رواية عريس قيد الرفض بين الرفض والقدر الفصل الثلاثون 30 بقلم عفاف شريف


رواية عريس قيد الرفض بين الرفض والقدر الفصل الثلاثون بقلم عفاف شريف 

ربما آنَ الأوانُ أن أَعترف أنّي أخطأتُ في الوقوعِ في الحب،
وبِدقّةٍ أكبر في اختيارِ من أحب.
فالحبُّ أسمى وأنقى من تلك المعاني المتداولة بين الناس.
لم يكن يومًا بباقةٍ ضخمةٍ من الزهور،
ولا بخاتمٍ مُرصّعٍ بالألماس،
كان ليكفيني وردةٌ تُقدَّمُ بحب،
والكثير... مع من أُحب.

أن تنطقَ عيناك "أحبك"،
أن تكون رجلًا،
رجلًا لا يغفل عن دموعي،
رجلًا يرى ابتسامتي نهايةً سعيدةً ليومه الطويل.

وأطفالي،
هديّةُ الله له،
فَيُحبهم لأنهم مني.

كانت تلك أحلامي،
وأتى الواقعُ كصفعةٍ على وجهي، يُخبرني بكلِّ حزم
أنّ الأحلامَ تظلّ أحلامًا،
وأنّ الأميرَ قابعٌ بين أوراق كتبي،
ولم يُكتب لي الحصول عليه
❈-❈-❈
                 عودة لوقتٍ سابق

عيناها ما زالتا معلّقتين بذلك الاختبار الصغير؛
اختبار كان الدليل الأول والوحيد على وجوده بداخلها،
قطعة منها،
الأغلى،
أنها حامل.
رددتها لنفسها للمرة الثانية بتشتّت،
وعادت للصمت من جديد،
تنظر أمامها دون أن تجد القدرة على التحرك أو إعطاء أيّ ردّ فعل،
فقط تتطلّع لما بين يديها بذهولٍ وانبهار،
كأنّها تحمل شيئًا تحاول أن تفهمه،
أن تستوعب ما به،
ما بها.
وبعد القليل،
كانت قد بدأت في الاستيعاب فعليًّا لما يحدث معها،
قبل أن ترفع يدها المرتجفة، تترك الهاتف بلا اهتمام،
وهي تقرّب يدها ببطءٍ شديد،
قبل أن تمسّ بطنها،
وهنا أغلقت عينيها لتتسلّل دمعة كانت تقبع منتظرة تلك اللحظة،
كأنها تسأله بلهفةٍ وحنان: هل أنت هنا حقًّا؟
شهقة بكاءٍ غادرتها،
ودموعها لا تتوقّف،
وكيف لها؟
هي...
هي نفسها لا تستطيع وصف شعورها.

وبين الكثير من المشاعر بداخلها،
وبين خوفٍ مرتعب قلقٍ وتخبّطٍ وتشتّت،
كانت لهفتها وفرحتها
هي الشعور الأعظم،
شعور أنّها ستُصبح أمًّا،
شعورٌ ربما لن تكفيه بضع كلمات،
وإن تحدّثت لسنوات.

