رواية حين تساقط الزهر في قلبي الفصل الثاني 2 بقلم بشري اياد



 رواية حين تساقط الزهر في قلبي الفصل الثاني بقلم بشري اياد


"صدى لا يُسمع إلا من الداخل" 

كانت الضحكة لا تزال تتردد في الغرفة، خافتة، متقطعة… وكأن أحدهم يختبر قدرة رُبى على الاحتمال.
تجمّدت في مكانها، وقلبها يدق كأنه بيعلن الطوارئ في كل خلية فيها. 

رفعت مصباح الهاتف بتردد نحو مصدر الصوت، لكن الغرفة كانت فارغة… مجرد صناديق مغبرة، وأدراج مكسورة، وبعض الأوراق القديمة التي تناثرت على الأرض.
ومع ذلك، شعرت أن هناك شيئًا ما… شيء لا يُرى، لكن يُحَسّ. 

"رجعت تاني… ورح تاخدك متل ما أخدت رُلى."
الجملة لم تكن مجرد كلمات، بل كانت صفعة من الماضي… توقظ جرحًا لم يُشفَ، ولم يُغلق يومًا. 

رُلى...
الاسم وحده كان كافيًا ليُسقط أي قناع تماسك ارتدته طوال السنوات الماضية. 

اقتربت أكثر من الجدار، لمست آثار الفحم بأطراف أصابعها المرتعشة. الخط كان صغيرًا… كُتب بطريقة طفولية، وكأن طفلًا هو من كتبه، لكن أي طفل يعرف اسم رُلى؟ 

من خلفها، سُمعت خطوات خفيفة، فاستدارت بسرعة…
وكان الطفل يقف هناك. 

طفل لم تره من قبل. 

عيناه واسعتان، تنظران إليها بنظرة فارغة…
شعره الكثيف يغطي جزءًا من وجهه، وثيابه قديمة كأنها لا تخصّ هذا العصر. 

سألته، تحاول أن تخفي رجفتها:
– "إنت… إنت شو اسمك؟" 

ردّ بصوت خافت، أقرب للهمس:
– "ما إلي اسم… بس بحب أسمع عزفك." 

ثم ابتسم، واختفى في الظلام. 

صرخت رُبى:
– "استنى! لحظة! إنت مين؟!" 

لكن الطفل كان قد اختفى… وكأن وجوده كان حلمًا، أو ذكرى منسية. 

** 

في صباح اليوم التالي، كانت رُبى تجلس في مكتب المديرة، وعلى وجهها علامات توتر واضحة.
المديرة قالت بقلق: 

– "رُبى… الطفل الجديد اللي وصل امبارح… ما لقيناه. اختفى تمامًا من سجلات الاستقبال. لا ورق، لا اسم، ولا حتى توقيع من أي جهة." 

– "يعني إيه؟ هو كان شبح؟!" 

– "ما بعرف… بس الحارس حلف إنه شافه يدخل مع رجل غريب، قال إنه من وزارة الشؤون. ولما طلب يشوف هويته، قال له: "مش مهم، المهم المكان آمن؟"، ومشي." 

رُبى شعرت بأن الحكاية بدأت تخرج عن حدود المألوف.
هذا ليس مجرد طفل يتيم… هناك شيء أكبر. 

** 

في المساء، دخل عُدي القاعة الجديدة التي بدأت تجهيزها للدار.
وجد رُبى جالسة وحدها، تنظر إلى البيانو دون أن تعزف. 

اقترب منها، وقال بنبرة حنونة: 

– "شكلك ما نمتي امبارح… كل عيونك بتقول إنك شايلة الدنيا على قلبك." 

– "أنا مش بس شايلة… أنا بخاف إن قلبي ينفجر من كتر الوجع اللي فيه." 

جلس بجوارها بصمت، ثم قال:
– "قوليلي… مين رُلى؟" 

نظرت له بدهشة، ثم غضب:
– "مين قالك على اسمها؟!" 

– "أنا سمعتك تهمسي فيه… وبعدين… شوفي، مش رح أجامل، أنا حاسس إنك عايشة بعالم غير اللي حوالينا. كل ما أقربلك، بحس إنك بتحملي شيء أعمق من مجرد حزن." 

