رواية حين يهمس الحب الفصل الثانى 2 بقلم وسام اسامه

 

رواية حين يهمس الحب الفصل الثانى بقلم وسام اسامه


    "بين صمتها وتردده، تتسع الفجوة بين ما        يريدانه وما يجرؤان على قوله."
....................

في قلب الاسكندرية، حيث تتنفس المدينة نسائمها الثقيلة في ساعات الصباح الأولى، كانت شركة الأزياء المصرية الشهيرة تستقبل يومًا جديدًا. مبنى زجاجي أنيق يقف شامخًا كهيبة الحلم، يتخلله ضوء الشمس بخجل، وكأن الضوء نفسه يُفصَّل على مقاس النوافذ.

في الطابق الأرضي، انفتح الباب الدوّار يستقبل وجوهًا مألوفة. الموظفون يتدفقون واحدًا تلو الآخر، بعضهم يحمل أكواب القهوة، وبعضهم يتبادل الضحكات الخفيفة، وآخرون يهرولون بخطى سريعة نحو مكاتبهم، تعلو وجوههم ملامح التركيز والانشغال.

همسات في الممرات، خطوات على الأرضية اللامعة، نقر خفيف على شاشات اللمس، وتفاصيل صغيرة تنسج نغمة متناغمة تشبه سمفونية صباحية تعزفها أيادي المصممين والمحاسبين والمصورين، كلٌّ يعزف بطريقته، لكن الجميع مندمج في أداء واحد.

وبين هذا الزخم... كان هناك هدوء ناعم يختبئ في الطابق العلوي.

مكتب المدير التنفيذي بدا وكأنه ينتمي لعالم آخر. تصميمه فريد، أنيق بلا تكلف، الجدران بلون رمادي دافئ، والأثاث مصنوع من خشب الجوز الهادئ، تحيط به لمسات فنية ناعمة تتناغم مع الأضواء الخافتة. على الرفوف، تصطف كتب عن الموضة، التصميم، وإدارة الأعمال، وتزين الجدران لوحات لنساء يرتدين فساتين كلاسيكية، كأنما الزمن توقف فيها للحظة من الجمال.

في وسط المكتب، خلف المكتب الواسع الذي يلمع كالمرآة، كانت هناك شرفة تطل على شارع المدينة. وهناك... وقف رضوان.

رجل طويل، ذو جسد رياضي يحمل ملامح الانضباط، وكأنه اعتاد مصافحة الصباح كل يوم بلا توانٍ. مظهره أنيق ببساطة ساحرة. بدلته داكنة بلون الليل، لكن عينيه... عينيه كانت الحكاية كلها.

عيونه كحيلة، سوداء كأنها خطّت بيد رسام شامي، تخفي خلف سوادها طبقات من القصص والأسرار. في ملامحه وقارُ رجل عاش كثيرًا، وصمت كثيرًا، ومرّ بين الأزقة الضيقة للحياة متخبطًا، يحاول أن يجد طريقًا يليق به دون أن يتنازل عن كبريائه.

كان يقف هناك، يحدق من خلف الزجاج في الشوارع التي بدأت تستيقظ، والضوء الذهبي يتسلل إلى المباني، يعانقها، يدفئها. عينيه شاردة، لا في السيارات ولا في الناس، بل في شيء أبعد... في عمره الذي تجاوز الثلاث وثلاثين، في المعارك التي خاضها، في الليالي التي لم ينم فيها، في النجاحات التي لم تروِ ظمأه، وفي الخسارات التي لم ينسَ طعمها.

رضوان، ذلك الرجل الذي لا يزال يلعب مع الحياة لعبة الأوراق، يُناورها، يسرق منها جولة، وتارة تسحب منه ما ظن أنه امتلكه. كان يبدو كما لو أنه نجا من كل شيء، إلا من نفسه.

وفجأة، التقطت عيناه مشهدًا خارج الزجاج جعله يقطّب حاجبيه ويقترب أكثر من النافذة...

هي.

كانت تعبر الشارع بخطوات هادئة، كمن يعرف أن الحياة ستمر على أي حال. تحمل كوب قهوتها بيد، وحقيبة عملها تتدلّى من كتفها، وفي يدها الأخرى... وردة حمراء.

وردتها كانت بمثابة طعنة ناعمة.
لمن تلك الوردة؟ ولماذا تبتسم؟
 ذلك الشاب الذي يسير بجوارها ويتبادل معها نظرات يعرفها؟ نظرات يعرف مذاقها في عيون النساء، ويعرف أكثر وقعها حين لا تعود له.

سلسبيل.

اسمٌ يُشبه الحكايات القديمة، ووجه يُشبه المارشميلو الذي ذاب في فمه وهو طفل. نكهة قد نسيها، لكنه تذكرها فور أن وقعت عيناه عليها لأول مرة، منذ عامين، وهي تقف بين صفوف المتدربين الجدد. يومها، ابتسم لها مجاملةً، فابتسمت له بأمل وخجل وبهجة...

ابتسامة اختفت الآن، ووردة حمراء ظهرت مكانها.
سلسبيل لم تعد تلك الفتاة، ورضوان لم يعد ذلك الرجل... أو ربما، لم يتغير أحد، فقط الحياة وضعت بينهما مسافة من صمتٍ وأسئلة.

في اللحظة تلك، لم يعرف بماذا شعر.
غيرة؟
ندم؟
فضول؟
أم بشيء أعمق... شعور لا يُسمى، لكنه عرفه جيدًا غيرة وحشية تنهش جوفه

تحرّك رضوان في مكتبه بخطوات بطيئة، يجرّها كمن يحمل وزر أفكاره.
رفع يده الثقيلة إلى وجهه، وضغط بأصابعه على بداية أنفه، كأنها بؤرة صداعٍ لا يهدأ... لا، ليست صداعًا، بل غضبًا يتسلل من قلبه إلى أطرافه.

همس لنفسه بنبرة باهتة، متصلبة:

"ماهي حرة... عندها حياتها..."

