رواية شذرات الاماني الفصل الثالث 3 بقلم ساره عبد المنعم

رواية شذرات الاماني الفصل الثالث بقلم ساره عبد المنعم

 

-أريد أماني يا أبي، لمَّ أخذتها تلك الشريرة بعيدًا عنا؟

يضرب حمزة الأرض بقدميه، وهو يبكي بشدة، ويُحاول الأستاذ وائل أن يُهداه، لكن دون جدوى والأمر يشق عليه هو أيضًا، دخلت زوجته في حالة صدمة، وكأنها استوعبت الآن رحيل أختها، فلم تقو على احتمال الفراق، حيث ساعدها وجود أماني من قبل على تكذيب الحقيقة المرة، ولم تكن أماني بأقل حالًا منها، تبكي ليل نهار، وهي تُردد في انفعال:

-أريد ماما .. حرام عليكم لمَّ أخذتموني منها؟ أخي حمزة سيغضب مني، ولن يتحدث معي ثانية، وأنا أحبه كثيرًا، وأريد أن أُصالحه، فلا يُخاصمني .. بابا وائل.. أين أنت يا حبيبي؟، أريد أن أعود إلى بيتي.

الجدة فتحية في حدة:

-ولكن هذا بيتك، ونحن عائلتك، هم لا يقربونك بشيء.

وتحاول أن تمسك بها، فتركض أماني بعيدًا عنها، وهي تصرخ قائلة:

-ابتعدي عني، لا تلمسيني.. أنتِ الشريرة التي أخذتني من أمي.

-سعاد ليست بأمك، ماتت أمك أثناء ولادتك، وكنت أنتِ السبب.

انهارت أماني في البكاء، والجدة تُحدجها في غضب، تُلقي على مسامعها كلمات قاسية حتى جاءت إلهام، فاختبأت أماني خلف ظهرها، رأت في عينيها الحنان، الذي لم تجده في الأم، لتقول لها ابنتها:

-حرام عليكِ يا أمي، كيف طاوعك قلبكِ لتقولين لها تلك الكلمات؟ ولمَّ تُعاملينها بذلك الشكل؟

-لا تتفوهي بشيء، خذيها من أمامي وإلا ضربتها، لقد أوجعت رأسي ببكائها.

-إن كنتِ لا تحتملين بكائها، لمَّ قمتِ بإحضارها إذن؟، حرام عليكِ أن تفعلي ذلك، وتفرقي شمل الأحبة.

السيدة فتحية في حدة:

-لعلك لا تتحدثين عنها بتلك الجملة الأخيرة، هل من المعقول بأنك لا زلت تُفكرين في ذلك الفاشل؟

-وليد ليس بفاشل يا أمي.

قاطعتها إلهام في عنف، انتفخت أوداجها، وسكتت لبرهة ثم أكملت:

-تعلمين بأن وليد ليس بفاشل، ولا يُعيب الرجل ضيق الحال طالما أخلاقه عالية، وهو مناسب لي يا أمي، لا أفهم لمَّ تقفين بيننا؟ وأنا لن أجد رجلًا يُحبني مثله.

ضحكت منها والدتها في سخرية، وقالت باستخفاف: 

-لا تذكري أمامي تلك الكلمات، فهي ليست بحقيقية، أنتِ لا تعلمين شيئًا عن ألاعيب الرجال، فلا تتفوهي بما لا تعرفينه، ليس كل من قال لكِ أُحبك صادقًا، تلك الكلمة سهل أن تلوكها الألسنة، ولكن لا تُصدق بها الأفعال، واسمعي مني نصيحتي، لا تُصدقينه.

جرحتها كلمات والدتها، فبكت؛ لتحصد السيدة فتحية جراء أقوالها، وإلهام تُردد من بين العبرات:

-لقد وصلت إلى أواخر العشرينات يا أمي، تقدم إلي خطاب كثيرون، ولكنك دومًا كنتِ ترفضين؛ حتى فقدوا الأمل باستثناء وليد، تقدم لي أكثر من مرة، ورغم سوء معاملتك له ما زال متمسكًا بي، حرام عليكِ يا أمي، أقراني ومن هم في مثل سني، أصبح لديهم عائلة وأبناء، فلمَّ ترتضين لي بتلك الحياة القاسية؟ لا أريد أن أكون وحيدةً يا أمي، أريد أن أكون أمًا.

