رواية عريس قيد الرفض بين الرفض والقدر الفصل الواحد والثلاثون 31 بقلم عفاف شريف


 رواية عريس قيد الرفض بين الرفض والقدر الفصل الواحد والثلاثون

حُطام
حريق
دموع
خذلان
والنتيجة روح جديدة ونظرة لم أكن لأنظر بها من قبل.

تحطّم قلبي، تدهسه.
وبعدها تنظر لي بتعجّب 
أنني تبدّلتُ لامرأةٍ أخرى.
امرأةٌ أكثر قسوة.
تبًّا لك.
أنا أخرى بفعل يديك.
أنا أخرى لأنك لا تستحق.
والحقيقة أنت لم ولن تستحقني في أيٍّ من الحالتين.

أنا امرأةٌ كانت أغلى من أن تكون لك.
أنا من ظنّت أنها سقطت ولن تنهض.
ونهضت
وكان الفضل فضلك.
والخسارة في الحالتين
كانت خسارتك.

أما أنا،
فعلى قلبي السلام،
وعلى روحي أن تتقبّل أنني تغيّرتُ.
وقد غلّفت القسوة قلبي
إلى أن يأتي من يذيبها
بقلبٍ لم يعرف سوى أن يحب.

وحتى إن آتى،
أنا،
أنا تغيّرتُ
كما لم أرد يومًا،
أصبحتُ أقسى.

❈-❈-❈
أيُمكن أن يتلذّذ الإنسان بألم الآخرين؟
صوت التأوّه المتألم، كسر العظام، وربما الدماء،
وتوسل الآخرين له طالبين الرحمة؟
نعم، إن كان مريضًا، أو فاقدًا لعقله،
مختلًّا، مضطربًا،
فقط في تلك الأحوال المريبة.
لكن، اعذرني عزيزي القارئ،
هناك حالة أخرى،
ربما هي استثنائية قليلا ،
وهي أن يُمسّ أحدهم عائلتك،
أهمّ ما تملك،
قطعة من قلبك إن لم يكونوا كلّه.
هنا،
يصمت العقل،
ويُمحى أيّ ذرّة منطق،
ولا يتبقى سوى الدمار،
وغضب قد يحرقك أنتِ شخصيًا في خضمّ معركة ضارية كتلك.
فنصيحة مهمّة
ابتعد عن عائلات الآخرين.

وقف معتصم ينظر لما يحدث بتنهيدة.
فالبداية كانت بخلع كتف رامي، وقد صرخ بأعلى صوته بألمٍ شديد، يستنجد ويتوسّل،
وواضح أنّ التالي أسوأ، وبالفعل،
تحوّل تميم،
هذا الهادئ الذي عرفه،
الراقي والمبتسم،
كان آخر،
كان كمن مسّه الجنون.
وهمس له حارسه بجمود، يقاطع مشاهدته: 
مش لايق عليه.
وحدجه معتصم بحزم،
وإن كان صادقًا،
أمثال تميم لا يلوّثون أيديهم.
أمثال تميم انقي من هذا .
لكن، يبدو أن رامي أراد أن يجرّب هذا التحديث.
وحدث.

أشار لحارسه الشخصي "دارم" أن يجلب له ما يشربه،
وحينما حدجه الآخر باستغراب، وهو ينظر نحو الآخرين،
أجابه معتصم بجمود، قائلًا: الموضوع شكله هيطول،
وريقي نشف وأنا بتفرّج.
وتحرّك الآخر من أمامه،
وأكمل هو مشاهدته،
حتى إنه تأوّه نيابةً عن رامي،
وتميم يلكمه،

وقف الآخر ينظر لرامي المُلقى أرضًا،
بغضبٍ يحاول أن يسيطر عليه حتي انه بداء يشعر بالإرهاق والتعب بين كل دقيقه يحاول التقاط أنفاسه ليعود ليضربه حاول التريث ،
الا انه لم يستطع،
قبل أن يُكمل ما يفعل، والآخر مُلقى أرضًا،
يتلقى الركلات والسباب بغضبٍ أعمى،
وصوت صرخاته يصمّ الآذان،
وتميم لا يتوقّف،
لا يتوقّف أبدًا!
كان رامي قد أطلق شياطين الآخر.

اقترب دارم منه، يمدّ يده له بالكوب المُغلق بهدوء،
وما إن رفعه معتصم يرتشف منه بصمت،
حتى اشمأزّت ملامحه، وهو يُبعد الكوب، ينظر لدارم، قائلًا بغضب: فراولة؟
إنت جيبلي فراولة؟
وتابع بحزم: أنا عايز قهوة.
قالها، وصوت صراخ رامي يُزيّن الخلفية بإزعاج.
كان مشهدًا عبثيًّا، مجنونًا.
تميم يضرب رامي،
معتصم يوبّخ دارم على عصير الفراولة،
عصير فراولة!
ما تلك الميوعة؟
هو يريد قهوة،
مرّة،
ودون إضافات.
إلّا أن الآخر أخبره بتأكيد: خلصت.
الرجّالة خلّصوا كل اللي جبته.
وأكمل بهدوء: أنا بعت عربية يشتروا، وقلت أجيبلك ده مؤقتًا.

زفر بغضب،
وهو يعطيه الكوب، ليأخذه الآخر يشربه بهدوء ولا مبالاة،
وهم يتابعون مشاهدة ما يحدث.

❈-❈-❈
كان غاضبًا.
ملعونٌ هو ألف مرة ملعون حينما سلّمها له، وضعها بين يديه، أأمنَ الغزالةَ في فم الذئب؟
فكان جزاؤه أن ذبحها، بدمٍ بارد.
دعس على قلبها، وانتهك روحها الطاهرة.
شقيقته، آلاء، تقبع محاوطة بالأجهزة، بسببه... بسببه.
كلما تخيل ما فعله بها.
كان يحترق... يحترق ألف مرة.
وقف في محله يشعر بنفسه يحترق، حتى تحرّك، يرفعه بيده كأنه خرقة لا قيمة لها، حتى وقف مترنحًا بين يديه،
وعيناه في عينيه... لا تتركاها.
قبل أن يعود برأسه للخلف، ثم يعيدها للأمام، يضرب رأسه بقوة، ناطحًا إياه،
لدرجة شعر هو بألمٍ شديد في رأسه، ولم يهتم أبدًا... ولم ولن يكتفي.
فأبعده، ممسكًا به من ملابسه بعنف، موجّهًا له صفعة، تلو الأخرى...،
والآخر يحاول تفادي الضربات بوهنٍ وصراخٍ متوسل.
إلا أن جنون تميم كان أكبر من أي شيء في تلك اللحظة، حتى من أن يحافظ على روحه من أن تُزهق.
وفي غمرة قوة لا يعلم من أين أتت، كان رامي يرفع يده السليمة وبكل ما تبقّى من قوته، يلكم تميم،
دون أن يرى بدقة أين يضرب من الأساس، فرؤيته أصبحت مشوشة بفعل ما حدث له.
تركه تميم حتى وقع أرضًا، ووقف يتنفس بعنف، بوجهٍ جامد، وأنفاسٍ ثائرة تكاد تتوقف من شدة حدّة ما يمر به.
ورامي يزحف بجسده للخلف ببطء وتوجّع، خائفٌ مرتعب، بوجهٍ لم يعد ظاهرًا من الكدمات،
فمٌ وأنفٌ ينزفان، وجسدٌ يكاد لا يشعر بعظامه، وكتف قد خلعه له بكل قسوة.
يكاد يشعر بأضلاعه قد كُسرت، والرؤية مشوشة.
وهنا...
سكن تميم.
سكونٌ مخيف... مرعب، والهدوء يعم المكان،
سوى من همهمة باكية تصدر من رامي، وهو يجلس مستندًا على الحائط حيث زحف برعب،
رعب ولسانه يردد ببكاء: والله رجعتلها عشان أشوفها، والله...
 بس كانت الإسعاف جت، خفت وهربت...
 أنا آسف، أنا آسف... أبوس رجلك، أبوس رجلك، عشان خاطر عيالي...
كان يقولها ببكاءٍ مرتعب، وعينُ تميم قد لمعت بشدة أكثر عند ذكر الصغار، وهو يحدجه بغضب، بقرفٍ واشمئزاز كما لو أنه ألقى عود الثقاب وسط كومه من القش،
قبل أن ينحني، يلتقط عصًا حديدية، يمسكها وهي تلامس الأرض،
وقدماه تتحرك مقتربًا منه ببطءٍ شديد، والعصا تسير بجانبه محتكة بالأرض،
تصدر صوتًا حادًا أرسل الرعب في قلب الباكي أرضًا.
قبل أن يقف أمامه، عيناه تراقبه بصمتٍ وجمود، مراقبًا فعل يديه،
وجهه، جسده، كل شبرٍ منه كان مكدومًا مغطى بالدماء.
وكان هو يحيا حرب اخري 
حرب ضميرة من قسوه لم يعرفها يوما
لكن لو كان قد أخطاء معه لتنازل عن حقه 
لكن من كانت الضحيه كانت الاء 
ولأنها الاء 
ما فعله حتي الآن لم يكن كافيًا، لم يكفِ أبدًا، ولم يُطفِئ أبدًا تلك النيران المشتعلة في صدره،
ولن يُطفئها سوى شيء واحد
 موته.
ترددت بداخله بكل قسوة، ودون تردد أبدًا،
رفع العصا بسرعةٍ وقوة، ليهبط بها بقوة فوق رأسه... ليقتله.

