رواية علاقات سامة الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم سلوي فاضل


 رواية علاقات سامة الفصل الثالث والعشرون


منذ اغتيال اللواء والد زوجته لم يتمكن من متابعة أخبارها، يأكله القلق، يمني نفسه باستمرار السائقة في معاونتها، لن يبخل عليها، جلس بشرود على الأريكة الجانبية الموضوعة بالمكتب، دخل طارق وجلس جواره يسأله باهتمام:

-       مالك يا مؤنس؟

 

طالعه صامتًا لثوانٍ، ثم عاد يثبت نظره أمامه يواصل رحلة شروده، فلن يشعر به أيَّا منهم:

-       طيف  بردو! إزاي مشغول عن مراتك في الظروف دي؟ مش صعبانة عليك! دي حالتها صعبة، أول مرة أشوفها بالحالة دي. 

-       طارق ربنا يكرمك، بلاش تأنيب ضمير، أنا مش ناقص مش عارف أكون جنب مين! واسيب مين! وبعدين أنا الصبح بتابع التحقيق وبالليل معاها، وهي مش راضية ترجع البيت، ومش عارف أطمن على طيف، مش عارف أعمل ايه!

-       مراتك محتاجة وجودك، محتاجة لك تحتويها وتعوضها عن والدها، خصوصًا أنها وحيدته وكل طالباتها كانت بإشارة بس تلاقيها، مش يمكن دي فرصة كويسة تقربوا من بعض.

 

طالعه بتعجب وارتسمت على شفاه بسمة ساخرة، عن أي تقارب يتحدث:

-       عِشْرَة عَشَر سنين ما خلتناش نقرب ولا يبقى في بينا تفافهم، ومتوقع يحصل في يومين! أي منطق ده؟!

-       نصيحة لوجه الله انتبه لبيتك، وسيبك من الأوهام اللي عايش فيها من سنين فاتت.

 

لازم الصَّمت فلا فائدة من الحديث، أما طارق فحين شعر باعتراضه فضل التحدث بأمور العمل: 

-       في اجتماع كمان ربع ساعة، حاول تركز دي استعدادات لعملية اقتحام مهمة، أنا مش عايز اخسرك، أنت صاحب عمري يا مؤنس.

 

حاول رسم بسمة ممتنة له، بدت باهتة ومثقلة بالهموم كحياته تمامًا.

 

 

رافق ابنته حتى دخلت مدرستها، ثم أتجه إلى بيت والده يتابع آخر ما وصلوا إليه، تساءل باهتمام:

-       ردت يا بابا ولا لسه.

-        متأكد مِن الخطوة دي يا شهاب، أنا مش مرتاح.

-       جدًا، أنا عارف اللي قلقاك، وهو نفسه اللي مخليني مُتحمس، الشخصية دي محتاجة حد قوي يروضها.

 

تعمق بالنظر إليه، وشرد عقله مفكِّرًا، فبالرغم من قوة شهاب إلَّا إنه مندفع ومتهور، يوقع نفسه بالمشاكل، وبالغربة لن يكون هناك معين سوى زوجته، فماذا لو ساءت العلاقة بينهما؟!! جذبه مِن شروده صوت شهاب الواثق:

-       ما تقلقش عليَّا.

-       ما تنساش أن لها معارف كتير، وهما اللي هيجيبوا لك الشغل، دي استمرت لوحدها هناك، حتى بعد رجوع أهلها، فاهم قصدي.

-       مفيش حاجة صعبة على شهاب ثابت.

-       براحتك، هما عايزين الخطوبة والشبكة وكتب الكتاب أخر الأسبوع، خلصت ورقك؟

-       أيوه، وهي بعتته فاكس، فاضل هما يتمموا الإجراءات عندهم، يعني مسألة وقت.

-       وبنتك!

-       شهر تكون خلصت امتحاناتها، وأنا طلعت لها الباسبور، وهي هناك هتخلص لها الإقامة مع ورقي عشان تسافر معايا، وهناك أشوف لها مدرسة.

-       ومراتك!

-       هسيبها تموت من الجوع، أو في أيد أبوها مش فارق.