ثم كررها، وكأن التكرار سيعطيها طعم الحقيقة:
"أنا مالي بيها؟ أنا مالي؟"

لكن الكلمات بدت كأنها تتناثر من فمه دون روح، كأوراق خريف تذروها الريح.
كلما حاول إقناع نفسه أن لا شيء يخصه بعد الآن...
كلما تذكّر تلك الابتسامة.

الابتسامة التي كانت تنير وجهها المستدير، وتُظهر وجنتيها كقطعتين من الخوخ الناضج، ابتسامة لا تُشبه أحدًا... لا تُشبه شيئًا سوى سلسبيل.

مجرد فكرة أن تلك الضحكة أصبحت تخص غيره... تشعل النيران في صدره.
كيف؟ كيف يضحك لها شابٌ غيره؟ كيف تتبادل النظرات معه؟
كيف لم يعد له مكان على خريطة مشاعرها؟

استدار فجأة، كأن قرارًا اشتعل في داخله.
خطواته الغاضبة تصفع الأرض، كل خطوة تحمل ثقل الكبرياء، والحيرة، والندم المالح.

خرج من مكتبه، وعبَر الممر الطويل كقطار لا يعرف التوقف.
اتجه مباشرة نحو قسم تنفيذ التصاميم، قسمها... حيث تجلس، حيث تضحك، حيث تنتمي الآن دون إذنه.

لكن... وقبل أن يدلف من الباب الزجاجي،
توقف.

ضحكة ناعمة، رفيفة، خفيفة كأنها خرجت من قلب وردة، تسربت إلى أذنه
ضحكتها الآن كانت تحمل شيئًا آخر... شيئًا لا يشبهها، ولا يشبهه.

ضحكت، وأعقبها صوت فريدة، زميلتها، التي قالت بلهجة متهكمة:

"سيدي يا سيدي والله وبقينا ندخل بالورد كده عيني عينك ولا بنتكسف..."

ردّت سلسبيل، صوتها المفعم بالحياء والجرأة، المختلطين معًا، كطعم الليمون:

"وهتكسف ليه يا فريدة؟ كلها كام شهر وادخلك بورد الخطوبة..."

لكأن كلماتها تلك قد ألقيت في قلبه كأنها حجارة صغيرة تسقط في بحيرة ساكنة، تترك دوائر واسعة تُزحزح سكونه الداخلي.
خطوبة؟ هل هذا ما يعنيه حديثها؟ هل أصبحت تلك الفتاة التي يعرفها، الفتاة التي كانت مجرد ابتسامة، تستعد الآن لتغيير شكل حياتها؟

لكن لم يكن هناك وقت للتفكير أكثر. فجأة، اندفع صوته العالي، العاصف، في الممر:

"اجمعلي كل الأقسام حالًا في أوضة الاجتماعات! حالًا!
واللي مش هيحضر... يعتبر نفسه مرفود!"

كانت كلمات كالبركان، تنفجر في الأرجاء، تتناثر في كل مكان حوله.
ثم ساد الصمت، صمتٍ ثقيل أُضيف إليه بريق القلق في أعين الموظفين.

إلا سلسبيل.

جالسة على كرسيها، عيناهما مشغولتان بشاشة اللابتوب، دون أن يلتقط أحدٌ منها أية إشارات إلى التوتر. كانت كأنها حجر ثابت في وسط عاصفة.

بعد عشر دقائق، أو أقل، سادت حالة من الهدوء المحسوس في الغرفة، لكن هذا الهدوء كان كالموتى الذين يتنفسون. الموظفون دخلوا، كل قسم بدوره، وهم يحاولون إخفاء قلقهم الذي بدأ يتسرب عبر عيونهم. كانت الساعة تشير إلى بداية الاجتماع، ولكن الوقت نفسه كان يقف في مكانه، مُثقلاً بانتظار ما سيحدث. الهواء في الغرفة كان مشبعًا بشحنة من القلق، وكأن الأنفاس تتنفس في توتر متبادل، وكل شخص كان يشعر أن هذا اللقاء ليس عاديًا.

على رأس الطاولة، كان رضوان جالسًا في مكانه، كما لو كان عرشًا لا يمكن أن يعترضه أحد. كان طويل القامة، ذو هيئة مهيبة، وعيناه تغطيهما سحابة من الصمت القاتل. يديه مشدودتان على الطاولة أمامه، مستندا عليها وكأنها نقطة ارتكاز لعالمه بالكامل. كان جهازه اللوحي موضوعًا أمامه، وعلى شاشته تتنقل أرقام وملاحظات، ولكن عيونه، المليئة بالغضب المشتعل، كانت تتنقل بين الموظفين في صمت قاتل.

الكهرباء في الهواء كانت تكاد تكون مرئية، كأن الغرفة كلها مشحونة بسيمفونية من التوتر، تتناثر على كل وجه. لم يكن هناك حديث. لم يكن هناك تنفس بعمق. الجميع في الغرفة يعرف أن رضوان لا يرحم في هذه اللحظات.

بدأ الحديث، ولكن كلماته كانت كالسياط، تقطع كل لحظة في الغرفة:

"أنتوا هنا عشان تشتغلوا... مش عشان تضيّعوا وقت الناس. التأخير ده مش مقبول. التكاسل ده مش مقبول."

كل كلمة كانت كأنها تصطدم في الحائط، تترك خلفها صدى عميقاً. عيون الموظفين كانت مشدودة نحوه، يستمعون لتوجيهاته، يحاولون أن يلتقطوا أي فُتات من الأمل ليحافظوا على مكانهم. التوتر كان يزداد مع كل قسم يذكره، وكل اتهام يطلقه. كان يوجه اتهاماته واحدًا تلو الآخر، كما لو كان يضرب كل قسم على حدة بمطرقة من الكلمات القاسية.

بينما الجميع كان يركزون في حديثه، كان راشد، مدير قسم، يجلس في مكانه على أطراف الطاولة، يبدو أنه لم يكن يشارك بنفس القدر في التوتر الذي يملأ الجو. عينيه كانت بعيدة عن أعين رضوان، تنساب إلى الوراء، كمن يحاول أن يهرب من الواقع.