❈-❈-❈

إلا أنها لم تهبط فوق رأسه، بل فوق يد معتصم الذي ظهر فجأة ينظر له بحدة، قائلًا بهدوء: لحد هنا وبس.
وأخذ من بين يديه العصا بحدة وقوة حازمة، قبل أن يقف أمام رامي، قائلًا بتأكيد: انت مش قاتل يا تميم، مش هينفع.
 تميم بانفعال وهو يدفعه بقوة: ابعد يا معتصم!
بقولك ابعد!
إلا أن معتصم لم يتزحزح ولو إنشًا واحدًا، بل كان ثابتًا بحزم وقوة، وهو يردد: أنا مش هسمحلك، حقك وخدته.
وأدار رأسه قليلًا يشير نحو رامي الباكي والمغطى بالدماء، وتمتم بحزم: وأكثر كمان.
عشان كده، مش هسمحلك.
أوعى تنسى، الراجل ده هيفضل أبو ولاد أختك مهما حصل،
لو هو نسي، مينفعش إنت تنسى... مش هينفع يا تميم.
 هو آه مايسواش، بس إنت أنضف من إنك توسخ إيدك بيه.
كان تميم يتنفس بسرعة، يحاول... يحاول لكنه يجن،
يَجن ويحترق، وصورة آلاء أمام عينَيه.
لكن... لكن... الصغار.
أغمض عينيه بقوة، وهو يتلفت، يبتعد للخلف، ليجمح شياطينه، معطيًا إياهم ظهره.
زفر معتصم، وهو يشير لدارم وقد أتى له ببعض الأوراق،
قبل أن يميل نحو رامي المرتجف، وهو يرمقه بجمود: امضِ.
كان يرتجف فعليًا، لا يعرف على ماذا يُمضي، إلا أنه لم يكن قادرًا على التفكير حتى،
ووقّع بالفعل، ورقة تلو الأخرى،
وما إن انتهى حتى أشار معتصم لرجاله قائلًا بلا مبالاة: خُدوه، وابقوا ودّوه المستشفى بعد ساعتين من دلوقتي،
وقولوا إنكم لقيتوه مرمي في الشارع... بالمنظر ده.
 صح يا رامي؟
قالها وهو يحدجه، وقد أومأ له الاخر بسرعة وارتجاف،
وقد بدأ فعليا بفقدان وعيه وشعوره بأي شيء من شدة الألم.
ابتسم معتصم بسخرية، وهمّوا يحملونه للخارج،
ومعتصم يقلب الورق بين يديه
تنازل عن الحضانة،
شيكات بمبالغ مالية خيالية،
الكثير من المصائب لضمان حقوق شقيقتة تميم.
قبل أن يقترب من تميم، قائلًا وهو يمد له يده بالأوراق: أنا ساعدتك عشان أنا حاسس بيك،
بس صدقني، قتله مكنش هيهدي النار اللي جواك،
مكنتش هتسامحك، حتى لو هي بتتمنى موته.
في أطفال في النص، في أطفال مستحيل يسامحوك في يوم،
حتى لو أبوهم شيطان.
 هيروح المستشفى، وبعد ما يفوق، هيطلّق،
بس يكون في وعيه، بدون إجبار،
عشان الطلاق يقع ويكون شرعي.
أومأ له تميم بصمت، ومعتصم يراقب ملامحه وعينيه...
هو يعلم، يشعر،
ومن قد يفهم تلك المشاعر مثله؟
وهو من تجرّع الألم أصناف... حتى اكتفى.