❈-❈-❈
لم يمر الكثير 
وتحرّكت من مكانها، تشعر بجسدها ما زال يرتجف بعد.
وهي تكاد تسمع صوت دقات قلبها العالي.
كانت مختلفة،
شاحبة،
ترتجف.
كانت نفسها،
لكن قد تغيّر شيءٌ بداخلها،
شيءٌ تمنت أن تتخطاه.
وقفت أمام المرآة تغسل وجهها عدة مرات،
كأنها تحاول أن تفيق،
أن تستعب...
تعلم أن وربما يراها البعض مبالغة،
لكن هي ليست كذلك.
رفعت عينيها تتطلع لنفسها،
وتصرخ بداخلها
"هي خائفة."
تنهدت وهي تحمل الهاتف،
تتبعه الاختبار، تتمسك به بحرصٍ شديد،
كأنّه هو من يحمل الطفل، وليس هي.
وكانت أولى خطواتها
نحو "لوزة"،
والتي كانت تُرضع صغارها، تُناظرها بهدوء.
وقفت محلّها لوهلةٍ،
تنظر لها وهي تضمّ الصغار بذيلها، بفطرةِ أُمّ،
فطرةٍ فشل في الشعور بها بعض البشر.
كانت أُمًّا، وإن لم يُعلّمها أحد كيف تكون.
دون خبرة،
دون أي شيء،
فقط مشاعر،
الكثير منها،
حب، اهتمام، حنان.
تلك المشاعر فعلتها قطة،
ولم تفعلها بعض النساء.
لا يستحقّين لقب "أمهات".
ابتسامة ساخرة شقّت سكونها،
قبل أن تقترب، تجلس بجانبها، تجلس صامتة،
هدوءٌ لا يقطعه سوى صوت القرآن،
وأصوات صغار "لوزة".
قبل أن تمسّ "لوزة"، مردّدةً بهمسٍ خافت، وهي تُلاطفها وقد اقشعرّ بدنها
"أنا كمان...
أنا كمان هبقى أم.
قالتها قبل أن تصمت من جديد،
وكأنّ أفكارها لن تنفكّ عن التزايد،
أفكارٌ وتخيّلات أقوى من أن تردعها،
مشاعر لا تقوى على التحكّم بها.
صمتٌ طال، ولم يقطعه سوى
رنين هاتفها،
يُعلن عن اتصال "سارة" المتوتّرة.

❈-❈-❈
تحرّكت من محلّها ببطءٍ وهدوء، تُعطي لها ولـ"لوزة" قدرًا أكبر من الخصوصيّة والسكينة.
تفتح الاتصال،
قبل أن تنتفض على صوت صراخ "سارة" التي ردّدت بقلقٍ وتوتر، وقد بان على ملامح وجهها الشاحبة مثلها:إي طلع؟ إي؟
طمِّنيني!
أنا قُمت، توضّيت، وصليت والله!
طمني، قلبي يا فريدة!

جلست على فراشها تُناظرها بصمت،
ودون أن تنطق بحرفٍ واحد، كانت ترفع الاختبار الطبي أمام أعين "سارة" المتّسعة...
واحد...
اثنان...
ثلاثة...

وكانت هناك زغرودة مدوّية تصدح من هاتفها!
انتفضت هي على أثرها قبل الجيران،
وانتفض بها والد "سارة" خارج الغرفة،
وقد سكب فنجان القهوة على قميصه
قبل أن يصل لفمه،
وهو ينتفض، ينظر نحو غرفة ابنته المجنونة
بعينٍ متّسعةٍ مذهولة،
وهو يتساءل: هل جُنّت ابنتي؟!

هزّ رأسه يائسًا، متأففًا،
قبل أن يُغادر ليُبدّل ثيابه.

وفي الداخل،
كانت "فريدة" تُناظرها بصمت،
وشفتان لم تقدرا على كتم ابتسامتها اليائسة لحماس الأخرى،
حماسٌ لم تقدر هي على إخراجه.

دمعت عيناها وهي تحدّق في الأخرى،
تلك السعادة في عينيها تُثبت، يومًا بعد يوم،
أنها نعم، لم تحصل على شقيقة،
لكن كانت تلك خيرًا لها ممّن هُنّ من دمائها.

صديقةٌ طبع حبّها في قلبها، يومًا بعد آخر،
كانت عوضَ الله لوحدتها،
كانت الأقرب، والأغلى،
كانت صديقة بدرجة شقيقة،
فهي لم تحصل على واحدة.
❈-❈-❈