كانت يده تتلاعب في سلسلة مفاتيحه، بشكل لا إرادي. يفتحها، يقفلها، ينقلها بين أصابعه في حركات تكررت بشكل متسارع.
كما لو أن السلسلة هي الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يمسكه، يُشعره بالثبات وسط الدوامة التي يتخبط فيها ذهنه. كل لحظة كان يشعر فيها التوتر يزداد، وكان عقله يهيم بعيدًا عن الواقع المحيط به. كأن أي حركة صغيرة منه قد تشعل نار الغضب في رضوان.

كان يشعر راشد بأن الجلسة ليست كما المعتاد، وأن غضب رضوان كان يتسرب في الهواء مثل الدخان، يكاد يخنق الجميع. كان يلتقط أنفاسه بصعوبة، وفي كل لحظة كان يلاحظ أن رضوان يراقبهم، يعاقبهم بنظراته الثقيلة التي تَغمر الغرفة. عيون رضوان كانت تلاحق كل نظرة وكل حركة من كل شخص.
وكلما نزلت أصابعه على سلسلة المفاتيح، كان يشعر بأنها تعيد له بعض السيطرة، وإن كانت السيطرة على شيء تافه لا يهم في ظل هذا الجو المشحون.

رضوان كان يتنقل بنظراته بين الحضور، وبينما كان يتحدث عن التأخير والتقصير، كان هناك شيء غير مرئي يلتصق في الجو. كل كلمة تصدر منه كانت تترك خلفها تأثيرًا لا يُمحى. كان يستمتع في خنق كل محاولة للتهرب من الحقيقة.

وفجأة، شعر راشد أن عينيه تلتقيان مع رضوان، نظرة عابرة، لكنها حملت الكثير من الإشارات غير المعلنة. كل شيء في تلك اللحظة أصبح مكشوفًا. هو يعرف أن رضوان يعرف أنه غارق في تفكيره بعيدًا عن الاجتماعات، ومع هذا، لم يجرؤ على تعديل سلوكه.

-طبعًا، انت مش في دماغك كل دا، بتكلم نفسنا إحنا يا راشد بيه مش كدا؟!
كان صوت رضوان ثقيلًا كصخرة مدحرجة على صمت الغرفة، يحمل غضبًا مكتومًا وسخرية واضحة تنبعث في كل زاوية، كالنار التي تشتعل في عيون الجميع من حولهم. ورغم ذلك، لم يكن راشد فريسة سهلة لغضب رضوان ولا مزاجه العكر، بل ابتسم ابتسامة ساخرة، رافعًا أحد حاجبيه كما لو كان يفتح نافذة لتهوية غرفة مختنقة، ثم همهم بهدوء مستفز تحت النظرات المتسارعة التي كانت تترقب كل كلمة ينطق بها...
-لا، بس مظنش أن أنا وفريقي عملنا حاجة المرادي، قسم التصميم شغال بكل قوته الفترة دي، يعني إحنا بره طابور التأديب دا دلوقتي.

-لا والله، أمال فين تصاميم الشهر اللي مفروض تكون خلصت واتسلمت ودخلت حيز التنفيذ!

-التصاميم خلصت، واخدنا الموافقة عليها منك، لكن فريق التنفيذ رفض يستلمها، لأن ناقصها حاجة... مش كده يا أستاذة سلسبيل؟
كانت النظرة النارية التي أطلقها رضوان لسلسبيل كالشعلة التي تلتهم كل شيء في طريقها، تحمل غيظًا خالصًا وكأنها سكين مسموم في قلبه، خاصة وهو يراها جالسة مسترخية تمامًا، دون أن ترتعد من غضبه كالجميع. لطالما كانت هي البنزين الذي يزيد اشتعال نار غضبه، وكأنها تعرف كيف تُشعل قلبه بنظرة، وقد نجح راشد في الهائه بعيدًا عنه، حيث ألقى جمرة النار في حِجر سلسبيل، التي نظرت له بهدوء كزهرٍ نائم تحت نسمات الرياح، ثم قالت بصوتها الهادئ الذي يحمل رنة من الرقة والكسل...
-التصاميم كلها ناقصها الإبداع، مفيش فيه روح. شوية قماش مرسوم ملوش أي فكرة ولا إسقاط. من واجبي أرفض الشيء اللي مش حساه.

ضحك راشد وسط الأجواء المتوترة من غضب رضوان، وكأن الضحكة كانت قذيفة مدفعية تخرج من فمه لتزيد من اشتعال الموقف، وغمغم وهو يلقي نظرة خبيثة نحو رضوان وسلسبيل قائلاً...
-طبعا، طبعًا يا أستاذة سلسبيل، أستاذ رضوان أحسن حد يعرف إنك بترفضي الشيء اللي مش حساه، مش كده!

كان سؤاله الخبيث كالرعد الذي يزيد العاصفة شدة، مما أشعل غضب رضوان، فكوّر قبضته ككرة نارية في يده، ثم أغمض عينيه لحظة وكأنما يحاول تجنب انفجار داخلي، قبل أن يقول بصوت ثقيل، يحمل وعيدًا كأنما هو رعد يسبق العاصفة...
-كل واحد يرجع لشغله، وكل كلمة قولتها في الاجتماع تتنفذ، مفهوم؟!

كانت تمتمات الإيجاب تخرج من العاملين، وكأنهم غيوم في السماء التي بدأت تبرق، فوقفوا يخرجون من المكتب بحذر شديد، وكأنهم يخشون أن تقع عليهم صاعقة غضب أخرى، بينما كان رضوان جالسًا في مكانه، وعيناه الغاضبتان تركزان على سلسبيل، التي كانت تجمع أشيائها بهدوء، تتبادل الهمسات مع أحد زملائها، كعصفورٍ يطير في السماء، تعلم أنها تزيد جنونه، وتتعمد هذا.