❈-❈-❈
استند على السيارة، ينفث دخان سيجارته بلا اكتراث، وهو يتطلع نحو الأنوار البعيدة بلا مبالاة.
كانت بعيدة ولامعة كنجوم صغيرة،
إلا أنها لم تكن نجومًا، هي فقط مُبهرَة من بعيد.
وهو رجل لا ينبهر بسهولة.
مدّ يده بالسيجار لتميم الجالس بجانبه،
إلا أن الآخر هزّ رأسه برفض،
ليُعيدها إلى فمه بصمت،
دون رد،
دون حديث.
كان الصمت والهدوء يعمّ بينهم،
ودارم في الخلف كظلٍ لمعتصم،
لا يُفارقه، ولا يظهر سوى في لحظة خاطفة إن تطلب الأمر.
غير هذا، هو ظلّ.
وطال الصمت، صمت ثقيل كأنه يخشى أن يُخدش فيحدث انفجار. حتى تحدث تميم بكبت، وهو يحرك يده بعصبية كانت ظاهره وواضحه على ملامح وجهه المتعب: مكنش حقك يا معتصم.
أكمل معتصم تدخينه، قبل أن يُلقيها أرضًا،
داعسًا عليها بقوة، ملتفًا نحو تميم متسائلًا بتفكير وعيناه تخترق عيني الآخر: وبعدين؟
قطب تميم حاجبَيه بعدم فهم،
ليتابع معتصم بحدّة وهو يهزّ رأسه: وبعد ما تقتله؟
إيه؟ خلاص كده يعني؟
النتيجة؟
هتتسجن.
وبعدين؟
أختك هتعيش مقهورة العمر كله، شايلة ذنبك في رقبتها.
أبوك ممكن يموت من حزنه عادي جدًا.
وصمت،
قبل أن يُكمل بحزم وحده مؤكدًا له، وهو يطرق على السيارة بقوة: هتخسر كل حاجة.
يبقى ليه؟
فكّر فيها من جهة تانية.
موته مش حل.
موته مش هيريّح أختك.
أختك هترتاح لما تتطلق، وتاخد منه كل اللي خده بفضلها.
هترتاح وولادها في حضنها،
وهو بعيد،
زي ما كان طول عمره.
ناظره تميم، ولم يكن بحاجة لسؤاله من أين علم تلك المعلومة الخاصة.
حسنًا، معتصم رجل لا يخفى عليه شيء.
التفت ينظر أمامه بغضب.
هو محق،
لكن ما زال غضبه ثائرًا وبشدة.
لذا تابع معتصم وهو يراقب ملامحه: إنت المفروض تروح لأختك دلوقتي.
روح، وقولها إنك خدت حقها.
قولها تطمّن،
وإنه من النهاردة رامي صفحة...
وتابع بلا مبالاة: واتحرقت.
واعرف إنك عملت الصح.
أومأ له تميم،
ووقف قبالَه، يرفع يده ليحيّيه بابتسامة صغيرة،
إلا أن معتصم جذب يده يحتضنه،
مربتًا على ظهره بقوة،
قبل أن يتحرك تميم ليغادر،
لكن فجأة توقفت خطواته،
قبل أن يلتفت، ينظر لمعتصم بتفحص، وكأن ما سيتفوه به كان أقسى من أن يسأل،
متسائلًا بملامح جامدة: لو كنت مكاني... كنت هتعمل إيه؟
والإجابة كانت واضحة، حتى دون أن ينطقها.
ونطقها بتأكيد:
ـ هقتله.
ومعتصم يَنصر قانون الغاب،
فلا عزيز يبكى عليه.
وغادر تميم،
ومعتصم ينفث دخان سيجاره جديد، مدندنًا بلحن غريب،
مخيف...
مخيف كملامح وجهه في تلك اللحظة.
❈-❈-❈
دلفَ للمنزل، يُحرّك رأسه بتعبٍ حقيقي،
بعد وَصلة اجتماعاتٍ طويلة دون أي راحة،
وهو لا يريد الراحة في هذا الوقت،
يريد النجاح،
وقاموس النجاح لا يعرف الراحة أبدًا،
لا يعرف سوى السعي والاستمرار.
لكن، وقبل أن يصعد لغرفته لينال قسط من النوم ،
توقّف على إثر صوت يارا،
وهي تُنادي عليه وتُخبره أن يأتي إلى غرفة الطعام.
قَطّب حاجبيه قبل أن يتحرك بتململ، يُحرّك جسده المُتيبّس بإرهاقٍ شديد،
وعيناه تتطلّبان النوم في التوّ والحال،
فغدًا يوم جديد بإرهاق جديد،
وسلسلة جديدة.
وما إن دلفَ للغرفة،
حتى وقف مكانه لوهلة، يُراقب جمعهم
يارا والصغيرين
على طاولة الطعام،
في انتظاره.
نظر ليارا متسائلًا بتعجّب عمّا يحدث، وهو يتمتم مشيرًا للصغار بعينه: مش المفروض عدى على معاد نومهم ساعة؟
إيه اللي مصحيهم لحد دلوقتي؟"
أوْمَأَت له،
وقالت بتقرير وهي ترفع يدها باستسلام: طلبوا يتعشّوا معاك مرة في الأسبوع،
ونتجمّع كلنا،
عشان كده قالوا هيستنّوك، يتعشوا وبعدين يناموا على طول.
أومأ لها بصمت وابتسامة صغيرة لأجل الصغيرين،
وانضمّ لهم.
ومنذ مدة طويلة لم يحظَ هذا المنزل بجلسة عائلية كتلك،
كانت تلك الأولى منذ الكثير.
تناول العشاء في جو هادئ،
فرحة الصغار وابتسامتهم الكبيرة دليل على سعادتهم،
ورغم رغبتهم في قضاء وقت معه،
إلا أنهم كانوا قد بدأوا في النوم بالفعل،
ويارا تُخبرهم بحزم أن ينتهوا سريعًا،
قبل أن تنظر له قائلة بهدوء وتذكر : اه على فكرة،
حسام اتصل كذا مرة يسأل عليك،
وقُلتله إنك لسه ما جِتش.
زفر بضيق، متأفف،
لقد نسيه تمامًا،
لقد انشغل ونسي هاتفه تمامًا.
سألها بتعب وقلق، وهو يُخرج هاتفه: ما سألتُهوش عايز إيه؟
في حاجة ولا إيه؟
هزّت رأسها نافية، قائلة بهدوء وهي ترفع الشوكة لفمها: لا معرفش ،
لو كان عايز يقول، كان قال.
ناظرها بضيق،
لم تهتم له،
قبل أن يُهاتف حسام،
وبعد ثانية واحدة كان الآخر يرد،
قائلًا بسخرية حقيقية وحزينة: بجد لسه فاكر؟
ما لسه بدري!
زمّ شفتيه، وقبل أن يُبرّر،
تابع حسام بضيق واستهجان: ما جاش في بالك لثواني
إني ممكن أكون محتاجك؟
إني مثلًا، لا قدّر الله، تعبان،
واقع في مصيبة،
بابا حصله حاجة،
أي حاجة مهمة،
أيًّا كان السبب،
اتصالي المتكرر
ده ما لفتش نظرك لحاجة؟
معقول يا أمير؟!
وصمت،
وأمير أيضًا،
لا يجد ما يرد به،
إلا أنه في النهاية تمتم باعتذار: أنا آسف يا حسام،
صدقني يومي كان طويل ومليان للأسف،
سامحني لو سمحت.
وتابع برفق: طمني عليكم،
إنتوا كويسين؟
إيه اللي حصل؟
تنهد حسام بضيق، وتابع وهو يمسح وجهه،
يروي له ما حدث من أول لحظة.
كانت يارا تنظر له باستغراب حقيقي،
وهي تُشاهد تغير ملامح وجهه الهادئة،
وقد بدأ الاحمرار يغزو وجهه، دليل على غضبه الشديد وسوء ما يسمعه،
قبل أن يهب واقفًا من مكانه، قائلًا بعصبية: إنت بتقول إيه يا حسام؟!
إزاي يعني؟!
هو اتجنن؟!
ده أنا أَنسِفُه!
هو نسي نفسه ولا إيه؟!
انتفض الصغار بخوف وتوتر على أثر صياح أبيهم،
لتشير لهم يارا بالمغادرة بسرعة وحزم،
وبالفعل ركض الصغار،
وتبعتهم إيميليا،
وقد اقتربت منه سريعا لتقف بجانبه بملامح قلقة، وهي لا تفهم شيئًا ابدا ،
قبل أن يتابع هو بهمس خافت قلق: وآلاء؟
عاملة إيه؟
طمنِّي عليها، هي كويسة؟
والولاد؟
أجاب حسام بحزن: الولاد مع حور بحمد ربنا أنها جت، هم في أمان، ما تقلقش،
بس...
وتابع بحزن وغَمّ: الوضع للأسف مش كويس يا أمير،
الضرب كان شديد.
وصمت مرة أخرى،
ليتابع ويلقي بالأسوأ: كانت حامل، وبسبب الضرب أجهضت.
اتّسعت عينا أمير بشدة، وهو يستمع لما يقوله حسام،
أخبره أنه أتى مع حور بعد أن أبلغه تميم،
وأنهم يخفون ما حدث عن ملك بسبب وضعها الصحي،
وأكد عليه أن يكتم هو أيضًا الأمر كما فعلوا،
وانتهت المحادثة،
وهو يتمتم بحسم: "أنا جاي."
وأغلق،
ويارا بجانبه تُناظره بتوتر، قبل أن تتساءل بقلق: حصل إيه يا أمير؟"
أغمض عينيه مُتنهدًا،
وما سمعه يجول في خاطره بقسوة،
بل وبكل قسوة،
لقد غفلوا عن آلاء،
وكانت النهاية
أقسى مما قد يتخيّل أحدهم،
بشعة وقذرة.
استند على المقعد وهو يُخبرها سريعًا بما حدث،
كانت تستمع له بوجه مصدوم،
متألم،
قبل أن تستمع إلى خبر الإجهاض،
وضعت يدها على فمها بصدمة،
هي امرأة،
هي أم،
تعلم معنى تلك الخسارة،
تلك الخسارة بألف،
وهي تُردد بحزن وضيق، مُربتة على ذراعه، قائلة: ربنا هيعوّضها خير ،
وإن شاء الله هتقوم بالسلامة،
أقوى بكتير.
وتابعت بتأكيد: إن شاء الله هتبقى كويسة،
ما تقلقش،
أنا واثقة إن ربنا هيحفظها لولادها.
أومأ لها بكآبة،
قبل أن يقول بجمود: أنا لازم أسافر.
كانت تُطالعه بعين مترددة،
تُناظر عيناه المُراقبة لها
ف ترقب لرد فعلها ،
ما ستقول ،
لكن
لكن هي مشغولة،
هي ليها اجتماعات مهمة،
والأولاد...
إن ذهبت بتلك الطريقة مرة أخرى،
ستتوقف حياتها للمرة الثانية وتتعطل الكثير من الأمور ،
وهي بحاجة أن تُثبت نفسها في تلك الفترة.
كان الصراع قد بدأ داخلها وبقوة ،
بين أن تُريد أن تكون معه،
وتُريد أن تُحقق نفسها.
وانتصرت هي في النهاية ،
قبل أن تُومئ له بصمت،
فهي في النهاية
ليست مُجبرة.
ناظرها هو لدقيقة،
قبل أن يتحرك مغادرًا الغرفة ليتجهز للسفر،
وخلفه، هي تنظر في أثره،
بندم،
ندم دام دقيقة واحدة،
وأخفاه عقلها الحاكم،
فلا وقت للمشاعر،
الآن وقت الفوز بالسباق.
أما هو، فكان يرتقي الدرج بصمت وجمود،
وبداخله، كان يتمنى أن تطلب منه المجيء،
أن تكون بجانبه في تلك الظروف،
تشدّ أزره،
وتحتضن قلبه،
إلا أنها لم تفعل،
وما كان هو ليطلب منها.
وانتهى الأمر.

❈-❈-❈
في جلستها المعتادة على الأريكة أمام التلفاز،
تتناول التفاح الأخضر الحامض،
ثم تغمس الفراولة في صحن الشوكولاتة الذائبة،
وفي النهاية تلتقط كسرة خبزٍ بالجبن القديمة.
أصبحت تشتهي السكريات،
والكثير من الحوامض،
والموالح للتوازن.
تحسست بطنها قائلةً بتفكير وحنان كبير: يلا، قولي، تحب تاكل إيه النهاردة؟
بص، هديك اختبارات
 بفكر نعمل ملوخية ورز بالشعرية وفراخ محمّرة،
ويا بَقى لما أرش عليها شوية ملح وفلفل أسود، أممممم!
ولا أعمل صينية بطاطس بالفراخ،
ونحط بصل وطماطم كتير!

قالتها وهي تمسد على صغيرها،
منتظرة الركلة.
حسنًا،
أصبح القانون كالآتي
كل يوم، هي تخبره بعدة أكلات،
واسم الأكلة التي تحصل على الركلة المنتظرة،
تقوم بفعلها لأجله.

وبالفعل...
لكن ماذا حدث؟
نصف ساعة، والصغير لا يتحرك.
قطبت حاجبها بضيق،
وهي تتساءل باستغراب: غريب!
ولا أكلة عجبتك؟
دول حتى كلهم حلوين ما شاء الله!

زمت شفتيها وهي تتحرك من محلّها ببطء،
متوجهة للمطبخ.
وبعد قليل،
كانت تميل تقلّب في المبرد بتذمّر،
وحينما شعرت بالإرهاق من الوقوف،
أحضرت المقعد الصغير وجلست أمام المبرد،
تقلّب فيه براحة أكبر،
قبل أن تلمع عيناها بفرحة،
وهي تلمح عبوة مربّى البرتقال،
تلك التي قد أحضرها أنس من مصر خصيصًا لها.

