![]() |
قصه تراتيل الفجر المقدسة الفصل الثالث بقلم مريم عثمان
مضت السنوات بعد انتقال النبي ﷺ إلى الرفيق الأعلى، لكن روحه بقيت حيّة في قلوب أصحابه، ولم يكن العيد مجرد مناسبة تمرّ، بل صار تقليدًا راسخًا، يُحيى كما عاشه النبي، بتكبيرٍ يخترق السماء، وصدقاتٍ تسبق الفجر، وقلوبٍ تصفو من الأحقاد.
في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، كان العيد بسيطًا لكنه مهيبًا.
فجر يوم العيد، كان الصدّيق أول من يخرج إلى المصلى، ماشياً بين الناس بلا حراسة، بلا فخامة، يردد التكبير بصوتٍ خاشع، تفيض منه معاني الهيبة والتواضع.
كان الصدّيق رضي الله عنه ينطلق إلى المصلى في هدوء وسكينة، رغم مكانته الرفيعة، ويتوجه إلى الله بخاشعة قلب، مكبّرًا لله، تملؤه الذكرى العميقة للنبي ﷺ.
ولم يكن العيد عنده مجرد مناسبة دنيوية، بل كان فرصة لتذكير الأمة بسنة رسول الله ﷺ.
عندما قام للصلاة، نظر إلى الناس، ثم قال بصوتٍ يغمره الحزن واليقين:
"لقد كان رسول الله ﷺ معنا في مثل هذا اليوم، وكان فرحُنا به أعظم من فرحنا بالعيد نفسه، فالله الله في سنة نبيكم، لا تتركوها."
ثم خطب خطبةً تذكّر الناس بحق الفقراء، فقال:
"العيد ليس لمن لبس الجديد، بل لمن خاف يوم الوعيد. العيد لمن عفا وصفح، ولمن تصدّق فأدخل السرور على بيت يتيمٍ أو فقير."
وفي مجلسه بعد الصلاة، جاءه رجلٌ يشكو حاله، وقال:
"يا خليفة رسول الله، لم أجد لأبنائي طعامًا يفرحون به في هذا اليوم."
فما كان من أبي بكر إلا أن نظر إلى بيت المال، فلم يجد فيه شيئًا، فقام إلى بيته، وأخرج ما عنده من طعامٍ ودراهم، وقال للرجل:
"خذ، فالعيد لا يكون إلا إذا فرح الجميع، وإن كنت أنا وأهل بيتي سنصوم هذا اليوم، فليس العيد لنا وحدنا."
وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان العيد يأخذ طابع القوة والهيبة والتواضع.
كان عمر يمشي في طرقات المدينة صباح العيد، وعيناه تبحثان عن أي فقيرٍ أو محتاج، فكان يقول لمن يراه دون جديدٍ:
"اذهب إلى بيت المال، وخذ مما فيه، فإن الله جعل لنا حقًا في هذا المال."
وفي ذلك اليوم، رأى أطفالًا يبكون وهم ينظرون إلى أقرانهم بثياب العيد، فاقترب منهم وسألهم:
"لماذا تبكون؟"
فقالوا: "يا أمير المؤمنين، مات أبونا، ولم نجد ما نلبسه ليوم العيد."
فما كان من عمر إلا أن حملهم بيديه، وأخذهم إلى بيت المال، وألبسهم من كسوة المسلمين، ثم قال لهم والدموع في عينيه:
"اليوم، أنتم أبنائي، ولن تمرّ ليلة العيد بعد اليوم إلا وفي كل بيتٍ فرح."
أما في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد كان العيد يُحيى بالبذل والعطاء.
كان عثمان بن عفان رضي الله عنه من أغنى المسلمين، لكنه لم يكن بخيلًا، بل كان أغنياء الناس في عيده. فكان يأمر بتوزيع الهدايا والعطايا على الأيتام والفقراء، حتى لا يفرّق بين غني وفقير.
لم يكن عثمان يترك فقيرًا إلا وأغدق عليه، وكانت أمواله تُوزّع في الأسواق، حتى قيل إن يوم العيد في زمنه لم يكن يُعرف فيه الفقير من الغني، فقد أعطى حتى أغنى الجميع.
وفي صباح عيد، وقف عثمان يخطب في الناس قائلًا: "إنما العيد لمن أرضى الله، فمن كان في قلبه حقدٌ على أخيه فليطهّره اليوم، وليبدأ عامًا جديدًا بقلبٍ أبيض."
ثم أمر بتوزيع الهدايا على الأيتام، وقال لحراسه: "لا تدخلوا عليّ أحدًا هذا اليوم إلا ومعه حاجة، فإن العيد هو أن نرى الفرح في وجه كل مسلم."
وفي عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كان العيد يجسد العدالة والمساواة يمتلئ بالحكمة والعدل.
وقف عليٌّ في المسجد بعد صلاة العيد، وقال للناس: "الناس صنفان: إما أخٌ لك في الدين، أو نظيرٌ لك في الخلق. فانظروا كيف تجعلون يوم العيد يومًا للوحدة، لا للفرقة، وللتسامح، لا للتباغض."
ثم نزل عن المنبر، ومشى بين الناس، ووقف عند طفلٍ وحيدٍ يجلس في زاوية المسجد، وقد بدا عليه الحزن، فاقترب منه وسأله:
"لماذا تجلس هنا وحدك يا بني؟"
قال الطفل: "مات أبي في الجهاد، وليس لي أحدٌ أفرح معه."
فأخذ عليّ بيده، وقال له:
"أنا اليوم أبوك، والحسن والحسين إخوتك، لا تحزن، فالمدينة كلها أهلك."