كان لوقع كلماتها ضربة، ارتدت في صدر والدتها، كادت أن تقتلها، فجل خوفها كان بسبب ما تعرضت له من رحيم، فهو أيضًا لطالما قالوا عنه بأنه وقع أسيرًا لحبها، ولكن ما أن تزوجته اكتشفت عكس ذلك، حتى بعد موته جلب لها حنق الجميع عليها، وافتروا عليها بالكثير من الأقاويل.

-تريدين أن تصيري أمًا، ابنة أخيك ها هي، قومي بتربيتها، وأعدك بأنني لن أحرمكِ منها.

رغم البركان الثائر في داخلها، إلا أنها ادعت الثبات أمام ابنتها، تفوهت بتلك الكلمات، ثم أولتها ظهرها، غادرت الغرفة قبل أن ترى منها أي رد فعل، فتسمرت الأخرى مشدوهة في مكانها، لا تُصدق بأن هناك أم قد تقول تلك الكلمات لابنتها، فبأي قلب ذاك الذي تحمله داخلها.

-سامحيني يا إلهام .. سامحيني يا ابنتي، والله لم يكن الأمر بقصدي، فقد خشيت عليكِ مما حدث معي.

في الغرفة الأخرى سمحت السيدة فتحية للأحزان أن تتحرر من سجنها، لقد ترك رحيم في داخلها جرحًا غائرًا، مرت سنوات عديدة، ولم يندمل، بل ظل يتحكم فيها، وتأتي تصرفاتها الحذرة خوفًا من تكراره مع قرة عينها، إلا أنها أضاعت عمرها، وذهب شبابها سدى، وتشعب شبح الوحدة كالسرطان داخلها، فكان ألمها يزداد مع كل تجعبدة تظهر بوجهها، وتقل فرصتها في الزواج، وتخشى أن يؤثر كبر عمرها على قدرتها على الإنجاب، انهارت السيدة فتحية في البكاء حزنًا على ابنتها، بينما جاء إبراهيم من الخارج، وفزع نحو أخته حين رأى حالتها، وسألها في خوف:

-ماذا هناك يا إلهام؟ لمَّ أنتِ منهارة هكذا؟ هل أنتِ بخير أم حدث شيئًا؟ أخبريني أرجوكِ.

أجابته إلهام في ضعف:

-أعد أماني إلى خالتها يا إبراهيم، لا تكن ظالمًا كأمي؛ كي لا تخسر صغيرتك مثلما فعلت أمي، أماني تبكي ليل نهار، تُريد العودة إلى عائلتها، ولا أقصد بذلك جرحك، ولكن دعها تنعم بالحنان الغائب عن هنا، فأنت طوال اليوم خارجًا، وأمي تسيء معاملتها، أما أنا فكما ترى حطام أنثى، وصدقيني ستعود إليك ابنتك حين تكبر، وقد عظمت محبتك في قلبها، وكلها امتنان لك.

أصابت كلمات إلهام الهدف مباشرة، فنادى أماني من الداخل، فقد بلغ بها الضعف مبلغه، تستند على الحائط، وهي تُردد في أسى، تكاد أن تنخلع القلوب عند سماعه:

-أنا والله لم أقتل أمي، أمي هي سعاد، أحبها وتحبني، وأريد أن أعود إلى حضنها، هي لا تحتمل غيابي، وأخشى أن تمرض، فتموت كما تقول تلك السيدة الشريرة، التي تكره عائلتي.

انسلت دمعة سهوًا من عيني والدها، أخته كانت محقة، فاقترب من أماني بحب، وجلس جانبها، لتسأله ببراءة الأطفال:

-متى ستعيدني إلى أمي يا عمو؟ أنت لست بشرير كتلك السيدة صحيح؟

ضحك من قولها، وتفوه بكلمات حانية:

-سأعيدك إليها يا أميرتي، وهذه السيدة ليست بشريرة، هي تُحبك وتحبني وجميع من في البيت يُحبك أيضًا، ولكنك تُريدين الذهاب، وسوف أنفذ رغبتك ولكن أريد منكِ ألا تنسينَّي، وسوف أنتظركِ بشوق حين تكبرين، ستفهمين كل شيء، وستعودين إلى هنا للبقاء مع أبيكِ و..

