رواية حين يهمس الحب الفصل الثالث 3 بقلم وسام اسامه

 

رواية حين يهمس الحب الفصل الثالث بقلم وسام اسامه



اتفاقات لا تجلب الأمل، ولا تمنع التعاسة.
................................................
( في هذا العالم الواسع، لم تستطع نيرفانا أن تجد مكان واحد تلتجئ إليه، بوابة الحب الكبيرة لم تمنع التعاسة التي تسللت إليها بغتة، لم يكن بكائها لأنها غادرت عالمها على حين غرة منها، فهي كانت وحيدة تمامًا، لا رفاق، ولا أنيس لها في صمتها.. لم يكن والدها قريب منها برغم أنه ملك محبوب بين شعبه، ولا والدتها الملكة الحنونة تجد لها وقت مناسب، لم تكن نيرفانا تجد نفسها سوى مع التنين الذي انتشلها من عالمها وجلبها لعالمه المحطم، ولم يكن من الصعب عليها التأقلم مع عالم جديد مليئ بالوحوش والتنانين، فهذا أفضل من العيش في عالم صامت بالصورة البطيئة، لا نكهة فيه ولا رائحة)

أبعد رامي جهاز " الايباد" عنه بذهول بعدما أتم قراءة النص المعروض أمامه، وخرج صوته مذهولا يحمل انبهار واضح...
- متأكدة ان الي كتب القصة دي "تمارا" !! 

-حركت أمنية راسها بإيجاب وهي تتنهد مطولا وفي عينيها نظرة فخر ممزوجة بقلق...
- تمارا موهوبة جدًأ، قعدت سنين تقرأ، لحد ما اكتشفت انها قادرة تكتب قصة بحبكة وأحداث متكاملة، ولحد دلوقتي كتبت تلات قصص في السلسلة دي، والسلسلة ليها رواج كبير اوي على المنتدى الي بتنزل فيه، وكتير أول نصحوها في المدونة انها تنشرهم ورقيًا.

تحول ذهول رامي لابتسامة راضية وهو يتأمل الجهاز أمامه يمرر الشاشة على النص ليجد المزيد من النصوص القوية والشيقة
إذأ تمارا الصغيرة تجد نفسها في كتابة الروايات الخيالية ومحادثة الجمهور بما يجري يدور في عقلها، تمارا الصغيرة الصامتة استطاعت إيجاد طريقة

أبعد رامي عينيه عن الشاشة وهو لا يزال مأخوذًا بما قرأه، وكأن النص قد حمله إلى بعدٍ آخر، بعدٍ كانت تمارا تسبح فيه وحدها منذ زمن.

تنهّد طويلًا، ثم نظر إلى أمنية بنظرة تساؤل حائرة يكرر سؤاله لمره التي لم يعد يحصيها.
– دي... دي فعلاً تمارا اللي كاتبة دا؟!

هزّت أمنية رأسها بالإيجاب، وابتسامة خفيفة حزينة تسلّلت إلى شفتيها.
– آه، ومقالتش لحد... أنا عرفت بالصدفة.

رمقها رامي باستغراب واضح، فتابعت بهدوء مشوب بالحذر:
– مرة خرجت ونسيت اللاب مفتوح، والنت شغال، وفضل صوت الإشعارات بيرن كل شوية، دخلت أشوف فيه إيه، لقيت المدونة مفتوحة. كانت لسه منزلة جزء جديد، والناس كانت بتبعتلها تعليقات وانبهار غير طبيعي... ساعتها فهمت حاجات كتير.

أطرق رامي برأسه قليلًا، وقد زادت دهشته عمقًا، ثم قال بنبرة بطيئة كمن يحاول تفكيك ألغاز قديمة:
– طب ليه مخبياهم كده؟ ليه متقولش إنها بتكتب؟!

تنهدت أمنية مرة أخرى، بنظرة مثقلة بالتفكير والقلق:
– علشان هي... بعيدة قوي، يا رامي.
مفيش حد يعرف عنها حاجة... حتى احنا، أهلها.
ملاحظاها من فترة. بتروح الكلية وتيجي كأنها بتكمل طقوس يومها من غير روح، مفيش صحاب، مفيش كلام... حتى لما تبصلك، بتحس إنها مش هنا... مش في الدنيا دي خالص.

صمت ثقيل خيّم على المكان، لا يُسمع فيه سوى أنفاسهما المتوترة. أطرق رامي برأسه قليلًا، يفكر، يحاول الإمساك بخيطٍ ينقذه من غرقه في التساؤلات. ثم تمتم بتردد:
– يمكن لأنها مبتتكلمش... بقت ردود فعلها مقتضبة، باردة... بس... مش طبيعية.

رفع عينيه إلى أمنية بنظرة ممتلئة بالقلق:
– هي... لسه بتتابع مع دكتور؟ مع عمتها يسر؟

هزّت رأسها نفيًا، وارتجفت ابتسامتها بأسى:
– وقفت من تلات سنين.
كانت يسر بتقول إنها مش بتستجيب خالص، مش بتتجاوب مع الجلسات، يسر قالت إنها قادرة ترجع تتكلم تاني، لكن مفيش استجابة منها.

هزّ رامي رأسه في شرود، وعيناه لا تزالان معلّقتين بجهاز الآيباد. لم يكن يقرأ الكلمات من على الشاشة فحسب، بل كان يرى فيها تمارا... الصغيرة، المكسورة، التي وجدت ملجأها الوحيد بين خيالات التنين والضباب، في عالم لا يُطلب فيه الكلام، بل يُسمع فيه صمت الأرواح.

كانت الشمس تميل إلى الغروب في هدوء يشبه انحناءة خجولة، تسللت أشعتها عبر زجاج النوافذ، تنثر وهجها على الجدران كأنها تحاول، في آخر محاولاتها اليومية، أن تذيب شيئًا من البرودة التي خيمت على البيت.

رائحة القهوة الباردة تملأ الأجواء، وكأنها شاهدة على حوار لم يبدأ بعد، وعلى زمنٍ لم يُسترجع بعد.

جلس رامي فوق الأريكة، يحيط بكفه كوبًا فقد دفأه منذ زمن، كما فقد هو دفء علاقاتٍ كان يظنّها ثابتة.
عيناه تائهتان في نقطة غير مرئية، وأمنية تتحرك أمامه بحذر امرأة تخشى أن توقظ في المكان ألمًا نائمًا.

كانت أمنية تحمل ملامح أمّ لم تلد، لكنها ربت، واحتضنت، ووجِدت دومًا حيث لا يجد أحد.
تبحث الآن في ذاكرتها عن الطريقة المناسبة لتقول ما يدور في قلبها منذ أيام.

ثم استجمعت شجاعتها، استدارت إليه وسألته بصوت ينضح ترددًا:
– رامي، طالما إنت موجود في مصر… ممكن تعملّي حاجة؟

رمقها بنظرة حائرة، حاجباه انعقدا تلقائيًا:
– خير يا منمن!

اقتربت منه ببطء، جلست في مواجهته كمن اختار المواجهة أخيرًا، لكنها ما زالت تفتقر للسلاح.
خفضت عينيها للحظة، ثم رفعت نظرها إليه وقالت:
– بلاش تتحاشى تمارا... بلاش تعاملها كأنها غريبة.

لمعت الدهشة في عينيه، كأنه سمع شيئًا لم يتوقعه:
– أنا؟ أتحاشاها؟

هزّت رأسها في صمت، نظراتها تشي بما عجز لسانها عن ترتيبه:
– أيوه... إنت بتتعامل معاها بحذر... كأنك شخص غريب عنها، مش أخوها زي ما انت أخو أمل !