ثَرثَرة طويلة، كانت هي بها الطرفَ الأكثرَ صمتًا.
كانت مُشوَّشة،
بداخلها تحمل الكثير،
والكثير هنا
أكثرُ ممّا تحتمل هي.
خَطّان وخبرٌ حملها زلزَل شيئًا قويًّا بداخلها،
جعلها ترتجف كطفلةٍ صغيرةٍ وجدت نفسَها فجأةً في عالمِ الكبار،
عالمٍ لم تظن يومًا أنها مُؤهَّلةٌ أن تدخله،
عالمٍ كانت ترتجف خوفًا منه ومنها.
عينُها تلمعُ بدمع،
ووجهُها شاحبٌ فاقدٌ للتورُّد،
وعقلُها في مكانٍ آخر.
وكانت سارة تعلم هذا،
كانت تعلم كلَّ ما تمرُّ به.
فريدة تُواجه نفسَها في تلك اللحظة،
تُواجه طفولةً حاولت مرارًا أن تتخطّاها،
وباءت محاولاتها جميعُها بالفشل...
ومهما مرّت الأعوام،
ستظل فريدةُ طفلةً ظُلمت،
وتخشى أن تكون ظالمة.
لذلك، كانت تُريد أن تنتشلها،
تُريد أن تُخرجها من تلك الهالة.
حقُّها أن تحيا تلك اللحظات،
أن تكون سعيدة،
لذلك حاولت أن تُغيّر الوضع،
ونجحت بالفعل.
في ثرثرةٍ طويلة،
كانت فريدة بحاجةٍ إليها.
ولكن، وقبل أن تُغلق معها،
طالت النظرات بينهن،
قبل أن تُردّد لها بخفوت وابتسامةٍ هادئة:
أنا عارفة إنتي بتفكّري في إيه دلوقتي،
عارفة دماغِك بتروح لفين،
وقلبِك خايف من إيه.
بس يا فريدة،
افرحي.

وتابعت بحنان: افرحي بكلّ لحظة من اللحظة دي،
متشليش همّ بُكرة،
سيبي بُكرة لبُكرة،
من غير ضغوط، من غير خوف، ولا رُعب،
ولا حتى تفكير.
ارمي كُلّ ده ورا ضهرِك، وسَيبيها على الله.
وأوعي تضيّعي كل ده عشان خاطر حاجة عمرِك ما هتعمليها.

وصمتت، قبل أن تُجيبها على سؤالٍ هي حتى لم تنطق به، ولم تكن بحاجة لذلك:
إنتي مش هي يا فريدة.
إنتي مش مامتِك،
ولا عمرِك هتكوني هي.
وتأكّدي إن فاقد الشيء يُعطيه، وبقوّة.
اللي داق الوجع ده، مش هيدوقه لحِتّة منه ابنِك أو بنتِك.
يستحقوا ده منّك،
وتستحقّيه إنتي كمان.
أنا عارفة إن صعب عليكي، وصعب أوي كمان،
وإنّك بين نارين،
بس إنتي مش كده أصلًا،
إنتي مختلفة،
ومهما حصل، عمرِك ما هتكوني هي.
عشان كده، افرحي.
افرحي بحِتّة منّك،
وأوعي تنسي،
إنتي مش طنط صفية،
ومستحيل تكوني... أبدًا.