احتضنت العبوة وهي تفكر:"ربما هذا يحرّكه!"
وبالفعل تناولت العبوة،
وأغلقتها بعدما حصلت على ثلاث قطع من الجبن، وشريحة بطيخ،
ولم تنسَ قطعة كيك أحضرها أنس من المخبز أمس،
كان هشًّا وذا مذاقٍ خلاب.

كانت تضمّ الطعام،
مفكرة أن هذا بأكثر من كافٍ،
فهي ستتناول الغداء بعد قليل على كل حال.

عادت لتجلس على الأريكة،
وهي تقضم البطيخ، وبعده الجبن،
وقطعة كيك في المنتصف،
ولم تنسَ ملعقة مربّى البرتقال.

وعند باب الشقة،
كان أنس قد وصل أخيرًا،
وهو يقف ينظر للمشهد أمامه بعينٍ متسعة،
متسائلًا كيف تتحمّل هي أو الصغير كل تلك الأنواع مع بعضها البعض؟
يكاد يشعر بتلبّكٍ معويّ بالنيابة عنها.

وبالفعل تحرّك بحرص شديد،
لكي لا تشعر به كالمعتاد،
حتى وقف خلفها،
وما إن كاد أن يفزعها،
حتى سمع همسها الخافت وهي تردد بطفولية، ممسّدة على بطنها: حلو وكلت،
حادق وكلت،
كلت كل حاجة في التلاجة،
اتحرّك بقى!

قرب أنس رأسه بحرص شديد حتى همس بأذنها : أعمل فيكي إيه؟"

انتفضت، صارخة ، تضع يدها على صدرها بصدمة من وجوده من الأساس،
وهي تتساءل بغباء متى حضر ؟
وكيف لم تشعر بحضوره ؟
قبل أن تنظر له شذرًا، وهي تلتف تمدّ يدها لتضربه بقوة على صدره،
إلا أنه أمسك يدها وقبّلها، قبل أن يقفز على الأريكة ليصبح بجانبها دون أن يتخلى عن يدها،
يلاعب لها حاجبها بمشاكسة.

أبعدت وجهها عنه، تزُمّ شفتيها غاضبةً منه،
إلا أنّه اقترب منها أكثر،
يزيح خصلة سقطت من "كوم القش" فوق رأسها، كما يطلق عليها منذ فترة، قائلاً بغيظ وتذمّر: جعااااان!
فين الغدا يا أم العيال؟

زمت شفتيها أكثر،
ولم تجب.
"أمممم"،
قالها بتفحّصٍ لما حوله،
وانفه قد بدأ يحاول التقاط أي رائحة تدلّ على وجود أي طعام،
إلا أنه لم يجد.

ضيّق عينيه أكثر،
يحدجها بحاجبٍ مرتفع،
حتى صاحت بتبرّم: أيوة،
ما عملتش أكل لسه!
"برضو يا ملك؟"
قالها بغيظ.

لتتابع هي بتأكيد وتوضيح، علّه يفهم: أيوة،
لازم هو يختار،
يعني أنا هيتحكم فيّا وفي أكلي على آخر الزمن ابن الـ...

وقبل أن ينطق بالسبّة،
كانت تنظر له بشرٍ واضحٍ للأعين،
وتردد بنبرة معتادة: ما تشتمش البيبي!

جزّ أسنانه، يهمس بغيظ، وهو يضرب فخذه بتعبٍ منها هي وابنها، وكم يود أن يضربهم سويًا: مش لمّا أعرف هو نوع أمّه إيه، عشان أشتمه براحتي!

ضيّقت عينيها، تنظر لهمسه دون أن تفهم شيئًا،
إلا أنها تنهدت بضيق، وهي تفكّر
له حق...
بل كلّ الحق،
يجب أن يجد الطعام جاهزًا عند عودته.

لكن ماذا تفعل؟
هي أصبحت تنفر من معظم الطعام،
وهذا غريب،
والغريب أكثر أن صغيرها يتقبل ما يركل لأجله،
كأنّه يفهم،
وهي لا تفهم.

فكرت بها،
قبل أن تميل برأسها عليه،
تنام على كتفه بدلال ورقة.
ابتسم لها بحب واشتياق،
ضامًّا إياها إلى صدره بحب،
واضعًا يده في مكانها المعتاد فوق بطنها حيث صغيرهم،
يمسد عليه.

وبعد القليل، تساءلت هي بخفوت:
"أعملك رز وبامية باللحمة؟"
وقبل أن ينطق بحرف،
ركل الصغير فجأة،
ساد صمتٌ قصير، دقات قلبها تتسارع،
كأنّه يتجاوب مع ركلة الصغير فرحًا وسعادة.
بدا لها، ولو لوهلة، ورغم أنه ما زال جنينًا،
أنه يشاركهم.

التفتت ببطء تنظر لأنس بعين لامعه،
وهو يبادلها النظرات بأخرى حنونة،
قبل أن ينطقا معًا في نفس اللحظة:
رز وبامية باللحمة!

وانفجرا ضاحكين بضحكاتٍ صافيةٍ سعيدة.
لقد أصبحوا ثلاثة،
حتى القرارات الصغيرة باتت جماعية،
فكل نبضة،
وكل طعام،
لا يخصّهما وحدهما بعد الآن.

وبالفعل،
كانت الساعة التالية لهم معًا في المطبخ،
هي تجلس على المقعد،
وهو يعدّ الارز والبامية،
تحت إشرافها،
يكفي أنها صُنعت بحب،
وبيد من تُحب.

❈-❈-❈

بغرفتها أمام النافذة،
كما المعتاد في الآونة الأخيرة،
أمامها فنجان شاي قد برد،
وبين يديها كتاب لم تقرأ منه حرفًا.
هي فقط تحاول،
وما زالت في الصفحة الأولى،
فلا نتيجة لتلك المحاولات.
عقلها مشتت لا يسمح لها بشيء.
شوكت أصبح بعيدًا،
أبعد مما كانت هي تظن.
لا حديث، لا تواجد.
أصبحوا كالغرباء،
وحينما حاولت مرة،
تجاهلها،
فكانت صفعة لكبريائها وأنوثتها المجروحة.
فابتعدت بصمت،
وكان يستحق.
ولم يكن شوكت وحده ما يشغل تفكيرها،
بل أيضًا آسيا،
تحديدًا بعد حديثهم الأخير.
وهي تشعر بنفسها مختلفة،
مختلفة بطريقة غريبة.
تنهدت باختناق مفكّرة: "آسيا ابنتها."
هي لن تنكر لوهلة.
هي ابنتها، وإن لم يحملها رحمها.
هي ابنتها،
كررتها لنفسها،
لقلبها المنهك.
طرقات سريعة على الباب، تبعها دخول آسيا،
بلهفة وسرعة، وابتسامة كبيرة تزين وجهها.
قابلتها هي بابتسامة صغيرة لم تقدر سوا عليها.
قبل أن تقترب منها آسيا،
تمسك يدها، تنتشل الكتاب،
تلقي به على الفراش بلا مبالاة،
وهي تشدد على يدها، تدعوها للتحرك.
 تأخذها وراءها مغادرة الغرفة،
متوجهة نحو غرفتها،
دون أن تجيب على اي من تساؤلات صفيّة الحادة.
وقد تجمدت عينا صفيه لوهلة،
ونبضت بعنف وهي تمر بجانب غرفة أخرى،
غرفة فريدة،
حيث أصبحت فارغة حينما غادرت صاحبتها،
حتى اختفت من أمام ناظريها بسرعة.
وتوقفت قدماها وقد وصلت للاخره.
حركت عيناها في الغرفة،
وقد رأت ما تريد أن تراها إياه،
دون حتى أن تخبرها.
فقد كانت الغرفة مقلوبة رأسًا على عقب،
ومليئة بالملابس، الحقائب، والأحذية،
وواضح أنها جديدة.
لهذا خرجت اليوم،
لتشتري ملابس جديدة،
قالتها لنفسها، وهي تلتفت تنظر نحو آسيا،
التي أرسلت لها قبلة،
مشيرة للفراش الممتلئ،
متسائلة بدلال: إيه رأيك يا صافي؟
شوفي جبت إيه؟
جبت كل حاجة ممكن أحتاجها،
وكلها جديدة للشغل.
وتابعت بغرور: عشان كالعادة،
أكون الأجمل،
والأحلى،
والأذكى.
وصمتت متابعة بهيام: "وتميم يحبني."
انطفأت عينا صفيّة،
قبل أن تنتشلها آسيا من شرودها،
قائلة بسعادة، وهي تكاد تقفز: "إيه رأيك؟"
ابتسمت لها صفيّة ولم ترد.
ناظرتها آسيا بوجه مكفهر،
وقد انطفأ حماسها لوهلة،
قبل أن تقترب منها، تقبل وجنتها،
همسّة بخفوت: "معجبكيش؟"
ربتت صفيّة على وجنتها، قائلة بحنان،
وهي تلاحظ حزنها: حلوين أوي يا حبيبتي،
وهيكونوا أحلى لأنك هتلبسيهم.
وتابعت مبررة،
وهي تمسد رأسها بإرهاق بادٍ على وجهها:
أنا بس مصدعة شوية.
ناظرتها آسيا لثوانٍ،
قبل أن تردد بدلال وابتسامة: إيه رأيك أقيسهم وأوريكي؟
أومأت لها الأخرى بصمت.
سفقت آسيا بيدها بحماس،
وقبل أن تلتقط أي منهم،
قاطعتها طرقات صغيرة على الباب المفتوح،
تبعها ظهور شوكت،
ينظر لهم بصمت،
قبل أن يوجه نظره لآسيا مرددًا بهدوء:
من بكرة هتروحي معايا الشركة يا آسيا.
اجهزي.
وغادر،
كما أتى غادر.
وانطلقت صيحات آسيا بعدها،
وهي تحتضن صفيّة بسعادة وفرحة.
إلا أن الأخرى أخفت وجهها في خصلات شعرها،
هروبًا من الموقف.
وبداخلها،
هي لم تفرح،
بل خافت.
خافت عليها ومنها.