ثم أخذه إلى بيته، وأطعمه وألبسه، وقال له وهو يبتسم:
"هكذا يكون العيد، أن نجد من نفرح معه، وأن نجد من نمنحه فرحًا."
وهكذا، بقي العيد في عهد الصحابة كما كان في عهد النبي ﷺ، يومًا يُحيي القلوب بالإيمان، ويملأ البيوت بالرحمة، ويغسل النفوس من أدران الدنيا، ليظلّ شعاره كما قال عمر بن عبد العزيز بعدهم: "ليس العيد لمن لبس الجديد، بل لمن خاف يوم الوعيد."
بعد أن رحل الصحابة رضي الله عنهم، لم يكن العيد مجرد ذكرى تُستعاد، بل كان إرثًا تُحييه القلوب، وتتناقله الأجيال جيلاً بعد جيل. التابعون، الذين تربّوا في مجالس الصحابة، حفظوا سننهم كما حفظوا القرآن، وكان العيد عندهم كما كان في عهد النبي ﷺ والخلفاء، يومًا للفرح، لكنه فرحٌ تغمره العبادة والتقوى.
في فجر يوم العيد، كانت المساجد تمتلئ بالمصلّين الذين باتوا ليلتهم مسبّحين مكبّرين.
كان الحسن البصري، ذلك الإمام الزاهد، يقف بين الناس قبل صلاة العيد، فينظر إلى القلوب، لا إلى الثياب، ثم يخطب قائلًا:
"يا أهل البصرة، إن الله جعل هذا اليوم فرحًا لمن صام وقام، فلا تجعلوه حزنًا لمن لم يجد قوت يومه، ولا تجعلوه يوم تفاخرٍ وزينة، بل يوم رحمةٍ وإحسان."
ثم كان يوزّع من ماله الخاص على الفقراء، ويقول: "أحبّ أن أرى وجوههم تبتسم كما أرى وجوه أبنائي."
أما سعيد بن المسيّب، فكان العيد عنده يوم تذكيرٍ بالآخرة.
كان يسير في شوارع المدينة، فيجد الناس يرتدون أجمل ما عندهم، لكنه كان يذكّرهم فيقول:
"ما أجمل أن تلبسوا جديدًا اليوم، لكنّ الأجمل أن تلبسوا ثياب التقوى يوم العرض الأكبر."
ثم كان يجلس مع الفقراء في زاوية المسجد، يأكل معهم، ويقول:
"العيد لمن أطعم جائعًا، وواسَى يتيمًا، لا لمن ملأ بيته بالطعام ونسي إخوانه."
في الكوفة، كان الإمام أبو حنيفة يُحيي العيد بكرمٍ لا يُضاهى.
كان يجلس في بيته ليلة العيد، ويُرسل إلى الأرامل والأيتام كسوةً كاملة، ويقول لخادمه:
"لا أريد أن أرى في طرقات الكوفة من يبيت جائعًا في هذه الليلة."
وفي الصباح، كان يخرج للصلاة متواضعًا، لا يلبس أغلى الثياب، ويقول لمن يسأله عن ذلك:
"أخشى أن يراني فقيرٌ فيتحسر، وأخشى أن ألبس ما أُسأل عنه يوم القيامة."
في مكة، كان العيد مهيبًا ومؤثرًا.
كان الإمام مالك يجلس في المسجد الحرام بعد الصلاة، فيتوافد عليه الناس من كلّ مكان يسألونه، لكنه كان يرفض أن يُجيب عن أي فتوى في ذلك اليوم، ويقول:
"اليوم للفرح، لا للفتوى، فإن كان لك حاجةٌ فاقضها بنفسك، وإن كان لك مظلمةٌ فاغفر، فإن لم تستطع، فتذكّر أنك سترحل يومًا ولن يبقى إلا عملك."
أما في بغداد، في عهد الإمام أحمد بن حنبل، فكان العيد مدرسةً في الصبر والزهد.
كان يُسأل يوم العيد: "أما تفرح مثل الناس؟" فكان يجيب:
"كيف أفرح، وفي الأمة مظلومٌ لا يجد ناصرًا، وجائعٌ لا يجد طعامًا، وأسيرٌ لا يجد مَن يفكّ قيده؟"
لكن رغم ذلك، كان يُعرف بجودِه في هذا اليوم، فلا يُرى فقيرٌ في بغداد إلا وقد وصله عطاؤه، وكان يقول:
"إن كنتم تريدون أن يكون العيد سعيدًا، فأسعدوا به غيركم."
وفي الشام، كان الأوزاعي يُعلّم الناس معنى العيد الحقيقي.
كان يقول لتلاميذه بعد الصلاة:
"إن كان يوم العيد يوم مغفرة، فاجعلوه كذلك، وإن كان يوم الرحمة، فكونوا رحماء، وإن كان يوم الحب، فأحبّوا الناس كما تحبون لأنفسكم."
ثم كان يُطعم الجياع بنفسه، ويُقبّل رؤوس الأيتام، ويقول:
"هكذا يكون العيد، وإلا فلا حاجة لنا به."
وهكذا، ظلّ العيد في عهد التابعين كما كان في عهد النبي ﷺ، يومًا للعبادة، والتسامح، والكرم.
لم يكن يوم تفاخرٍ وزينة، بل يومًا تُغفر فيه الذنوب، وتُصفى فيه القلوب، وتُمحى فيه الضغائن، وتُشبع فيه البطون الجائعة، حتى صار العيد في الإسلام ليس مجرّد يومٍ في التقويم، بل روحًا تبقى في القلوب، تُذكّر الجميع أن الدين رحمةٌ، وأن الفرحة حقٌ للجميع.