سكتت للحظة، ثم همست:
– "رُلى كانت أختي التوأم… وماتت في حادث… ما حدا صدق إنه حادث طبيعي." 

قالها وكأنها تعترف بسرّ حُكم عليه بالصمت لسنوات. 

نظر إليها عُدي بصدمة، وكأن قطعة من اللغز بدأت تظهر، لكنه ما زال يجهل الصورة كاملة. 

** 

في تلك الليلة…
بينما الجميع نائم، استيقظت رُبى على صوت عزف بيانو من القاعة الجديدة. 

نهضت فورًا، قلبها يتسارع، خطواتها تُسرع رغم الظلام، وكأن الصوت يسحبها كالمغناطيس.
فتحت باب القاعة… 

وكان الطفل يجلس هناك… على البيانو. 

يعزف لحنًا لم تعزفه رُبى منذ موت أختها. 

لحنٌ لم يُكتَب… بل كان مجرد همسة بينها وبين رُلى. 

– "كيف… كيف بتعرفي هاللحن؟" همست بصوت مخنوق. 

استدار الطفل ببطء، وقال:
– "رُلى علمتني… وقالتلك ما تخافي، الحقيقة قربت تطلع." 

ثم اختفى من جديد… ومعه توقف العزف. 

** 

في اليوم التالي…
قررت رُبى فتح صندوق قديم كانت تخبئه تحت سريرها.
فيه مذكرات أختها… صورها… وقصاصات من جريدة قديمة، كتب فيها: 

"فتاة تُدعى رُلى الحاج، تموت في حادث سير مروّع… والد الطبيب المتسبب يرفض التعويض، والمحكمة تُغلق القضية لعدم كفاية الأدلة." 

والاسم الذي تصدّر الخبر كان:
الدكتور نادر العريان… والد عُدي.

سقطت الجريدة من بين أصابعها المرتعشة، وتبعثرت الأوراق على الأرض كما تبعثرت أنفاسها. 

حدّقت في الاسم طويلاً، كأنها تراه لأول مرة، رغم أنها كانت تحفظه عن ظهر قلب…
"الدكتور نادر العريان." 

ذاك الاسم لم يكن مجرد حروف، بل خنجرًا مطمورًا في صدرها منذ سنوات…
ذاك الرجل، الذي وقف ذات يوم في المحكمة، ببدلته الفاخرة، وابتسامته الباردة، ينكر وجود خطأ، ينكر أن حياة إنسانة كانت بين يديه، وضاعت. 

حاولت تستعيد أنفاسها، لكن صدرها ضاق، وكأن الجدران كلها انطبقت عليها…
أغلقت الصندوق بيدين مرتجفتين، وأخذت الجريدة وركضت نحو باب غرفتها. 

** 

خرجت إلى ساحة الدار، كانت السماء تمطر خفيفًا، لكن الأرض كانت تشهد عاصفة بداخلها.
رفعت عينيها إلى السماء، همست بصوت مكسور: 

– "ليه يا رُلى؟ ليه ما قلتِلي إن كل شي حواليّ كذبة؟ ليه سكتِ؟" 

في تلك اللحظة، جاء صوت خلفها:
– "رُبى؟ إنتِ بخير؟" 

استدارت، كان عُدي يقف خلفها، يحمل مظلة، وعلى وجهه علامات قلق حقيقي. 

نظرت إليه طويلاً، كانت تنظر له وكأنها تراه لأول مرة… لا كرجل وسيم دخل حياتها فجأة، بل كامتداد لذاك الاسم… لذاك الذنب الذي حوّل حياتها لرماد. 

قالت بصوت يكاد يُسمع: 

– "مين والدك يا عُدي؟" 

تفاجأ بالسؤال، لكنه أجاب بهدوء: 

– "نادر العريان… ليه؟" 

ابتسمت… ابتسامة مرّة، وكأنها تُكفّن قلبها بيديها.
رفعت الجريدة نحوه، وصرخت: 

– "هاي أختي، هاي كانت كل حياتي… وماتت لأن والدك قرر يلعب دور الله… ويفشل." 

عُدي صُدم، أخذ الجريدة بين يديه، قرأ العنوان، وتجمّد.
عيناه اتسعتا، وراح يتنفس بصعوبة، كأنه هو الآخر تلقّى الطعنة. 