قاطعته أماني قبل أن يُكمل، وهي تصيح في استغراب، انعكس أيضًا على ملامحها:

-ولكن بابا وائل مع ماما وحمزة ليسوا هنا، فكيف تقول إذن بأنني سأعود إليه في هذا البيت؟

ضمها إلى صدره، واحتضنها في حزن، أخر ذكرى من زوجته، قطعة منها ومنه، ولكن كتب القدر عليه أن يُحرم منها كوالدتها، حتى وإن كان بشكل مؤقت، إلا أن ذلك يوجعه بشكل لا يُطاق حقًا، فمع رحيلها شعر وكأن زوجته ماتت من جديد، الشعور الذي فتك بسعاد أيضًا، ومر الأسبوع الذي غابت فيه أماني كدهر في ثقله، امتنعت فيه الصغيرة عن تناول الطعام حتى هزل جسدها، ولولا كلمات الفتاة اللطيفة لها كما أسمتها، وتقصد إلهام بذلك، كانت تضع في فمها بضع لقيمات من وسط بكاءها، أما والدتها سعاد تم حجزها، وعادت إليها الروح عند سماعها تناديها:

-ماما سعاد .. انهضي يا حبيبتي أرجوكِ، افتحي عيونك، فأنا والله لم أكن أتوقف عن البكاء لأجلك.

عرف إبراهيم مكانهم حين كان يعيد أماني إلى بيتهم، فأخبره الجيران بما حدث، في تلك اللحظة أدرك بأن ذلك هو الصواب، لن يحرم الأم من ابنتها ثانية، وفي مشهد عاطفي مؤثر ناداها حمزة، وقد خالط البكاء نبرته من الفرح برجوعها:

-أماني .. أختي حبيبتي، الحمد لله أنكِ عودتي.

ثم ارتمى في أحضانها، تدللت عليه في البداية، وبعدها استجابت إليه، وهي تهمس في أذنه:

-لا تعاقبني بهذا الشكل ثانية يا حمزة، كنت أشعر بالحزن الشديد لأنك لا تتحدث معي.

حمزة وهو يطبع قبلة حانية على خدها:

-أنا آسف يا أماني، أعدك والله بأنني لن أُكررها، كان صعبًا عليَّ أخذ تلك الشريرة لكِ مني، لن أسمح لها بفعل ذلك ثانية، فإن جاءت سنركض بسرعة، ونختبئ في مكان بعيد، فلن تلحق بنا.

-اتفقنا يا حمزة، وسأذهب معك يا أخي، فأنا لا أحتمل ألا أراك.

هزت أماني رأسها في إيجاب، وهي تُجيبه بعفوية، فتشابكت أياديهما معًا، وأقسما ألا يفلتونها أبدًا، وظلا هكذا حتى بلغت أماني الثامنة عشر، طارت بهم السنون، ووصلت أماني إلى مرحلة الثانوية العامة، بينما كان حمزة في عامه الثالث من الجامعة، حيث التحق بكلية الهندسة، بدأ يجد من أماني تبدلًا في المعاملة، نضجت الآن وفهمت بأن تلك التجاوزات بينهما حرام، وقد علمت الحقيقة، هو ليس بأخيها الحقيقي، وأكل قلبها الغيرة عليه حين تجده يتحدث مع زميلة له، اتصلت تسأله عن حاجة لها، فيُجيبها، وأماني تستشيط من الغضب أمامه، وما أن ينتهي، يضحك منها قائلًا:

-هذه زميلتي يا أماني، وفي الجامعة تحدث مثل هذه الأمور.

-إذن أنا أيضًا سأفعل ذلك حين أدخل الجامعة.

مسك حمزة ذراعها بعنف، والغضب قد انتقل إليه عند سماع قولها، وكأنه عدوى تنتشر، وهو يُحذرها:

-إياكِ والتفكير في مثل ذلك يا أماني، أقسم حينها بأنني سُأعاقبك عقابًا شديدًا.

 كانت أماني تتأوه من فعلته، فأرادت استفزازه أكثر:

-وبأي حق ستفعل ذلك يا حمزة؟

حمزة في انفعال:

-لكوني أخيكِ و..