-       مش بتقول حامل!

-       مش هيكمل، أكيد مش هيكمل.

 

نظرات والده بهذه المرة مختلفة، مزيج من القلق، الرهبة، التمني والتعجب، ليته يثق بحكمة ابنه! لا يوافق على قتل نطفت ابنه، لكن إصرار شهاب ألجمه.

غادر شهاب، وظل والده على حاله حتى قطع شروده جلوس زوجته، ظهر الحيرة والتردد على قسماتها، بدت مذبذبة، كمن يخشَ الإفصاح عن أمرٍ، فتحدث بحزم ينهي حيرتها:

-       قولي عايزة إيه.

-       بصراحة، تصرفه مع مراته غلط، أنا صحيح مش بحبها، لكن خايفة عليك، لازم تعرف بجوازه، اللي عايزه مخالفة للشرع، أخاف عليك من الوزر ده، وعندي فكرة لو حابب أقولها، بها تبقي عملت اللي عليك، وهي عرفت وفي نفس الوقت ابنك يسافر وياخد بنته من غير ما أي حاجة تتأثر.

 

حدجها بنظرة ثاقبة، جمدت الدماء بأوردتها وأصمَّت لسانها.

 

 

هَزَل جسدها مع ارتفاع بطنها تناقض أبرز حملها؛ فبات واضحًا لكل من يراه، وجعل شهاب أكثر تحفُّزًا وإصرارًا للتخلص منه، جعلها بحالة هَلَع دائم، بالأخص بعد ذاك اليوم الذي نفضت عنها ثوب الخوف قليلًا، وقفت أمامه مُرْتَعِشَة وأفصح لسانها عن بعض مما تحمل بجوفها: 

-       حرام عليك، أنا ما عملتش حاجة، كفاية ذل فيَّا، ارحمني وارحم حملي.

 

خطا نحوها بهدوء، وبنبرة تحمل القليل مِن الدهْشة والكثير مِن الوعيد، تساءل: 

-       بتعلي صوتك وبتصرخي في وشي!

-       تعبت، سنين طويلة ساكتة، عملت فيَّا كل حاجة، حاجات عمري حتى ما تخيلتها، وكل مرة تقول سبب، لكن المرة دي حتى مفيش سبب، بتحط تخيلات وتعاقبني عليها، أنا تعبت، والله تعبت! وخلاص ما بقاش فيه عِـقَـاب إلا جربته، ذُلْ، إهَـانَـة، تَجْـوِيـع، عَطَش وضَـرْب بكل الطُرق، تعبت فعلًا.

 

لم تكن تعلم أن جعبته ما زالت تحوي الكثير، اقترب منها بتمهل مدروس، ونظرات مُتَـوَهِـجَة شَـرِسَة: 

-       في يا طيف، وبيوجع فوق ما تتخيلي، وهتجربيه مِن النهاردة.

 

دَبَّ الرُّعب بأوصالها، فحيح نبرته وثقته أوحيا لها بأن القادم قَـاتِل، حاولت تخمين عمَّا يتحدث دون جدوى، لم ينتظر تخمينها؛ فإخبارها أكثر وجَـعًا:

-       مِن دلوقت، ما فيش لا كلام ولا تعامل مع حلا، ولا تقعدي معاها في نفس المكان، مِن أوِّل ما تدخل البيت لحد ما تروح مدرستها تاني يوم عينك مش هتقع عليها، والتنفيذ عليَّا.

 

حِرْمَانِها مِن ابنتِها هو الموت بعينه، امسكت يده برجاء، تلوم حالها لمَّا الثورة الآن بعد سنين رَضَخَت فيا وخَنَعَت لقيُـوده:

-       أنا.. أنا أسفة، بلاش حلا، بلاش أبوس رجلك، حقك عليَّا.

