قصه تراتيل الفجر المقدسة الثاني 2 بقلم مريم عثمان


قصه تراتيل الفجر المقدسه الفصل الثاني بقلم مريم عثمان 

꧁🎊العيد النبوي 🎊꧂


في الزمن الحديث، تغيرت معالم الأعياد كما تغيرت معالم المدن، كانت الأعياد في العقود الماضية بسيطة، لكنها تحمل دفئًا لا يُضاهى. 


كانت الأمهات تستيقظ مع الفجر لصناعة الكعك، وكان الأطفال يرتدون ملابس العيد بشغف، وينتظرون "العيدية" من الأجداد والأعمام.


لكن مع تقدم الزمن، دخلت العولمة، وأصبح العيد شاشةً تعرض التهاني، ورسائل نصية باردة، واختفت بعض ملامح الفرح البسيط.


 لم تعد العيدية كما كانت، بل صارت تحويلًا بنكيًا، ولم تعد القهوة العربية تُقدم في البيوت كما كانت، بل صار اللقاء رقميًا، وأصبح العيد مجرد إجازة للبعض، لا شعيرةً لها أثرها الروحي العميق.


ورغم ذلك، بقي جوهر العيد كما هو، بقيت المساجد تملأ بأصوات التكبير، بقيت الأمهات يجهزن موائد الحب لعائلاتهن، وبقي الأطفال يفرحون بملابسهم الجديدة، وإن تغيّرت طرق الاحتفال.


فقبل بزوغ الفجر، كانت المدينة المنورة تمتلئ بصوتٍ يبعث في القلوب سكينةً وروحًا جديدة: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد." كان المسلمون يرددونها بأصواتٍ تتداخل بين الحنين والفرح، وكأنها موجٌ يفيض باليقين والرضا.


في هذا الصباح المبارك، كان الجميع يغتسلون، يرتدون أفضل ما لديهم من الثياب، ويتهيأون للخروج إلى المصلى، حيث كان النبي ﷺ يجمعهم في ساحةٍ واسعة، تحت السماء المفتوحة، لا سقف يحجب نور الشمس، ولا جدران تفصل القلوب عن بعضها.


 كانت تلك اللحظة أشبه بمشهدٍ يملؤه النقاء، حيث يقف الفقراء بجانب الأغنياء، والعبيد إلى جوار السادة، لا فرق بينهم إلا بالتقوى.


وقف النبي ﷺ يخطب فيهم بعد الصلاة، يذكّرهم بمعاني الرحمة والمغفرة، يحثهم على صلة الرحم، وعلى أن لا يبقى في المدينة جائعٌ أو محروم. 


كان العيد في زمنه ﷺ مناسبةً ليس للفرح فقط، بل لنشر الخير، فكانت البيوت تُفتح على مصراعيها، والطعام يُوزع بلا حساب، وكان الأطفال يركضون في الطرقات بوجوهٍ مشرقة، يلمعون كأنهم نجومٌ أضاءها العيد ببهجته.


أما في عيد الأضحى، فكان المسلمون يسارعون بعد الصلاة إلى ذبح الأضاحي، يقسّمونها بين أهلهم والفقراء، وكان النبي ﷺ أول من يبدأ بذبح أضحيته، بيديه الشريفتين، ليكون قدوةً لأصحابه، فيبادرون إلى تقديم ما يستطيعون، وكأن المدينة تتحوّل إلى مائدةٍ عظيمة، يأكل منها الجميع بلا استثناء.


كان يوم العيد يوم تسامحٍ أيضًا، حيث كان النبي ﷺ يذكّرهم بحديثه: "ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها، " فكان الناس يطرقون الأبواب، يصافحون بعضهم البعض، يتجاوزون الخلافات، ويتعاهدون على أن يكون العيد بدايةً جديدة، مليئةً بالخير والتصالح.


لكن هذا الفرح لم يكن يعني الغفلة فقد كان العيد يومًا للبهجة، لكنه لم يكن يومًا للخروج عن حدود الأدب والحياء. 


لم يكن المسلمون يغرقون في لهوٍ فارغ، بل كان عيدهم ممزوجًا بالذكر، بالكرم، بالصلة، وبإحساسٍ عميق بأن الفرح الحقيقي ليس في الزينة، بل في القلوب التي تشعر بقربها من الله.