انتبه رضوان على همسات خافتة خرجت ساخرًا من فم راشد، الذي اقترب قليلاً على أذنه قائلاً...
-مين يصدق أن الخدود دي هي اللي تخليك كده!
كانت إجابة رضوان عبارة عن نظرة حادة كالسيف، تبعها تعليق جاف جمد الجو وكأنما قلب الأرض تحت قدميه...
-إيه أخبار علا؟ صح، إزاي متعزمناش على خطوبتها؟

كانت النظرة الشامتة في عيون رضوان كبركانٍ يهدد بالانفجار في أي لحظة، تخبره أن هذه بتلك!
خرج راشد من المكتب وقد تبخرت سخريته، وحل مكانها الجمود والغضب المدفون تحت أسلوبه الهازئ، كالسحابة التي تخفي وراءها عاصفة قادمة.

كان المكتب يكاد يخلو من الجميع، لولا صوت رضوان الذي اخترق هدوء المكان، نبرته الغليظة التي أوقفت الحضور عند حافة التوتر. هتف بصوته الخشن:
-سلسبيل!

توقفت سلسبيل في مكانها، حركتها هادئة، بعكس بقية زملائها الذين ارتسمت على وجوههم تجاعيد القلق. أما هي، فظلت على وقفتها بثبات، بعينين لا تُظهران شيئًا سوى السكون، حتى أنها كأنما غابت عن هذا الحيز من الزمن، أو كأن المكان بأسره أصبح ملكًا لها وحدها. كانت تشعر بتلك الطاقة السلبية التي تدور حولها، ولكنها بقيت في صمتها.

وأعاد رضوان صوته الجاف، يردد أمره كالعاصفة:
-عايزك يا أستاذة قبل ما ترجعي مكتبك.

مضى الجميع، وبقيت هي في مكانها، تقف قرب الباب وكأنها نحتت فيه جذورها، عيونها مسلطة على ظهره، بينما كانت تشعر بتلك النيران التي تشتعل من خلفه، تحمل في طياتها لومًا لا مفر منه. تعرّفت على تلك النيران، على تلك النظرات التي لا تُخطئها أبدًا، فهو كان دائمًا هكذا. يختلق الذرائع ليطلق جحيم غضبه على الآخرين. هذا هو رضوان، ولا شيء يمكنه أن يغيره.

خرجت من شرودها على صوته الجاف، حينما التفت لها فجأة وغرّد بألم وحزن غير مُعلن:

إيه يا أستاذة سلسبيل، شايفك ساكتة مضايقة عشان أنا خليتك متطلعيش؟

ما كان يمكنها أن تُظهر أي انفعال، فاختارت الصمت المطبق، وكانت الكلمات التي خرجت منها كأنها جليد يكسو كل شيء حولهما.
-مش مهم، حاسة بضيق أو لا، حضرتك محتاجني.

هنا، أُسدلت بينهما جدران من الكلمات المتحجرة. كان الصوت الذي خرج منها أكثر جفافًا من الهواء، يُذكره بأنه كان دائمًا بعيدًا عنها. تجنبته بذكاء، لئلا يُخالطها عالمه المليء بالمتاعب والتهديدات المستمرة.

قبل ساعات قليلة، كانت تضحك بانطلاق مع زملائها، تنطلق تلك الضحكات البريئة التي تملأ المكان حيوية، وتشاركتهم لحظات تَفَجُّر الحياة. كيف لا، وقد كانت تحمل وردة حمراء في يدها، هدية من حبيبها.
ارتسمت على شفتيه ملامح الغضب المكبوت وهو يتذكر ذلك المشهد. نعم، لقد كانت تلك الهدية "المبتذلة" أمام الباب، بينما وقف ابن خالتها ليُوصلها. كم كان هذا المشهد عاديًا بالنسبة له، ولكنه كان يظل في قلبه كالسكاكين الحادة.

عادت هي لتسحب نفسها من غمرات الذكريات وتعود إلى أرض الواقع، حينما استشعرت غضب رضوان الذي كان يزداد كل ثانية.
-أستاذ رضوان، حضرتك محتاجني؟

وقف من مكانه، خطواته بطيئة وثقيلة نحوها، تلاحقها عيناه السوداوان، اللتان كانتا تحتويان مزيجًا من الغضب والتشكيك. وقف أمامها تمامًا، لحظة حاسمة في هذا اللقاء، يحدق في وجهها للحظات، قبل أن يقول بصوت مملوء بالتهديد المغلف بالهدوء:
-أظن إني قلتلك قبل كده، الشركة مش مكان للزيارات العائلية. لكنك كالعادة، بتحبي تكسري كلامي عشان تظهري قوية قدامي، صح؟

لم تُؤثر كلماته فيها كما كان يتوقع. بل، مرّت بجوارها كنسيم بارد. نظرت إليه هادئة، تحدق في عينيه الغاضبتين، وكأنها تراه لأول مرة. بعدها، تحدثت في جفاف مطلق، تتحدث وكأنها تُخرج الكلمات من باب السكون لا من باب الاحتجاج.

-مظنش إن حد من عيلتي جالي هنا الشركة من ساعة ما نبهت عليا في الموضوع دا.

ثم صمتت قليلًا، ثم أضافت، وقد بدا الغضب واضحًا في كلماتها التي ضغطت عليها بإحكام:
-صدقني يا أستاذ رضوان، أنا آخر حد عايزة أتحداك أو أثبت لك حاجة. أنا مش فاهمة أصلاً مشكلة حضرتك معايا.

أجابها بسرعة، وهو يحاول أن يخفف من حدة كلماته ليخفي توتره:
ووجود ابن خالتك قدام الشركة النهاردة الصبح دا اسمه إيه؟

أجابته ببساطة تكاد تكون تشعل غضبه دون أن تدري:
-اسمه كان بيوصلني الشغل، وقدام الشركة دا، يعني بعيد كام متر عنها. في قانون في الشركة يمنع كدا كمان؟

استشاط غضبًا، وكأنما على وشك الانفجار:
-بنستفزيني!

