حدد؛ يعلم أنه يفوق قوة تحملها، وحين وجدها انهته، لعبت برأسه الظنون.
تكرر الأمر لمدة ثلاثة أيام، خلالها انتقل مؤنس وسارة للبيت الجديد المقابل لطيفه الشارد، ومع خطوته الأولى بدأ ممارسة هوايته في تحسس طلتها من الشرفة، أو تتبع خطاها صباحًا أثناء ذهابها للسوق، أصبح واجب يومي قبل التحرك لعمله، لم ينتبه أو يكترث لسارة ونظراتها التي تكاد تحْـرِقَهما معًا، لم تتكبد أي عناء في ربط الأحداث واستنتاج سبب انتقالهما؛ ليكون بالقرب غريمتها التي شاركتها بمؤنس حتى في غيابها، فكيف بحضورها؟!!! توعدتهما داخلها، ستفعل كل ما يعذبهما ويجعل حياتهما قاتمة سوداء.
بالمساء، أعلن هاتف شهاب عن وصول رسالة، تغيرت معالم وجهه مع قراءة كلماتها، أظلمت عيناه وأسود وجهه وغلب عليه الغموض، دلف للشرفة الرئيسية حيث توجد طيف تتابع سلسة أعمال المنزل غير المنتهية، تضع الملابس تفردها على الحبال، نظر إليها بتدقيق، ثم جال بعينيه يبحث عن شيء ما بالطريق ثم بالعمائر المجاورة والمقابلة لهم، وكأنه يبحث عن شيء مفقود ولم يتمكن من العثور عليه، مِن شدة تعبها وإرهاقها لم تنتبه لدلوفه؛ فانتَفَـضَت عندما وجدته أمامها أخفضت وجهها دخلت تواصل مهامها، تبعها بترقب وصمتٍ مطبق.
لم يكن شهاب فقط مَن يتابعها، فمؤنس بات ينافسه، يتشوَّق لانتهاء عمله ليعود للمنزل، يتناول طعامه ثم يجلس خلف زجاج شرفته ينتظر طلتها، وانتفض قلبه مع انتفَـاضَتِها، وبمغادرتها للشرفة أيقن أن فرصة رؤيتها اليوم قد انتهت؛ وبالتفافه ليدلف لداخل المنزل وقعت مقلتيه على سارة تجلس مقابل الشرفة بترقب متحفز، حدثته بمراوغة لتتأكد من شكوكها:
- بطلت تدور على اللي ضاع منك وبقيت تتأمل الشارع كتير، يا تري زهقت ولا لقيتها؟
تجاهلها عامدًا واتجه لغرفته، استلقى ووضع كفيه أسفل رأسه، لا يفكر بسواها، هيئتها وملامحها الذابلة أو بالأصح الميتة تخبره عمَّا عانت ولا زالت، سؤال فرض نفسه على تفكيره، ألا تشعر به كالسابق؟! ابتسم لذكرى داعبت قلبه، عينيها التي تجول تبحث عنه وسط الجموع لشعورها بقربه، أنسيته؟! أم ماتت مشاعرها؟ أبعد أفكاره السلبية عنوة، سيساعدها أيًّا كانت مشاعرها، قطع استرسال أفكاره دخول سارة الغرفة، تسلط مقلتيها عليه تلاحقه بنظراتها، والاها ظهره مدعيًا النوم، لا يرد الدخول في أي محادثات غير مجديةً.
مر أسبوع اعتاد مؤنس بداية يومه بمتابعة طيف أثناء تسوقها، واعتادت طيف مساعدة السيدة، كما توالى وُرُوْد رسائل لهاتف شهاب تزيده قتامة وتزيد نظراته سَعِيرًا، حتى حدث ما لا يتوقع، كعادة مؤنس مؤخرًا خرج يتحسس خُطاها، يتأمَّل بسمتها الشاحبة التي تهديها للسيدة التي تعاونها، قطع تأمله رنين هاتفه الذي تجاهله بالبداية، لكن مع إصرار المتصل اضطر للإجابة، تملكته الصدمة؛ استشهد حماه والد سارة، وبمسئولية ضابط وزوج أسرع إلى سيارته متوجه لمكان الحادث، يوم طويل ومرهِق وتلاه العزاء، أربع ليالي غاب فيها عن طيفه.