شعر رامي بكلماتها تخترق منطقه الذي صنعه لنفسه، كأنها تهدم سياجًا شيده حول مشاعره.
أطرق برأسه قليلًا، حاول أن يجد مبررًا لا يبدو قاسيًا، قال بصوت مبحوح:
– أنا... حاولت. والله حاولت أكون طبيعي... بس هي عاملة حدود، حاطه حواجز... كل ما أقرب، تحسسني إني ضيف. ضيف مش مرغوب فيه. ومش حابب أضغط أكتر.

تنهّدت أمنية، وبدت تنهيدتها كأنها خرجت من خزان عمره سنين، خزّنت فيه خيبات وصمتًا وأسئلة:
– بس زمان... كنتوا قريبين. كانت بتحبك... بتتعلق بيك بشكل مش طبيعي.

رفع رامي عينيه نحوها، وفي نظرته شيء من الذكرى، شيء من الحنين لطفلة كانت تسير خلفه، تنظر إليه وكأنه عالمها.
طفلة كانت تراه الأمان، والصوت في عالمها الصامت.

تابعت أمنية، وصوتها يكاد يرتجف:
– سبع سنين غياب مش شوية. إحنا محتاجين نقرب منها من تاني، نرجعها لينا. هي مش بس متغيرة... هي منطوية، وغامضة، ساكتة دايمًا، وساعات ببقى حاسة إن فيه حاجة مستخبيّاها حتى عن نفسها.

في عينيها صدق أمومي لا يخيب، وفي صوتها رجاء امرأة ترى الانهيار يزحف على أحد أفراد عائلتها ولا تملك إلا الكلمة.

ظل رامي صامتًا للحظة، ثم قال بصوت بدا وكأنه يستجدي لنفسه تصديقًا:
– هي كبرت، وبقت ليها عالم خاص... وأنا بصراحة مش حاسس إن ليّا مكان فيه.

لكن حتى هو، لم يكن واثقًا إن كانت كلماته توصّف الحقيقة… أم تبرر انسحابه.

لم تجبه، فقط شعرت بالتخاذل يتسلل إلى أعماقها.
لم تكن تتوقع أن يكون رامي، الأقرب يومًا لتمارا، هو الأبعد اليوم.

وقبل أن تسود الغرفة موجة صمت ثقيلة، قالت:
– عشان خاطري يارامي، اوعدني انك تدوب الفجوة دي، انا بيصعب عليا شكلها وهي وحيدة لما بنتجمع كلنا، وانت وأمل مع بعض وهي لوحدها

تنهد رامي بثقل قبل أن يحرك رأسه ايجابًا، يعطيها إشارة خضراء عن موافقته لإبرام تلك الاتفاقية الثقيلة على قلبه.
ابتسمت فرحة واندفعت تقول بسرعة.... 
-
طب ما تروح تجيبهم من النادي؟ زمانهم خلصوا تمرين.

قال وهو ينهض بتريّث:
– أمل لسه بتتمرن السباحة، صح؟

أومأت برأسها، ثم قالت بابتسامة...
– وتمارا... بقت بتحب السكواش جدًا.

توقّف، كأن الاسم وحده أوقفه، ثم كرر باستغراب وابتسامة مترددة:

– اسكواش؟ دي جديدة…

لكن في عينيه كان شيء آخر، شيء أقرب للحيرة، أقرب لاعتراف داخليّ لا يُقال:
كيف كبرت تمارا؟
متى صارت شابة لها أسرارها؟ متى أصبحت غريبة عنه؟
لماذا يشعر، في كل مرة يراها، أنها تسكن عالمًا لا يعرف مفاتيحه؟

كان يراها الآن... لا كطفلة فقدت صوتها، بل كأنثى صارت لغزًا ناعمًا، هادئًا، لكنه غامض كالبحر قبل العاصفة.
وربما أكثر ما كان يؤلمه، أنه لم يعد يراها ببساطة... بل يراها "ولا يفهمها"، وهذا بحد ذاته وجع.

خرج من الغرفة بخطوات لا تصدر صوتًا، كما لو أنه يخشى أن يُوقظ ماضيًا نائمًا، أو مستقبلًا لا يجرؤ على مواجهته.
وفي داخله… تدور جملة واحدة 
الصغيرة كبرت وما عادت ترحب به كما الماضي
ولكن لم يجد له حيلة الا تنفيذ اتفاقه مع أمنية

 كان المساء قد بدأ يُلقي بظلاله الخفيفة على أروقة النادي، تنعكس الأضواء على الزجاج الواسع للصالات الرياضية، وتتناثر الأصوات هنا وهناك بين صخب الأطفال وضحكات المراهقين، لكن في قلب ذلك الصخب، كان رامي يسير بخطًى بطيئة، كأن قلبه يعرف تمامًا إلى أين يجب أن يذهب.

وقف أمام صالة السكواش الزجاجية، يراقب اللاعبين في الداخل، يفتّش بينهم عن وجه مألوف، إلى أن وقعت عيناه على تمارا...

كانت وحدها في الملعب، تمسك بالمضرب وكأنها تحاوره، لا تحاربه. حركاتها رشيقة، متزنة، أشبه برقصة أكثر من كونها تمرينًا. شعرها المرفوع بشكل عشوائي يتحرك بخفة مع كل قفزة، وكل ضربة، وكل التفافة جسد.

لم تكن تمارا تلعب فقط، بل كانت تهرب، تهرب داخل خطوط الملعب، داخل الصدى الذي يُعيد لها صوت الكرة وهي تضرب الجدار، كأنها تحاول عبر ذلك الصدى أن تسمع نفسها.

شعر رامي بشيء يتحرك بداخله... لم تكن تلك الفتاة هي الطفلة التي كانت تجلس بصمت بجواره منذ سبع سنوات. لقد تغيّرت. نضجت في صمتٍ لا يُفسَّر، وازدادت بعدًا بطريقة لا تُقاس بالأمتار بل بالمسافات التي تركها الصمت بينهم.

اقترب أكثر، وقف على الجانب الآخر من الزجاج، يراقبها دون أن تراه. لم تكن تعلم بوجوده، أو ربما علمت، لكنها اختارت أن تبقى داخل عالمها الصغير، دون التفات.

في عينيه، كان شيء من الدهشة، ومن الغربة، ومن... الإعجاب.

هي دي تمارا؟

همس في داخله. لم يتوقع أن يرى فيها هذا القدر من الثبات، والحدة، والانعزال المُتقن. فتاة لا تطارد أحدًا، ولا تنتظر أحدًا. كأنها اعتادت على الوحدة حتى روّضتها، أو لعلها سمحت لها أن تصبح جزءًا منها.

خرجت الكرة عن مسارها، فذهبت تلتقطها من طرف الملعب، وحين استدارت للحظة، التقت عيناها بعينيه من خلف الزجاج.

لحظة واحدة فقط... لكنها كانت كافية.

كافية ليشعر رامي أن المسافة بينهما ليست سبع سنوات فقط، بل سبع حيوات كاملة. نظرتها كانت باردة، حيادية، لكن في طرفها ومضة، كأنها تراجعت بسرعة خلف ستارٍ من اللامبالاة.

خفضت عينيها وعادت للعب، كما لو أنه لم يكن هناك.

أما هو، فبقي واقفًا في مكانه، يحدّق بصمت... يحاول أن يفهم.

