![]() |
رواية شذرات الاماني الفصل الرابع بقلم ساره عبد المنعم
-اقتربت الامتحانات يا أماني .. ويجب عليكِ التركيز يا صديقتي.
تنهدت أماني في استياء، وزفرت في ضيق:
-ولكنني والله أشتاق إليه، ولا أستطيع منع نفسي من التفكير فيه.
-ذاكري واجتهدي يا أماني؛ كي تكوني جديرةً به، فكما تعلمين هو سيصير مهندسًا، وعليك إذن أن تُصبحي طبيبةً، لقد كان هذا حلم والديك، فلقد أخبرتني أمي بأن والدتك تمنت الالتحاق بكلية الطب حتى صدمها المجموع، ولكن الله اختار لها أيضًا مجالًا رائعًا، وصارت مدرسة تربية دينية، يهتدي بها الكثير، وسنا بريقها ينعكس على الحضور، فيُزيدهم بهجة وسرورًا.
سكنت أماني للحظات، لم تتفوه بشيء، ثم صاحت:
-وكذلك أبي أراد أن يُصبح طبيبًا، ولكن حالت الظروف دون ذلك، فلا يكف يقول لي حققي حلمي يا صغيرتي.
يقولون احذر عدوك مرة، أما حبيبك فاحذره مرات عديدة، لقد ضحى إبراهيم بكل أمنياته، وألقى طموحاته جانبًا حتى يتفرغ للقيام بأعمال والده، وسانده والد صديقه، الذي شاءت الأقدار أن يتحقق حلمه فيه، ولكن باغته ضيق الحال ثانية، لم يستطع حسين إكمال دراسته في كلية الطب، وقد أوشك على التخرج منها، مرض والده عبد الحميد، نهش التعب في جسده، وتشعب السرطان بلا رحمة، فباعوا لأجل علاجه الغالي والنفيس، وعلى الرغم من تكفل إبراهيم بكل شيء قد يحتاجه، إلا أن نفوسهم العفيفة أبت عليهم الاعتماد عليه كليًا، وتوسله حسين أن يسمح له بالعمل معه، ظل يرفض ذلك في كل مرة، فحق الصديق على الصديق توجيهه نحو الأفضل، ودفع عنه مصاب الحياة ومشاقها، إلا أن حسين أغلق عليه كل المنافذ، وهو يُلقي أمامه تلك الورقة، التي انتفض إبراهيم فزعًا عند رؤيتها، غشيت عيناه الدموع، وهو يُردد في غير تصديق:
-حرام عليك يا حسين، لمَّ فعلت ذلك يا صديقي؟
شاركه حسين في البكاء، وهو يقول في ألم:
-يبدو بأن ذلك هو قدرنا يا أخي، وأبى القدر أن يُفرق بيننا، فها أنا ذا أصبحت مثلك، ليست بأعلى منك في شيء.
كانت كلماته كالسوط، ضربت إبراهيم بقسوة، ليصيح في استنكار:
-وهل تظن بأنني سأكون فرحًا بذلك يا صديقي؟ هل تُصدق بأنني قد أكون ذلك يا صديقي؟
هز حسين رأسه في نفي:
-لا والله يا أخي، معاذ الله أن أقول ذلك، ولكني والله رغم اجتهادي واقترابي من الحلم، كانت هناك غصة في قلبي، وشعور بالذنب يأكلني، لم أتحرر منه سوى الآن، فقد تعاهدنا على السير معًا حتى النهاية.
ارتمى إبراهيم في حضن صديقه، وانهارا في البكاء، لم تسر الحياة على الوجه الذي يرضاه أي منهما، وكان الفقد من نصيبهما مع جرح غائر غير قابل للاندمال، إلا أنهم لملموا شتات أنفسهم، وثبتوا، يتقويان بوجود بعضهما، وجدوا العزاء في ذلك حتى انتهت المعاناة، فاضت الروح الطاهرة إلى بارئها، غادر العم عبد الحميد، وترك ابنه مسئولًا من خلفه، لاحت ابتسامة هادئة على محياه، استطاع التغلب على ضيق الحال، والتحق ابنه بكلية الطب، فرحل بسلام، رحمه الموت، ولم ير بأنه كان كالسلاح ذو حدين في حياة ابنه، بالبداية عمل قدر ما يستطيع، وساعد حسين كي يبلغ لحلمه، ثم تسبب في عدم وصوله ما أن باغته المرض، فاضطر ابنه أن يترك دراسته لأجله، وما أقساه من تشبيه! لقى وجه كريم قبل أن يستوعبه.