❈-❈-❈
خمسُ ساعاتٍ كانت أكثر من كافيةٍ لتلتقط أنفاسَها وتهدأ من روعِها،
ومع هذا، ما زالت الصدمةُ تُرافقها بكل قسوة.
ما زالت في مرحلة الاستيعاب،
أنها، وببساطة، تحمل روحًا بين أضلعها.
قطعةٌ منها،
تحبّها دون أن تراها،
أو حتى أن تشعر بها بعد.
هي تحبّه،
لكنها خائفة،
خائفةٌ منه، وعليه.

بعد انهيارها،
وقد أخذت القليل من الوقت لنفسها،
كان يجب أن تتحرك لتُنجز الأشياء المهمة،
ولن تحتمل أي تأجيل.

تأكدت من وضع لوزة بكل ما تحتاجه، والصغار.
وضعت الرُقية الشرعية بصوت أعلى قليلًا
لتصل إلى جميع الغرف بلا استثناء،
لأنها، وببساطة، تشعر بالخوف.
قلبُها يرتجف،
ولن يُريحَها سوى أن تستمع إليه.
هكذا تكون بخير،
هكذا تطمئن.

تناولت تفاحة، وقد شعرت بالجوع،
دون أن تقدر على تناول أي شيءٍ آخر.
وأخيرًا، حصلت على حمّام هادئ ومنعش،
وارتدت ملابسَ أخرى مريحة،
تُناسبها في تلك اللحظة.
ورغم الدوار والغثيان، وقد بدأوا أنهم يُهاجمونها فجأةً بطريقةٍ غريبة،
استطاعت أن تنتهي.

وقفت لتُصلّي،
وبكل صلاة، توقن، بكل تأكيد، أنها هي مَن تحتاج تلك الصلوات.
هي من تحتاج أن تقف بين يدي الله،
بكل خُشوع،
بكل وهنٍ وألم،
تدعو وتبكي بقدر ما تريد،
دون أن تتوقف.
وأخيرًا، تتحدث،
نعم، تتحدث،
تُخرج كل ما في قلبها،
بكل ما يُؤلمها ويفطرُ روحها،
علّها ترتاح.
وترتاح بالفعل.
هي تبدأ الصلاة بحال،
وتنهيها بأفضل حال،
إلّا أن تلك الغصّة لا تتركها،
ويبدو أنها بحاجةٍ أن تتخطّاها هي،
أن تتخطى تلك السنوات،
تلك المواقف،
والدّمعات،
جروحٌ تركت ندوبًا شوّهت قلبها وروحها.
لكن كيف؟
كيف تتخطّى شيئًا حاولت معه مرارًا وتكرارًا؟
والنتيجة واحدة
صفر.

مسحت وجهَها مستغفرة،
قبل أن تتحرك، تطوي سجادة الصلاة،
وتضع الرداء في محلّه،
لتقف بعدها أمام المرآة، تُمشّط خُصلاتها المُبتلّة بشرود،
مفكّرةً بغصّة
أنه، وحتى مع حديث سارة، هي ما زالت خائفة.
عقلُها لا يتوقف عن التفكير،
وقلبُها ما زال هناك،
منذ سنوات،
حينما بدأت تُدرك أنها لا تستحق،
أنها دُمية لا يحق لها سوى المسموح أن تحصل عليه.
حتى دموعها كانت تُحاسب عليها،
كانت تُحاسب على كل شيء،
كل هفوة،
دون مراعاة،
أنها، وببساطة، طفلة.

ارتجف جسدها بقوة،
وهي تتساءل كم مرة، منذ كانت صغيرة، تساءلت بداخلها عن خطئها؟
ماذا فعلت؟
وماذا اقترفت؟
حتى تحيا ما حييتُ به؟
والغريب أنها لم تفعل شيئًا،
ولا أي شيء.
كانت ملامح وجهها قد بدأت بالشحوب، حتى وإن لم تلاحظ،
وهي تتخيل أن تَظلِم صغيرَها،
كم ظُلمت هي!
أن تقهره وتكسر قلبه،
كما حدث معها.
أن يحيا سنوات عمره، لا تمر ليلة إلّا والوسادة تمتص دموع حزنه.

والسؤال الأقسي
ألم ترَ أمُّها نفسَها ظالمةً مخطئة؟
لا، لم ترَ.
بل كانت ترى نفسها مثالية.
أيمكن أن تظلم صغيرَها دون أن تدري؟
دون أن ترى أنها تُلقي به في الجحيم؟
وعند تلك الخاطرة
 رفعت يدها بسرعة لتُلامس بطنَها بحزمٍ وحنانٍ في آنٍ واحد.
لن تسمح،
لن تسمح أبدًا لهذا أن يحدث.
ستتعلّم،
ستقرأ،
ستفهم،
ستقع وتُخطئ لأنها ليست ملاكًا.
إلّا أنها لن تظلم صغيرها.
كانت ظالمة أو مظلومة،
لن تظلمه،
لأنه، وببساطة،
ليس ذنبه.
ليس ذنبه أبدًا.
قالتها لنفسها بقهر،
ابتلالٌ بسيطٌ لامس وجنتها،
تبعه ارتعاشُ جسدِها بوَهن، وهي ترفع عينيها تنظر لنفسها.
كانت تبكي،
بكاء لم يتوقف،
إلّا أنها لم تكن تريد البكاء.
تريد أن تتخطى،
أن تكون بخير وسعادة.
والأهم والمهم أن تكون أمًّا صالحة،
لصغيرٍ لا يستحقّ سوى أن يكون سعيدًا.
قالتها لنفسها بكل عزم،
قبل أن تستمع إلى صوت الباب،
مُعلنًا عن وصول عمر.
دقيقتان، وكان يدخل الغرفة،
ينظر إليها باستغراب.
كانت كما هي، واقفةً أمام المرآة،
وعيناها لا تترك عينَيه.
اقترب منها، وما زالت أعينهم في اتصالٍ لم ينقطع،
حتى وقف خلفها، مستندًا على كتفها برأسه،
مُحتضنًا خصرَها كالمعتاد،
حيث إن يده وُضعت على يدها،
حيث يقبع صغيرُها،
صغيرٌ لم يعرف بوجوده بعد.

ارتعشت لوهلة،
قبل أن تنطق، وعيناها تلمع بقوة:
– عمر،
– أنا حامل.

وردّ فعله؟
كان كارثيًّا،
وبشدة.

❈-❈-❈
كانت خائفةً متوترةً ترتجف فعليًا،
فهي لم تتوقع ردة فعله تلك أبدًا،
لم تتوقع ما حدث بعدها .

فخلال دقيقة واحدة،
حدث كل شيء دفعةً واحدة.
صمته لثانية،
تبعه اتساع عيناه،
اتساعٌ أخافها وارتعش له جسدها،
وهي تراقب انطفاء ملامحه.
تبعها انتفاضةٌ وابتعاده عنها بسرعةٍ كمن لدغة عقرب.
وهو يردد بصوتٍ مبهوت دون أن يقدر على النظر نحوها، وعيناه تهربان من عينيها: "حامل".
رددها بصدمة،
قبل أن يلتف لها قائلًا بعصبيةٍ وتيه: حامل؟!
إزاي؟
قالها بتشتت، كأنه لا يدري ما يقول حتى من شدة الصدمة.

كانت تراقبه بملامح شاحبةٍ مصدومةٍ توازيه وأكثر.
وكان رده فعله أقسى من أن تتقبل.
شعرت بالأرض تميد بها دون أن تجد القدرة على الحديث،
لتتحرك وتجلس على الفراش خوفًا من أن تسقط أرضًا.