ردت عليه بنبرة لا تُظهر أي نوع من التحفُّز:
-أستاذ رضوان، أنا مش فهماك، ليه دايمًا بتشوف إني بستفزك أو بعصّبك؟ لو حضرتك عندك مشكلة معايا، ياريت تقولها. يمكن نحلها.

لكن غضبه لم يهدأ. قال لها بعنف مكتوم:
-يعني إنتي مبتعمليش كده، مبتتعمديش تعملي كل حاجة تعصبني؟

كان صمتها الجليدي هو الجواب الوحيد، قبل أن ترد في جفاء بارد:
-لا إطلاقًا، حضرتك في الأول والآخر مديري.

كلماتها الصادقة التي حملت رنة الحدة كي تقنعه بما تقول لم تداوي غضبه، بل زادت من اشتعاله 
لو كانت تتعمد اغضابه لكان أهون عنده من اللامبالاة التي تتعامل معه بها، تنهدت الصعداء وهو يلتفت مبتعدًا عنها ويتجه نحو مكتبه قائلا بضيق، وقد فاض كيله من برودتها نحوه....
-روحي على شغلك يا سلسبيل، روحي.

ردت عليه ببساطة كما لو كانت قد انتهت من هذه المحادثة:
-تمام يا أستاذ رضوان.

كانت سلسبيل تتحرك ببطء نحو مكتبها، خطواتها مطمئنة وكأنها قد خرجت من معركة دون أن تُصيبها حتى خدوش. كانت عيناها تُراقبان المكان من حولها، تحاول أن تستجمع أفكارها بعد ذلك التوتر الذي خيم على المكان، لكن كل تفكيرها كان يذهب إلى شيء واحد فقط رضوان. 

كان قلبها قد بدأ ينبض بشكل أسرع مع كل فكرة تتداعى إلى ذهنها حوله، لكن ذلك الهدوء الذي كانت تتبناه كان أداة دفاعها الوحيدة ضد تلك العواصف التي كان يطلقها في كل مرة.

وفي تلك اللحظة، حيث لم يكن هناك سوى سكون متسارع في المكتب، دخل رضوان فجأة إلى الممر الذي تتواجد فيه، كأنما كان ينتظر فرصة جديدة لاستفزازها. كانت عيونه شديدة التركيز، وعلى وجهه تعبير غامض، لم تستطع هي تحديده تمامًا.

-أنتِ مش رايحة على مكتبك؟ قالها بصوت منخفض، محاولًا أن يظهر اللامبالاة التي تشبه الهدوء الذي تبرع في رسمه.

سلسبيل توقفت للحظة، ثم أغمضت عينيها برقة، وأجابته بهدوء:
- هو لازم تعرف كل حاجه بعملها !

أجابها بصوت ناعم يخبئ تحته توترًا شديدًا:
-أنا مش عارفك ولا أعرف من فين جبتِ الجراءة دي، بس أنا...

توقف، وكأن الكلمات اختفت من فمه، وعيناه تهيمان في الفراغ. لحظة من صمت طاغٍ بينهما، كان رضاها وهدوءها يزداد وضوحًا في تباين صارخ مع غضبه المكبوت. ثم، وفي لحظة صمت أخرى، أضافت سلسبيل بصوت هادئ، كما لو كانت تُلقي حكمًا نهائيًا:
-حضرتك مش فاهم حاجة... أنا مش هنا عشان أثير غضبك، أنا هنا عشان شغلي. لو عندك مشكلة معايا، من الأفضل إننا نحلها بالطريقة الصحيحة.

رد رضوان وكأن كلماتها كانت بمثابة حجر صُدم به، فابتعد عنها فجأة وكأنما هو نفسه لا يريد مواجهة الحقيقة التي أخفاها طوال الوقت:
- متتصرفيش بغباء، الطريقة دي مش لائقة عليكي.

لكن قبل أن يكمل حديثه، كانت سلسبيل قد أدرَكت لحظة تحول المشهد، فقد غادرت بخطوات ثابتة، لم تسمح لاهتزازات رضوان أن تُؤثر فيها. وعندما همّت بالخروج، شعرت بشيء غريب في قلبها. شعرت وكأنها كانت على وشك كشف شيء عميق جدًا بينها وبينه، ولكن الأكيد أن شيء ما بينهما لا يزال في مكانه، في الظل.

وبينما كانت عائدة إلى مكتبها، شعرت به يهتف من خلفها بصوت أقرب إلى الهمس، ولكنها تجاهلته.
- اكدبي على نفسك يا سلسبيل، مش هتعرفي تنسي الي كان بينا مهما عملتي.

كلماته الصريحة أصابتها في مقتل
لكنها استمرت في السير، قلبها ينبض بخفقاته المعتادة، وعقلها يغرق في أسئلة لم تجد لها إجابة بعد.

وقبل أن تصل لمكتبها غيرت سيرها حتى قادتها خطواتها نحو حمام النساء تختبئ فيه من مشاعرها التي عادت تظهر على السطح من جديد، كانت مشاعر غضب وسخرية أكثر من خذلان أو حزن.

وقبل أن تصل لمكتبها، غيرت مسارها فجأة، كأن قدميها تقودانها رغمًا عنها، حتى وجدت نفسها تقف أمام باب حمام النساء. دخلت كمن تبحث عن مأوى من عاصفة مشاعر فاجأتها بظهورها، مشاعر دفنتها سابقًا تحت رماد العقل، وها هي تشتعل من جديد. لم تكن حزينة ولا مكسورة، بل مزيج غريب من الغضب والسخرية... كأنها تسخر من قلبها الذي ما زال يتأثر.

وقفت أمام المرآة، تتأمل ملامحها بعين مشوشة، كأنها ترى انعكاس امرأة أخرى... امرأة كانت يومًا ما أقرب لذاك الرجل الذي اختارت أن تعامل معه برسمية صارمة، لتخفي تحتها خيباتها. عقلها يستعرض لحظات كانت فيها مجرد فتاة ساذجة، تسير خلف قلبها، يعميها ضوء حب خادع وانبهار برجل كان يتمناه الجميع. رجل رحل، وترك الجميع خلفه، ثم عاد يحاول أن يثبت لها... كم كانت مرغوبة وجميلة، لا لشيء إلا ليطفئ نرجسيته.