 

نفض يدها بازْدِرَاء وتركها بين دموعِها وآهاتها، وبالفعل لم يجعلها تلمح طيفها، حاوطها بكل السبل، جعل وقتها بين مذاكرة، تلقي الدُّروس والتَّنَزُّه، تعود لتغتسل وتنام، فترة زهو لحلا وباطنها قَـهـر لطيف، حاولت التَّسلل لابنتها ليلًا حين ظنت أنَّه قد غطَ في نومٍ عميق، وجدت يده تجذب خصلات شعرها تكاد تقتلعها مِن قبل أن يقترب كف يدها من مقبض الباب، سحبها حتى عادا لغرفتهما، دفعها وأغلق الباب، تقدم إليها صَـفَـعَها، وبجَبَـرُوت حذَّرها:

-       حذاري يا طيف تحاولي مرة تانية تعملي حاجة منعتك عنها.

-       بنتي يا شهاب، أبـوس ايدك بلاش تمنعني عنها!

-       مش كنت عايزة عِـقَـاب مختلف، ما تلوميش غير نفسك.

-       عرفت غلطتي والله! حقك عليا، مش هرفع لا صوتي ولا عيني، لكن بنتي لأ، والله بموت كل يوم!

-       يبقي تتحملي عِـقَـاب اللي عملتيه، وعشان التجديد بما أنك زهقتي، فأنا لقيت حاجة مناسبة، تعرفك قيمتك الحقيقية من غير ما أضرب ولا حتى المِـسِـك.

 

أسلوبه والمكر الذي غَــزا معالمه أنذرها بأنَّ القادم كارثة حالكة السَّواد؛ فبدت كالأموات، لا يميزها عنهم سوى الزلزال الذي ضَـرَب كيانها، وبالفعل عِـقَـابه قتلها وهي على قيد الحياة، مهينا أشعرها بالدُّونِيَّة.

مِن بعد تلك الواقعة أصبحت مستسلمة لأبعد الحدود، مُنبَـطِحة لأوامره، لا تتحدث بوجوده إلا بطاعة، تبكي كلَّما اختلت بذاتها وتذكرت ما أجبرها عليه.

أما هو فانتشى مبتهجًا بنصره، وإن شعر أنها تحاول تناسي ما حدث يميل على أذنها يطْعَنها ببعض الكلمات تردي كيانها ذَبيـِحًا، تسيل دموعها ترثي حالها، وتخذلها قدمها؛ فتسقط أسفل قدميه.

 

 

انتهت فترة العزاء، وخلا المكان من المعزين، عادا لمنزلهما الجديد -جانب طيف- خيَّم الحزن على ملامحها وسكنها، يرى بأعماق عينيها معانٍ عجز عن تفسيرها، ترمقه بنظرات مبهمة، اجتهد مرارًا لفتح حوار معها؛ لعله يفهم ما يدور داخلها! لكنها تصده وتنهي أي حديث قبل بدايته، كأنها تحاول وضع الجسور لتعيق تواصلهما، شعر بالدنيا تحكم خناقها عليه؛ فهو يجهل ما تنوي زوجته وعاجز عن تقديم أي عون لطيف التي تتجاهل كل من وضعهم بطريقها لمساعدتها، ترفض حتى النظر لهم، لا يعلم أنها تحاول حماية جنينها من بطش أبيه.

 

برتابة واعتيادية مضت الأيام، حتى أتى اليوم الذي احتدمت فيه الأحداث وتصاعدت وتيرتها، صباح شهد بعض التغيرات التي حركت ركود الأيام، طلبت سارة وألحّت على مؤنس بيوم عطلته أن يرافقها لزيارة قبر والدها، مر الوقت عليه ثقيل، يؤدي واجب مفروض عليه غير راغب به، وبطريق عودتهما وبعد صمت طويل غلف الأجواء حتى اقتربا من مشارف مسكنهما، تعمدت بدء حوار مُلِئ بالتأنيب وإظهار جوانب تقصيره بحقها، ولأنها -مثله- درست موعد ذهاب وعودت طيف؛ تدرك أنها على أوشكت الوصول، لسانها يحدثه وعينها تطوف باحثة عنها بالطريق، لم تترجل من السيارة ظلت تهاجم وتُلقي الاتهامات منتظرة انفجاره، رأتها قادمة من بداية الشارع من الجهة المقابلة، تجاور ابنتها تبدوان تتحاوران فكل منهما تحرك رأسها جهة الأخرى مرة، تذكرت أن بداية عطلة السنة الدراسيَّة قد حلت، بسمة ساخرة صغيرة ارتسمت على جانب وجهها؛ قد انفجر مؤنس باللحظة المناسبة، ولن يفرق تواجد ابنة طيف من عدمه:

-       أنتِ أيه!!! ما بتزهقيش، نفس الكلام نفس الخناق، أنا قـرفـت وطـهـقت منك ومن عيشتك، وسايب لك العربية إن شالله تباتي فيها.