تحديدًا، وهو يعود ليسألها بشحوبٍ كأنه لا يستوعب ولا يفهم: حامل؟

إلا أنها لم تتحمل أكثر ، وهي تصرخ بعنف:
أيوة، حامل!
حامل!
واتفجأت النهاردة زي زيك،
بالصدفة أصلاً عرفت!
وتابعت ببكاءٍ ووجهٍ أحمر وقد بدأت تشعر بالغثيان: لدرجة دي مصدوم ، مش مصدقة خبر حملي.
مش بس مش مصدق،
لا، ده انت كمان مضايق .
لدرجة دي أنت مش حابب إني أحمل؟
أنا مش فاهمة حاجة،
مش فاهمة حاجة أبدًا!"

قالتها وهي تنفجر في بكاءٍ عنيف،
مفكرةً بجنون
كيف تكون تلك ردة فعله؟
وقد حزن منذ مدةٍ حينما ظن أنها حامل
ولم تكن.
كان حزينًا، رأت حزنه.
إذا، ماذا حدث؟
كيف له أن يكون قاسيًا بتلك الطريقة وهو نفسه من كان يتحدث عن صغارهم،
وكم يتمنى أن ينجب منها،
صغيرةً تشبهها.
هكذا تكون ردة فعله على حملها؟
كانت تنتظر أن يضمها، يطمئنها،
يخبرها أنه هنا بجانبها.
كان يقف يراقب بكاءها ببهوت،
يحاول أن ينطق، أن يخرج الحروف من فهمه.
وما إن استطاع،
حتى همس أخيرًا دون أن يدري ما يقول حتى أو يستوعب ما يخرج من فمه : أنا لسه كنت بفكر قبل ما أجي أقولك، ناجل الخلفه.
أنا مش...

ارتفع رأسها بسرعة، تنظر له بعدم استيعاب،
وقد بدأت يدها في الارتعاش بقوة.
قبل أن تصرخ به بقهرٍ، دون أن تسمح له أن يكمل، ويدها تمس بطنها بحمايةٍ فطريةٍ وحادة: أنت بتقول إيه؟
أنت اتجننت؟!
ووقفت سريعًا تنظر له بخيبة أملٍ وحزنٍ واضح كان ينظر بها هو لنفسه ،
قبل أن تغادر الغرفة بعنف.
وخلفها هو،
كان يقف منحنٍ بهزيمةٍ وندم.
لا يصدق أنه قالها .

❈-❈-❈
جلس على طرف الفراش، ظهره محني يضع رأسه بين كفّيه وكأنه يختبئ من الدنيا ،
شاعرًا بالحزن والندم، الكثير منه.
كيف له أن يقول ما قال؟
كيف أن يسمح لنفسه أن يكسرها بتلك الطريقة؟
وأن ينطق لسانه بتلك الكلمات؟
هي تخبره بحملها، وهكذا يكون ردّه فعله؟
ألم يكن هو نفسه من كان يتمنى هذا الصغير؟
من كان يدعو الله أن يرزقه الذرية الصالحة؟
الآن، وبعدما منّ الله عليه،
يقنط؟
يكره؟
ويرفض؟
الآن يخبرها أنه كان يتمنى أن لا تحمل الآن؟
كيف له أن يكون شخصًا غير نفسه بتلك الطريقة؟

قالها لنفسه بغضبٍ شديد،
ازداد ضيق ملامحه وهو يفكر بإرهاق في الوضع الحالي.
ماذا يفعل؟
ماذا يفعل في وضعٍ كهذا؟
هي حامل،
وهذا أمرٌ غير قابل للنقاش.
مسؤولية جديدة،
وكأنها لا تكفّ عن الهبوط على رأسه،
دون أي قدرةٍ منه على مواكبتها.

هو مضغوط،
يشعر بالتعب والإرهاق من بين هنا وهنا،
هو في المنتصف،
بين بيت عمّته وسلمى التي لا تكفّ عن الطلبات،
وبين فريدة،
وحملٌ جاء دون ترتيب.

استغفر الله العظيم،
استغفر الله العظيم،
لا إله إلا الله، سبحانك إنّي كنتُ من الظالمين،
سامحني يا رب، استغفر الله العظيم...

كان يرددها بندمٍ وحزنٍ حقيقي.
هو لم يكن يومًا هكذا،
ولن يسمح أن تجعله الظروف
يرفض هبةَ الله له.

حمل فريدة رزق، لا بيدها ولا بيده،
ومن هو لكي يرفضه من الأساس؟
حتى وإن لم يكن مستعدًا،
قبوله أمرٌ مفروغٌ منه.
فهناك آخرون يبكون ليلًا نهارًا،
يطلبونه من الله.

لذا، تحرك من مكانه متوجهًا إليها،
لن يسمح لنفسه أن يُحزنها بتلك الطريقة في فترة كتلك ،
حتى لو كان بداخله يحترق.

ففي النهاية،
لقد استجاب له الله دعوةً كان يدعو بها،
وهي أن تحمل قطعةً منه،
وأن تُنير دنياه كما أنارت أمّها.

❈-❈-❈
كانتْ تجلسُ بجانب لوزة،
حيث أصبح مكانها المعتاد في لحظاتٍ كتلك،
ربما لأنها تستمدّ منها الأمان،
وربما لأنه لا يوجد غيرها لتجاوره.

بكت لأول دقيقة،
ثم مسحت دموعها بحدّة،
مقرّرة بعزمٍ أنها لن تسمح لأحد، مهما كان،
أن يُخرّب سعادتها وتقبّلها لصغيرها،
سواء قَبِل أو لم يَقبل،
فرح أو لم يفرح،
هي ستتقبّل وتفرح وتدعم نفسها بنفسها، إذا تطلّب الأمر.

يكفيها خذلان الجميع لها،
هو لن يفعل شيئًا جديدًا،
هي اعتادت هذا دائمًا،
ولن تسمح للمزيد.
هي لنفسها ولصغيرها،
وكفى.

إلا أنها لم تجلس وحدها كثيرًا،
قبل أن ترى قدمين تقتربان منها بعزمٍ رغم تردّده،
عزمٍ أن يُصلح أخطاءه.

جلس بجانبها بهدوء،
يناظرها بصمتٍ متردد كيف يبدأ الحديث؟
وكانت هي تنظر لكل شيء إلا هو،
والصمت حليفهم.

وحينما كاد أن يتحدّث،
بدأت تتحرّك لتغادر الغرفة،
وما إن شعر بتحرّكها،
حتى سارع بالإمساك بها، تحديدًا يدها، يشدّ عليها بقوة،
لا يسمح لها بالتحرّك،
وباليد الأخرى يلامس ذقنها لينظر لها بحنانٍ واعتذار.

كانتْ عينا كلٍ منهما حمراء، منهَكة متعبة،
كأنها تبحث عن سبيلٍ لمعضلةٍ جديدة،
كان كلاهما متعبًا، وإن اختلفت الأسباب،
كان كلٌ منهما يحاول أن يفهم وضعهم الجديد.

ولم يفعل بعدها أي شيء،
سوى أنه قرّبها إليه، يضمّها إلى صدره،
لا يسمح لها بالفرار،
ملجأها الأول والأخير،
بين ذراعيه،
ورأسها مرتاح فوق قلبه،
تسمع دقّاته المتسارعة.

كانتْ تريد الفرار، إلا أنها لم تستطع،
شيءٌ ما أخبرها بالتريّث،
شيءٌ مسّ قلبها، يخبرها بهمسٍ خفيّ انتظري.
هو أخطأ،
جرحها،
لكن أيمكن أن يكون هناك مبرّر؟
أم أنه لا يوجد مبرّر قد يغفر له؟

تنهيدة متعبة وصلته،
قبل أن يبدأ بالحديث، ويده تلاعب خصلاتها باعتياد،
وعيناه كانتْ حكايةً أخرى.
كان خائفًا وبشدّة، وهو يهمس لها بخفوت:
 أنا مكنش قصدي.
أنا آسف...
آسف...
ليكي...
وليه...

قالها وهو يمسّ بطنها،
للمرة الأولى وهو يعلم بوجوده،
حتى أن يده ارتجفت من هول شعوره في تلك اللحظة،
ولمعت عيناه ببريقٍ مشعّ،
وهو يتخيّل وجود
صغيره...
ابنه...
قطعة منه...
ومنها.

التمعت عيناه بقوةٍ أكثر، وهو يتابع: أنا بس حسّيت إني مش مستعد،
إني مضغوط أوي،
إن الحمل تقل عليّ،
وإن كان نفسي ييجي في وضع أحسن من كده،
عشان أقدر أقدّم له كل حاجة في الدنيا،
حاجات أنا نفسي اتحرمت منها.
كان نفسي ييجي في وقت أقدر أكون في حياته طول الوقت،
مش مجرد ساعتين في اليوم،
ويمكن يكون نايم وقتها.

وصمتَ متنهّدًا،
قبل أن يُكمل بتقرير: بس ده مش ذنبك،
كل اللي بيحصل ده مش ذنبك أبدًا،
أوعي تفكّري إني زعلان،
مستحيل أزعل من خبر زي ده، والله.