من هي تمارا الآن؟
ولماذا يشعر، في كل مرة يراها فيها، أنه يقترب من شيء غامض، لكنه لا يستطيع لمسه؟

وقف رامي عند طرف الممر المؤدي إلى بوابة الخروج، تتردّد في داخله خطوات لم يحسم إن كان عليه أن يمشيها. كانت يده في جيبه، واليد الأخرى تمسك مفاتيح سيارته بتوتر خفي... كم تمنّى لو يملك مفتاحًا لما هو أعمق من الأبواب.

كادت تمارا تخرج من صالة السكواش، ملامحها محتقنة من الجهد، خصلات شعرها الهاربة جمعت كيفما اتفق في كعكة فوضوية، ووجنتاها ملوّنتان بحمرة الحياة. تسحب حقيبتها على كتفها، وتمسك منشفة صغيرة في يدها، وكأنها تسابق التعب.

ناداها بخفوت، كمن يخشى أن يكسر لحظة صافية:
– تمارا...

توقفت. استدارت ببطء نحوه.

لم تنطق. لم تبتسم.

لكن نظرتها وحدها كانت كفيلة بأن تربك سكونه.

تقدّم خطوة، ثم أخرى، وصوته يحمل رجاءً خافتًا:
– ممكن... نتكلم شوية؟

نظرت إليه، دون اعتراض، دون ترحيب... نظرة وسطى، لا تمنح ولا تأخذ، لكنها تنبض بكل ما لم يُقال.

اقترب حتى صار بإمكانه سماع أنفاسها، وتأمّل وجهها كما لو كان يقرأ نص قديم من كتاب أُغلق قبل الأوان.
– أنا... مش عارف أبدأ منين، بس كان لازم أقولك إنك محيراني... بجد.

صمتها لم يكن برودًا، بل صمت من تعوّد أن يسمع دون أن يُستَأذن، وأن يُنتَظَر دون وعد.

– زمان، كنتي أقرب ليّا من نفسي. كنتِ بتحبّي تبقي قريبة، بتحبي نقضي الوقت سوا... دلوقتي حتى عينك بقت فيها مسافة.

حدّقت فيه بثبات. في عينيها ألف سؤال، وألف جواب لا يُقال، لكنها لم تتفاعل معه، بل أشاحت وجهها وكأنها ترفض متابعة نقاش فارغ لا يهمها

تنهد بخفوت، وقال:
– أنا آسف اني معرفتش انزل اجازات زي ما وعدتك ، بس انتي كنتي بترفضي تكلميني 
مستحيل نرجع أصحاب تاني !

رفعت حاجبيها برفق، ولم تهز رأسها، لكنها مالت بجسدها ميلًا بسيطًا. حركة خفيفة، لكنها كانت كافية لتقول لا أبه لأعذارك ولا لصداقتك !!

قال بهدوء، بنبرة أقرب للرجاء:
– ينفع نبدأ من جديد؟ مش لازم تردّي، بس لو في يوم احتجتي تقولّي حاجة، حتى من غير صوت... أنا هنا.

جعدت جبينها وزاغت عينيها للحظات قبل أن تحرك رأسها بإيجاب علم أنه غير صادق، ولكن في عينيها كانت هناك نظرة استطاع التقاطها
كانت تخبره أنها تحمل له من اللوم الكثير... لكنها لا تعرف كيف، ولا متى، ولا ما إذا كان سيأتي يوم يمكنها أن تبوح فيه.

ابتسم ابتسامة صغيرة وقال بهدوء:
– تمام يا تمارا... أنا هافضل أحاول، حتى لو من بعيد.

ثم استجمع شجاعته فجأة، وقال:
– على فكرة... كنت بفكّر... إيه رأيكم نتعشّى سوا؟ أنا وإنتي وأمل... نسهر شوية برا؟ استأذنت باباك، ورحيم ما عندوش مانع خالص.

تمارا لم تتردد. حرّكت رأسها نفيًا، قاطعًا، لا يحتمل المناقشة.

أراد أن يسألها لماذا، لكنه رأها ترفع هاتفها له وقد كتبت بضع كلمات ليقرأها ويفهم سبب رفضها
" أمل مجهدة من التمرين، لازم تروح عشان تنام"

سكت رامي للحظات.وابتسم في تفهّم. كان يدرك تمامًا أن ما طلبته منه أمنية ليس سهلاً... لكنه سيحاول، كما وعد.

وفي الطريق إلى المنزل، جلس في مقعده خلف المقود، بينما كانت تمارا تجلس في الخلف، إلى جوار أمل التي غفت سريعًا.

كانت تمارا صامتة، وسماعات الرأس الكبيرة تحجبها عن العالم.

نظر إليها في مرآة السيارة.

سمرتها الذهبية تضيء في عتمة الداخل، خصلاتها المجنونة الهاربة تتدلّى من الكعكة غير المرتبة، وكأنها عابثة تُصر على أن تبقى حرة.

بدت له قريبة في المسافة، لكنها في الحقيقة... كانت في النصف الآخر من العالم.
في مكان لا تصل إليه الكلمات.
ولا يُفتح بالأبواب.
بل يُنتَظر.

ساد صمت طويل السيارة، لا يخترقه سوى صوت الأنفاس المرهقة وأزيز المكيف الخافت. كان الطريق إلى المنزل قصيرًا، لكنّه بدا ممتدًا كما لو أنه يجرّ خلفه كل ما لم يُقال بينهم.

ما إن توقفت السيارة أمام البناية، حتى ترجّل رامي بهدوء، ثم دار حولها وفتح الباب الخلفي. حمل أمل على كتفه كما لو أنها طفلته، يدها متدلية ووجهها غافٍ فوق صدره، بينما علّق حقيبتَي التدريب على كتفه الآخر دون أن يتأفف أو يشتكي. خطواته كانت واثقة، ثابتة... تمضي كأنها تعرف الدرب دون تفكير.

سارت تمارا خلفه، على مهل، تراقب تفاصيله بصمت. نظراتها انزلقت على كتفيه العريضين، على ظهره المستقيم، على طريقة حمله لأمل كأنها كنز ثمين لا يجب إيقاظه.

لم تكن ترى أمامها الشاب اليافع الذي غادرهم منذ سنوات. لم يكن ذلك الوجه الذي اعتادت أن تراه كل صباح، وتجد فيه وداعة الأخ وحنان الصديق.

لقد تغيّر.

صار رجلًا، بكل ما تحمله الكلمة من نضج وغموض وثقل. ملامحه اكتسبت صلابة، ونظرته باتت تحمل من العمق ما يربكها. ربما صار أوسم، نعم... لكنها لم تعد تألفه. شيء ما كان قد تغيّر فيه، شيء صغير... لكنها كانت تعرفه جيدًا، وتشتاقه أكثر.

قطع شرودها صوت مفتاح يدور في القفل، وصوت خطوات أمنية وهي تفتح الباب مستقبلة إياهم بابتسامة حائرة:
– مش قولتوا هتتعشّوا برّه؟!

أمال رامي رأسه جانبًا، ألقى نظرة خاطفة على تمارا قبل أن يجيب بصوت دافئ وهو يربّت بخفة على شعر أمل:
– تمارا لاقت ميلا تعبانة... قالت نأجّلها يوم تاني. مش كدا يا تمارا؟

لم تنطق تمارا، لكن عينيها زاغتا بعيدًا عنه. لم تجرؤ على النظر إليه مباشرة، خاصة بعدما رأته يُربّت على شعر أمل بتلك الرقة. الرقة ذاتها التي كان يخصّها بها، يومًا ما، حين كانت تفرّ إليه خائفة من الكوابيس أو تبحث عن الأمان.

