رواية علاقات سامة الفصل الثاني والعشرون
جلست على الفراش بوَجَس ووهن، تتخيل لو كانت تحيا حياة طبيعية، تساءلت: لمَ حظها عاثر بالحياة؟ ماذا لو كان لها أبا أخر؟ وللغرابة تمنت أن يكون والدها كشهاب في تعامله مع ابنته! يهتم بها لا يشعرها بنقص، الوحيدة التي تشعر بحنانه وتنال دلاله، انتشلها من بحر أفكارها صوت فتح باب المنزل انتفضت بذُعْر، أسرعت تقف كما أمر، أنفاسها متلاحقة، تتزايد ضربات قلبها وتتسابق.
دلف بخطوات بطيئة مدروسة وطلة مُخيفة، يشن عليها حرب نفسية، يستغل هشاشتها، كما استغلها من اليوم الأول في علاقتهما، يضغط ليزيدها سلبية، وقف أمامها مباشرةً يسلط نظره عليها بنظرات قاتمة؛ فانكمشت على نفسها، تفكر كيف تحمي جنينها! هو لا يريده ولن يهتم به، تدعو الله وتتوسل إليه أن ينجيه مِن بطش أبيه، ثواني مضت جعلتها ترتعد أمامه وتنتفض، فاجأها بصــفعة رسمت خطوط حمراء محلها، أعقبها بكلماته اللاذعة:
- دوغري ومن غير لف، قولي كل المستخبي، قدامنا ساعة ونصف، ممكن أعمل كتير قوي ومفيش منقذ لكِ؛ فهاتي مِن الآخر، لأن القلم ده تسخين مش أكتر.
- تعبت وما قدرتش على المشوار، المجهود كتير عليا.
لم يرحم ضعفها ونبرتها الباكية، أو ارتِعَــادها، لطَـمها لطمتين متتاليتين دوى صداهما بالغرفة:
- وكده، بردو ما فيش جديد.
- عايزني أقول أيه طيب!
- حابه تطلعي أسوأ ما فيَّا ودايما تخليني أغير عاداتي معاكِ، تمام.
كلماته جعلتها بحالة ذُعْر شديدة؛ فعَـذَابه لا حدود له، انتبهت من تفكيرها على يديه المتجبرة تقيد يديها معًا، فاضت مقلتيها بسخاء ترجوه العدول عمَّا نوى، تتحدث فلا يجيب قصت ما حدث معها ولم يقتنع:
- بلاش أرجوك، والله ست في السوق كانت بتساعدني وبعدين بطَّلِت.
وكأنَّه لم يسمعها، دفعها على الفراش؛ فداهما دوار وكاد أن يُغشى عليها، استدعى وعيها ما حط على جسدها وصدرت عنها صرخة مدوية زلزلت الجدران، حاولت حماة نطفتها؛ فتقوقعت بوضع الجنين ووضعت يديها المقيدة حول مسكنه، تبني بجَسَدِها دروعٍ تحميه قدر استطاعتها، عاملها كالأسْرى، مع كل جَـلْدَة يلقي عليها جملة، وتزداد وتيرة فعله قوة مع إجاباتها:
- الحزام بيرجع الذَّاكرة يا طيف.
- والله يا شهاب هي الست اللي ساعدتني! لمَّا بطَّلِت ما بقتش بقدر أخلص وبتعب جامد، آه، كفاية، والله دي الحقيقة!
- وهي تعرفك منين؟
- ما اعرفهاش، والله ما أعرفهاش! آاااااه
- اصرخــي براحتك، بنتك مش هنا ومفيش حد يحوش عنك، قولي الحقيقة كاملة.
- والله العظيم دي كل الحقيقة! ارحمني بقي.
- اللي بيساعدك واحدة ولا واحد؟! مش شهاب ثابت اللي واحدة زيك تضحك عليه، قولي هو مين؟
- والله واحدة اللي ساعدتني حتى اسأل في السوق، هى بتشتغل هناك ومعاها عربية بتوصل بها، كفاية، كفاية!
- خليكِ، أدام بتكذبي، تحملي العِـقَاب.
- مش بكذب، والله مش بكذب!
انتهت قوة تحملها ولم ينتهِ جرمه؛ فلا نيَّة له للتوقف، توسَّلت له واستحلفته، ثم التجأت لله ليقتص منه:
- مش بكذب، وربنا ما بكذب، ارحمني بقى، حسبي الله ونعم الوكيل! منك لله!
- بتدعي عليَّا وتحسبني كمان! أنتِ اللي جبتيه لنفسك.
استمر حتى شعر بالرضي، قبل أن تفقد وعيَّها، ليس رحمة منه، لكن لتشعر بالألم من البداية للنهاية، ثم تركها فَرِيِسَة للأَلَم ينهَشُها، وجلس بغرفة المعيشة، أشعل سيجارته ناظِرًا للفراغ، وصلته رسالة من رقم غير معروف كما اعتاد بالأيام السابقة، وكان محتواها:
«صدقت وتأكدت إن كلامي صح!»