************
في الجامعة..
حمزة يسير شاردًا، عقله مشغولًا بالحبيبة، حتى اصطدم بفتاة، انتبه إلى صوتها، وهي تنهره قائلة:
-هل أنت أعمي؟ انظر أمامك قبل أن تسير.
تبسم حمزة لها، وأخذ ينظر إليها مطولًا، ظنت بأنه يعاكسها، إلا أن الحقيقة كانت شيئًا آخر، فقد تخيلها أماني التي أمامه، وكم اشتاقها!
-يبدو بأنك شخص غير محترم.
استمر حمزة في الابتسام، لطالما كانت أماني تُعنفه، اعتاد منها المشاجرة دائمًا، أبعد القلب عن خليلته بإرادته، وما لبث أن عاد أن حاضره، واعتذر من الفتاة:
-أنا آسف جدًا، لم أقصد والله إزعاجك.
ذهبت نوران، وقد تغير شيئًا في داخلها، احتارت كثيرًا في أمر ذلك الشباب، لا يبدو عليه ما يظهر منه، ولمَّ احتمل منها تلك المعاملة؟ ولم يُدافع عن نفسه، أخذته قدماه إلى المسجد، توضأ يغسل همومه وأحزانه، ويُطفأ حر نيران شوقه، ثم رفع تكبيرة الإحرام، ودخل في الصلاة، وبكى في سجوده، لم يعد يحتمل غيابها كانخلاع الروح من الجسد عند الاحتضار، ولكنها ما زالت مُعلقة بالأرض، حينها جاءته البشرى، وهو يستمع إلى أحد المحاضرات في المسجد، وكأن الله هداه إلى ذلك المسجد، الذي لأول مرة تنتبه عينه لوجوده، ولم تخطه قدماه من قبل، فردد حمزة في امتنان:
-الحمد والشكر لله.
تتردد كلمات الشيخ في أذنه، وتربت على قلبه الحزين:
"يا معشر الشباب الزواج رزق ولن تجلبه لكم العلاقات المحرمة تحت مسمى (الحب)، وكونوا على يقين بأن من عصى الله لشيء عوقب به، والبدايات التي لا ترضي الله والله ثم والله نهايتها لا ترضيك أبدًا، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وتذكروا جيدًا حديث سيدنا رسول الله ﷺ: "لا يحملنَّكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته".
عاد حمزة إلى البيت هانئًا مطمئنًا، ألقى نظرة سريعة على غرفتها، تنهد ثم توجه نحو المطبخ، ليُعد شيئًا كي يأكله، ففوجئ بعودة والده باكرًا على غير ميعاده، سأله في خوف:
-أبي.. هل أنت بخير؟
رد عليه بهدوء مع نظرة إعجاب تنعكس في عينيه:
-لا تعلم كم أنا فخور بك يا حمزة، لقد فهمت عليك منذ اللحظة الأولى، وتوقعت حدوث ذلك، ولكنني والله سعيد بأنك ابني.
اختلف الشعور داخل حمزة، فهو لا يفهم شيئًا؛ ليُكمل والده:
-أعلم سبب عودة أماني إلى بيت والدها، فوالله لو كنت مكانك لما استطعت فعل ذلك، فالحبيب لا يهنأ إلا في جوار عزيزه، وأنت اخترت بنفسك الألم.
أخذ حمزة نفسًا عميقًا، ثم تحدث مع والده كرجل:
-أنت محق يا أبي، ولكن كما تعلم الرجل حين يُحب، يفعل كل ما بوسعه للحفاظ على حبيبته، يُصبح كالفارس المغوار، يُلقي بنفسه في وجه الصعاب لأجلها، وقد تزهق روحه فداءً لها عن طيب خاطر.
ربت والده على كتفه، وهو مشدوهًا بأن تلك الكلمات خرجت من ثغر ابنه، فكيف كبر بذلك الشكل أم أن ذلك فعل الحب به؟ يُغيرنا بشكل جذري، فلا نعود كما كنا من قبل.
-حماك الله يا بني، أسأل الله أن يقضي لك حاجتك، ويجمعك بها عن قريب، تعود إلى بيتنا من جديد، وفي تلك الحالة لن أسمح لك بإبعادها ثانية.
-يا رب يا أبي اللهم آمين، اللهم تقبل دعواتنا، وقر عيني بها يا رب.