توردت وجنتاها بحمرة خجولة، وألقت نظرة خاطفة تكاد تكون اعتذارًا، ثم انسحبت بصمت نحو غرفتها، كمن يهرب من ذاكرة باغتته على حين غرّة.

تابعها رامي بنظرة حزينة، ثم التفت إلى أمنية وهزّ رأسه نفيًا، إشارةً إلى أن محاولاته معها لم تؤتِ ثمارها.

تنهدت أمنية بصوت خافت، ثم قالت وهي تتوازن بأمل بين ذراعيها:
– ادخل اقعد مع رحيم شوية، على ما أدخل أمل السرير... وأحضّر العشا ناكل سوا.

همّ أن يعترض، لكن أمنية سبقته بخطواتها، كعادتها، تنفذ ما قررته دون انتظار رأي. فأغلق رامي الباب خلفه، وتنحّى جانبًا ليضع الحقائب، ثم تحرّك نحو الصالة حيث كان رحيم يجلس يشاهد التلفاز بصوت منخفض.

جلس إلى جواره، يحاول أن يشارك الحديث، أن يندمج... لكن باله ظل معلقًا وراء باب مغلق، حيث تمارا تقبع بصمت، تضع سماعاتها الضخمة لتفصل نفسها عن عالمٍ لا تعرف كيف تتعامل معه.

في مكانٍ ما خلف ذلك الباب، كانت هناك فتاة تحمل قلبًا مُثقلًا، وذاكرة مليئة برجل... لم يعد يشبه الصورة التي احتفظت بها كل تلك السنوات.

                             ***                                     
وقفت نور بتردد للحظات أمام المكتب وهي تغضن جبينها بقلق، شيء داخلها يحذرها أن ترحل في الحال، غصة كبيرة تسيطر على حلقها تمنعها من التنفس بشكل صحيح، فيوم أمس فقط كانت هنا، تنتظر للمقابلة الشخصية قبل أن تُصدم بمن يجريها معها، والان عادت لنفس المكان
 لتقابل " المجهول "

 الذي وعدها ان يجعل خطيبها يعود لها نادمًا !! 
ابتلعت رمقها بتردد وهي تستدير مستعدة للرحيل في أسرع وقت، ولكنها تسمرت في محلها للحظات وأنفاسها تضيق بصدرها، هي الان بصدد إضاعة فرصة حقيقة ليعود لها حبها الوحيد، فقط لأنها تخاف المهول، تخاف الحياة ومفاجأتها الغير سارة
تسمرت حظات، تتخبط بين الرغبة واليأس، بين الحزن والأمل، شيء يمزقها ويشئ يعدها بالحياة مره أخرى

لذا حسمت موقفها وهي تتنفس بعمق قبل أن تستدير مره أخرى وتتحرك بخطوات ثقيلة نحو المكتب الزجاجي تطرق على الباب بأنامل مرتجفة قبل أن يصلها صوت لين يحثها على الدخول، ابتلعت رمقها للحظات وهي تطلق تنهيدة مرتجفة وتمسك مقبض الباب الزجاجي وتدخل من خلاله، ليقابلها وجه دائري يعلوه نظارة ذات إطارات عريضة أخذت اكبر مساحة من وجه الفتاة الهادئة التي ابتسمت لها في دبلوماسية وهي تغمغم...
- أستاذة نورا !

جعدت نورا حاجبيها للحظات قبل أن تغمغم بصوت متقطع خافت ...
- ايوه، عايزة أقابل أستاذ راشد !
-أستاذ راشد منتظرك في المكتب، بلغني ادخلك أول ما توصلي.

برمت نورا شفتيها في توتر! إذًا المجهول كان متأكد انها  ستحضر بالرغم من انها بعثت له رسالة صباح اليوم تخبره أنها لن تحضر لأنها لا تثق به، ولكن يبدو انه واثق من خطواتها وحضورها لمكتبه كما اتفقا ليلة أمس

انتبهت من شرودها المتوتر على صوت الفتاة التي أعادت كلماتها بنبرة أعلى لتخترق حواجز شرود الأخرى....
-أستاذة نورا، أستاذ راشد في انتظارك.

حركت رأسها بإيجاب وهي تخطو للأمام ورأسها المنحني يسبق جسدها المتخاذل.. كانت تجر قدميها جرا حتى  دخلت  المكتب، وعينيها تتنقلان بين الجدران التي كانت مليئة برسومات غريبة أدهشتها، ألوانها المشرقة، المتداخلة، وكأن الفنان الذي رسمها كان يطلق خياله المتمرد دون قيود. الأحمر، الأزرق، الأصفر، الأخضر، كل لون كان يُخبئ وراءه قصة غامضة، يتراقص فوقه الطيف كما لو كان يعبر عن جزء من روح صاحب المكان.

 مشاعرها كانت متضاربة، بين الانبهار والدهشة، وبين شعور بالرهبة وكأنها دخلت إلى عالم آخر، بعيد عن كل ما كانت تعرفه.

كان المكتب فوضويًا، ولكن فوضى غير عادية، فوضى تشبعها الحياة في كل زاوية، على عكس الهيبة التي كانت تتحلى بها الشركة. كانت الجدران تنطق بالألوان بكل قوة، كما لو أن المكان نفسه كان يحكي قصة لا بداية لها ولا نهاية، فقط نقاط متشابكة تضعها أمام كل من يزوره ليكتشف سرها بنفسه.

لكن سرعان ما انقطع تأملها عندما سمعت صوت غمغمة ناعمة تأتي من الباب الداخلي، صوت هادئ لكن مُلحّ:
"ادخلي، واقعدي، متفضليش واقفة كده."

انتفضت نورا، قلبها كاد أن يقفز من مكانه، فهي لم تلاحظ وجود أحد في المكتب. قلبها بدأ ينبض بسرعة أكبر، وكأن الصوت كان يخترق جدار الصمت الذي يحيط بها، بينما كانت قدماها ثابتة على الأرض، غير قادرة على تحريك نفسها.

فجأة، انفتح الباب الداخلي ليظهر رجل خرج لتوه منه. كانت ملامحه غير عادية، ملامح تحمل شيئًا غريبًا، وحركاته تؤكد على أنه لا يلتزم بتوقعات الآخرين. كان يرتدي بنطال جباردين بيج وقميص أبيض، ولكن الأغرب كان أنه كان حافي القدمين، مما جعلها تشعر بنوع من الدهشة، وكأنها أمام شخص يتعامل مع العالم بطريقة مختلفة تمامًا عن أي شخص آخر.

كانت قطرات الماء تتناثر من شعره الذي بدا وكأنه خرج لتوه من حمام دافئ. كان وجهه الحليق يلمع برغم بساطته، وكأنه يعكس الضوء بطريقة غريبة. رفع المنشفة البيضاء ليجفف وجهه، بينما كانت خطواته الحافية تخطو بثقة نحو الأريكة، وكأن المكان ملك له، وكأنه هو الذي يحدد قواعده هنا.

جلس على الأريكة ببطء، وألقى جسده فوقها كأنه استسلم لراحة غير مُتوقعة، ثم نظر إليها بابتسامة هادئة، ولكنها كانت مبتسمة بحذر، وفي عينيه لمحة من التسلية الغامضة.
"اتفضلي يا آنسة نورا، واقفة ليه؟"

كانت كلماتها تلتصق بلسانها، غير قادرة على إخراج رد واضح. كانت تتأمل هذا الرجل الذي لا تعرفه، وكانت ترى فيه شيء لا يوصف، شيء يجذبها ويبهرها، لكنه في نفس الوقت يثير في داخلها قلقًا عميقًا.