 

 

اندفع خارج السيارة ثُمَّ للمنزل ولم ينتبه لاقتراب طيف. سلطت ناظريها على هدفها، يتضافر معها القدر سامحًا لها بفعل ما ترغب، فطيف بالفعل مندمجة بحديثها مع حلا؛ فمنذ فترة طويلة لم تخلِ معها، لم تشعر بمضي الوقت وودت لو طال لأمد الدهر، ابتسمت سارة بخبث تتوقع كيف ستمر من جانبها، فهي تسير بنفس الجانب الذي تصطف به السيارة، وتمشي حذو الرصيف كما تراها دومًا، تحمل بيد معظم ما ابتاعت وبالأخرى تحاوط كتف ابنتها، ولتمر بين السيارة الرصيف إما ستجعل ابنتها بالمقدمة أو تجعلها تخطو فوق الرصيف، ولن يكون هناك فاصل بين جسد طيف وباب السيارة، ستنتظر اقتراب طيف لتفتح باباها بغتة ليضْـرِب منتصف جَسَـدها بقوة، موضع جنينها، ألا يكفيها ابنه لتحمل بطفل آخر! يكفي واحدًا هكذا قررت أن يكون انتقامها ممَّن شاركتها كيان زوجها.

 

انتظرت تنفيذ خطتها حتى كادت أن تُنَفَّذ كما رسمت، لكن القدر وضع بعض الاختلاف بالتفاصيل، فبعدما وطأت قدم طيف جانب الرصيف شعرت بضيق المكان وتعثرها؛ فالتفت بجسدها متراجعة، كادت أن ترفع قدمها، فشعرت بضَـرْبَةِ قوية تحطُ على ظهرها، فقد انتهزت سارة الفرصة متعمدة دفع الباب بكل قوتها، فسقطت طيف واستقبل الرصيف بروز بطنها بخشونة ارتد صداها بأحشائها، أطبقت شفاها تكتم صرختها، وشقت دموعها مجراها، اعتدلت جالسة تحاول تحمل ألامها المتزايدة، صَرَخَـت حلا باسمها باكية، لم تستطع طيف طمأنتها رغم محاولاتها، فمجرد محاولة النطق تؤلمها، ترجلت سارة مِن السيارة مُصطنعة الأسف:

-       أنا آسفة، عندي حالة وفاة ومش مركزة.

 

 

مل مِن حياته معها، كابوس مستمر لأكثر من عشر سنوات، يتساءل: ألم يحِن وقت استيقاظه بعد؟! وقف بشرفته لعله يلمحها فتهدأ عاصفته قليلًا! رآها بالفعل، لكن تحول وجعه لنزيف حاد، وكأن الضَّربة التي تلقتها سقطت على قلبه، شُل عقله لثوانٍ قبل أن يسرع إليها، بالباب تقابل مع سارة التي حدجته بنظرة ثاقبة شامتة ورشَقٌته بكلمات ساخرة: 

-       اوبس، حبيبت القلب تعبانة وبتعيط، شكلها بتتوجع جامد، دي حامل وعايشة حياتها،  مش منتظرة قيس ولا حاجة، اومال موقف حياتك عليها ليه؟ شوفت طلع ما عندهاش وفاء، ضيعت عمرك هدر يا مؤنس.

-       حسابك تقل قوي، خافي مني.

 

تركها تتلظى بنيران حقدها وأسرع إلى طيف، غير عابئ بكلماتها الحَـادة وصوتها الجهوري:

-       لو فاكر عشان سيادة اللوا مات هكون ضعيفة، تبقى غلطان يا مؤنس، فاهم.