قاطعته أماني في حدة:

-تعلم بأنك لست كذلك، فقل لي ما هي حقوقك عليَّ؟ 

أعمت الغيرة عينيها في تلك اللحظة، على الرغم من أنها كانت تهرب من سطوة الضمير الذي أوقظته صديقتها سهى بداخلها، تذكر لها الحلال والحرام، حمزة ليس بأخيها، ولا يجب عليها أن تجلس معه وحدها، ولكن حمزة يحترمها، ويُعاملها كما كانوا منذ الصغر، لا يتجاوز خصوصيتها، ولم يسبق له أن فعل معها أي أمر شائن، هو من رباها وكبرت بين يديه، وهو يُحافظ عليها، إلا أنها أثارت مشاعره بأسئلتها الغريبة على مسامعه، وكأنها تتحداه، كان قريبًا منها إلى الحد الذي شعر فيه بالتهاب أنفاسها، فلم يشعر بنفسه إلا وهو يُطفئها، لتصرخ به أماني:

-ما هذا الذي فعلته يا حمزة؟ كيف تجرؤ على فعل ذلك معي؟ ما الذي تظنه بي؟ هل تراني فتاة غير مؤدبة؟

انهالت فوق رأسه بالعديد من الأسئلة، سيطر عليه الحزن حين استوعب ما فعله، إلا أن تلك القبلة جاءت دون قصد منه، ولكنها جاءت كصفارة إنذار لما قد يحدث بينهما مستقبلًا مع غياب الأم في المستشفى لساعات طوال، هي ممرضة، والأستاذ وائل يعمل في متجر لبيع الأدوات الكهربائية، ولا يعود حتى تغرب الشمس، وكل ذلك الوقت أماني تجلس في البيت مع حمزة وحدهم ما لم يذهب إلى الجامعة.

-عودي إلى بيت أبيكِ يا أماني.

قالها حمزة بصوت مبحوح، وكأن قلبه لا يُطاوعه للتفوه بها، إلا أنه يُريد الحفاظ عليها حتى يظفر بها عروسًا بعد تخرجه من الجامعة، وهي الآن في مرحلة حرجة أيضًا، ولا يريد أن يشغلها بأمور الحب عن مستقبلها, وقعت كلماته كالصاعقة عليها، إلا أنها انصاعت لطلبه في ألم، وهي تكاد تسمع صوت تكسر قلبها، الذي تفتت إلى شذرات قاسية، حيث شعرت بالحنق الشديد عليه، بهذه السهولة يطلب منها الابتعاد, لقد كانت سهى مُحقة, لم يكن من الصواب تعلقها بحمزة بذلك الشكل, إلا أنها لم يكن لديها ذنب, فقد نشأت على حبه, وعَظمت مكانته داخل قلبها, فلم تعد ترى شخصًا غيره, تهطل الدموع من عينيها كالأمطار دون توقف, وشعرت بالاختناق في مكانها, ضاقت عليها الأنفاس من كل اتجاه, فركضت نحو الخارج, ولم تُبال بهيئتها, كانت ترتدي بيجامة البيت, ذهب خلفها وأخذ يُناديها, وهو يحمل عباءتها وطرحة في يده, لم تستمع إليه أو تتوقف ولو للحظة واحدة, استطاع أن يلحق بها, سحبها من ذراعها, فدفعته في صدره, وصرخت به قائلة:

ـ ابتعد عني يا حمزة, كيف تجرؤ على المجيء خلفي؟

أخذت تضربه بكل قوتها, وهو يحتملها في صمت, يُريد منها أن تُفرغ كل الطاقة السلبية داخلها, ينزع عنها الغضب الذي تسبب به, فلا يراها أحد على هذه الحالة, يستر جسدها وشعرها, ويُحافظ عليها حتى في خصامهم, انهالت عليه دون رحمة حتى جُرحت يداه بأظافرها, حين حاول أن يصد بعض الضربات عن صدره, ورغم ذلك تمسك بثباته, فارتعدت أوصالها, وزاد رجيف قلبها حين رأت نزف الدماء, وسألته في خوف:

ـ حمزة .. حمزة .. تحدث معي أرجوك, أنت بخير صحيح؟ هيا تعال معي لنذهب إلى المستشفى.

ساد الصمت للحظات, حمزة لم ينبس ببنت شفه, فانهارت أماني في البكاء, وارتفعت شهقاتها, فعادت ذكريات المشهد الأليم إلى حمزة, وخشي من تكراره معها ثانية, ضم وجهها بكفوفه, وأخذ يُحاول تهدأتها, فلم تستجب له, وشعر كأنما ذهبت لغير المكان, لم يجد سبيلًا أمامه إذن سوى الاعتراف لها, لم يتمالك نفسه, وقال لها من وسط البكاء:

ـ أنا أحبك يا أماني, يعلم الله عظم مكانتكِ في قلبي, أحببتك منذ الصغر, وكنت أخشى عليكِ من النسمة الطائرة, وتتأجج النيران في داخلي إن اقترب منكِ أحد, ولأجل ذلك قسوت عليكِ تلك المرة الوحيدة في صغرنا, وكذلك اليوم أبعدتك عني رغم احتراق الشوق في قلبي, لأنني أدعو الله ليل نهار أن يجعلك من نصيبي, ولا يكون ذلك بغضبه مني حين أفعل ما لا يرضيه, ولكنني والله لم أستطع كبح جماح نفسي, وأنتِ أمامي, يحتدم الصراع بين عقلي وقلبي, ولا أجد الرحمة من سطوة ضميري بعد ما كان مني اليوم, فسامحيني يا حبيبتي, وكوني بخير لأجلي, لنصبر معًا على البعد حتى يجمعنا الله على الوجه الذي يُرضيه.

سكنت ملامحها, وبدأت تهدأ, كست الحمرة وجنتيها من فرط الخجل, فما كان في الصغر أمرًا, والشعور الذي يُحملونه في قلوبهم الآن أمر آخر, تمنت أماني لو ارتمت في أحضانه كما كانت بعد كل شجار يدور بينهما, يُصالحها حمزة, فتختبئ بين ذراعيه, ولكن أنى لها اليوم أن تفعل ذلك؟ عدلت من هيئتها, وغطت بالطرحة شعرها, ثم مزقت قطعة قماش من أسفل عباءتها, ولفتها حول الجرح الذي تسببت به في يدها, وألقت عليه نظرة خاطفة, ولوحت له بيديها على أمل اللقاء, سار خلفها حمزة حتى اطمأن عليها بعد ما مرت عبر بوابة بيت والدها, كانت الجدة جالسة في المدخل, فشهقت في عدم تصديق قائلة:

ـ أماني .. غير معقول.. هل هذه أنتِ حقًا؟ وأخيرًا افتكرتِ بأن لكِ جدة.

لم تعرف أماني ماذا تقول؟ استأثرت بالصمت, لتُكمل الجدة:

ـ أينا كان سبب مجيئك إلى هنا, والدك سيسعد كثيرًا عند رؤيتك.

فسألتها أماني باقتضاب في جملة واحدة:

ـ أين هو أبي يا جدتي؟

ـ هو بالداخل في غرفته.

أجابتها الحاجة فتحية في عفوية حين سمعت منها كلمة (الجدة), دلفت أماني إلى الداخل, طرقت بخفة على باب غرفته, فأتاها صوته في هدوء, سمح لها بالدخول, هرولت باتجاهه حين رأته يفتح لها ذراعيه, وأخذت تبكي, وتُردد من بين الدموع:

ـ الآن فهمت يا أبي كيف سأعود إليك؟ لقد ضحيت بالكثير لأجل سعادتي, واليوم يُبدو بأنها قد استجيبت دعوتك.

صاح الحاج إبراهيم في فرح:

ـ غير معقول, هل ستبقين أخيرًا معي هنا؟

هزت رأسها في إيجاب, ولم تقل شيئًا, فقط تنحدر الدموع, فتبسم ابتسامة الفرح, وهو يقول:

ـ يا أهلًا ومرحبًا بكِ يا عزيزتي في بيتك, أقسم لكِ بأنني سأجعل كل شيء هنا طوع إرادتك, فلا تفكري في أي شيء, ولا تحملي قط أي هموم.

اختبأت بين ذراعيه, فضمها بحنان بالغ كانت تجده دومًا من حمزة, أما الآن فلا يجوز, نادى والدها على أخيها سعيد, كي يُرحب بأخته, فوجدت منه استقبالًا باردًا, مد إليها يديه في جمود:

ـ أهلًا أماني.

ـ أهلًا بيك أخي سعيد.

ـ خذي راحتك في البيت, فأنتِ أيضًا لكِ حق مثلي هنا.

بدا وقع كلماته قاسيًا بالنسبة لها, فهذا ليس بترحاب أخ بأخته, بل شخص يستقبل قدوم ضيف للإقامة عنده, وما لبث أن استأذن من والده, فلديه أمر هام للقيام به, أخذت أماني تنظر حولها في حيرة, وكأنما تبحث عن شخص ما, فتولى والدها تفسير الأمر, وكأنما استطاع قراءة ما بداخلها:

ـ لقد تزوجت يا أماني.

ـ تزوجت!