 شعرت نورا بانكماشٍ داخلي، كأن الهواء من حولها قد تقلص فجأة، وكأن وجودها في هذا المكان الغريب جعلها تصغر، تتضاءل، تنكمش كما تنكمش ورقة في قبضة يد مغلقة. لكنها تماسكت، وسارت بخطوات حذرة نحو أبعد مقعدٍ منه، كأنها تتحسس الأرض تحتها، وجلست كمن يتوقع المفاجآت. 

كانت عيناها تلاحقه، تتأمله بنظراتٍ تختلط فيها الدهشة بالارتياب، والانبهار بالاستنكار، قبل أن يخرج صوتها أخيرًا، متحشرجًا جافًا، وكأن الكلمات تتسلل من بين حبالها الصوتية على استحياء:
– أنت اللي كلّمتني امبارح…؟

ابتسم، تلك الابتسامة التي لم تمنحها إجابة بل تركتها تتساءل أكثر، وقال وهو يسير بخطواته الحافية نحو مكتبه:
– تحبي تشربي قهوة؟ ولا من الناس اللي بتحب الحاجات الباردة زيي؟

رفعت حاجبها بدهشة طفيفة، تحمل في طياتها غرابة المشهد وشكوكًا لم تستطع إخفاءها، وهو يضغط زرًا في طرف مكتبه الأنيق بينما يرمقها بنفس الابتسامة، كأن وجودها ذاته مادة لدهشته هو. ومع أن ملامحه بقيت هادئة، إلا أن عينيه كانتا تنبضان بنفاد صبرٍ مكتوم، انتظارٌ متأهب لردها، مما دفعها لتمتمةٍ خافتة، خرجت من بين شفتيها الجافتين بنبرة أقرب إلى الجفاف منها إلى الرفض:
– شكرًا… أنا مش عايــ…

قاطعها دون أن ينظر نحوها، بصوتٍ رخيم لكن يحمل في طياته حسمًا لا يُقاوم:
– لأ، كلامنا هيطول… والواضح إنك محتاجة حاجة تهدي أعصابك. عصير فريش، مثلًا.

وقبل أن تتمكن من الاعتراض، أتاه صوت أنثوي ناعم عبر جهاز صغير أعلى المكتب:
– معاك يا أستاذ راشد.

رد بصوتٍ آمر رزين، لا يخلو من نعومة مدروسة:
– نونا، عايز اتنين عصير فريش.
ومحدش يدخل عليا غيرك.
ولو حد سأل عليا، قوليله مش فاضي.

أنهى المكالمة، ثم التفت إليها ببطء، ينقل بصره بين ملامح وجهها وثنيات حجابها، بتلك النظرة الفاحصة التي تحمل من السخرية أكثر مما تحتمل اللحظة. نظرة جعلت جبينها يتجعد من الضيق، ويدها ترتفع بسرعة عفوية لتعيد خصلاتٍ متمردة تسللت من مقدمة حجابها إلى مكانها.

سادت لحظة صمت ثقيلة، كأن الهواء ذاته كان يراقب.
ثم قررت نورا أن تكسره، رغم تلعثم الحروف على طرف لسانها:

– ممكن ندخل في الموضوع اللي جيتلك عشانه؟
انت تعرف محمد منين؟ وإزاي تقدر ترجعهولي؟

ارتفعت زاوية فمه بابتسامة خفيفة، لم تكن فرحة، بل كأنها استجابة داخلية لسؤال ساذج، وكأن ما تعرفه من العالم لا يتجاوز أطراف أصابعها، بينما ما يعرفه هو… أعمق مما تتخيل.

 ساد الصمت كأن الزمن نفسه توقف، لا شيء سوى أنفاس ثقيلة تتردد بينهما، ونظرات تائهة تحاول أن تمسك بخيوط الحقيقة.

ثم جاء صوته، قاطعًا الصمت كسيف حاد يشق الضباب:
– آه، أعرفه.
كانت كلماته قليلة، لكنها ثقيلة كالجمر، لا تفسح مجالًا لأي تساؤلات جانبية، كأنه أغلق الباب على كل شيء إلا الحقيقة العارية.

لم تنتظر نورا، خرج صوتها الثاني مرتعشًا كأن روحها تتعلق به، صوت يحمل بين طياته مرارة، ويحاول التماسك كما تحاول زهرة أن تصمد في وجه العاصفة:
– وتعرف اللي خطبها طبعا، ما هي بتشتغل معاكم.

نظر إليها حينها، وقد احتقن وجهها باحمرار موجع، لونته دموع انطلقت في خط مستقيم على خديها، كما لو أن الألم ذاته اتخذ شكلًا ماديًا. كانت تضغط شفتيها بقوة، تحاول أن تمنع شهقة غادرة من الهروب، وكأنها إن خرجت ستفضح ما تحمله من انكسار.

راقبها راشد في دهشة، لم يكن يتوقع أن يرى دموعها بهذا السرعة. لم يكن يتوقع أن يتجسد الفقد بتلك الطريقة الفاضحة، على وجه فتاة لم تنطق إلا بجمل قليلة.

ثم جاء صوته، مختلفًا هذه المرة، جديًّا، حزينًا، لا أثر للهزل فيه:
– خطيبِك دي كانت حبيبتي… وكان المفروض نكون إحنا اللي مخطوبين دلوقتي.

ارتجفت ملامحها للحظة، عقدت حاجبيها تحاول استيعاب ما سمعته، فهل كانت تقف أمام خَصم قديم؟ رجل كُسر مثله قلبه، وأُلقي به في هاوية الأسئلة التي لا تجد إجابة؟
كيف لرجل بهذه الجاذبية، بهذا الثراء، وبهذا الحضور الطاغي، أن يُستبدَل؟ أن يُترك؟

هزّت رأسها في ذهول، تحاول صدّ الأسئلة عن عقلها، لكنها كانت تتدافع في جنون، وتذكر.

وقبل أن تستسلم لدوامة الظنون، جاء صوته مرة أخرى، يقتلعها من أفكارها:
– أنا وعلا أصحاب من الطفولة، ومع الوقت بقينا أكتر من كده... ولما أخيرًا قررنا نكمل سوا، جه في حياتها خطيبك…

تنهد، وكأن قلبه ضاق بالكلام:
– وقتها رجّعتلي الخاتم… وقالتلي إنها لقت الحب الحقيقي… وإن اللي كان بينا ماكانش حب بجد… وإنها مش قادرة تكمل معايا وهي مش مبسوطة.

نظرت إليه بذهول، وخرج صوتها متهدجًا، محمّلًا بالوجع:
– محمد قالي كده برضو… وهو بيسيبي.

تجاهل انفعالها وكأنه لا يريد أن ينزلق خلف العاطفة، ثم أكمل، بصوت يحمل مرارة ساخرة:
– بس أنا عارف… عارف إنه مش هيسعدها، وعارف إنها هتفوق، وهتزهق، وهتسيبه.

"وانتا هترجعلها عادي !" 
كاد سؤالها يندفع منها مستنكرا ولكن ترددت أنفاسها، حاولت الرد لكنها عجزت، فسبقها هو بسؤال مفاجئ، عينيه تلمعان بدهاء: 
–وانتي… مش ناوية ترجعيله؟

همست، وكأنها تعترف أمام نفسها أكثر منه:
– الوضع مختلف… أنا… أنا بحبه.