 

مِن أجلها يَلْجُمْ مشاعره ويقيدها؛ كي لا يزيد متاعبها، لكن حالتها أفقدته سيطرته؛ فهي هزيلة البنية وبعد ما تعرضت له، أحْـتَل الوهن ملامحها وتجعدت، يصدر عنها آنين مكتوم مع أنفاسها، اقترب منها تفضحه مشاعره، وبخوف واهتمام تساءل:

-       أنتِ كويسة! أوديكِ المستشفى؟ حاسة بأيه؟

-       شكرًا لحضرتك، هكلم جوزي.

 

 

لم يخفَ عليه صعوبة نطقها وامتزاج الألم بكلماتها، بحركة ضَـعِيفَة واهِـنَة اخرجت هاتفها تتصل بشهاب، تأمل أن يأتي لنجدتها؛ فأجابها بصوت سَاخِـط صَـارِخ:

-       عايزة إيه؟

-       أنا تعبانة في الشارع، مش قادرة اتحرك.

-       الهانم منتظرة أجي اشيلها مثلًا!

-       حلا معايا، أحنا في الشارع.

-       لو حصل لها حاجة ما تلوميش غير نفسك، بطلي استعباط واطلعي البيت، ارحمي نفسك مِن غَضَبي يا طيف.

 

أنهى الاتصال مباشرةً غير عابئ بها، انسابت صديقتها ترثي حالتها، وقد علم مؤنس تخلي شهاب عنها، أما ابنتها فاعتقدت بتحرك الدها لينجدهما، عرض مؤنس مساعدته حينما طال الصَّـمت:

-       شكلك تعبان وزوجك ممكن يتأخر، الأفضل نروح مستشفى، وكلميه هناك يحصَّلنا.

 

حاول رفع الحرج عنها ودفعها لقبول مساعدته، أجابت باستحياء، دون رفع رأسها وهدمت أمله:

-       شكرًا لحضرتك، شوية وأبقى أحسن.

 

مع إصرارها وعدم تقبلها لمساعدته، عاد خطوتين للخلف، بقيَّ قربها موقن مِن وشوك انهيار قواها.

 

تتابعهم من شرفتها يزداد حقدها مع كل كلمة ونظرة من مؤنس، وبالرغم من تخطيطها لذلك من البداية إلا أن تصرفاته واهتمامه يشعلان غيظها ويوهِجَه.

 

مر بعض الوقت، ولا زالت على حالها، تضاعف خوف حلا وبدأت في البكاء، حاولت طيف بثها بعض الطمأنينة، وحين عجزت قررت محاولة الحركة آملة الوصول لمنزلها دون السقوط، اتكأت عليها تحاول النُّهوض، مرة بعد مرة حتى كادت أن تيأس، لكنها وجدت يد قوية تعاونها برفق وتَشُد مِن أذرها، يد مؤنس، تلاقت الأعين لثوانِ، وما لبثت طيف أن وقفت وتداركت وضعيهما، سحبت يدها مُخفِضَة بصرها، ثم عادت تتَّكئ على ابنتها، راقبها بمقلتين قلقتين حزينتين.

 ضغطت على جسدها ترغمه ليخطو بضع خطوات ثقيلة متعَبَة بالكاد وصلت لمدخل العمارة، ثُمَّ شعرت بثقل جسدها والأرض تميد بها وروحها تسبح نحو السماء. 

ببطء يسير خلفها، يلتاع قلبه لوجعها، متأهب لمساعدتها بالوقت المناسب، وحين شعر بتخلي قوتها عنها وتهاوي جسدها، أسرع يستقبله بين يديه، حملها وصعد الدرج، امتنت حلا لمساعدته واسرعت تفتح المنزل تدله على مكان غرفتها، تحرك خلفها ووضع مُعَذِّبَته على فراشها، غَزَته مشاعر عدة رنا إليها بناظريه آسفًا ثم رحل مضطرًّا وترك كيانه عالقًا جوارها.