قالتها أماني في استغراب, فهي تتذكر كيف كانت تبكي للجدة في صغرها, ليحكي لها والدها موضحًا:

ـ كانت تحب شابًا طيبًا يدعي وليد, وظنت أمي أنه ليس بجيد, إلا أنني والله لم أحتمل رؤية معاناتها, فذهبت إليه بعد ما أوصلتك لبيت خالتك, وتحدثت معه, وقرأت الصدق في قوله, لا يفهم على الرجل سوى رجلًا مثله, فأعطيته كلمتي بعد أن أخذت منه وعدًا بالحفاظ على أختي, أقسم لي أنه سيضعها في عينيه, ويُحافظ عليها حتى آخر نفس في عمره.

ـ لمَ كانت جدتي قاسية بذلك الشكل يا أبي؟

سألته أماني في تلقائية, ليُجاوبها في مزح:

ـ هي ليست بقاسية والله يا حبيبتي, ولكن ما تعرضت له جدتك في الماضي لم يكن بالأمر الهين.

أماني في اهتمام:

ـ وما الذي تعرضت له جدتي يا أبي؟

أخذ الحاج إبراهيم نفسًا عميقًا, وكأنما يستجمع شجاعته, ثم زفر في ألم, وصرح لها بما كابدوه في الماضي:

ـ لقد كنت حينها صغيرًا يا أماني, لعلي بلغت الخامسة عشر وقتها أو أقل من لك, فقدت أبي قبل أن أفهم كيف يكون معنى الكبر؟ وقعت المسئولية على كاهلي, وكانت أختي إلهام صغيرة وقتها, ومحمد كذلك, ثم اكتشفنا حمل أمي, فكان كل ذلك ثقيلًا على أمي لاحتماله وحدها, حينها تقدم للزواج بها قريبها رحيم, ولطالما قالوا من الأشعار عن حبه لها, ولكن كانت الحقيقة شيء آخر, كالوحش الكاسر كان هو, وفقد حياته في لحظة هادرة بعد شجاره مع أمي وضربه لي, حينها كثرت الأقاويل السيئة عن أمي, وامتنعوا عن الحديث معها, نبذتها القرية وكأنها فيروس معدي أو مصابة بالجرب, ومهما حاولت أن أصف لكِ لا يسعني القول كم كان ذلك قاسيًا!

ربتت أماني على كتف والدته, وشعور الندم يعتمل داخل صدرها, لقد ظنت بجدتها السوء من قبل, ولكنها كانت مظلومة وقهرت في شبابها, ولم يكن هناك من سند أو معين لها, ولولا تحمل ولدها الصغير المسئولية, لضاعت هي وإخوته.

نظر لوالدها بفخر, وهي تقول في زهو:

ـ الآن علمت كيف أحسنت أمي الاختيار, وكم كانت محظوظة بكِ يا أبي!

ـ رحمه الله عليها, لقد كانت خير النساء والله, وأسأل الله أن يجمعني بها في جنة الخلد, حيث لا تفترق عني ثانية.

تفوه بتلك الكلمات في تأثر, ثم ما لبث أن قال بحزم:

ـ هيا يا أميرتي, انهضي الآن لنذهب كي نشتري لكِ كل ما تحتاجينه.

ـ ولكني لست بحاجة إلى شيء يا أبي, وسوف أذهب لإحضار كل أغراضي من عند خالتي.

هز رأسه في نفي, وهو يُردد في إصرار:

ـ لا والله, طالما عدتِ إلى بيت أبيكِ, واجبي الآن أن أجلب لكِ كل ما تحتاجينه.

قبلت رأسه, وهي تُعبر عن امتنانها:

ـ سمعًا وطاعة يا أبي, هيا بنا الآن كي لا نتأخر.

تأبطت أماني ذراع والديها, ثم رحل الأب مع ابنته, وتوجها معًا إلى مختلف المحلات لشراء ما يحتاجونه.


************

في بيت الأستاذ وائل..

عادت زوجته سعاد إلى البيت بعد يوم عمل شاق في المستشفى, أُنهكت فيه كثيرًا, فأخذت تُنادي عليها بمجرد عبورها من الباب, بكل لهفة تنتظر إجابتها, ولكن ما من إجابة تأتيها, فظهر حمزة فجأةً, وكأنما جاء من العدم, مطاطئ الرأس, شاحب الوجه, حزين الملامح, ورد هو بخفوت:

ـ أماني ليست بالبيت يا أمي, لقد عادت إلى بيتها.

ألقت والدته بجسدها على الكرسي خلفها من الإجهاد, وهي تسأله في غير فهم:

ـ ما هذا الذي تقوله يا حمزة؟ لا تمزح معي يا حبيبي أرجوك, لست بمزاج جيد.