أغمضت عينيها بقوة، وكأنها تحاول أن تعصر الألم خارج رأسها، تنفست بعمق... علّها تطرد تلك النظرات التي كانت تسحرها، وذاك الصوت الذي كانت تخشاه لأنه يعرف كيف يخترقها.

تنهدت بحدة، وأخرجت مغلف شوكولاتة من جيب بنطالها، فتحته بسرعة كمن يستغيث، وقضمت منه قضمة كبيرة، كأنها تقاوم رغبة في الانهيار. السكر في فمها لم يكن مجرد طَعم، بل كان أشبه بمحاولة إسعاف لمزاجها المتكسر من أثر رضوان... ذاك الرجل الذي يملك أن يعكر صفوها دون أن يلمسها.

قطع أفكارها صوت فريدة وهي تغسل كفيها وتضحك بخفة:
 – انتي يابنتي مش كنتي بتعملي دايت؟ كالعادة، ضعفتي بسرعة يا سلسبيل!

نظرت سلسبيل إلى انعكاس فريدة في المرآة. كانت فريدة مثالًا للرشاقة، كتفاصيل منحوتة بعناية. بينما هي... كانت مختلفة، تحمل جسدًا يفيض أنوثة ويكسوه اللحم. ليست من أولئك المهووسات بالوزن المثالي، وإن كانت يومًا منهن. كانت عازمة على فقدان الوزن بأي ثمن، حتى جاء رضوان... ليبدل معاييرها كلها.

تذكرت تلك اللحظة بوضوح، حين أخبرته أنها تتبع حمية قاسية. ضحك حينها، وتأملها طويلًا، بعين رجل يرى ما لا تراه في نفسها. ثم قال بخفوت، وعيناه تتنقل على قدها بتمهل شاعري:

 إذا تَمْشي تأوَّدَ جَانِباها
وكادَ الخَصْرُ يَنْخَزِلُ انْخِزالا
تَنُوءُ بِها رَوادِفُهَا إذا ما
وِشَاحُها عَلى المَتْنِ جَالا

جعدت جبينها وقتها بعدم فهم، وابتسمت بتوتر وهي تضحك قائلة:
 – وده معناه إيه ده؟!

ابتسم، وصوته يزداد رقة:
 – معناه إنك مش محتاجة دايت ولا أي كلام من ده. لو نزلتي كيلو واحد يبقى إهدار بصراحة.

ضحكت يومها بخجل، غير مصدقة لما سمعته. غزله كان واضحًا، مباشرًا... كأنه قصيدة نُسجت لأجلها وحدها. وكانت مصدومة، كيف لرجل مثل رضوان، تحيط به الجميلات كالفراش حول الضوء، أن يرى فيها هي تلك الفتنة؟ لم تكن ترى بعينيه إعجابًا بأي من هؤلاء، فقط... كانت هي.

عادت من شرودها فجأة، والبريق في عينيها لم يكن دمعة، بل شرارة خذلان وسخرية. حدّقت في مغلف الشوكولاتة بضع ثوانٍ، ثم ألقته في سلة المهملات بجفاء خافت: 
– عندك حق... كالعادة ضعفت.

ضحكت فريدة، تظن أنها تعني ضعف الإرادة تجاه الدايت. لكن سلسبيل كانت تقصد شيئًا آخر، شيئًا أثقل من الشوكولاتة وأمرّ من السكر... كانت تقصد قلبها، الذي لم يتعلم بعد ألا يضعف أمامه.
                               ***
كان الجو خانقًا، ليس فقط من حرارة الشمس التي كانت تتساقط على الأرض كالسياط، بل كان يملؤه أيضًا شعور من التوتر يلف الأجواء. كل خطوة كانت تخطوها نورا كانت ثقيلة، كأنها تسير في رمال متحركة، وكل جزء منها يرفض المواجهة. كانت الشوارع حولها مليئة بالناس، لكنها كانت تشعر وكأنها وحيدة في هذا العالم، تتخبط داخل نفسها.

لمحتها بمجرد أن دخلت:
هالة.
ابتسمت هالة ابتسامة مألوفة، قالت لها:
ـ "إزّيك يا نورا؟ وحشتيني والله، عاملة إيه؟"

نورا حاولت أن تبتسم، لكن الابتسامة بدت هزيلة على وجهها. أجابت بصوت خافت، يحمل في طياته خجلاً وتوترًا:
ـ "تمام الحمد لله، إنتِ أخبارك إيه؟"

كانت نورا تكاد تشعر بالألم وهو يعصر قلبها. كانت جالسة وهي تشعر بوزن الماضي يثقل على أكتافها، وتنتقل بعينيها بين هالة والمكتب الذي دخلت إليه. كانت خطواتها مترددة، وكأنها تسير إلى مصير غير معروف.

ـ "يلا تعالي معايا، المقابلة هتبدأ على طول."

صعدت معها إلى الطابق العلوي، حيث كان المكان يعج بالضوء، لكن الظلال التي في قلبها كانت أكبر من كل النور حولها. كانت أفكارها مشتتة، كل خطوة تقترب من المكتب كانت تحملها بعيدًا عن نفسها.

كان الجو في المكتب المكيف هدأ من حرارة توترها إلا أن شعور من الارتباك يملأ كل زاوية في الغرفة. نورا كانت جالسة على الكرسي، عينها تهيم في الغرفة، ولكن عقلها في مكان آخر تمامًا. كانت تسير بخطوات مترددة في بحر من الذكريات، غير قادرة على التركيز على الأسئلة التي كانت علا، التي كانت تجلس أمامها، تطرحها عليها، تشعر أنها رأت هذا الوجه من قبل 

خرجت من شرودها حينما سألت علا بهدوء، وهي تبتسم:
ـ "طيب، يلا نبدأ. إيه أهم خبراتك السابقة في العمل؟"

نورا ردت بصوت مختنق، عينها مشدوهة على علا، التي بدت جميلة أكثر مما تخيلت. جمالها كان يشع بثقة وحياة، لكن قلب نورا كان يرقص في وجع. ردت بصعوبة:
ـ "ما... ما اشتغلتش قبل كده."