قالتها بتأكيدٍ وثقة، وعيونٍ داعمة،
وأغلقت.
❈-❈-❈
ركضت بحماس نحو المطبخ، تُقبِّل حسناء بقوة حتى انتفضت، تنظر لها بضحك، قائلة بتساؤل وهي تضع إناء الحليب على النار:
 بَاستك العافية!
بس قوليلي، صحيح، مين اللي اتجوَّز؟
قالتها مشيرة إلى انطلاق الزغرودة التي وصلت حتى الجيران منذ قليل.
أومأت لها سارة بسرعة، وهي تُجيب بحماس:
 فريدة حاااامل!
حاااامل يا سونة!
ودون أي إضافات أُخرى،
رفعت يدها على فمها،
تُطلق زغرودة طويلة، وهي تلتفت تتراقص مهللة بسعادة،
وحسناء تضع يدها على فمها بعين متسعة، تنظر خلفها، وهي تُشاهد توقُّف سارة فجأة،
قبل أن تبتلع صوتها، متصنِّمة في محلها وقد تجمد جسدها واتسعت عيناها،
وهي ترى وقوف والدها خلفها،
وقد سُكب على قميصه كوب العصير
من الصدمة،
مرَّة أُخرى،
في نصف ساعة!
يُناظرها بعيون نارية وحاجبٍ مرتفع،
ابتلعت سارة ريقها، وهي تهمس بخفوت:
  بابا...
  أصل...
  أصل...
وتابعت بتلعثم، وهي تنظر لحسناء:
  أنا...
وردَّدت بغباء، كمن فقد الذاكرة: هو أنا كنت بزغرط ليه؟!
قالتها محاولة تخطي الصدمة.
كتمت حسناء ضحكتها،
وهي تُشاهد نظرات جمال القاتلة لهما،
قبل أن يقول بغيظ:  إيه الحفلة دي؟ هتخلص إمتى إن شاء الله؟
المفروض أعود نفسي على كل عشر دقايق أسمع زغرودة!
زمت شفتيها، وهي تُردِّد بضيق:  يا بابا...
رفع الكوب، وقد كاد أن يقذفها به يهشم راسها ،
قبل أن يأخذ نفسًا طويلًا محاولا التحكم في ذاته،
وهو يقول بغيظ وشر، وهو يُغادر المطبخ:
 أنا داخل أنام أحسنلي!
 والغدا؟
قالتها حسناء بسرعة.
التفت لهما، ينظر لهما بقرف،
قبل أن يقول بتهكم: اكليها...
يمكن بُقّها يتقفل،
بدل ما هي ماشية تزغرط على نفسها كده!
وغادر،
لينظر كلٌّ من سارة وحسناء لبعضهما البعض،
وسارة تُردِّد وهي تُشير إلى طنجرة الحليب:
 نعمل رز بلبن ؟
نظرت لها حسناء، تزُم شفتيها،
قبل أن تنفجر ضاحكة،
وشاركتها سارة الضحك بجنون وسعادة.