غادر راشد مقعده واقترب منها في خطوات هادئة، جلس بجوارها ومدّ يده بمنديل أبيض تفوح منه رائحة عطر راقٍ، رائحة تلامس الذاكرة قبل الأنف.
– وإيه اللي خلاكي تحكمي عليا إني مبحبهاش؟

أخذت المنديل بأصابع مرتجفة، تمسح به آثار دموعها، تحاول أن تسترد بقايا كرامتها، أن تخفي ارتباكها خلف قناع من الجمود، ثم تمتمت:
– أنا محكمتش… إنت قلت إنك عندك حل.

تأملها طويلاً، نظرته تمحص، وكأنه يحاول قراءة ما بين السطور، ثم قال:
– الواضح إن خطيبِك شخص هوائي… بيمل بسرعة… زهق من العلاقة، ولف على واحدة مختلفة تمامًا عنك، واحدة زَيّ علا…

تصلبت تعابير وجهها، وقد شعرت بالإهانة تنساب في كلماته رغم نبرته الهادئة.

فاستدرك، بابتسامة جانبية خبيثة وهو يرفع حاجبيه في خفة:
– أنا مش قصدي، أكيد انتي مدركة إنك مختلفة عنها… انتي جميلة، بس الجمال لوحده مش كفاية يخلي الراجل يكمل، الملل كفيل يقتل اي حاجه.

هنا، انتفضت من مقعدها بعنف، كأن كلماته طعنت كبرياءها، صوتها خرج حادًا، مشدودًا كوتر مشدود على وشك الانفجار:
– إنت متعرفنيش عشان تحكم عليا إني مملة! يمكن علا فيها كل اللي إنت شايفه، بس أنا كمان ليا شخصيتي، ليا مميزاتي، وليا عيوبي، ومش من حقك تحكمني… ولا من حق أي راجل تقيمني!

وقف قبالتها، نظرته مشاكسة، وابتسامة خبيثة ترتسم على وجهه كأنها وُلدت مع كل تحدٍّ جديد يراه أمامه، تمتم وهو يغمز بعينه:
– كده يبقى في أمل.

كادت ترد بما تحمل في صدرها زوبعة من الغضب، لكن طرقات ناعمة قطعت اللحظة.
دلفت فتاة ذات نظارة دائرية، تقول بهدوء يشبه الاعتذار:
– بعتذر على المقاطعة.

تناول راشد كوبي العصير منها، ومدّ يده بأحدهما نحو نورا وهو يقول مبتسمًا:
– روّحي خدي البريك بتاعك يا نونا.

خرجت الفتاة، وأُغلق الباب، تاركًا نورا وحدها مع هذا الرجل الذي كلما تكلم دهس مشاعرها وألقاها في محرقة الواقع.

فعاد يخطو نحو نورا بهدوء العارف بنوايا نفسه، ووضع كوب العصير أمامها برقة، ثم جلس قبالتها من جديد، ولكن هذه المرة... عيناه لم تبتعدا عن عينيها.
سألها بنبرة خافتة، ولكنها مشبعة بالثقل:
– تحبي نبدأ الجد؟

لم ترد، فقط رفعت الكوب ولم تذقه، وكأنها تحاول الاحتماء بشيء ملموس من ارتباكها الداخلي.

أسند راشد ظهره واستند بكفه إلى ذقنه، وقال بهدوء يشبه صفعة ناعمة:
– ممكن أرجّعه... لكن لازم نلعب لعبة صغيرة.

رفعت عينيها بسرعة، تحمل بين رمشيها خليطاً من الحذر والفضول. همست:
– لعبة؟

– بالظبط. نخلّي علا تفتكر إنك تخطتيه وإنك خلاص... لقيتي حب جديد، الي هو انا.

جاءت كلماته كالماء البارد على جرح لم يندمل بعد. لكنها تماسكت، أجبرته على الصمت بنظرة متمردة، تمرد الجريحة التي أُنهكت من الضعف.

همست بصوت متردد، كمن يخشى سماع نفسه:
– يعني... نمثل؟

– هنمثل إننا مع بعض. صور، خروج، قصة حب عظيمة بدأت بعد خزلان تافه

– وانت... هتستفيد إيه؟

ابتسم، لكن ابتسامته خلت من أي دفء.
– هخليها تندم. بس بطريقتي.

ثم أضاف بنبرة أعمق، كأنه يفتش في شيء ما داخلها:
– وانتي؟ مش عايزة محمد يرجعلك طاير في حضنك ؟ مش عايزة تحسي إنك انتي اللي كسبتي في الآخر؟

صمتها طال، لكن الصراع ظهر جليًا في عينيها. كانت تقلب في عقلها كل وجع، كل خيبة، كل ذكرى... هل تستسلم لهذه اللعبة؟ أم تهرب قبل أن تفقد ما تبقّى منها؟

تمتمت أخيرًا بصوت هامس كأنها تسأل نفسها:
– طب ولو اللعبة قلبت حقيقة؟

هنا فقط، اقترب راشد قليلًا، خفض صوته حتى كاد يلامس جدار روحها، وقال:
– لو قلبت... يبقى كل واحد يتحمّل تمن لعبته.

 ابتلعت نورا ريقها بصعوبة، أحست بكلماته تتغلغل لداخلها، تُربك ذلك الجزء منها الذي ما زال يحاول تصديق أن محمد قد اختار غيرها، وأن الحب الذي عاشته بكل صدق كان قابلاً للاستبدال.

رفّت بأهدابها سريعًا محاولة كبت تلك الدمعة التي تهدد بالانهيار، ثم تمتمت بنبرة مجروحة لكنها تحمل في طياتها شيئًا من الكبرياء:
– انت بتتكلم كأن المشاعر دي ممكن تتحط في شنطة وتتغير حسب الخطة.

رفع راشد حاجبًا ساخرًا، ومال بجسده قليلًا للأمام، كأن قربه قد يمنحها فهمًا أعمق لما لا تُريد تصديقه:
– انتي شايفة إن المشاعر دي اتحافظ عليها؟
محمد سابك وراح لعلا، وهي سابتني وراحتله...
الموضوع ما بيوجعش بس علشان انتهى.

ثم أردف بهدوء قاطع:
– اللي زي محمد مش بيرجع عشان انتي عيطتي، بيرجع لما يفتكرك صعبة الوصول...
لما يحس إن غيره شاف اللي هو مشافهوش.

تسارعت أنفاس نورا، تشبثت بالكوب دون أن ترفعه لشفتيها، وعلقت عيناها على الطاولة، وكأنها تخشى أن تلتقي بعينيه فتُفصح عيناها عما تعجز عنه حنجرتها.

همست بعد صمت ثقيل مكتئب:
– ولو ما رجعش؟ ولو اللعبة خلّتني أخسره أكتر؟

صوته جاء أهدأ مما توقعت، كمن اعتاد خيبات القلب حتى بات يحنو عليها من مسافة:
– يبقى اللعبة فضحت الحقيقة، وانك مش فارقة معاه اصلا...وساعتها مش هتكوني خسرانة، هتكوني تحررتي.

ارتفعت نظراتها إليه أخيرًا، كان يرمقها بجدية لأول مرة منذ بدأت هذه المقابلة، لا سخرية، لا تلاعب... فقط نظرة لرجل انكسر، يحاول أن يصنع من الانكسار خطة جديدة للنجاة.

سألته بخفوت، ونبرة شبه مستسلمة:
– وإمتى نبدأ؟

ابتسم راشد ابتسامة باهتة، كمن يعرف تمامًا كم ستتغير حياتهما منذ تلك اللحظة، ثم قال:
– اعملي حسابك إن دورك كمكسورة خلاص انتهى.