وكأن أماني كانت حاضرة معهم، جالسة في غرفتها على سجادة الصلاة، وتُردد الدعوة ذاتها، ثم نهضت كي تستذكر دروسها، وتستمد القوة من تخيله أمامها، غاب عن نظرها وجود قوى الشر بداخلها، فمنذ عودة أماني إلى البيت، يزفر أحدهم في استياء، ويُعبر عنه:
-هل رأيتِ يا ورد كيف تغير أبي معي؟ لقد حظيت أماني بكل الاهتمام، ولا يرفض والدي لها طلبًا.
لوت ورد شفتاها في حنق:
-رأيت يا سعيد، لا أعلم لمَّ عادت أختك الآن؟ وقد أوشك أبي على إقناع عمي بزواجنا.
سعيد في حدة:
-وهل يجرؤ أبي على الرفض؟ أنا والله لا يسعني البقاء من دونك ولو للحظة واحدة، وأنتظر بشوق موعد زواجنا.
-ولكننا لم نُخطب بعد يا سعيد، فكيف سيكون موعد الزواج أولًا؟
-الخطوبة تكون لأجل التعارف بين العروسين، ولكن أنا وأنت كبرنا معًا، ويعرف كل منا عن الآخر ما قد تجهله نفسه، فلا تقولي ذلك حبيبتي.
وكزته ورد في ذراعه، حيث لا يوجد حدود بينهم، يجلس معها على سطح البيت، الذي بناه والده من شقاه وتعبه، أفنى فيه عمره، وتُريد زوجة أخيه (عزة) انتزاعه منه، لا يكفيها الشقة التي أعطاها لهم، حيث تزوجها أخاه (السيد) رغم أنها كانت تضع عينيها عليه هو منذ البداية، ولكن زواجه بهدى هدم كل الآمال فوق رأسها، فأوقعت السيد في حبها حتى صار يهيم بها، ويتحرك وفق إشارة واحدة من يدها، فلم تلبث أن غرست الضغينة والبغضاء في صدر السيد على إبراهيم، ولسوء حظ أماني ظهرت أمامها في مثل هذا الوقت الهام لمستقبلها، فبلغ مكر عزة أن استعانت بأحد الدجالين، وصنعت لتلك الفتاة البريئة سحرًا، وبدأت رحلة معاناة لم تتخيلها أماني أبدًا، لا حد لها ولا انتهاء، تصرخ أماني في عز نومها، فتستيقظ فزعة حيث تُراودها الكوابيس، والألم كالسهم المنطلق يتنقل في جسدها، واختلفت تشخيصات الأطباء، وعلى الرغم من ذلك اتفقوا على وجود سبب عضوي مباشر، واحتاروا في تعبها، تبكي أماني ليل نهار، وتُقطع الكتب في حالة هستيرية، لا تطيق الجلوس لاستذكار الدروس، وتقطع قلب صديقتها (سهى) عليها، اغتم والدها، وشعر بالعجز وقلة الحيلة، ليُواسيه صديقه حسين:
-وحد الله يا أخي .. فوض أمرك لله يا حبيبي، فكل أقداره والله خير.
رد إبراهيم بنبرة تكشف نياط قلبه، الذي تمزق لأجل قرة عينه:
-يبدو بأن الزمن يُعيد نفسه مع اختلاف الزمن يا حسين.
انتفض الآخر في استنكار:
-لا.. يا إبراهيم لا .. لا تقل ذلك، عزيزتنا أماني ستكون بخير، وسوف تُحقق ما عجزنا نحن إلى الوصول إليه.
لم يتمالك إبراهيم نفسه، وبكا:
-إذن بمَّ تفسر سوء حالتها تلك؟ وقد اقتربت الامتحانات على الأبواب، بذلك الشكل لن يُمكنها الدخول.
ثم وضع يده بين كفوفه في أسى:
-يا ليتها والله ما عادت إلى هنا، سامحيني يا هدى وقفت أشاهد ابنتنا تُعذب، ولا يُمكنني فعل شيء.
ـ وحد الله يا أخي, شدة وستزول بأمر الله.
وصلت الأخبار إلى خمزة, فلم يستطع منع نفسه, وذهب لرؤياها إلا أنه وجد فتاة أخرى غير التي يعرفها, بل التي هام بها عشقًا, عاملته أماني بجفاء, ولم ير انعكاس الحب في عينها كما اعتاد, بدت وكأنها مُغيبة, بل ذهبت إلى مكان مجهول لا يعلمه, فسألها في قلق:
ـ أماني .. ما بك؟ لمَ أراكِ على غير عادتك.