❈-❈-❈
انتهى من عمله وكان وجهته التالية منزل عمته، فقد هاتفته تُخبره بحزن شديد مع بعض التوبيخ على تأخيره في زيارتها وانشغاله عنها.
تنحنح مرهقًا وهو يخبرها بقدومه اليوم، فسامحته مقابل ثلاث قطع من البسبوسة وعدّهم بها بعد أن تتناول الأدوية.
وبالفعل، غادر من عمله نحو منزلهم، ولم يبلغ فريدة اتقاءً لأي رد فعل لم يكن هو بحاجة إليه.
رغم أنه يعلم ويوقن أنها لن تنطق بحرف، لكن هكذا فعل وقرر أن يفعل.
وبالفعل وصل للمنزل، وصعد وهو يحمل بين يديه عدة حقائب وطلبات خاصة بهم، أخبرته عمته أنهم بحاجة إليهم وسلمى متعبة وترفض النزول.
ولم يتردد لحظة وأتى لها بأغلب ما طلبت، فقد كانت قائمة طويلة لم يحسب لها حسابًا للأسف.
دق على الباب بهدوء، لتفتح له سلمى قائلةً بابتسامة وهي تقفز أمامه:  جبتلي كورن فلكس؟
ناظرها بغضب وهو يدلف قائلاً بتأفف: طيب خدي شيلي مني حتى.
ودلف مقبلًا رأس عمته قائلاً برفق:  عاملة إيه يا حبيبتي؟ وحشتيني.
ابتسمت له بهدوء وهي تحتضنه قبل أن تتفحص الحقائب، وهي تشاهد ما أحضر وتحديدًا البسبوسة.
رفعت رأسها تنظر له بحنان، لم ولن ينساها يومًا، ابنها الأول وقرة عينها.
ربتت على يده قبل أن تأتي سلمى من خلفه قائلة بنزق مفتشةً ما أحضره:  مجبتليش كورن فليكس يا عمر؟ انت بتهزر؟
مش ماما قلتلك تجيب؟
عشان بحب أفطر بيه الصبح.
حدجتها أمها بنظرة موبخة قائلةً بهدوء:
خلاص حصل إيه يعني؟
ابقي خدي فلوس وهاتي بكرة وأنتِ راجعة من الجامعة.
 ويلا روحي اعملي شاي.
ناظرتها بضيق، قبل أن تتحرك متأففةً متمتمةً ببعض الكلمات الحانقة، وعمر يجلس مستندًا بظهره على الأريكة بارهاقٍ بادٍ على وجهه.
ناظرته بحنان قبل أن تربت على يده قائلةً بأمر:ولعي على الأكل يا سلمى، عشان عمر يتغدى معانا.
هز رأسه نافيًا، إلا أنها لم تهتم وقالت بتوبيخ:
إيه؟ مش عايز تاكل معايا؟ هي محذراك ولا إيه؟
زفر بضيق، فعَمَّتُه وسلمى أصبحوا يضعون فريدة كالملح في كل شيء، بدون أي مراعاة أنها في النهاية زوجته.
مهما كانت هي زوجته.
وكان يصمت، ماذا سيفعل سوى الصمت؟
وبالفعل اجتمعوا على الطاولة بعد خمس عشر دقيقة، وسلمى تجلس متأففةً لأنه لم يحضر لها الكورن فلكس.
ولأنه لا يحب أن يرى عبوسها أبدًا، ردد لها بحنان:خلاص وأنا نازل دلوقتي، هجبلك وتنزلي السبت أحطّهولك.
اتسعت ابتسامتها، تلقي له قبلة في الهواء.
ليحدجها بنظرات موبخة، قابلتها هي بلا مبالاة.
قبل أن يعود ليكمل طعامه.
ووسط كل هذا والهدوء بينهم، نطقت عمته فجأةً بترقب وعيناها تتفحصه: هي مراتك لسه محملتش؟
اختنق بمعلقة الأرز وسعل بقوة، قبل أن تناوله سلمى بسرعة الماء.
ابتلع الطعام وهو يناظر عمته، قبل أن تتابع:
 إيه؟ هي حامل؟
هز رأسه نافيًا وصمت، متخطياً هذا النقاش، إلا أنها تابعت بإصرار: ليه؟
احتقن وجه عمر بشدة ناظرًا نحو سلمى التي تناظره بعيون فضولية هي الأخرى، ليتمم بهدوء وحزم ليغلق هذا الحديث: لسه ربنا ما ارادش.
زمت عمته شفتيها بضيق وهي تقول بحزم:
ـ ونعم بالله. أنا مش معترضة، هو بأمر الله.
 أنا بقول إنها اتأخرت، دي أمك الله يرحمها كانت حامل من أول شهر فيك، تسع شهور وكنت في حضنها.
احتقنت ملامحه، يناظرها بصمت قبل أن يقول:عادي يا حبيبتي، إحنا لسه متجوزين.
وكل ست غير الثانية 
مينفعش نقارن بينهم ابدا 
وبعدين  أنا مش مستعجل على العيال، لما ربنا يريد وقتها.
 كل بوقته.
قالها وعقله يفكر في المسؤوليات المُلقاة على كاهله.
شهقت عمته قائلةً بتوبيخ:  إيه؟ ليه إن شاء الله ناوي تخلف على الثلاثين؟
 يا ابني العمر بيجري.
ـ الحياة إيه غير عيل من صلبك بيكبر قدام عينيك.
وتابعت بحزن: أنا عايز أشوف عيالك قبل ما أقابل وجه كريم يا عمر.
أسرع يمسك يدها قائلًا بحزن: يا عمتي حرام عليكِ، إيه اللي حصل لكل ده؟
إحنا مكملناش ثلاث شهور جواز.
يعني مفيش أي تأخير.
مش معقول بجد، زعلك مش صحيح يا حبيبتي.
 ده بايد ربنا، والتحاليل لا هتقدم ولا هتأخر أبدًا.
شدت على يده قائلةً بحزن: يا ابني عشان لو في مشكلة نلحق نعلّجها.
 يا حبيبي، إيه المشكلة لما أطمن على مراتك؟
 هاتها هنا وأنا هبعتها لدكتورة معرفة تطمّنّي عليها.
هز رأسه رافضًا قائلاً بهدوء: معلش يا عمتي، مش هينفع.
فريدة مش هتكون مستريحة.
 سيبيلي أنا الموضوع ده، إن شاء الله خير، إن شاء الله.
ومرت الجلسة بكل ما بها مرت، وغادر يحمل فوق كاهله شيئًا جديدًا،
وهو أن عمته تتمنى رؤية أطفاله.
هي تريد رؤية أبنائه، وهو أيضًا، لكن...
لكن وبداخله هو لا يريد لفريدة أن تحمل الآن.
رغبة لم ولن يقدر علي التصريح بها 
هو يريد يريد وبشدة 
لكن 
على الأقل فليكن مستعدًا لتلك الخطوة.
فلا يَظلِمُ ولا يُظلَمُ

ولم يكن يعلم أن صغيره كان يقبع هناك منذ البداية.