– "أنا… ما كنت بعرف… والله ما بعرف."
همسها كمن يُحاكم نفسه. 

لكنها لم تكن تسمع. 

كانت تستعيد كل شيء… غرفة المستشفى، صفير الأجهزة، صوت الطبيب يقول ببرود:
– "الوفاة كانت نتيجة نزيف داخلي… تأخرنا شوية، بس… للأسف." 

وكان "شوية" ذاك، كافياً لتموت رُلى… ولتموت معها رُبى. 

** 

عاد عُدي إلى سيارته تلك الليلة، والسماء لا تزال تمطر، والموسيقى تعزف وحدها عبر الراديو.
لكنه لم يكن يسمع شيئًا… كل ما سمعه كان صوت رُبى وهي تصرخ: 

– "إنت جزء من اللي خلاني عايشة بنصّي، وميّتة بالنص التاني." 

** 

وفي اليوم التالي، لم تحضر رُبى إلى دار الأيتام. 

اختفت. 

لم تردّ على الهاتف. 

غرفتها بقيت مغلقة. 

لكن على وسادتها، وُجد دفتر ملاحظات صغير، وفيه جملة واحدة مكتوبة بخط يدها: 

"لا أريد أن أكرهك… بس قلبي مش عم يعرف يحبك بعد ما عرف." 

**

مرت الليلة ثقيلة… أطول من عمر الحزن نفسه.
ورُبى، ما قدرت تنام. 

جلست على الأرض، قدام البيانو القديم في غرفتها، وكل النغمات اللي كانت تعزفها طول عمرها، صارت بلا صوت… بلا معنى. 

وفجأة، وسط هالسكوت، رنّ جوالها. 

رقم غريب…
ترددت، قلبها عم يدق، وكأنها حاسة إن ورا الرنة هاي شيء أكبر من مجرد اتصال. 

– "ألو؟" 

جاها صوت أنثوي، ناعم، لكنه غريب… ومخيف: 

– "رُبى؟ تأخرتِ… كتير تأخرتِ." 

– "مين؟ مين حضرتك؟" 

– "رُلى… ما ماتت." 

انقطعت المكالمة. 

... 

سقط الجوال من يدها.
تجمدت بمكانها، وكل ملامح وجهها انمحَت.
قامت بسرعة، اتصلت بالرقم… مغلق. 

ركضت على الدرج، لبست أول جاكيت وقع بإيدها، وطلعت من البيت والبرد عم يقرص عضمها، لكن عقلها ما عم يستوعب إلا جملة وحدة: 

"رُلى… ما ماتت." 

** 

في صباح اليوم التالي، دخل عُدي دار الأيتام، وجهه شاحب، وعيناه سهرانين.
راح يدور على رُبى، لكن كل الأطفال قالوله نفس الجواب: 

– "ما إجت اليوم." 

قلبه وقع. 

اتجه لغرفتها، طرق الباب، ما في رد.
دخل… ولأول مرة، حس الغرفة باردة، كأنها مهجورة من سنين. 

لمح الدفتر يلي كان على وسادتها، قرأه، وابتسم بوجع. 

لكن قبل ما يطلع، لمح شيء تحت البيانو.
انحنى…
ورفع ظرف أسود، كان مكتوب عليه بخط يدوي: 

"لا تفتح… إلا إذا كنت مستعد تعرف كل شي." 

** 

فتح الظرف. 

جواه كانت صورة… صورة بنتين توأم، بعمر 10 سنين، واقفين قدام دار أيتام…
بس خلف الصورة، كان في كتابة: 

"دار الأمل – فرع الغوطة… 2008" 

تجمّد. 

دار الأمل؟ ما في شي بهالاسم موجود حالياً… لا فرع، ولا حتى ذكرى. 

لكن الأكثر رعبًا؟
هو نفسه كان موجود بالغوطة سنة 2008… بس ما بيتذكر أي شي. 

** 

أغلق الظرف، طلع من الغرفة وهو حاسس إن الماضي كله عم ينهض من قبره…
وإنه يمكن… الحب مش هو الشي الوحيد اللي رح يخسره.
يمكن يخسر الحقيقة. 

أو يمكن يلاقيها… ويدفع ثمنها غالي. 

تعليقات



×