هكذا كان العيد في زمن النبي ﷺ، بسيطًا في مظهره، لكنه عظيمٌ في معناه، فرحًا يجمع بين الروح والجسد، بين الأرض والسماء، بين الدنيا والآخرة.


بعد أن انتهت الصلاة، وانتشر الناس في طرقات المدينة، كانت البهجة تملأ الأجواء، وأصوات التكبير لم تنقطع، وكأنها لحنٌ خالدٌ يتردد في سماء المدينة. 


كان الصحابة يتبادلون التهاني بوجوهٍ مستبشرة، وألسنةٍ تلهج بالدعاء، وأيدٍ تمتد بالخير والعطاء.


أما الأطفال، فكانوا أكثر من يعيش هذه الفرحة ببراءةٍ صافية، فقد كان النبي ﷺ يُلاعبهم، ويداعبهم، ويمنحهم الحلوى، ويحرص أن لا يكون بينهم من يشعر بالحزن.


 كانت فاطمة الزهراء تجمع أبناءها، وتلبسهم أجمل ما لديهم، وتخرج بهم إلى المصلى، فكانت ترى البهجة في عيونهم، وتقول: "هذا يوم السرور، فليفرح كل قلبٍ مؤمنٍ بنعمة الله."


وكانت البيوت تمتلئ بالفرحة، الرجال يجتمعون في الساحات، والنساء يعدن الطعام، والأطفال يلهون في الطرقات. 


كان الناس يزورون بعضهم البعض، يهدون التمر، والعسل، والحلوى البسيطة التي كانوا يصنعونها من السمن والدقيق، وكانت هذه الهدايا رمزًا للمحبة، أكثر من كونها مجرد طعام.


كان العيد لا يبدأ فجأة، بل تُضاء جذوته منذ الليلة التي تسبقه، حيث تعمّ الاستعدادات في بيوت المسلمين، ويتحرك الجميع في نشاطٍ مبهج.


 كانت النساء ينشغلن بصنع الخبز والمعجنات، وتجهيز الثياب النظيفة، وتعطير المنازل بماء الورد والبخور، بينما كان الرجال يتحلقون في الساحات، يتبادلون التهاني المسبقة، ويرددون التكبير في صوتٍ يعلو تدريجيًا مع اقتراب الفجر.


أما الأطفال، فكانوا أكثر من يشعر بالحماس، ينامون بقلوبٍ صغيرةٍ تغمرها الترقب، يضعون ثيابهم الجديدة بجانبهم، لا يصبرون حتى الفجر، بعضهم كان يستيقظ في منتصف الليل، يسأل والدته: "أما آن للفجر أن يطلع؟" فتبتسم الأم، وتخبره أن ينتظر قليلًا، وأن ليلة العيد نفسها جزءٌ من الفرح.


كانت الأسواق في المدينة تتغير في هذه الليلة، فالناس يخرجون لشراء ما ينقصهم، والتجار يبتسمون وهم يوزعون بضائعهم، بعضهم كان يُخفض الأسعار في هذا اليوم، ويقول: "اليوم ليس للبيع والشراء، اليوم للفرح، ومن أراد شيئًا ولم يكن معه ثمنه، فليأخذه وليهنأ به."


في بيت النبي ﷺ، كان المشهد مختلفًا، بسيطًا لكن مشرقًا. لم يكن بيت النبوة يعج بالذهب أو الحرير، لكنه كان عامرًا بالذكر والتكبير، وكانت السيدة فاطمة رضي الله عنها تعدّ لأطفالها ملابسهم، بينما النبي ﷺ يخرج إلى المسجد، يطمئن على حال الصحابة، يسأل عن الفقراء الذين لم يكن لهم أهلٌ يسألون عنهم. كان ﷺ يوصي أن لا يُترك أحدٌ دون أن يصله نصيبه من الفرحة.


في تلك الليلة، لم يكن هناك مكانٌ للغضب، ولا مجالٌ للخصام.


 كان كل من في المدينة يدرك أن العيد لا يليق إلا بقلوبٍ طاهرة، فيحرص الجميع على تصفية الخلافات، وزيارة من بينهم خصامٌ قديم. 


كان النبي ﷺ يقول: "أفضل الأعمال في العيد إدخال السرور على قلب مسلم." فكان الصحابة يتسابقون، أيهم يبادر بإصلاح ذات البين، وأيهم يكون أكثر كرمًا في هذا اليوم العظيم.