❈-❈-❈
سلسلة اجتماعات طويلة ومتتالية كانت نصيبه من هذا اليوم.
تحرّك يحمل أحد الملفات، يراجعه في طريقه إلى المكتب بانشغال شديد،
وفي انتظار وصول فوج مهم خاص بأحد المشاريع،
قبل أن يوقِفه رنين هاتفه.
رفعه بلا مبالاة ليجده حسام؛ وكانت تلك هي المرّة السابعة اليوم .
وقبل أن يرد ليرى ماذا يريد،
أتته السكرتيرة بسرعة، تخبره بوصول الفوج الألماني،
ليضع الهاتف في جيبه بسرعة،
ويتحرّك أمامها،
متجاهلًا اتصالات حسام.
فماذا سيريد؟
سوى الحديث العابر!
فلينتظر قليلًا بعد،
فهو لديه الأهم.
❈-❈-❈
ضمَّت الصغير تميم، وقد غفا بعد وَصْلة بكاء دامت طويلًا.
يريد أمه، كان يبكي بانهيار حقيقي،
ورغم أنه يعرفها، إلا أنه كان يريد أن يغفو بين ذراعي أمه.
غفا أخيرًا، وكم حمدتِ الله على ذلك.
ناظرته بحزنٍ وشفقة،
مفكرةً أن هؤلاء الصغار كانوا الضحية الثانية لرجلٍ خائن،
لم يرَهم في طريق غدره،
كاد أن يقتل أمهم في ذروة غضبه وبشاعة تفكيره،
بكل غباء كاد أن يفتك بها،
غافلًا عن كل ما قدمته،
محا كل شيء في غمضة عين.

تحركت بهدوء، تضعه على الفراش، تحاوطه بالوسائد،
كما فعلت مع شمس العافية بجانبه.
استيقظ كل من آية، وإيلا، وعز منذ قليل،
وقد أطعمتهم بعد أن طلبت لهم عدة وجبات حتي وان لم تشاركهم لا شهيه لها ابدا ،
وها هم يشاهدون التلفاز،
ومعهم المربية التي أرسلها تميم،
وهي تراقبهم وتطمئن عليهم من حينٍ لآخر.

حملت كوب الشاي، ورأسها يكاد ينفجر،
قبل أن تجلس على المقعد بهمٍّ شديد.
هي متعبة،
منهكة،
بداخلها عدة أشخاص، ولكلٍّ منهم رأيه الخاص،
بين مؤيدٍ ومعارض لما تريده أمها.
لكن تكون الإجابة واحدة
لا يجب أن تفعل،
لا يجب أن تفعل هذا الفعل الشنيع،
تظل سرقة، وإن زينتها أمها بالورود.
دون علمه، تكون سرقة.
هو نعم، يعطيها كل الصلاحيات،
لكن هذا ليس بمبلغٍ هين،
أمها تقريبًا تريدها أن تأخذ المبلغ كله،
وليس بهيِّن،
وهي لا تريد،
لكن وللأسف الشديد، أمها تريد.
ستُفسِد زِيجة شقيقتها بدون تلك الأموال،
ستكون هي السبب،
ستكون سبب تعاسة شقيقتها.
كررتها وعقلها يكاد ينفجر 
ماذا تفعل؟
أغمضت عينيها، تكتم دموعها، تشعر بالرعب يُحاوطها،
تنهدت بتعب،
قبل أن تستمع إلى رنين هاتفها.
تحركت سريعًا كي لا يستيقظ الصغار،
وكانت أمها.
رفعت الهاتف على أذنها، ترد بتعب: ألو... إزيك يا ماما؟
أتاها صوت أمها يرد بضيق:  بَبَعَتلك مش بتردّي ليه؟

أزاحت الهاتف، تنظر للرسائل الكثيرة،
قبل أن ترد بخفوت:  مشفتهاش... كنت بنيم الولاد.
– ولاد؟
كررتها أمها باستغراب،
لتتابع حور موضّحة:  آه، قصدي تميم ابن آلاء. إحنا سافرنا وجينا هنا، آلاء في المستشفى للأسف، ربنا يشفيها، وحسام لازم يكون جنبها وجنب أونكل مدحت، عشان كده جينا فجأة. وأنا قاعدة مع الولاد هنا، وهم في المستشفى.