طال غيابه وإن لم تعلم طيف بوجوده، فالسيدة تعلم وتنتظر منه ما يدفعه لتقي أولادها شر الحاجة، يومان عملت دون مقابل، لن تزيد يومًا فعلى عاتقها التزامات كُثُر وظنت أنه تراجع عن مساعدة الأخرى، عزمت أمرها إن لم تجده لن تستمر بما طلبه منها.
بصباح غائم حجبت الغيوم أشعة الشمس وحرارتها، بدأت طيف مهامها بتسوقها لمتطلبات البيت كما حددها شهاب، وبساحة السوق جالت بعينها تبحث عن ملاك راحتها، برؤيتها اقتربت منها بوجه بشوش تلقي تحية الصباح، قابلتها السيدة بفتور ثم ابتعدت، شعرت طيف بالإحراج؛ فانسحبت وبدأت رحلة تسوقها، التي امتلأت بالأشْـواك؛ فتحركها بما ابتاعت استَنْزَف قواها، خلال عودتها شعرت بالأعْـياء الشديد والإرهاق، كما استهلكت فترة زمنية طويلة، جلست على أقرب كرسي منهكة القوى تجَــاهِد لفتح جفنيها، تلتقط أنفاسها بصعوبة، قضت وقت تشجِّع نفسها لتنهض وتواصل أعمالها، حتى استطاعت بالنهاية تلبية نداء عقلها لتتجنب لهِــيب شهابها الحَــارق.
تتحرك بوهنٍ خائر، بشق الأنفس أنهت أعمالها، عاد شهاب مترقب يرمقها بعين صقر، بدى كمَن يتأكد مِن أمرٍ، إعياؤها الظاهر خلاف الأيام الماضية يُثير شكوكه، باختفاء ابنته داخل غرفتها لتبدل ملابسها، قابلها يغرس أصابعه بلَــحم كتفها:
- بصي لي، يا طيف.
نطقها بفحيح مرعب قبل أن يطلق عليها سهام نظراته تفتك بها، ارتجفت بين يديه كادت تبكي، انقذها منه صوت ابنتها:
- ماما أنا جعانة قوي.
تراجع خطوة ورسم على وجهه بسمة مزيفة قبل أن يجيبها:
- ماما هتحط الأكل حالًا.
مر اليوم بثقل تحت نظرات شهاب الحَــارقة وصفعاته التي تناثرت على جَـسَـدها كلَّما انفرد بها، استمر هاتف شهاب يستقبل رسائل تغَضَبه وتزيد بركانه المنصب على طيف، ويزداد حدة وعنف معها.
ثلاثة أيام مروا عليه دون رؤياها ومتابعتها، ثلاثة أيام وقلبه ينزف وجعًا لغيابه عنها، كل خليه به تطالبه بالعودة إليها واحتواء ألمها، غصـبًا ابتعد وغصْـبًا سيعود ليطمئن عليها، وليعطي السيدة المال لتستمر في معاونتها، تخيل حالة طيف إن لم تعاونها، تركهم خلسة وعاد لمنزله وقد احْتَـل غسق الليل السماء وانفض السوق، جلس يراقب عقارب الساعة، ينتظر تحدى الشمس للَّيل لتقشع ظلامه، قطع شروده رنين هاتفه، باسم والدته، أجابها مضطرًا، فهاجمته دون أن يردف حرفًا:
- ممكن افهم سايب مراتك في الحالة دي ورحت فين؟ ازاي جالك قلب تسيبها وهي مكسورة وحزينة!!! اوعى تقولي شغل!
- هي مش لوحدها، أنتِ معاها والكل حواليها، أنا هعمل أيه؟ وأصلًا العلاقة بينا فاترة، يعني لا هتترمي في حضني أخفف عنها، ولا هي بتهتم بالمشاعر.
- الكلام معاك لا يقدم ولا يأخر، أنت فين؟
- في البيت.