كانت الجوامع تنبض بالحياة، لا تهدأ فيها أصوات التسبيح، والناس يمرون على بعضها البعض، يسألون: "هل تحتاج شيئًا للعيد؟" فمن كان معه فائضٌ أعطاه لمن ينقصه، حتى يشعر الجميع أنهم في هذا اليوم سواء، لا فرق بين غنيٍ وفقيرٍ، ولا بين سيدٍ وعبد.


وبينما كان الناس يغفون على صوت التكبير، كان هناك من لا ينام، بل يقضي ليلته في عبادةٍ خاشعة، يحمد الله أن بلّغه هذا اليوم، ويتأمل كيف تحوّل الإسلام من دينٍ محاربٍ في مكة إلى أمةٍ كاملةٍ تحتفل بهذا العيد في سلامٍ ووحدة.


هكذا كان العيد في زمن النبي ﷺ، فرحةً تُبنى على الرحمة، لا على التفاخر، وبساطةً تُزيّنها القلوب الصافية، لا الأثواب الباهظة.


حين بزغ الفجر، وأشرقت الشمس على المدينة المنورة، كانت الأجواء مختلفةً تمامًا. كأنها وُلدت من جديد في هذا الصباح، مكسوةً بضياءٍ لا يشبه ضياء الأيام الأخرى. 


من كل زاويةٍ في المدينة، كان التكبير يصدح، ممتزجًا بصوت العصافير التي بدت وكأنها تشارك المسلمين فرحتهم.


خرج الناس من بيوتهم بوجوهٍ مشرقة، الأطفال يركضون في الطرقات بثيابهم النظيفة، والرجال يتعانقون عند أبواب المساجد، يتبادلون الدعوات الصادقة. 


كانت المدينة تنبض بالبهجة، ليس بهجةً صاخبة، بل فرحًا هادئًا يملأ القلوب، فرحًا يشعر به الفقير قبل الغني، ويستمتع به اليتيم قبل من له والدان.


في بيت النبي ﷺ، كان يوم العيد يبدأ كما لم يبدأ أي يومٍ آخر. كان يغتسل ﷺ، ويرتدي أجمل ثيابه، ويضع الطيب، ثم يخرج إلى المسجد، يتقدم الصحابة في مشهدٍ مهيبٍ تختلط فيه العظمة بالبساطة. 


كان الجميع يتبعونه، حتى النساء كن يخرجن إلى المصلى، بعضهن يختبئن خلف الصفوف، وأخريات يرافقن أطفالهن، ليشهدوا هذه اللحظة العظيمة.


عندما بدأ النبي ﷺ الصلاة، كانت السكينة تعمّ المكان، والقلوب تنبض بخشوعٍ خالص.


 كان الصحابة يقفون خلفه في صفوفٍ متراصة، يشعرون كأنهم جسدٌ واحدٌ في هذا اليوم المبارك، لا فرق بين مهاجريٍ وأنصاري، ولا بين عربيٍ وأعجمي.


ثم جاءت خطبة العيد. وقف النبي ﷺ على المنبر، ونظر إلى وجوه الصحابة، إلى ذلك الجمع الذي اجتمع من أجل الله، فقال بصوته الذي يحمل بين حروفه نور الهداية:


"أيها الناس، إن هذا يوم عيدٍ جعله الله لكم رحمة، فافرحوا واغتنموا، وصلوا أرحامكم، وتراحموا، وأطعموا الفقراء، وكونوا عباد الله إخوانًا."


كانت كلماته كالنور، تلامس القلوب، وتغسل الأرواح من كل ما علق بها من هموم. 


لم يكن العيد عندهم مجرد يومٍ للفرح، بل كان فرصةً للتقوى، ومناسبةً لإظهار الرحمة، وزمنًا يُدفن فيه الحقد، وتولد فيه المحبة من جديد.


بعد أن انتهت الصلاة والخطبة، لم يعد أحدٌ إلى بيته مباشرة، كانت المدينة كلها تتحرك كأنها عائلةٌ واحدة، البيوت تُفتح، الموائد تُمدّ، والمارة يُدعون إلى الطعام دون سابق معرفة.


"كل من مرّ، له نصيب." كانت هذه هي القاعدة التي تحكم المدينة في ذلك اليوم. لم يكن العيد مناسبةً للبذخ، بل كان مناسبةً للعطاء.