كانت تلك الجملة كالسيف الذي قطع فمها، وحاولت أن تُبقي على هدوئها، لكن أعصابها كانت تتلف من الداخل، وقد تذكرت الان اين رأتها، كانت صدمتها حينما تأمبتها مليّا وتذكرت أنها ذات الفتاة التي كانت مع خطيبها السابق في الصور

أخذت علا نفسًا عميقًا، وكأنها تراقبها بحذر، ثم تابعت:
ـ "طيب، هل عندك خبرات تانية؟ أي تدريب سابق؟"

 كانت تشعر بصوت قلبها في أذنيها، ودموعها تكاد تنفجر. لكن كل ما استطاعت أن تجيب به كان همسة مخنوقة خرجت منها بصعوبة:
ـ "لا... لا."

أخذت علا تتساءل بأسلوب عملي وصريح، وكانت عيونها تلمع بالذكاء:
ـ "إحنا في الشركة بنحتاج ناس عندهم خبرة فعلية. الشهادات مش كفاية. لازم يكون في عندك خلفية عملية قوية."

وفي تلك اللحظة، انقبض قلب نورا، وعينيها ضاعتا في وجه علا، الذي كان يشع بكل ما كانت تفتقده هي. علا كانت خطيبة محمد، خطيبها السابق. كانت الوجه الذي سحب منها كل شيء، بلا رحمة. 
لقد سرقت منها سعادتها وأحلامها في طرفة عين

نورا شعرت بأن الأرض تدور بها، كأنها تغرق في بحر عميق من الذكريات والألم.
حاولت أن تحبس دموعها، لكن كانت الكلمات تأخذ منها القدرة على التنفس، لم تستطع مواجهة الفتاة الساحرة أمامها، لم تستطع سوى التفوه بكلمات ضائعة...
ـ "أيوه... أنا فاهمة."

لم تتمكن من الرد أكثر. فقط جلست صامتة، رغم كل الأسئلة التي كانت تتناثر حولها. كانت الأجوبة معلقة في حلقها، لم تجد الكلمات لتعبّر عن شعورها. علا لاحظت التوتر في عيونها، ولكن لم تزد عليها في الأسئلة.

لحظات من الصمت، وفي النهاية، قالت علا بصوت هادئ:
ـ بعتذرلك يا نورا مش هقدر أقبلِك في الوقت الحالي. محتاجة تشتغلي أكتر على تطوير مهاراتك، وعلى الخبرات العملية، عشان يكون لك مكان بيننا.

كانت الجملة بمثابة ضربة موجعة في قلبها. شعرت بالذل، وأحست كما لو أنها فقدت كل شيء في لحظة واحدة، وقد تخيلت أنها تقول تلك الكلمات لتبرر سرقة خطيبها منها، انها لم تكن كافية له ليظل معها، لم تكن مناسبة له !!

خرجت نورا من المكتب، لكن بدلاً من الخروج من الباب الرئيسي، كانت خطواتها تائهة. 
كانت مشاعرها ممزقة، وكل ما كان يطوف في ذهنها هو علا، كيف هي أفضل منها في كل شيء، وكيف كانت هي خطيبة محمد التي تركها من أجلها.

حاولت أن تهرب من كل شيء، لكنها وجدت نفسها تدفع بابًا صغيرًا إلى أحد الممرات الجانبية داخل الشركة، حيث لم يراها أحد. دخلت بسرعة، وكأنها تحاول الاختفاء عن الأنظار. جلست على السلالم، وانهارت. كانت دموعها تتساقط بغزارة، وهي تتذكر كيف تركها محمد من أجل علا، وكيف كانت تلك اللحظة التي اكتشفت فيها أن قلبها تمزق أمام عينيها.

في تلك اللحظة، كان ألمها يعصر قلبها أكثر وأكثر. كانت تشعر بالضعف، بالهزيمة، وكل رغبتها كانت أن تصرخ بأعلى صوت:
"أنتِ سرقتِ  مني! خطيبي، سرقتِ مني حياتي!"

لكنها لم تقدر على ذلك. كانت جبانة، غير قادرة على مواجهة علا أو حتى مواجهة نفسها. كانت هي الآن في مرحلة الهزيمة. حاولت أن تكتم صوتها، وأن تتنفس، لكن كان قلبها في حالة انهيار تام.

وبينما كانت تبكي، شعرت بشيء بارد يُمد إليها. رفعت رأسها بخجل، ووجدت شخصًا يقف أمامها، يمد يده إليها بمنديل. لم تكن ترى وجهه جيدًا بسبب الدموع التي كانت تغشي عينيها، لكن شعرت بحركة يده الهادئة. أخذت المنديل بسرعة، مسحت به دموعها وهي تكاد تكون غير قادرة على التحدث.
لم تقل شيئًا، فقط مسحت وجهها وشعرت بشيء من الراحة. لكنها كانت لا تزال غير قادرة على مواجهة الشخص الذي مد يده إليها.

بعد لحظات من الهدوء النسبي، رفعت وجهها مجددًا، ثم وضعت يدها على وجهها، محاولة أن تخفي ضعفها. نفضت رأسها قليلاً، ثم نهضت بخطوات متعثرة. كانت قد استجمعت بعض قوتها، لكن كانت تلك الخطوات تشي بأنها في حالة غير مستقرة.

في طريقها للخروج من المبنى، كانت خطواتها متثاقلة. كل من يراها كان يعرف أنها تمر بحالة من الضعف والحزن الشديد. وعندما خرجت من الباب الرئيسي، شعرت بنسمة هواء باردة تخفف من حرارة وجهها وتخفف من ثقل مشاعرها. على الأقل، شعرت للحظة بأنها قادرة على التنفس بحرية.