نطقتها ولم تتوقع القذيفة التي انطلقت في أذنها،
وأمها تصرخ بها بقوة وعنف:  إيه الجنان ده؟
إنتي أكيد اتجننتي؟
ده إنتي يدوب لسه راجعة بيتك، ملحقتيش!
إيه يا حبيبتي؟ مش قادرين يقعدوا من غير "الخدامة" اللي ابنهم جايبها لهم؟

أبعدت الهاتف عن أذنها سريعًا،
وهي تستمع لها بعيونٍ متسعة،
وفمٍ فاغر غير مصدق،
قبل أن تتحرك بسرعة تبتعد عن الصغار، مرددة بضيق شديد: إيه اللي إنتي بتقوليه ده يا ماما؟ خدامة إيه؟ آلاء في المستشفى، دي زي أختي بالضبط، طبيعي حسام يكون جنبها، وأنا كده كده مش هسيبه لوحده، فـ أنا هنا. ليه أسيب الولاد للغربة، وأنا أقدر أخلي بالي منهم؟
وتابعت بحزم:  ده حقها عليا، وأنا مش مضايقة.

صاحت بها أمها بعصبية: اخرسي يا غبية!
ليه إن شاء الله؟ فاكرة نفسك خدامة عندهم؟
تقعدي بالعيال، قبل كده لما أخوه تعب، ودلوقتي كمان؟
إنتي عبيطة يا حور؟
ما يولعوا!
إنتي مالك إنتي؟
كل ما حد هيتزفّت، جوزك هيجرّك زي المعزة وراه تخدمي أهله؟

قاطعتها حور بسرعة:  حسام مقاليش تعالي، أنا اللي أصريت عليه، هو كان هيسافر لوحده.

تمتمت أمها بغضب:  أيوه يا حنينة!
يا حنينة يا أم قلب كبير!
وهي الحنية يا متربية، يا بنت بطني!
بس على جوزك وأهله؟
أما أمك، لما تطلب منك فلوس عشان جوازة أختك متبوظش،
تقوليلي إزاي أسرق جوزي؟
يعني هو حقه ياخدك خدامة لأهله،
وإنتي مستخسرة في أهلك شوية ملاليم في بحر الفلوس اللي على قلبه هو وأهله؟

انزلقت من عينيها دمعة يائسة،
وأمها تتابع بصوت عالٍ، غاضب وناقم:  أنا بقولك أهو، لو مبعتليش الفلوس قبل فرح أختك، لا إنتي بنتي ولا أعرفك!
أنا عايزة الفلوس يا حور!
العريس عايز يخلص ويتجوز،
والأسعار ولعت، وإحنا هنجيب أكتر من النص،
ويدوب مدّيت الموضوع خمس شهور،
يعني الفلوس تكون عندي قبلها،
والا والله، يحرُم عليا دخول بيتك،
ولا تقفي في غسلي،
ولا تاخدي عزايا،
وهتكوني لا إنتي بنتي ولا أعرفك!

وأغلقت الهاتف في وجهها.

اما هي فظلّت مكانها متسمره دون حراك ، تنظر للهاتف بعينٍ متسعة، ذابلة، باكية،
وجسدها بأكمله يرتجف من شدة قسوة كلماتها ،
قبل أن تُلقي بنفسها على المقعد،
وتنفجر في بكاءٍ عنيف،
غير قادرة على إيجاد أي حلول.

ماذا تفعل؟
ماذا تفعل؟
في الحالتين ستخسر،
في الحالتين، هي الخاسرة الوحيدة.

ولم تعلم أنه يراها،
وشاهد كل شيء،
حتى وإن لم يسمع،
لكن ما رآه كان يكفي وأكثر.