حمزة في ثبات:

ـ ولكنها الحقيقة يا أمي.

انتفضت من مكانها, وهبت واقفة, وهي تضرب كف بكف في استنكار:

ـ ولكن هذا بيتها, فلمَ ذهبت إلى هناك؟

بمجرد تفوهها بالسؤال الأخير, التفتت إليه, وهي تقول في حدة:

ـ هل ضايقتها يا حمزة؟ أخبرني ما الذي حدث؟ لا تُخفي عني شيئًا.

استأثر حمزة بالصمت, لم يعرف بمَ يُجيبها, فأعادت عليه السؤال مرة أخرى:

ـ كيف تترك أماني بيتها؟ كيف تبعد عن أبيها وأمها؟ ولمَ قد ترحل عن أخيها؟

ـ ولكنني لست بأخيها يا أمي.

اهتزت والدته لثوان, وكأنما دارت الأركان من حولها, إذن ما توقعته صحيح, لقد تطورت المشاعر بين أماني وحمزة, وأخذت منحنى جديدًا, لم يتوقعون أن يحدث بتلك السرعة, لطالما تحدث معها زوجها في الأمر, نظرات كلا منهما للآخر توشي بالحب, ولكنها لم تكن مستعدة لذلك الفراق بغتةً بذلك الشكل, استندت على الجدار أمامها, وتحاملت على نفسها حتى وصلت إلى غرفتها, أغلقت الباب من خلفها بهدوء, ثم استسلمت للتعب, والدموع تغرغر في عينها, وغطت في نوم عميق بعد مرور دقائق معدودة.

ـ هدى.. تعالي إلى هنا يا أختي, فكم اشتقت إليكِ يا حبيبتي! لا تذهبي ثانية بعيدًا عني.

ربتت على كتفها, ثم طوقتها بذراعيها, تحتضنها, وهي تهمس في أذنيها بامتنان:

ـ شكرا لكِ يا عزيزتي على اهتمامك بابنتي, لطالما كنتِ خير أم وأخت لي, وشاء القدر أن تكوني كذلك مع ابنتي, فلم تقصري والله قط في حق أي منهما.

اغرورقت عيني سعاد بالدموع, وضمت أختها بدورها, ثم طبعت قبلة حانية على وجهها, وهي تُردد في ألم:

ـ لم أفعل شيئًا والله يا أختي, فأنتِ نور عيني, وأماني قطعة منكِ يا فلذة كبدي, فكان لها نصيبًا من الحب الذي أحمله لكِ يا عمري, عوضتني عن غيابك, فأنتِ لا تعلمين كم كسرني فراقك والله.

شددت هدى على يديها, تُشعرها بقربها, ثم أشارت بيديها إلى قلبها:

ـ أنا هنا يا أختي, أسكن بين جنباتك, وكلما اشتقت إلي عليكِ فقط بضمك, حينها ستشعرين بوجودي, ولا يمكنني أن أصف لكِ كم أنا سعيدة في المكان الذي ذهبت إليه!

لمعت عيني سعاد من الفرح, وهتفت:

ـ كان عملك طيبًا يا أختي, فقد كنتِ والله من خير خلق الله, أسأل الله أن يجمعني بكِ في مكان واحد, فلا أفترق عنكِ أبدًا.

ـ ما زال العمر أمامك يا حبيبتي, وصيتك حمزة وأماني, كوني جوارهم حتى يجتمعا معًا, فكم أنا سعيدة لا بنتي كونها ستحظي بحبيبي حمزة, أسأل الله أن يرزقهما كل الخير.

انتصف الليل, فعاد الأستاذ وائل من عمله, وقد خارت قواه, مصاريف جامعة حمزة تجعل كلا والديه يعملان على قدم وساق, وكذلك لتوفير كل ما قد يحتاجه, نادى على زوجته, فلم تُجيبه, دلف إلى الغرفة, وجدها تهذي باسم هدى, والعرق يتصبب بغزارة من جبينها, تحسس جبهتها, فوجد حرارتها مرتفعة, وكأنها براد يغلي على الموقد, فزع, وصرخ يُنادي ابنه كي يُساعده ليذهبا بها إلى المستشفى, اضطرب حمزة عند سماع صوت والده, ظن بأنه سيُعنفه, وقد أخبرته والدته بما كان منها تجاه أماني، التي أحبها أبيه كابنة له، ولم يسء إليها قط، ولطالما عاملها بلطف، أخذ يُقدم قدمًا ويؤخر الأخرى حتى وصل إلى باب الغرفة، وقد اشتد نداء والده، فهرول إليه، وحينها فوجئ بسوء وضع والدته، حملها على عجل، ولحق به والده، أحضر مفاتيح سيارته ثم انطلق بهم مسرعًا إلى المستشفى.