ـ ما الذي جاء بك إلى هنا؟
وقعت كلماتها عليه كالصاعقة, لا يُصدق ما يسمعه بأذنيه, وقف قبالتها, والدموع تغرغر في عينيه, وسألها في صوت مبحوح, وكأن الكلمات تحشرجت في حلقه:
ـ هل تتحدثين معي أنا يا أماني بذلك الشكل؟
ـ نعم أنت.
ـ أنا حمزة يا أماني, لست بشخص غريب كي تُعامليني بذلك الجفاء, وأجد منكِ تلك القسوة.
نظرت إليه أماني شزرًا, فتأكد في تلك اللحظة بأن هناك شيئًا قد ألم بها, هذه ليست بأماني, التي كانت تتوه في عينيه, ولا ينعكس بهما سوى الحب له, تفاجأ كثيرًا بردة فعلها, وخرج من عندها, وقلبه قد تفتت إلى شذرات, وهي تصيح به في حدة:
ـ اخرج من هنا يا حمزة, ولا تعود ثانية, فأنا لم أعد أريد رؤيتك.
انسلت العبرات حينها, فمسحها على عجل, وركض مسرعًا إلى الخارج حتى اختفى من أمام أنظارها, وما أن وصل إلى مكان مهجور في طريقه إلى البيت, أخذ يصرخ بأعلى صوته, والغضب يُسيطر عليه مع شعور بالانكسار غريبًا عليه, لم يتخيل قط بأنها ستكون سببه, هزت صرخاته الأرجاء, وهي ترتد إليه تكاد تخلع القلوب من مكانها:
ـ لمَ فعلتِ ذلك يا أماني؟ حرام عليكِ لمَ ظلمتني؟ يعلم الله بأنني لم أُبعدك عني إلا لأجلنا, واليوم كان قلبي يطير من الفرح لكونه سيراكِ, ولكنك صدمتني, فجعتِ قلبي وهو لم يُحب سواكِ.
سقطت أماني أرضًا بعد رحيله, انهارت في البكاء, وأصبحت من بعده في حالة يُرثى لها, لا تعلم حقًا ما أصابها؟ شعرت بالغضب منه, لكوني تركها من قبل, على الرغم من أنه أخبرها السبب, يُريد أن يظفر بها, ويطلب من والدها عروسًا له حين يُصبح جديرًا بها, لم يستحق منها كل ما وجده, كسرت قلبه, وكانت هي المتألمة, ارتدت معاناته في صدرها, وعُذبت بدورها, جاءت سهى من الخارج, فقد ذهبت لشراء بعض الأشياء لها, جلبت الشوكولاتة التي تُحبها وأنواع مختلفة من السناك بالنكهات التي تُفضلها, فانتفضت عند رؤيتها, وفزعت:
ـ أماني .. ما بك؟ لمَ تبكين بذلك الشكل؟
صرخت بها أماني بقسوة, طلبت منها الابتعاد عنها ثم طردتها خارجًا, صُدمت سهى بدورها, لم تسء قط لأماني, ومنذ أن مرضت تركت بيتها, وجاءت للجلوس جانبها في محنتها, وقفت جوارها, ولم تؤل جهدًا لأجل التخفيف عنها, ولكن أماني يبدو بأن حالتها ساءت بشكل غير متوقع, غشيت الدموع عيني سهى, وتسمرت في مكانها, لم تُحرك ساكنًا, وكأن أركانها قد شُلت, بل لم تسعفها كي تستوعب ما حدث, تعجب الحاج إبراهيم حين وجدها تقف خارج الغرفة, جاء للاطمئنان على أماني, وحين اقترب, لم يسره ما وجده, ليسألها في فزع:
ـ ماذا هناك يا سهى؟ لمَ تبكين يا ابنتي؟ هل أماني بخير أم حدث شيئًا؟
قال جملته الأخيرة, وقلبه يكاد ينخلع من بين ضلوعه, لن يحتمل فجيعته بها, ما لبثت أن عادت إليه, ليُحرم منها ثانية, وهذه المرة ستكون إلى الأبد لا قدر الله, خشيت عليه سهى, فأجابته من بين دموعها, كي لا تتركه للهواجس:
ـ هي بخير يا عمي, ولكنها لم تعد تُريد رؤيتي.