كادت تندفع به بحده ولكنه أوقفها بكلمات هادئة حاسمة لا تقبل خلاف...
-لازم تيجي على نفسك، وتتماسكي شويه

وقفت ببطء، أناملها تقبض على المنديل في يدها كأنها تمسك آخر ما تبقّى من ضعفها. ثم نظرت إليه مطولًا، بنظرة لا تخلُ من الحذر، ولا تخلو من الشجاعة.
– ولو كل الي انت بتعمله مجابش فايدة، هنكون استفدنا ايه !

جاء رده وهو ينهض بدوره بخفة، ينظر إليها كمن يعقد اتفاقًا غير مكتوب:
– عن نفسي مبخسرش

ثم أشار للباب بهدوء وكأنه يمنحها مهلة أخيرة قبل أن تبدأ اللعبة:
-لو عايزة تنسى المقابلة دي كلها، لسه معاكي وقت.

طالت لحظات صمتها المتردد، قبل أن ترفع وجهها له وتقول بإيجاب خافت...
-أنا موافقة، لكن مش عارفة ممكن يبدأ ازاي !

-متقلقيش أنا عارف هيبدأ ازاي، من بكرا هتكوني موجودة هنا، وأظن دي أحسن بداية للقصة الي هنقولها

استدارت نحوه بدهشة، فتابع ببرود وهو يتجه نحو مكتبه:
– مش منطقي نعلن بحاجه زي دي من غير ما يبقا عندنا سبب قوي يوقعنا في حب بعض، والا هعرفك منين اصلا !!

فيه منصب فاضي في قسم العلاقات العامة... مناسب جدًا لوحدة زيك.

– أنا اختصاصي مش علاقات عامة

– مش مهم... المهمة مش في المهارات دلوقتي، المهمة إن كل الناس تشوفك جنبي.

سكت لحظة، ثم أضاف بنبرة مموّهة فيها تحدي هادئ كسول كصاحبه:
– وخصوصًا شخص واحد.

صمتت، وعيناها تتشبثان بنظراته التي خلت من كل أثر للتسلية أو العبث. لم يبقَ فيها ما يُشبه ما اعتادت، فقد تحجّرت ملامحه فجأة، وتبدّل وجهه كأن شيئًا ما انكسر في داخله.

تجعد جبينها بقلق، تتأمل ذلك الرجل الذي يقف أمامها، لم تكن تعرفه... ولا تطمئن له، رغم الكياسة التي أظهرها لهل، ولكن كيف تثق به بهذا الوجه، ولا بهذه القسوة التي تسللت إلى عينيه.

راودها خوف خفي، دفعها للتفكير بالهرب، أن تدير ظهرها وتركض بلا التفات. أن تهرب من هذا المكان، ألا تعود إليه أبدًا.
لكنها لم تفعل.

كانت يائسة، مستسلمة، لا تملك شجاعة الهرب، ولا جرأة المواجهة.

فقررت أن تسلم أمرها لهذا الغريب...
الرجل الحافي، ذو العينين اللتين تشبهان عيني ثعلب وديع، وإن خفي وراء وداعتهما فِعل الغدر.

                             ***

كانت الشمس قد سحبت خيوطها الذهبية من سماء الإسكندرية  حين عادت غزال إلى شقتها بصمتٍ مثقل. كانت تعلم أنه عاد اليوم، وأن الجميع بانتظاره، لكن قلبها لم يحتمل مواجهة المشاعر المتضاربة.

 أرسلت شادن إلى بيت جدتها، واختلقت حاجةً ملحّة للراحة. الحقيقة أنها لم تكن تُريد سوى الهروب... من كل شيء، حتى من شوقها.

صعدت للطابق العلوي وأغلقت الباب خلفها، وكأنها تُغلق على قلبها، وخلعت عنها ملابس اليوم وثقل الأيام الماضية، تستعد لحمام فاتر يزيل عنها إرهاق يومها ولو قليل. 

بدأ الماء ينسكب على جسدها مثل وعدٍ قديم بالسكينة، لكنها خرجت من الحمام بذات الضيق، لم يتبدد.

ارتمت على الفراش، جسدها مُنهك، وقلبها أكثر إنهاكًا. حدقت في الفراغ، لا شيء يُسليها سوى استرجاع الليالي الطويلة التي انتظرت فيها عودته، بشغفٍ وشجن. مرّ طيفه في ذاكرتها، في ضحكته، في همسه، في ملامحه التي تعرفها أكثر مما تعرف نفسها.

مدّت كفها ببطء، تتحسس المكان الفارغ بجانبها. كم مرّة احتضنها فيه؟ كم مرّة تركه بارداً ورحل؟

تنهدت، وعبثت أطرافها بالفراش، تبحث عن شيء من دفئه القديم.

رغم شوقها، كانت تعلم أنه لن يدوم... أن سلطانه الحقيقي هو عمله، وأن حضورها في حياته يأتي دومًا في المرتبة التالية.

وغلبها الإرهاق. استسلمت للنوم دون مقاومة، وكأنها أخيرًا سمحت لجسدها أن يخون عنادها.

استيقظت على همسات ناعمة، ودفء مألوف يلف كتفها. قبلات خفيفة، مُلحّة، كأنها تحاول إحياء الذاكرة في الجلد.

تململت، بين الحلم واليقظة، إلى أن تغلغل صوته العميق في أذنها كهمسٍ قديمٍ تحبه وتخشاه.
– جالك قلب تنامي وانتي عارفة إني جاي النهارده؟ كده يا شروق... قلبك قسى عليا.

صوته... نفس النبرة التي كانت تذيبها من أول كلمة، لا زالت تحمل دفء اللهفة ومرارة العتاب الناعم.

فتح عينيها على مهل، وقد استدار بها إليه بحنو. عيناها ارتطمتا بعينيه، وشيء في صدرها ارتجف.

كان كما تركته، وكأنه لم يغِب... لكنه لم يعُد كما كان.

تأملته في صمت، اشتاقت إلى ملامحه، إلى صوت أنفاسه، حتى إلى نظراته المليئة بالأسئلة والإجابات. لكن شيئاً ما تغيّر. الشمس لوّحت بشرته أكثر، ملامحه ازدادت صلابة، أما شعره... فقد عاد قصيرًا، رغم توسلاتها ألا يقصه.

قرأ ما يدور داخلها قبل أن تنطق، ابتسم وهو يُمرر أصابعه على وجنتها بلطف:
– مينفعش يطول أكتر من كده... كان لازم أقصه.

هنا، استدارت عنه ببطء، وغضبٌ دفين عاد للظهور من بين ثنايا اشتياقها.

قالت بخفوت، كمن تُعاتب نفسها أكثر مما تعاتبه:
– كل حاجة بطلبها متنفعش... مفروض أتعلم مطلبش تاني.

تجمّد في مكانه، وكأن تلك الكلمات اخترقت صدره دون إذن. حدّق في ظهرها بدهشةٍ وانزعاجٍ مكتوم، ثم قال بصوتٍ مائلٍ إلى الحِدة المغلفة بالدهشة:

– يعني إيه؟ بتكلمي عن إيه يا غزال؟

لم تجب. ظلت على وضعها للحظات قبل أن تعتدل من نومتها، جلست توليه ظهرها كأنما الثقل داخلي، لا جسدي. هو لم يكن معتادًا على صمتها في حضوره، ولا على ذلك التباعد المبهم الذي يتسلل من بينها وبينه.

تقدم خطوتين، وخفّض صوته في محاولة للمسها دون أن يلمس:
قوليلي بس يا غزال مالك، ليه بقيتي تتكلمي بالألغاز كدا !