-سامحيني يا أمي أرجوكِ، أعلم بأنني السبب في ما أَلم بكِ، ولكنني والله أحببتها، فخشيت عليها من نفسي؛ ولأجل ذلك أبعدتها.

كان حمزة يُحدثها بخفوت، وشعور الذنب يعصف بداخله، يظن بأنها لا تسمعه، إلا أنها ما لبثت أن شددت على يديه، ولاحت على وجهها ابتسامة رضا، إذن هي في جانبه، فنزل برأسه إلى الأسفل، وطبع قبلة على خدها، وهو يهمس في أذنها:

-شكرًا لكِ يا أمي، لا تعلمين حقًا كم أُحبك! فكوني بخير وتجاوزي هذه الشدة.

-هيا يا حمزة أحضر والدتك.

ترجل الأستاذ وائل من سيارته مسرعًا ما أن وصلا إلى المستشفى، ولكن حمزة لم يكن منتبهًا حتى تحدث والده، خرج برفق وهو يحملها ثم ركض نحو الداخل، توترت الأجواء عند رؤيتها، وقف الجميع لها على قدم وساق، فالممرضة سعاد من ملائكة الرحمة، وهي ملاك في كل شيء، لا تتأخر على أحد، تقف جوار الكبير وتعين الصغير.

-ما بها يا أستاذ وائل؟

سألته الممرضة آمال في قلق، أقرب زميلة لها في العمل، بينما تولت أخرى الإجابة عنه قائلة:

-يبدو بأنها قد أُصيبت بالحمى، وزاد عليها الأمر شدة إرهاق اليوم وتعبه، كانت لا تبدو بخير حين غادرت.

على الفور تم عمل اللازم لها، وعلقوا لها المحاليل التي وضعوا بها خافض للحرارة، مع بعض الأدوية التي كتبها لها الطبيب، فالكل يعرف بأن الممرضة سعاد كالدينامو لا تتوقف أو ترحم نفسها أثناء العمل، ولكن حمزة ظلت تؤنبه نفسه، حُفر ذلك اليوم بداخله، فكم كان قاسيًا.

على الجانب الآخر..

عادت أماني مع والدها إلى البيت، وشيء بداخلها يُحدثها، شعرت بالقلق على والدتها، إحساس القلب يصدق أحيانًا، ولم تعرف حقًا كيف تُكذبه، لا إراديًا حملت سماعة الهاتف الأرضي بين يديها، وضربت الرقم، واستمر الرنين مع تكرار المرات، وما من إجابة واحدة، فأين ذهب الجميع إذن؟ تساؤلات عدة دارت بخلدها، تعصف بها من كل اتجاه، واستطاع والدها قراءة الحزن البادي على ملامحها، فَأدرك بأنها تشتاق إليهم، عاشت معهم معظم عمرها منذ الطفولة وحتى المراهقة، إلا أن هناك عائلة لا تعرف عنها شيئًا، فصاح في مزح:

-ألا تُريدين أن تعرفي يا أماني كيف التقيت بوالدتك؟

أماني في جمود:

-بالطبع نعم يا أبي.

كانت لا تزال متأثرة بعدم وجود إجابة، واضطرارها على غفلة الرحيل عن أمها وأبيها دون وداع حتى، وإن كانت طريقة مغادرتها أليمة، ولا تُنتسى، وسيطر عليها الشرود حتى انتبهت إلى قول والدها:

-لقد كان حبًا من طرف واحد كما يقولون، سرقت لبي مني ما أن رأيتها، ولم يقو قلبي على النجاة من نظراتها.

اتسع بؤبؤ عيني أماني، وجلست القرفصاء في حماس، وأخذت تستمع إليه بكل حواسها؛ كي لا يفوتها أي جزء، فتبسم، أنقذها من بين براثن الحزن، الذي كاد أن يُفتك بها، وتشجع ليُكمل الحكاية،

-تعلمت الفلاحة وأمور التجارة على يد عمي عبد الحميد، فطلبت منه في

الفصل الرابع من هنا

تعليقات



×