في زوايا المدينة، كان المشهد مختلفًا. هناك، في أحد الأزقة، كان طفلٌ يتيمٌ يجلس صامتًا، يراقب الأطفال الآخرين وهم يلعبون. رآه النبي ﷺ، فتقدم إليه، ووضع يده على رأسه بحنانٍ، ثم قال له:


"أما ترضى أن أكون لك أبًا، وعائشة أمًا؟"


أشرق وجه الطفل، كأنه وُلد من جديد، وأمسك بيد النبي ﷺ، وهو يشعر للمرة الأولى أن العيد له، كما هو لكل الأطفال الآخرين.


وهكذا، في كل زاويةٍ من المدينة، كان العيد ينبض بروحه الحقيقية. فرحٌ يملؤه العطاء، ومحبةٌ لا تعرف حدودًا، وذكرٌ لله لا ينقطع.


بعد أن انفضّ الناس عن المصلى، بدأ المسلمون يتوجهون إلى منازلهم، ولكن لم يكن ذلك مثل أي يومٍ آخر. 


في العيد، لم تكن البيوت تُغلق على أصحابها، بل كانت تُفتح لمن يمرّ، ومن يطلب، ومن لا يطلب.


في طرقات المدينة، كان المشهد مهيبًا، الصغار يركضون وهم يحملون الحلوى التي وزعها الصحابة عليهم، الرجال يتبادلون السلام والتهاني، والنساء يرسلن صواني الطعام إلى الجيران، حتى لا يبقى بيتٌ دون نصيبه من فرحة العيد. كان الناس يزورون بعضهم البعض، فلا تجد أحدًا يجلس وحيدًا، ولا فقيرًا يبكي في هذا اليوم.


كان الفرح يُصنع من أبسط الأشياء، لم تكن هناك أضواءٌ براقة، ولا زينةٌ ملوّنة، ولكن كانت الأرواح تضيء بحبٍّ خالصٍ لله، وكانت الزينة الحقيقية تكمن في القلوب التي طهّرها رمضان، واستعدّت للعيد بصفاءٍ نادر.


في بيت النبي ﷺ، كانت اللحظات أكثر دفئًا. دخل ﷺ إلى داره، فوجد الحسن والحسين يركضان نحوه، فجلس إليهما، وأخذ يلاعبهما، ثم رفع الحسن على كتفيه، وقال مبتسمًا: "اللهم إني أحبّه، فأحبّه وأحبّ من يحبّه."


ثم جاءت السيدة عائشة رضي الله عنها تخبره أن جاريتين كانتا تغنيان بأناشيد فرح، فاستمع إليهما ﷺ وهو يبتسم، وعندما اعترض أبو بكر قائلاً: "مزمار الشيطان في بيت رسول الله؟" ردّ عليه النبي ﷺ بقوله: "يا أبا بكر، إن لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا."


في الأسواق، كان التجار يتصدقون، لم يكن العيد فرصةً للبيع والشراء، بل كان زمنًا للإحسان. 


كثيرٌ من التجار وضعوا صناديق فيها طعام، وكتبوا عليها: "لمن لم يستطع الشراء، هذا له." وكان بعض الأغنياء يرسلون خدمهم إلى البيوت الفقيرة في المدينة، يطرقون الأبواب دون أن يُعرفوا، ويتركون الهدايا ثم يرحلون.


وفي أطراف المدينة، عند بيتٍ متواضع، كانت هناك قصة أخرى.


رجلٌ عجوزٌ، ضعيفٌ، كان يجلس عند باب داره، ينظر إلى الناس وهم يفرحون، ولكنه لم يكن يملك ما يجعله يفرح معهم، مرّ به عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فرآه حزينًا، فاقترب منه، وسأله: "لماذا تجلس وحدك، ألا تعلم أن العيد لا يُحزن فيه أحد؟"


أجاب الرجل بصوتٍ خافت: "يا أمير المؤمنين، لم يبق لي أحدٌ في الدنيا، ومالي قليلٌ لا يكفيني لأفرح كما يفرح الناس."


نظر إليه عمر، ثم مدّ يده إلى كيسٍ كان يحمله، وأخرج منه دراهم، وقال: "خذ، واذهب واشترِ بها ما يدخل السرور إلى قلبك، فإن العيد لمن يفرح، وليس لمن يملك."


رفع الرجل رأسه، وعيناه تلمعان بدموعٍ امتزجت بين الحزن والفرح، وقال: "والله ما رأيت دينًا أرحم من هذا الدين."