شغل تفكيره عِدة أسئلة، مَن الشخص الذي يساعدها؟ هل استطاع الضابط الوصول إليهم بتلك السرعة؟ أم هناك آخر لا يعرفه؟ متأكد إنها لا تكذب ولا تعلم مَن وراء مساعدة السائقة لها، لكن قبولها لمساعدتها تحدي لأوامره واستهانة به، جال بعقله سؤال عجز عن إجابته، مَن هو صاحب الرسائل التي يستقبلها منذ فترة؟ تحدث داخله يبني استنتجاته: «يا ترى مين؟ أكيد مش هو لأنه متأكد إني مش هرحمها، هي مش فارقة معايا، في كل الأحوال هرميها، بس كرامتي ما تسمحش بده، مش طيف اللي تدوس على كرامتي، هتشوف كتير ده البداية بس، اللي جاي كتير».
ابتسمت بانتصار، موت والدها لم يمنعها عن حيك مكيدتها، ومواصلة خطتها، التي تسير أفضل مما توقعت؛ فبالتأكيد نالت طيف الكثير.
لا زال في حيرته، أيخبره والده بما حدثه سامر أم يصمت؟! أيشاركهم دون علم والده؟! العديد مِن التساؤلات، علامات استفهام نمت بعقله دون إجابة، ابتسم ساخرًا مِن ذاته؛ فلا يوجد مَن يلجأ له إن ضل، أو اختلطت عليه السبل، داوم سامر كل الاتصال به والتودد إليه، يتبادلان أحاديث وذكريات الطُّفولة القليلة التي جمعتهما، يشتكي إليه سامر شدة والدهما، يؤكد له أنَّه المخلص الوحيد له، ازدادت حيرة حسن، بات يؤنب نفسه لسوء ظنه به.
بعد عودته من عمله، ومع بداية مُدَاهَمة الملل له، استقبل رسالة على هاتفه من سامر يطلب منه مُهاتفَته؛ ففعل.
- إزيك يا سامر، عامل إيه؟
- اللي يسمعك يفترك متصل عشان فاكرني مش أنا اللي طلبت منك، على العموم يا سيدي أنا تمام والحمد لله ادام أنتَ كويس يا أبو على.
سعد وانتشى قلبه؛ فقد اشتاق للحديث بحميمية مع إخوته، وتبادل الحديث معه بود وحبور:
- سامحني، اختلاف التوقيت وشغلي، مش بيخلوني عارف أكلمك، أنت كمان مش بتبقى فاضي؛ فبقيت أحرج أتصل.
- إيه الجو ده يا أبو على! احنا اخوات يعني تتصل براحتك وقت ما تحب، ولو نايم أصحى لك.
- أنا مش قادر أخد قرار، اصبر عليّا شوية.
- عشان كدة مش بتتصل!
تغيرت نبرت واتسمت بالجدية على غير عادته، وتحدث يرفع عن حسن الحرج كما فهم حسن من حديثه:
- بص يا حسن، أنا عرفتك عشان لما الموضوع يتعرف ما تزعلش، أصل ده مشروع مش هانخبيه كتير، أنا مش فاهم ليه مش راضيين تشارك معنا، أنت الكبير ومن حقك تعرف، كلمتهم كتير وما فيش فايدة، للأسف ماما رافضة وجودك في المشروع، ولمَّا فشلت اقنعهم قولت تشاركنا مِن وراهم، فلو أنت مش عايز خلاص، ومش هتضايق مني لمَّا تتعرف الحكاية، ده غير إني مش بكلمك للسبب ده.
ابتسم بسعادة غامرة، أخوه الصغير يهتم به، كم تمني تجربة هذا الشعور! وتذوق المشاعر الأخوية والأسرية، لا إرايًا خرجت منه كلمات الموافقة:
- ما تزعلش كده، مش لايق الجد عليك، أنا موافق، وكفاية اهتمامك، وأنك مش ناسيني.
- عمرك ما تندم يا أبو علي، المهم الفلوس اللي قولت لك عليها جاهزة.
- مش كُلها، الفترة اللي فاتت كنت بفرش الشقة، وبجمع أقساط العربية، والدنيا ماشية بالزق.
- لسه قدامنا وقت كفاية، لمَّا تجمعهم عرفني، انا أشتغل باللي معايا ولما احتاج منك المبلغ هقولك.
أخيرًا شعر بلذة الاهتمام، وامتن لسامر وموقفه الأخوي، لدرجة جعلته يتغاضى عن موقف والده، مر اليوم وعلى وجهه بسمة رضا وسعادة.
لا زال يشعر بتأنيب الضمير، لازمته صورة شيماء وهي فاقدة الوعي، علق بذاكرته شحوبها ودموعها العالقة بعينها، يراها بنومه وصحوته، يتابعها دون أن يشعر، هي تتردد كثيرًا على مكان عمله؛ فضغطها يباغتها كثيرًا بنوبات هبوط، كما تمر من أمام غرفته يوميًا بطريقها للمسجد، لاحظ اهتمام وسيم بها وتتبعه لها، لم يطمئن لفلعه بزميله منذ حطت قدميه المشفى وهو يتابع كل ما ينتهى بتاء مربوطة، توقع سوء نيته واكتفى بالصمت.