- أي بيت؟ وليه؟
- بيتي يا ماما، وهو أيه اللي ليه!! هو أنا محتاج سبب عشان ارجع بيتي!
- أيوه لما نكون في الظرف ده وتسيب مراتك وترجع البيت لازم يكون في سبب وقوي كمان، عيب يا مؤنس أنا ما ربتكش على كده، ساعة زمن تكون هنا مع مراتك، تاخدها في حضنك تواسيها، والله لو ما جيت بسرعة لأقاطعك باقي العمر!
صدرت عنه تنهيدة طويلة حائرة؛ فالوضع حرج، سارة بحالة انهيار لم يعِدها عليها قبل، وطيف تحتاجه هنا، وقف يطالع شرفتها من خلف الزجاج، وبعد فترة زفر بيأس، عاجز عن تقديم يد العون لها.
أيام تتوالي ببطء، تأكل مِن طاقتها، ورغم أنها تقل عن الأسبوع إلا أنها بدت لها كأعوام مريرة، هزلت واستنفذت طاقتها، تملكها الإعياء وتغلل بأوصالها، كل يوم تعجز عن إتمام جزء مما يكلفها به، تنال منه بغسق الليل ما يزيد وهنها وهنًا، وبهذا اليوم نفذت كامل طاقتها مع عودتها مِن السوق، حطت جسدها على الكرسي الذي قابلها، ولم تستطع حتى الرَّمش بجفنيها، وبعودته ارتَـجَـفت رغم إعيائها، صرخت حلا تناديها بخوف وقلق:
- ماما.
بينما حدَّجها شهاب بنظراتٍ حادة قاتمة، جال المكان بمقلتيه؛ فأدرك سبب انتفاضها، ليس المرض فقط كما ظنت ابنتهما، بسمة متهكمة سكنت جانب فمه، اليوم يوم الفصل، سينتظر ذهاب حلا لِتحضر درسها، ثم سيلقن طيف أصعب درس على الإطلاق، نطق لسانه يوجه حلا ويرسل لطيف رسائل خفية عمَّا سيلحق بها:
- ادخلى غيري هدومك، أنا مع ماما وهجيب أكل جاهز.
تابعها حتى أغلقت باب غرفتها عقب دلوفها، خطى نحو طيف بهدوء مخِـيف ونظرات مبهمة، خفق قلبها وشحب وجهها، تقابل وجهيهما لا يفصل بينهما سوى بضع سنتيمترات، يرشِـقها بنظراتٍ تخترقها وتحرقها، وبفحيح أردف:
- في حاجات ماعرفهاش ومش هعديها، هتاخدي الحساب بزيادة، صبرك عليَّا!
قبض بعُنْف على ذراعها يجبرها على الاستقامة وتتبعه، جرَّها إلى غرفتهما ثم دفعها على الفراش بغلظة، مغلقًا الباب خلفه تاركها تنتفض بِرُعْب جليِ، يصور لها عقلها الويلات، حاولت النهوض مرارًا ولم تقوَ؛ فتوترها وإعياؤها مع المجهود قضوا على كامل طاقتها.
جلست حلا معه ليتناولا الطعام، فسألت عن سبب عدم مشاركة طيف لهما، لم يدرك عقلها الصغير أن والدها يحْرِم والدتها تذوقه:
- هي ماما مش هتاكل معانا؟
- لا، ماما نايمة تعبانة، لمَّا تصحي تاكل، خلصي عشان ما نتأخرش عن معاد الدرس، لازم مواعيدك تكون مظبوطة بالثانية.
نبرة غَاضِبة رغم هدوئها، تعرف وتدرك توابع مجادلة والدها بعدها؛ فتابعت طعامها بصمتٍ، وقبل مغادرته دلف إلى طيف رمقها بوعيد وبأحرف مستَعِرة مُخِيِفَة هدَّدَها:
- اجي الاقي المكان نضيف وواقفة في مكانك منتظرة رجوعي، مفيش أكل ليكِ طبعًا، ويا ويلك لو لقيت غير كدة!
لم ينتظر سماع إجابتها رحل ليخلي البيت من سواهما، لينفرد بها ويجازيها بما تستحق كما يرى.