تنهد الحاج إبراهيم, وردد في استنكار:
ـ غير معقول يا سهى, كيف تقولين ذلك؟ أنت تعلمين كم هي تُحبك يا ابنتي, فأنت بمثابة أخت لها, ولم أراها سعيدة حتى قدومك.
سهى في خوف:
ـ أخشى بأن الأمر الذي يحدث معها أكبر من الأطباء يا عمي, يعلم الله بأنني أيضًا أحبها, ولكني لا أفهم حقًا سبب ذلك التحول الجذري, أحيانًا تبدو واعية بيننا, وأوقات أخرى تصبح على مشارف الموت, بل مُغيبة وكأنها ليست موجودة بعالمنا, الأمر مريب والله يا عمي, وقلبي يُشعرني بأن هناك شيء مجهول لا نعلمه.
بدأت كلمات سهى تدور في لبه, يبدو منطقيًا للغاية ما تقول, فابنته تبدو وكأنها تقف في المنتصف بين الحياة والموت, ولا يوجد هناك مرضًا أصابها قد يستدعي ذلك, إلا أن الآلام التي تشعر بها حقيقة حقًا, فما العلة إذن؟
سألها في حيرة, والتيه يبدو جليًا على معالمه:
ـ ماذا برأيك نفعل إذن يا ابنتي؟
سهى في نبرة واثقة:
ـ علينا أن نذهب بها إلى أحد الشيوخ, لقد قصصت على جدتي ما يحدث مع أماني, وقالت لي بأن الأمر ليس طبيعيًا, وطلبت مني أن أحضرها إليها, ولكن أماني فزعت بمجرد ذكر الأمر, وهذا أكد لي بأن هناك ما نجهله.
ـ كيف سنأخذها إذن إن كانت معترضة؟
سكت سهى لهنيهة, ثم قالت موضحة:
ـ الدواء طعمه مر يا عمي, وقد يبكي الصغير لأمه كي لا تعطيه الإبرة, ولكن رغم كونها تُحبه, لا تستجيب له, فالشفاء من مرضه يكمن في أخذها, وهكذا سنفعل, إن كانت أماني ترفض الذهاب, لنُحضر لها الجدة هنا, ونجعلها تراها في أقرب فرصة دون أخذ رأيها, لن نقول لها شيئًا.
ربت الحاج إبراهيم على كتفها, وأسارير وجهه قد انفرجت قليلًا, حيث لاح أمامه الأمل, سيكون هناك فرصة للشفاء أمام ابنته, وسيبذل أقصى استطاعته لأجل إنقاذها مما تُكابده.
*************
أقبل النهار بعد ليل سرمدي طويل, لم يذق فيه حمزة للنوم طعمًا, ظل يبكيها ويبكي كل الآمال التي تبخرت, والوعود الذي ذهبت دون عودة, لم يتخيل قط بأنها قد تكرهه بذلك الشكل وبهذه السهولة, غادر البيت على عجل كي يذهب إلى الجامعة, منذ اليوم لن يُفكر في شيء سوى مستقبله, وإن كان ذلك أيضًا يُذكره بها, كان يسير على غير هدى, فاصطدم بها ثانية:
ـ أنا آسف سامحيني, لم أقصد والله.
ـ أنت! غير معقول, لم أتخيل بأنني قد أراكِ ثانية وبتلك السرعة.
تبسمت له نوران, ولكنه لم يتذكرها, فعرفته عن نفسها:
ـ مرحبًا! أنا نوران, لقد تقابلنا من قبل, فأنت قمت بالاصطدام بي كما حدث هذه المرة أيضًا.
ـ أهلًا بكِ.
قالها حمزة بتيه, هو ليس بخير, وبدأت الرؤية تضعف أمام عينيه, وآخر شيء سمعه كان صراخها قبل أن يغيب عن وعيه, حمله الشباب وتم نقله إلى مستشفى الجامعة, ولحقت نوران بهم.
شعر كستنائي تنسدل خصله من خلال حجابها, الذي يأكل نصف وجهها, صغيرة هي ملامحها مع بشرة خملية اللون, وأنف رقيق أسفل منه شفاه ممتلئة, مع جسد يتخذ شكل الساعة الرملية, فارع الطول, وقفت قبالة حمزة تنظر إليه بعيون ملؤها القلق, ظلت جواره حتى اطمأنت عليه, اختفت من أمام ناظريه حين هم بإبعاد جفنيه عن بعضها البعض, لا تُريد أن يراها بلك الشكل, وقد أكل الخوف قلبها عليه, إلا أنها تسمرت في مكانها, حين سمعته يهذي باسمها:
ـ أماني .. أماني.. أماني..