وصلت إلى شقتها، وأغلقت الباب خلفها بقوة، كما لو كانت تحاول إغلاق كل شيء خلفها. دخلت غرفتها وألقت بنفسها على السرير، كأنها تريد أن تختفي تمامًا. عيونها كانت مليئة بالدموع التي تساقطت دون توقف. كلما فكرت في علا وفي خطيبها الذي تركها، وكلما تذكرت كيف كانت حياتها تتناثر أمام عينيها، شعرت بالألم يزداد.

كانت تتمنى لو بإمكانها العودة إلى الوراء، تغيير كل شيء. ولكن ذلك لم يكن ممكنًا. لا شيء يمكنه أن يعيد الزمن. وفقط كان بإمكانها أن تبكي وتبكي، وكأن تلك هي الطريقة الوحيدة للتخلص من كل هذه الحِملات الثقيلة.

ومع مرور الوقت، غفت نورا على سريرها، وعينيها مغمضتين، لكنها لم تجد الراحة. بل كان النوم هو عذابها. تراودها الكوابيس... كانت ترى نفسها وحيدة في مكان مظلم، وعلا تقف هناك بابتسامة مشرقة، بينما محمد يمسك يدها. ومع كل خطوة تخطوها نورا نحوهم، كانوا يبتعدون أكثر. حاولت أن تصرخ، لكن صوتها كان ضائعًا في العدم.

استفاقت فجأة على رنين هاتفها. كان الصوت يشق سكون الغرفة المظلم. نظرت إلى الهاتف ببطء، وكأنها ترفض أن ترد على أي شخص. لكنها أخيرًا رفعت سماعة الهاتف.

"ألو؟"

كانت هالة، صوتها مليء بالقلق:
"نورا... في حاجة حصلت؟ ليه مشيتي فجأة؟"

نورا، بصوت ضعيف، وهي تحاول أن تكتم دموعها التي بدأت تتساقط مرة أخرى:
"مفيش حاجة... بس أنا مش قادرة أتكلم دلوقتي."

هالة، بصوت أكثر تعاطف قلق:
-نورا، الـ HRقالتلي انك متقبلتيش، بس دا يديكي دافع تطوري نفسك أكتر.

تنهدت نورا وهي تمسح دموعها وتحاول التماسك..
-أنا اسفة يا هالة قلقتك وتعبتك معايا.

-متقوليش  كدا يانورا، لو عوزتي اي حاجه كلميني هكون موجودة عشانك.

شكرتها نورا بكلمات مختصرة قبل أن تغلق الهاتف وتمسح وجهها بأنامل مرتعشة وأنفاس متعبة
كسر سكون الغرفة رنين هاتفها معلن عن وصول رسالة 
 استفاقت من شرودها، ورأت إشعارًا من إنستجرام. فتحت الرسالة بحذر، وكان المحتوى غريبًا.
 "لو عايزة ترجعي لخطيبك، كلميني. أنا هقدر أخليه يندم ويرجعلك."

هزت نورا رأسها بدهشة. "إيه ده؟" تساءلت بصوت منخفض. كانت الرسالة من حساب جديد، وحين دخلت على الحساب وجدت أنه لا يحتوي على أي معلومات تذكر. فقط صورة غامضة وبضع كلمات غريبة.

كتبت على عجل: 
"إنت مين؟"

مرت دقائق قليلة، وجاء الرد، لكن كان غريبًا هو الآخر: "ما فيش داعي تعرفي مين أنا. لو عايزة ترجعي لخطيبك، قولي أيوة، وأنا هخليه يندم."

تحت تأثير كلمات الرسالة، بدأ قلب نورا ينبض أسرع. كانت مشاعرها متضاربة، الأمل يعود إليها فجأة لكن أيضًا كان هناك شيء غريب في الموضوع. كانت تود أن تجيب بنعم، لكنها شعرت بالحيرة.

ردت بلهفة: 
"أيوة، أنا عايزة أرجعله."

جاء الرد سريعًا:
 "تمام. نتقابل واقولك ازاي"

فوجئت نورا، فتابعت تسأل: 
"لكن إزاي أضمن إنك مش شخص مش كويس؟"

كان الرد سريعًا:
 "مفيش مشكلة، لو مش مرتاحة يبقا مفيش قدامك فُرص تانية"

وقفت نورا لحظة، لا تعرف ماذا تفعل. كانت العاطفة تسيطر عليها، والدموع تكاد تخرج من عينيها مجددًا. فكرت في كل شيء بسرعة، ثم فجأة رنّ الهاتف مرة أخرى. الرقم كان غريبًا.

أجابت بصوت متقطع:
 -ألو؟

جاء الرد من الطرف الآخر، صوت رجل هادئ: 
-أنتِ نورا مهدي كنتِ خطيبة محمد، صح؟

تجمدت نورا في مكانها، قلبها يكاد يقف. 
-أنت إزاي عرفت؟

"أعرفه كويس، وعارف علا كمان، وبقدر أساعدك لو قررتِ إنك تتعاون معايا. مصلحتنا واحدة."

ارتبكت نورا أكثر، حاولت جمع أفكارها:
 -أنت مين؟ إزاي عرفت كل ده؟

أجاب الرجل بصوت غامض: 
-اللي يهمنا دلوقتي إنك لو موافقة، هتيجي الشركة الي كنتِ فيها انهاردا،  هتسألي على مكتب أستاذ راشد.

قلبها دق بشكل أسرع. 
-مكتب استاذ راشد؟ 

أجاب الرجل ببساطة:
 -أيوة، بالضبط.

ظل الصمت يسيطر على نورا لثوانٍ طويلة. قلبها مشدود بين الأمل والخوف، وهي لا تعرف إذا كانت تخطو خطوة في الطريق الصحيح أم لا. وأخيرًا قالت بصوت ضعيف: 
-تمام.

وبينما كانت تستعد لإغلاق الهاتف، كان الأمل يطفو في قلبها، رغم أن هناك شيء داخلها لا يزال مترددًا.



الفصل الثالث من هنا                     
تعليقات



×