وهكذا كان العيد، ليس مجرد يومٍ يمرّ، بل لحظةً تتحول فيها الحياة إلى صورةٍ من الرحمة الإلهية، حيث يصبح الجميع عائلةً واحدة، يتقاسمون الأفراح، ويمسحون عن بعضهم الدموع، ويسيرون جميعًا تحت رايةٍ واحدةٍ عنوانها: "الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد."


لم يكن العيد في المدينة المنورة مناسبةً يفرح فيها الأغنياء وحدهم، بل كان العيد للجميع، يتساوى فيه السيد والعبد، الغني والفقير، الكبير والصغير. 


كانت الشوارع تمتلئ بروح التكافل، وأبواب البيوت تُفتح كما تُفتح القلوب.


في بيت عليٍّ وفاطمة رضي الله عنهما، كان الأمر مختلفًا. لم يكن لديهم الكثير من المال، ولكنهم كانوا أغنياء بروح العطاء. أعدّت فاطمة طعامًا بسيطًا، ثم نظرت إلى عليٍّ قائلةً: "يا أبا الحسن، أما وجدت يتيمًا ندعوه ليشاركنا الطعام؟"


ابتسم عليٌّ، ونهض، وخرج يبحث عن من يشاركه نعمة العيد، فما كان منه إلا أن عاد بطفلٍ صغيرٍ يتيم، جلس بينهما، وأكلا سويًا. هكذا كان العيد عند آل بيت النبي ﷺ، حبًا خالصًا وعطاءً لا ينضب.


في مجلس الصحابة، اجتمع عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وجلسوا يتبادلون الحديث. 


نظر عبد الرحمن إلى عمر، وقال مبتسمًا: "يا أمير المؤمنين، هل تذكر أول عيدٍ لنا مع رسول الله؟ كيف كنا غرباء في هذه المدينة، ثم أصبحت لنا دارًا وأهلًا؟"


هزّ عمر رأسه متذكرًا، ثم قال بصوته الجادّ الذي يحمل بين كلماته حنانًا مخفيًا: "نعم، وكأنها بالأمس، كنا نُطارد ونُضطهد، والآن نحتفل بالعيد، لا نخشى أحدًا إلا الله."


ثم التفت إلى الناس من حوله، وقال بصوتٍ مرتفعٍ يسمعه الجميع: "أيها الناس، من كان في قلبه غلٌّ على أخيه، فليمد يده اليوم ويصالحه، فإن العيد يومٌ تصفو فيه القلوب، ولا مكان فيه للبغضاء."


نهض رجلٌ من بين الحاضرين، ونظر إلى صاحبه الذي كان قد تشاجر معه قبل أيام، ثم اقترب منه ومدّ يده، فابتسم الرجل الآخر وعانقه قائلًا: "غفر الله لنا جميعًا."


وفي ساحات المدينة، كانت الأهازيج البسيطة تعلو.

لم يكن المسلمون يعرفون اللهو المبتذل، ولكنهم كانوا يفرحون بطريقتهم. الأطفال يلعبون، والشباب يتبارزون بالرماح في مشهدٍ مهيب، والنساء يرقبن المشهد من بعيدٍ وهنّ يتهامسن بالفرح.


ولم يكن العيد يخلو من اللعب والمزاح، فقد كان الصحابة يمرحون في ساحات المدينة، وكان النبي ﷺ يبتسم لرؤيتهم سعداء، حتى إنه في أحد الأعياد مرّ ﷺ برفقة بعض الصحابة، فرآى الحبشة يرقصون و يلعبون بالرماح في ساحة المسجد، فوقف يتأملهم ويشجهعم. 


وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقف خلفه، فمالت برأسها لتنظر، وقال لها ﷺ: "أتحبين أن تنظري؟ فأخذ النبي ﷺ يسترها بردائه، وابتسم وهو يقول: "هذا يوم عيد، فليفرحوا."


فظلت رضي الله عنها تشاهدهم حتى شبعت نفسها من الفرح، ثم قالت: "حسبك يا رسول الله."


في زاويةٍ أخرى من المدينة، كان هناك رجلٌ فقير، لم يجد ما يلبسه من جديدٍ للعيد، مرّ عليه عثمان بن عفان، فرآه يرتدي ثوبًا قديمًا، فتوقف عنده، وسأله: "أما وجدت ثوبًا آخر يا أخي؟"


أطرق الرجل برأسه وقال بخجل: "والله ما عندي غيره."