-مفيش حاجه ياسلطان، انت كلت عند ماما تحت ولا احضرلك حاجه

أنهت كلماتها وهي تقف مبتعدة عن الفراش تمامًا ومع كل خطوة لها تزيد حجم الفجوة بينهما أكثر اندفع سلطان يمسك رسغها يمنعها من البعد أكثر وهو يغمغم بضيق واضح...
 -اكل ايه دلوقتي، في ايه ياغزال.

كانت تكافح ألا تدع سيل دموعها يغمر وجنتيها، لكنها فشلت، فالعين فضّاحة، والقلب المثقل لا يعرف الخداع طويلًا.

حاولت سحب يدها من قبضته، لكنه تمسك بها، وكأنها الحبل الأخير بينه وبين الطمأنينة، وهو يسألها بنبرة ضيقٍ مشوب بالقلق:
– في إيه يا غزال؟ 

هزّت رأسها، ولم ترفع عينيها إليه، وكأنها تخشى أن تنكشف، أو أن تنطق بشيءٍ لا تريده أن يسمعه.
– مفيش حاجة يا سلطان... سيبني لو سمحت.

كلمتها الأخيرة خرجت هامسة، لكنها قاطعة، فترك يدها ببطء، تتأمله في حيرة. كان سلطان يعرفها... أو ظنّ أنه يعرفها، لكن تلك النظرات الجديدة، وذلك الجدار الصامت الذي أقامته حول نفسها، كانا جديدين عليه.

ابتعدت عنه، ودخلت إلى الحمام دون كلمة أخرى، وتركته واقفًا هناك، وحده، في منتصف الغرفة، وشيءٌ ما في نفسه ينبهه بخطأ ما يحدث

جلس على طرف الفراش، يحك جبينه بكفه كما اعتاد حين يحتار. لا شيء واضح، ولا كلمات صريحة، فقط شعور بالخذلان يُغلف كل شيء.

همس لنفسه بقلق واضح: 
- إيه اللي حصل؟ إيه اللي مغيرك كدا يا غزال...

ثم مال إلى الخلف وأسند ظهره إلى الجدار، ينظر نحو الباب المغلق ينتظر خروجها بفارغ الصبر

غادرت الحمام ببطء، تمسح بقايا الماء عن وجهها، تُخفي بيدها ما فضحته دموعها. كانت ترتجف قليلًا، لا من البرد، بل من التوتر المتراكم منذ شهور. نظرت إليه في طرف الغرفة، وجدته كما تركته... جالسًا على طرف الفراش، مائل الرأس كأنما يحمل الدنيا فوق كتفيه.

لم تستطع المضي أكثر. نظرت نحوه للحظاتٍ، ثم دلفت إلى فراشها دون أن تنطق، واستدارت بظهرها كما اعتادت حين يغلبها الزعل.

لكن سلطان لم يكن باردًا تجاه ذلك الصمت، كان يدرك أن وراءه موجًا من الألم، لم يُكشف له. اقترب منها، وبدون كلمة، جلس خلفها على السرير، ثم مد ذراعه ليحيط خصرها، فتوتر جسدها للحظة، ثم تراخى... لم تبعده، لم ترفضه.

ضمّها إليه بحنوٍ لا يشبه حدّته المعتادة، وكأنه يخبرها دون كلام أنه ما زال هنا، وأن قلبه رغم السفر لا يزال موصولًا بها.

همس في أذنها بصوتٍ رخيمٍ دافئ:
 – إنتي متضايقة... بس مش عايزة تقولي، صح؟
أنا حاسس بيكي والله... بس مش عارف أعمل إيه.

اغمضت عينيها بقوةٍ، تكتم شهقتها بين ضلوعها، وتمسّكت بذراعه دون وعي، كأنها تستنجد به من نفسها، من ألمها.
– عشان خاطري متسألنيش عن حاجه، خليني كدا لحد ما أروق واهدى.

قالتها بصوتٍ مخنوق، أشبه بالحلم، فشدّ حضنه أكثر، وقبّل أعلى رأسها ببطء.
-ششش خلاص اتفقنا،  انا جنبك، كل حاجه هتبقا كويسة

كلماته كانت كضمادة على جرحٍ لا يندمل، لم تعد تملك من قوتها شيئًا، فاستسلمت لحضنه، لدفء قلبه، وكأنها تعيد ترميم روحها المتصدعة تحت أنفاسه.

ورغم كل ما لم يُقال، ورغم كل وجعها الصامت... كانت تلك اللحظة بمثابة وطن، ولو مؤقت، يأوي كل الحنين.

بعد برهة من الصمت المستكين في حضنه، هدأت أنفاسها، وغادرها رجف الألم شيئًا فشيئًا، حتى لم يبقَ منها سوى أثر خفيف في صوتها وهي تهمس، وقد استعادت تماسكها:
– لازم نجيب شادن من عند ماما.

أجابها دون أن يتحرك، وهو يمرر أنامله على ظهرها كأنما يرسم فوقه الطمأنينة:
– لا، خليها مع ولاد سلوى، أنا قولت لماما تخليها معاهم الليلة، ولو تعبتها تتصل بيا أنزل أخدها.

تنهدت، ومرّرت وجهها في صدره، كأنما تغترف من دفئه ما يعينها على مواصلة الليلة.
– هي سلوى كمان تحت؟

ابتسم، وربّت على ظهرها برقة تليق بها، بنبرته التي تعرفها جيدًا، حين يقرر أن يكون لها وحدها:
– سيبك من كل حاجة... بقيتي أحسن دلوقتي، صح؟

رفعت وجهها إليه ببطء، وعينيها تتأمله كمن وجد ملاذه بعد طول تيه، ثم قالت بخفوت ناعم، يقطر حنانًا:
– إنت لسه بلبس الشغل... يبقى أكيد مكلتش.

أشار برأسه وهو يبتسم، وقال بنبرة تحمل من الصدق أكثر مما تحمل من الكلمات:
– أنا وصلت وملقتكيش، سلمت عليهم بسرعة وطلعتلك... انتي أهم من كل حاجة.

تعلّق بصرها بملامحه لحظة، ثم تمتمت في عتابٍ حنون:
– بس إنت مبتحبش تسلم على حد وإنت راجع من السفر... زمانك متضايق إنك لسه مخدتش حمام وغيرت هدومك.

ضحك بخفة، وهزّ رأسه كمن يقرّ بما تعرفه، ثم أعاد جملته كأنها صارت قسمًا يُقال لا يُرد:
– ما قولنا إنك أهم من كل حاجة؟

ضحكت هي الأخرى، ضحكة خافتة خرجت من أعماقها دون قصد، وهمست وهي تدفعه بلطف:
– طب قوم يلا خد حمّام، على ما أطلعلك هدوم وأجهزلك حاجة سريعة... مكانش لازم تطلع قبل ما تاكل.

أمسك يدها قبل أن تنهض، وقال بهدوء باسم...
– بطلي استهبال... انتي عارفة إني لازم أشوفك الأول.

شدّت على يده في مزاحٍ خافت، وهمست وهي تنهض:
– طب يلا بسرعة... عشان متلاقنيش عاملة مداهمة وداخلة عليك الحمام!

ضحك وهو ينهض بدوره، يخلع قميصه في طريقه إلى الداخل، فيما تابعت هي خطواته بعينين دافئتين، تتمنى فقط لو تتوقف اللحظة هنا، في هذا الحنان العائد، ولو لبعض الوقت.

الفصل الرابع من هنا                        
تعليقات



×