❈-❈-❈
ألقى بنفسه على المقعد بعد أن أغلق هاتفه،
وبعد أن رأى ما رآه.
وكم أراح صدره أنها لم ولن تعرف أنه رآها.
حور تتألم،
زوجته تتألم،
دون ذنب، أو حتى بذنب، هي تتألم.
هي بين طرفين، كلٌّ منهما ذا أهمية كبيرة،
تخوض وحدها تلك الحرب،
دون حتى أن تحمل سلاحًا،
بين خسارتين،
كلاهما أشدُّ وطأةً.
كيف له أن يتركها وحدها
تُصارع ما تُصارعه؟
تغرق في بحور الألم،
دون أن يمد يده لينتشلها.
يتألم، نعم،
يريدها أن تشاركه،
إن أرادت البكاء،
فلتبكِ فوق صدره،
ليضمها قلبه،
فلتخطئ، فنحن لسنا بملائكة،
لكن ليكن عقابها أن تكون سجينة أحضانه.
تنهد بتفكير،
هي لم تأخذ شيئًا،
لم تخذله،
فكّرت،
نعم،
لكنها لم تفعلها.
فتح هاتفه، يطالع صورتهما في الخلفية،
وهو يضمها والصغيرة،
كونه،
حياته.
رفع إصبعه يتلمّس صورتها، ابتسامتها،
بريقها الواهج،
قبل أن يردد قلبه بثقة: لن تفعلها،
لن تخذله،
وهو لن يخذلها،
لن يسمح لأحد بتحطيم علاقتهما،
سيحارب لأجلها،
مهما حدث،
ومهما كلّف الأمر،
مهما كلّفه.
❈-❈-❈
تجلس على فراشها كما المعتاد،
في هدوءٍ وسكون،
إضاءة خافتة هادئة، ونافذة مفتوحة،
منعزلة عن الجميع،
وحدها كما كانت دائمًا،
لا تريد شيئًا، ولا أي شيء،
فقط هدوء،
الكثير منه،
وليتركوها وشأنها.

صوتٌ عالٍ جذب انتباهها لثوانٍ،
قبل أن تعيد وجهها للكتاب تقرؤه بلا مبالاة،
لكن ما جذب انتباهها مرة أخرى
هو تردُّد اسمها،
مجدّدًا.

قالتها لنفسها بعينٍ شاردةٍ جامدة،
وجسدٌ ارتعش لوهلةٍ، شاعرًا بالبرودة رغم دفء الغرفة،
متوقّعًا القادم،
وكأن ما يحدث أصبح المعتاد
لَومها،
مرارًا وتكرارًا،
الكلام اللاذع السام،
كلمات كانت كصفعات،
ونظرات كانت أقسى من السياط.

وتتمنّى أن تختفي،
تبتعد،
تتحرّر،
كطيرٍ مسجونٍ ويُلام.

تجمّدت ملامحها وهي تستمع إلى الحديث الحاد في الخارج،
دون مراعاةٍ أنها قد تستمع،
قد تتألّم،
وأمُّها تردد بضيقٍ شديد: مش كفاية رجعت لي مطلّقة وشمّتت فيّا الأعادِي؟
لا، وكمان بتتآمر على الراجل؟
بدل ما تحمد ربنا إن في حد جِه،
وهي قاعدة كده زي البيت الوقف!
أنا تعبت منهم،
وزهقت!

أغمضت عينيها، تكتم دمعةً لن تُحرّرها،
فرُبّما لو بكت، قد تُغرق الغرفة،
ارتسمت على وجهها ابتسامةٌ ساخرةٌ مريرة،
وفي داخلها امرأة وضعتها أمّها داخل صندوقٍ عفن،
فقط لأنها مطلّقة،
وإن كانت هي السبب.

أسموها ميرڤت،
وتمقته،
واختارت ماڤي
منحته لنفسها
كأنها تنتزعه من بين الركام،
 تولد من جديد،
من رحم الحطام،
بألمٍ، بصمت،
لكن بقوة لا يملكها إلا من أُحرق... ونجا.
❈-❈-❈

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1