وتابع بابتسامةٍ صغيرة، وإن كانت تحمل الهموم: بالعكس، أنا فرحان أوي،
بس أنا مضغوط،
وردّ فعلي خرج غصب عني،
بس صدّقيني، أنا فرحان بيه أوي.
وإزاي مكنش؟
ودي دعوة دعتها، وشاء رب العباد يستجيبها.
مين أنا عشان أعترض عليها؟
أنا بس خايف.

قالها بتأكيدٍ وشرود، قبل أن ترفع هي رأسها تناظره بصمت.
هي نفسها صُدمت،
هي نفسها لم تُصدّق،
هي نفسها خافت.
اتحكامه على خوفٍ هي نفسها شعرت به،
هي تعلم أنه يحمل على ظهره عبء منزلين،
وكلاهما يحتاجان للكثير.

وطال الصمت بينهم،
حتى نطقت هي لتكسره، قائلةً بتذكّر، وقد بدت أنها نسيت الأمر تمامًا في خضمّ ما حدث: الشركة كلّمتني،
قالولي إني اتقبلت،
وإنه بمجرد ما ورقي يكون جاهز، هكون معاهم.

قطّب حاجبيه ينظر لها قبل أن يقول:
 هتروحي إزاي وإنتي حامل؟

حرّكت كتفها وهي تردّد بخفوت: أنا كده كده كنت عايزة أشتغل،
وطالما انت مضغوط أوي كده،
فأكيد شغلي هيساعد، ولو بحاجة بسيطة.

وتابعت بتأكيد: أكيد رحمة من ربنا لينا إن الشغل ييجي وقت معرفتي بالحمل،
أكيد دي مش صدفة.

أومأ لها بشرود،
وهو يفكّر لما تقول.
هي محقّة بالطبع،
عملها سيوفّر دخلًا إضافيًّا، سيساعد ولو بقليلٍ في رفع العبء عن كاهله،
لكن... هو نفسه من أخذ عهدًا على نفسه ألا يمسّ أموالها،
الآن سيعتمد عليها!

أغمض عينيه، وعقله لا يكفّ عن التفكير،
سيُخالف كل ما كان يريده.
ولم يكن هذا وحده ما شغل تفكيره،
بل أيضًا أنه، رغم رفضه لعملها من الأساس،
الآن ستعمل، وهي حامل أيضًا!
أي أنّ خوفه سيصبح مضاعفًا.

أخرجته من شروده وهي تقول بعزمٍ وإصرار:
عمر، أنا عايزة أشتغل.
أنا محتاجة ده،
محتاجة آخد الخطوة دي.
حملي مش هيأثر على قراري أبدًا،
أوعدك، لو أثّر، أنا هكون أول حد يسيبه.
ابني وإنت الأهم عندي،
ومعنديش أهم منكم،
بس أنا محتاجة ده...
إنت فاهم؟

أومأ لها بصمت،
قبل أن يردد بيقين: هنعدّي ده سوا.
هنيجي بعد سنين نضحك على الوقت ده،
وإن أيامنا كلها الجاية سعادة وفرحة.

تمتمت هي بعيون لامعة: بقينا تلاتة.

أومأ لها مرة أخرى،
قبل أن يضمّها إلى صدره،
وكم كان كلاهما بحاجة لذلك في تلك اللحظة...

بحاجة إلى هدنة،
إلى لحظةٍ لا تطلب تفسيرًا،
إلى حضنٍ يتّسع لكل ما لم يُقال.
البُعد بينهما لم يكن مسافة،
بل مساحة هادئة للحنين.
وما عدا ذلك... تركا الغد للغد،
فالغد لا يُروّض،
وقد يُخبّئ لهما ما يعجز القلب عن احتماله،
أو ما تمنّته الروح دون أن تبوح.

❈-❈-❈
بخطوات بطيئة مرهقة، وصل إلى الطابق المنشود.
كان عقله ما زال منشغلًا بما حدث.
لا يزال يتمنى أن يزهق روحه.
لولا تدخل معتصم، لكان أرداه قتيلًا.
ورغم كل شيء، سلبه كل شيء .
اسرع خطواته قليلا حتى قابله حسام المتوتر بملامح شاحبة.
وهو يسرع مقتربًا منه قائلًا برعب وهو يمسك ذراعه: كنت فين يا تميم؟
وقبل أن يتابع، التقطت عيناه كدمة على وجنة الآخر ليتمتم بتقرير وعدم تصديق: أنت لاقيته؟
عملت فيه إيه يا تميم؟
قالها بحزم ورعب، وقد بدأ يتسلل له الكثير من الأفكار المرعبة.
المرعبة. حد الجنون.
فتميم فيما يخصهم يصبح آخر.
ولم يكن وحده.
بل جميعهم.
لكن في النهاية هو يخاف بل يرتعب عليه.
ليضحي بنفسه هو ولا يمسهم سوء.
إلا أن تميم أجاب بهدوء مطمئنًا إياه: متقلقش،
لسه عايش.
قالها بقرف 
وتحرك مقتربًا من غرفة شقيقته،
حيث شاهد أباه يجلس بجانبها،
ويحمل بين يديه مصحفًا يقرأ لها القرآن،
وما زالت كما هي فاقدة للوعي.
اقترب منه حسام يتفحصه بقلق قبل أن يردد بإصرار: عملت إيه يا تميم؟
تنهد الآخر بإرهاق.
التفاصيل ليست مهمة.
بل التفاصيل لحسام وأمير ولكل من إخوته وأبيه مهمة.
فالجميع يخشى أن يبتلي لنفسه بمصيبة تضره،
وهو لا يهتم.
ومع ذلك، أجاب بهدوء: متخفش يا حسام،
الموضوع انتهى.
وتابع بقرف: خد جزاءه،
خد كل اللي يستحقه.
مضى تنازل عن حضانة الولادة،
وأول ما تفوق،
هخليه يطلقها على طول.
أنا بس مستني أتكلم معاها.
تجهمت ملامح الآخر،
وهو يعتدل ليقف بجواره،
متطلعًا حيث أبيه.
كان متعبًا ومرهقًا،
يتحمل أكثر مما يجب في هذا العمر.
حادثة تميم ثم حادثة آلاء،
ومن هذا إلى هذا لم يلتقط أحدهم أنفاسه.
وأكثرهم أبيه.
تحرك يمسك بيد تميم قائلًا بتوبيخ: طبعًا أنت ناسي إنك قايم من تعب وعمليه،
ورايح جي ولا همك.
زفر تميم بنفاذ صبر قائلًا بإرهاق: لا، لسه مغير على الجروح،
والأدوية بأخدها في معادها، متقلقش انا اصل ماشي بحقن المسكن .
وثم أنا كويس،
الدكتور طمّنني، الحمد لله الوضع كويس،
متقلقش عليا.
تنهد حسام، وهو يعلم أن تميم لن يهتم بنفسه مهما تحدث من هنا لست سنوات قادمة.
فاكتفى بالصمت.
وظلا هكذا حتى حضر الطبيب ليطمئن على آلاء.
وبالفعل ظلوا في انتظاره حتى خرج،
يتبعه والدهم.
ابتسم لهم قائلًا بهدوء: الحمد لله الوضع مستقر لحد دلوقتي،
وإن شاء الله تفوق خلال ساعات،
والدكاترة هيفضلوا متابعين حالتها طبعًا.
وأنا موجود لو حصل أي حاجة، هتلاقوني هنا إن شاء الله.
الف سلامة مرة تانية. وغادر.
أشار تميم لحسام أن يأخذ مدحت ليرتاح،
إلا أن الآخر لم يتحرك.
واقترب منه قائلًا بحزم: عملت إيه يا تميم؟
ناظره تميم لوهلة،
قبل أن يقترب منه ويشدد على يده قائلًا بهدوء وثقة: اطمئن، حق بنتك رجع،
حق آلاء رجع.
اطمئن يا حبيبي.
ودون تفاصيل،
فهو لم يكن بحاجة إليها.
على الأقل الآن.
يعلم تميم،
يعلم ما قد يفعل.
والآن ليرتاح قليلا، فقد أتى تميم له بحق ابنته،
فقط لتفيق،
ولا شيء أهم من كونها بخير.

❈-❈-❈
هناك صباحات تأتي،
ليس فقط لتنير العالم، بل لتُضيء أرواحًا ظنت أن الظلام سيبقى إلى الأبد.
صباحات تحمل في طياتها وعدًا جديدًا، كأنها أول قطرات الندى على أوراق شجرة بعد يوم طويل.
حينما تشرق الشمس، تشعر تلك الأرواح أن الحياة تمنحهم فرصة جديدة،
كما لو كانت الأيام الضبابية مجرد ذكرى قد مضت، والعالم الآن مليء بالأمل، بفرص جديدة تفتح أبوابها.

أحيانًا، كل ما يحتاجه الإنسان هو لحظة ضوء ليدرك أن ما مرَّ ليس سوى بداية،
وأن الحياة دائمًا تمنحنا أملًا جديدًا حتى في أحلك اللحظات.