شعرت بالإعياء فتحركت نحو الطوارئ، وبهذه المرة اكتفت الطبيبة بإعطائها دواء تحسنت حالتها، وبطريق عودتها استوقفها صوت وسيم مناديًا، غضبت من طريقته المتعمدة لرفع الألقاب رغم اعتراضها الدَّائم، وتعمَّدت اظهار الضيق على قسماتها، بينما رسم وسيم ابتسامة عريضة على ملامحه أبرزت وسامته، انتبه رامي لندائه فاقترب منهما قليلًا يستمع دون لفت نظر الجميع:
- شيماء، شيماء استني.
- عاملة أيه دلوقت؟ أحسن.
تعمَّدت الصمت منتظرة باقي حديثه غير المرحب به، شعر بالحرج ولم يبدِ:
- بطمن بس، مش محتاجة حاجة، لما تتعبي تعالي على مكتبي بدل ما تروحي لأي حد.
- أولًا مش بكشف غير عند دكاترة سيدات
ثانيًا: اسمي آنسة أو أستاذة شيماء، ما ترفعش الألقاب يا دكتور، إحنا مش أصدقاء.
ثالثًا: مش فاهمة يعني إيه تطمن عليا؟! بأي مناسبة؟! إحنا مش أكتر مِن زملا من بعيد لبعيد.
- ليه كل ده؟ أنا نيتي صافية والله.
- واضح.
واصلت طريقها دون الالتفاف خلفها، أثارت حنقه، نوع من الفتيات لم يقابله من قبل، حاول إخفاء ضيقه، نمت على شفتيه بسمة ساخرة، ثم واصل يومه، غير متناسي إحراجه، يقسم أنه سينتصر.
ابتسم رامي برضى وسعادة غير مبررة، هي حقا مختلفة، تبدو قوية رغم هشاشتها أحيانًا، ولأنه عانى الخذلان، رأى حزنها مخفيًا داخل مقلتيها، كلماتها البسيطة عن جدها التي وقعت على سمعه من قبل جعلت بينهما قاسمًا مشتركًا، وفرضتها على تفكيره، بل وأحلامه أيضًا.
ما زالت نادية تتجنَّب الجميع، تهاتف والدها كل حين بحديث يتسم بالحدة والجفاء وتتغلب عليه الندية، كما يلقي عليها والدها وابل من الاتهامات:
- أنت فاكرة بمكالمتك دي برأتِ نفسك، أنت زي أمك، هي طردتها وأنتِ بترمي لها ملاليم كل أول شهر مِن فلوسها، وقافلة على الباقي عشان باسمك، فعلًا تربية إيدنا وجدك فشل في تغيرك.
- أنتَ اللي شايف الناس كلها زيكم، وبتقول كده عشان اديها فلوسها وأنت تاخدهم، ما هي مش هتقدر عليك، بس مش هيحصل صدقني.
- مش لما تصدقي نفسك، أنت طمعتِ في الفلوس، ما هي كتير بردو.
انتهت اتصالها وزفرت بحنق، سلط نادر نظره عليها بلوم وعتاب، تلاقت الأعين فهربت سريعًا، تعلم ما ينوي قوله، فكثيرًا ما يتحدثا بنفي الموضوع ولم يلتقيا، لكنه لن يمل حتى تعود إلى رشدها.
- قالك نفس الكلام.
- نادر من فضلك.
- لا يا نادية مش هاسكت، هفضل أكلمك بدل المرة ألف، لازم توفي بوصية جدك، وتسلمي لأختك أمانتها.
- هياخدها غَصْـب، مش هتطول حاجة، استحالة أقبل بده.
- ده الظاهر واللي بتحاولي تقنعي نفسك وتقنعيني به، بس الحقيقة إنك مش قادرة، نفسك غلبتك، جواكِ صراع، أنا حاسس بيكِ، ده اللي مخليكِ مش قادرة تقابليها، وهي كتير تتصل تتحايل عليكِ تشوفك، وانت دايما تعتذري وتتحججي بأي حاجة، خايفة تفتح موضوع الفلوس، خايفة تواجهيها أو تواجهي نفسك، أرجعي يا نادية قبل ما تضيعي أختك منك، أنتم سند بعض، أنا خايف عليكِ.
تركته ودلفت الغرفة هربًا، هي تهرب حتى من كل صوت داخلها، تحدث نفسها وتؤكد لها صحة ما تفعل: «أنا بعمل الصح، أكيد بعمل الصح».
دخل الغرفة بعد فترة وجيزة؛ فوجدها مستلقية وشاردة بعالم أخر، حين انتبهت لوجوده عدلت وضعها مدعية النوم، طالعها بأسف يتمنى عدولها عن فعلها قبل فوات الأوان، استلقى جانبها وضمها إليه:
- بحبك، وعمري ما اتخلى عنك مهما غلطتي، دايما في ضهرك.