 

 

لحقتهم سارة دون أن ينتبه، اشتَـعَلَـت غيرتها وتضاعفت وهي تراه يحملها بحنان، تسمع صدى أنفاسه العاشقة والمتألمة؛  فالتقطت لهما بعض الصور ولم تظهر حلا عامدة، واحدة وهو يحملها ويصعد الدرج، وواحدة توثق نظرته لها والتي وضحت رغم بعد المسافة وضيق الزَّاوية، وأخرى وهو يدلف بها للمنزل، بل تمنت لو تستطيع تصويره داخل غرفة نومها، عادت مسرعة، ترسل الصور إلى شهاب مضيفة وجه ساخر بنهاية الرسالة تزيد ظنونه، بل وتؤكد له خيانة زوجته، رغم ذلك لم تشعر بالرضا، نيِـران قلبها ما زالت موقَـدة، انتظرته حتى أتى واستقبلته بوابل من الكلمات النَّاقِمَـة:

-       سيادة الظابط الحبيب رجع بيته بعد ما وصل الهانم في مشهد غرامي بحت، عاملين فيلم غرام على الرصيف، طاب اختشوا على دمكم دي بنتها معاها وقربت تبقى طولها، وأنت ما فيش احترام لمراتك ولا حتى وظيفتك؟!!

 

ما بداخله أشد من حالتها ولو أخرجه لأحـرقَها بكلماته، فاختار تجاهلها، اتجه لغرفته بدل ملابسه يتابع شرفة طيف.

 

 

بجلسة عائلية، اجتمع ووالده مع زوجته الجديدة وأسرتها، التفوا حول طاولة الغداء، دار بينهم حديث روتيني، استقبل هاتفة رسالة على أحد التطبيقات من رقم غير معروف اعتاد مراسلته بالفترة الأخيرة، يشاركه بُغض طيف، يرسل له معلومات تجعله يذيقها العَـذاب، فتح الرسالة فاندفعت الدماء لوجهه واحتَـقَن، سحب شهيق عميق، ليسيطر على حاله، صورة للضابط يحملها ويصعد درج بيته، وأخرى توثق ملامحه التي تفيض بمشاعر عدة، ود لو يمكنه التحرك إليها ليبرحها ضَرْبًا، لكنه لن يستطيع، مالت عليه زوجته الجديدة ريڤال متسائلة:

-       في حاجة! مراتك تاني!

-       ما تشغليش بالك.

 

 

أصبحت على صفيح ساخن بعد تجاهله المتعمد، جعلها بقمة تحفزها؛ فاستخدمت آخر كارت تبقى معها، صورته يحملها ويدلف داخل منزلها أرسلت الصور واعقبتها بجملة ساخرة متسائلة: «تفتكر حصل إيه؟!» زفرت أنفاسها بحقد تتلَـظَّى غيْـظًا.

 

 

حاول صرف صورتهما عن باله حتى تنتهي جلسته معها، شغل نفسه بترتيب أوراقه لتعجيل سفره؛ فلم يتبقى سوى أيام بسيطة، يعلم أن طيف ليست ساقِـطة  لن تتجرأ على خيانته، طلب من والد ريڤال أن يخرجا بمفردها ليزداد تقاربهما، وبابتسامة لا تزور وجهه إلا نادرًا رافقها حتى سيارته كادت يركبان حتى أعلن هاتفه عن استقبال رسالة جديدة، ضيق عينيه بوعيد إن خصت طيف، فتحها فاسودت معالمه، تتابع حالته وتغيره منذ الرسالة الأولى، لم تبادر بالحديث وترقبت رد فعله على ما وصله، لحظة واحدة مرت ثم وقعت على مسامعها سُبَّة متدنية خص بها زوجته الأولى وانطلق كعيار ناري، :

-       هحـرَقـها حيَّة، يومها مش هيعدي النهاردة، ريڤال أنا لازم أمشي، أرجعي أنتِ.

 

انسحبت بصمت وعادت بخطاها للأعلى، وحين رآها والد شهاب نهض وسألها دون أن يسمعهما أحد علم منها تفاصيل ما حدث، ولم تتعجب حين ألقى والده لفظ مشابه لما لفظ ابنه وحمل طيف وزر ما سيحدث.

تعليقات



×