فصباح الخير لكل خير،
للقلب الذي ينتظر، وللحلم الذي لم يمت،
للخطوة الصغيرة التي تقودنا نحو النور،
صباح ناعم يربّت على كتفك،
ويهمس
لا شيء ضاع،
أنت بخير… وستكونين أفضل،
فكل صباح وعد جديد بأنك تستحقين الضوء.

              خلال الساعاتِ السابقة

حضر أمير
بوجهٍ جامدٍ متعب، والأكثر غضبًا،
قادرٌ على إحراقِ رامي حيًّا،
وقد انفعَل بشدة حينما أخبره تميم أن الأمر انتهى،
وأنه تصرّف،
وسلبوه كل شيء،
و"كل شيء" تعني كل شيء،
حتى ملابسه تم جمعُها في ملاءةٍ وألقوها له،
وانتهى كل شيء،
انتهت الحكاية،
ولم يتبقَّ سوى كلمة الختام
الطلاق.

ورغم رفضِه لما يريده تميم،
إلا أن نظراتِ أبيه الحازمة جعلته يصمت،
فتميم أخذ حقّهم جميعًا،
ورامي مُلقى في أحدِ المستشفيات،
إلى حين استيقاظ آلاء،
وأصبح التناوب فيما بينهم،
ما عدا هو،
لم يدخل لها حتى الآن،
وكان الأمر أصعب مما يظن،
كان صعبًا أن يراها بتلك الحالة، وبهذا القُرب مجددًا.

وضعوا لأبيه فراشًا خاصًّا، رفض رفضًا تامًّا أن يغفو عليه،
وكيف ينام قرير العين وابنته لم تستيقظ بعد؟

تابع حسام وضعَ حور والصغار،
ويارا باتصالاتٍ للاطمئنان،
ومَلَك التي لم تعلم إلى الآن،
ولن تعلم، على الأقل في الوقت الحالي،
إلى أن تصبح آلاء بخير وتكون قادرة على الحديث معها براحةٍ وهدوء.

تنهد تميم بإرهاقٍ شديد، وهو يُحرّك رأسه بتعب،
وحسام يمد له يده بكوبِ عصير،
وحينما رفض، فهو يريد الكافيين،
صاح به مدحت بحزم: قهوة إيه وزِفت إيه؟
اشرب عصير وكل، ولا إنت عايز ترقد إنت كمان؟
أصل هي ناقصة؟
اشرب العصير.

ناظره تميم بغيظ،
قبل أن يأخذ الكوب بقرفٍ من حسام،
وأمير في المقعد أمامه يجري اتصالاتٍ تخص العمل، فقد سافر فجأة.

انتهى من كوب العصير والشطيرة الصغيرة،
وتحرّك متوجهًا نحو غرفة آلاء،
فقد حان دوره.

وقف أمام الزجاج مدةً طويلة،
قبل أن يُحرّك قدميه ليدخل الغرفة،
وتسمّرت قدماه، لا يقدر على التحرّك،
وهي أمامه، راقدةٌ لا حول لها ولا قوة،
أصوات الأجهزة،
شحوب ملامحها،
كدمات،
كل هذا...
كان كثيرًا.

أغمض عينيه،
وكأنه بتلك الطريقة سيتخطى ما حدث لها،
هي شقيقته،
بل ابنته،
روحه،
وأخذ حقها.

وبالفعل، اقترب منها، جلس بجانبها،
وتردد كثيرًا قبل أن يمدّ يده ليمسك يدها الصغيرة،
ويُشدد عليها،
قبل أن يرفعها لفمه ليُقبّلها بحنانٍ وحب،
وهو يقترب من أذنها يهمس بخفوتٍ وحنان:
 ارجعي،
ارجعي لينا ولولادِك،
أخوكي خدلك حقك،
أخوكي هنا،
ومش هسيبك أبدًا،
تميم هنا،
ارجعي،
ارجعيلنا.

وبعد الكثير من الحديث الهامس،
أفاقت آلاء،
استجابت له.
❈-❈-❈
بعد مرور ساعتين،
خرج هو بعد أن سجد لله شكرًا من شدة فرحته.
وقد أتى الطبيب سريعًا وبدأ في فحصها
والاطمئنان عليها.
وها هم واقفون لا يجد أحدهم القدرة على الجلوس حتى يطمئن قلبهم عليها.
وبالفعل، أخيرًا خرج الطبيب،
قائلًا بهدوء: الحمد لله، الوضع تمام.
وبدأ يشرح لهم الوضع
قبل أن يقول أخيرًا
 طبعًا هي هتفضل تحت الملاحظة،
ونبدأ من النهاردة خطة العلاج ونمشي عليها،
وهتبقى كويسة إن شاء الله.
بس أهم حاجة أن خبر الإجهاض يتأجل شوية
عشان حالتها الصحية.
قالها بتحذير،
قبل أن يتابع: ألف سلامة عليها مرة تانية، وغادر.

تنهد مدحت ملتقطًا أنفاسه أخيرًا،
قبل أن يسنده حسام وقد شعر بترنحه.
أخذه هو أمير ليجلس، وتميم يجلب له العصير،
قبل أن يهبط لمستواه قائلاً بهدوء رغم احتراق قلبة علي شقيقته: بابا،
إحنا مش هينفع نجيب سيرة الإجهاض قدام آلاء زي ما الدكتور قال.
وضعها مش هيسمح أبدًا.
أنا عايزك تتماسك
عشان متحسش...
تمام؟

أومأ لها لآخر، ويده قد بدأت بالارتعاش،
وعيناه تجاهد على كتم الدموع
والكثير من الألم،
ليومئ له أخيرًا بضعف،
وإخوته أيضًا.

وبعد القليل،
كان يدخل يسند والده،
وآلاء هناك،
مسطحة على فراشها،
تنظر إلي لا شيء بعيون فارغة جامدة،
بلا روح ولا حياة.
وكان ما حدث،
كسر بداخلها شيئًا
لن يصلح أبدًا،
أبدًا مهما حاولوا.

❈-❈-❈
اقترب منها والدها،
جلس بجانبها وتميم في الجهة الأخرى.
أمير وحسام أمام فراشها في دعم صريح أنهم هنا،
رغبه في ضمها،
في احتواء ألمها،
في ضم أوجاعها،
وربما انتشالها من تلك الحاله إن استطاعوا.
تغير طفيف في حدقة عينيها،
وهي تتطلع نحو أبيها الواهن.
كانت ضعيفة، واهنة، شاحبة،
كانت كما لم تكن من قبل.
إلا أنه هتف بلهفة وحنان ويده تمسح على خصلاتها: ألف حمد لله على سلامتك يا نور عيني،
روحي رجعتلي وأنا شايفك كويسة.
وتابع بحنان وهو يطمئنها: متخافيش، الولاد بخير معانا في حضننا.
تبتسم لتريح قلبه،
حاولت،
والله حاولت،
لكن لم تستطع.
أغمضت عينيها، تضغط عليهما بشدة.
لن تبكي،
لن تفعلها،
لن تزرف دمعة واحدة حتى.
لذا جمعت أنفاسها،
قبل أن تفتحها وهي تهمس بارتجاف وعين باهتة بتقرير موجع وظن خافت،
بآخر ما قد يتوقعه أحدهم،
وهي تضع يدها على بطنها،
تبتلع ألمًا لا تعرف له اسمًا،
وقد أصبحت فارغة.
شعرت،
علمت.
أنا كنت حامل، واجهضت.
كانت همسة ممزقة، مذبوحة، مطعونة ألف طعنة.
ولم تكن تسأل،
بل كانت تخبرهم بظنها ويقينها في نفس اللحظة.
التف حسام يخفي وجهه، يكتم دمعاته،
وأمير يشد على يده بعنف حتى ابيضت مفاصله.
وأبيها وقد أمسك بيدها، يمسها برأسه، يبكي بقوة،
يبكي كما لم يبكي من قبل.
بكاء حارق،
صغيرتة تتألم،
هي ذُبحت،
ولم يقدروا على إنقاذها،
فخسرت صغيرها وروحها.
الجميع أعطى رد فعل إلا هو،
إلا تميم.
وهو يقف بجانبها،
بصمت وجمود.
وهي تتقبل الخبر بصمت وجمود.
قبل أن يقترب منها أخيرًا، يجلس بجانبها، يزيحها قليلاً حتى تأوهت من الألم والجميع يتابعه لا يفهم شي ،
إلا أنه تابع بحرص شديد حتى أصبح بجانبها، يضمها إلى صدره بقوة واحتواء،
ويضم رأسها،
قائلًا بحزم: عيطي،
أخوكي خد لك حقك وحق عيالك،
دلوقتي تقدري تعيطي.

وهنا،
نظرت له بعينين يكاد يقسم أنهما تجرعتا الالم حتي اكتفت،
ثم ،
بكت،
كما لم تبكِ من قبل،
لكن على صدره،
هو من سيفدي دموعها،
بروحه إن تطلب الأمر.
❈-❈-❈

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1