فما كان من عثمان إلا أن خلع رداءه الفاخر، وناوله للرجل، وقال: "البسه، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عباده، وما العيد إلا أن يشعر الجميع أنهم في كرم الله سواء."


رفع الرجل عينيه، والدموع تكاد تفرّ من بين جفونه، ثم أخذ الثوب وقال بصوتٍ مرتجف: "جزاك الله عني خيرًا يا عثمان."


وهكذا مضى يوم العيد في المدينة، لم يكن يومًا للترف، بل كان يومًا للرحمة، يومًا يُمحى فيه الحزن من القلوب، ويُغسل الجفاء بالمحبة، حيث يتجلى الإسلام في أجمل صوره، دينًا يجمع بين الروحانية والإنسانية، بين العبادة والفرح، بين العطاء والبهجة.


وعندما غربت الشمس، عاد الجميع إلى بيوتهم، وكل واحدٍ منهم يحمل في قلبه ذكرى جميلة لهذا اليوم، يومٍ عاشوا فيه معنى العيد الحقيقي.


مع غروب الشمس وانتهاء اليوم، لم يكن العيد قد انتهى في القلوب، بل ظلّت أصداؤه تتردد في الأزقة والمجالس، وظلّت رائحة الخبز الحلو تعبق في البيوت، وصوت التكبير لم يختفِ تمامًا. 


بل كان يتسلل خافتًا من بين الجدران، وكأن المدينة كلها تردد بصوتٍ واحد:


"الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد."


في بيت النبي ﷺ، كانت اللحظات الأخيرة من العيد تحمل طابعًا خاصًا.


جلس ﷺ مع أصحابه في بهو داره، يبتسم تارةً وهو يستمع إلى قصصهم عن هذا اليوم، ويشاركهم الرأي تارةً أخرى. ثم التفت إليهم وقال:


"ما أعظم هذا الدين الذي جعل الفرح عبادة، وجعل العيد يومًا نغسل فيه صدورنا من الأحقاد، ونسكب في قلوبنا السكينة."


ثم نظر إلى ابنة حِبّه ، السيدة فاطمة، وقال لها وهو يمازحها: "كيف كان عيدك يا فاطمة؟" فابتسمت وقالت: "كان كما علمتنا يا رسول الله، بسمةً للقلوب، ورحمةً لليتيم، وسلامًا للجميع."


نظر إليها النبي ﷺ بعينين تفيض حبًا، وكأنما كان يُوصيها قبل أن يغادر هذه الدنيا بأن تظلّ تلك السيرة الطاهرة، وأن يبقى العيد في الإسلام كما أراده الله، يومًا يُحيا فيه الخير، ويتجدد فيه الإيمان.


أما في طرقات المدينة، فقد بدأ السكون يسود، لكن في أحد الأزقة، كان هناك مشهدٌ أخيرٌ يُراد له أن يُكتب في ذاكرة العيد.


رجلٌ كان يجلس على عتبة بيته، ممسكًا بكِسرة خبزٍ يأكلها على مهل، ووجهه يفيض رضا. مرّ بجواره عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فسلّم عليه وجلس بجانبه قائلًا: "كيف كان عيدك يا أخي؟"


ضحك الرجل، وقال: "إنه أول عيدٍ لي في الإسلام، ولأول مرةٍ أشعر أن لي إخوة، رغم أني كنت عبدًا بالأمس."


ابتسم عبد الله وقال: "العيد ليس للملوك وحدهم، بل لكل من عرف الله بقلبه، فالحرّ من تحرر من الظلم، وليس من تحرر من الرق."


ثم قام، وناول الرجل دراهم من ماله الخاص، وقال: "لتجعل العيد القادم أكثر بهجةً لك ولأبنائك."


وهكذا كانت نهاية يوم العيد، لكنه لم يكن نهاية الفرح، بل بدايةً لعامٍ جديدٍ تُكتب فيه صفحاتٌ أخرى من الحب، والرحمة، والإيمان.


وكانت المدينة، رغم هدوئها، تشعر وكأنها تنبض بحياةٍ جديدة، وكأنها تعاهد الله أن تظلّ دارًا للسلام، ومسكنًا للفرح، وموطنًا للخير الذي لا ينقطع.


وهكذا، كان العيد في عهد النبي ﷺ، فرحةً لا تزول بانتهاء اليوم، بل تنمو في القلب، وتُثمر حسناتٍ تظلّ تضيء العمر كله.
 الفصل الثالث من هنا

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1