إذن هناك فتاة أخرى في حياته, وما من فرصة أمامها, إلا أنها ما لبثت أن طردت عنها تلك الهواجس السيئة, فقد تكون هذه الفتاة أخته, ويُناديها لكونها الأقرب إليه, لتعود إليه ثانية, وتسأله في لطف:
ـ هل أنت بخير الآن؟
أراد حمزة أن يعتدل في هيئته, ولكنه لم يستطع, يبدو عليه الإنهاك الشديد, وكأن هدد سقط فوق جسده بفعلها, الضربة تكاد تكون قاتلة حين تأتيك من الحبيب.
رد حمزة في هدوء:
ـ الحمد لله أفضل كثيرًا, شكرًا لكِ على المساعدة.
ـ لا شكر على واجب, هل من الممكن أن تعطيني رقمك كي أتصل للاطمئنان عليك؟
تردد حمزة في البداية, ولكنه ما لبث أن أعطاه لها, فجرحه ما زال حديثًا, وخرج الآن من تجربة قاسية, سيفرق معه وجود أي شخص جانبه, وفي تلك اللحظة نامت المبادئ, لا مانع إن جمعته علاقة صداقة بها, وقد كان, إلا أن الشعور اختلف لديها منذ الوهلة الأولى, فقد أغرمت به, يتحدث معها ليل نهار, ولا يستطيع التفريق إن كان هذا حبًا أم اعتياد؟ وهي لم تكن لتسمح له بالابتعاد عنها, بينما كانت الحبيبة التي أرادها بشدة تُعاني, وأخذتها الحياة نحو منحنى, لم تتوقع قط السير فيه.
في بيت الحاج محمد النجار..
جاءت الجدة زينب بناءً على طلب حفيدتها, دخلت على سهى وهي نائمة, كي لا يُشعرونها بشيء, أخذت تتلو عليه آيات من القرآن الكريم, انتفضت أماني من مكانها, واستيقظت فزعة, هز الأرجاء صوت صراخها, فهرول نحوهم من في البيت, العم سيد وزوجته وابنته, وجاء أخيها كذلك, لم يفهم أي منهم ما يحدث باستثنائها, زاغت ببصرها يمينًا ويسارًا, والخوف يبدو جليًا على ملامحها, لم تتفوه بشيء, وكلما حاولت الانفلات من بينهم أوقفتها الحاجة فتحية, فقد كانت تُراقبها, وتسللت الريبة إليها عند تغير لون الأخرى عند مناداتها, وتبدل حالها, كانت تبدو خائفة للغاية, وكأن رأت شيئًا أرعبها.
ـ ابتعدوا عني.. اخرجي من هنا أيتها الساحرة.
تصرخ بهم أماني, فصاحت بها الجدة:
ـ أنا الساحرة يا قوم فاسدون, أخبروني مَن أنتم؟ وماذا تُريدون من تلك المسكينة؟
كانت أماني تتأوه, والجدة ترش عليها الماء بعد أن تلت عليه الآيات الخاصة بالسحر من كتاب الله, بدا الأمر جليًا للغاية أمامها, وإن صَعب استيعابه على العقول, فمن تلك الكافرة التي باعت دينها بثمن بخس؟ وقامت بإيذائها دون رحمة, رحلة عذاب لا تنتهي لطريق مجهول أخذ يسحب أماني أكثر, لم تكن الجدة زينب بالقوة الكافية لمواجهة كل ذلك الشر الذي نزل بها, رغم محاولاتها المستميتة لمساعدتها, إلا أن الأمر لم يجد نفعًا بالشكل المأمول, من شيخ إلى أخر أخذت تنتقل, ولم تسلم في طريقها من الاصطدام بالدجالين والخادعين, إلا أن أماني هي بنفسها من أصرت على المواصلة, كانت تُراقب حسابات حمزة عبر مواقع التواصل المختلفة, وتراه يهنأ في حياته, بينما هي مُعذبة, وليس ذلك فقط هناك فتاة لا تريد أي منشور له دون أن تضيف تعليقها, مما أشعل الغيرة في نفسها, وجاهدت كل ما تُكابده, كي تعود كسابق عهدها, حينها لن تُسامحه قط, ولكنها ستجعله يشعر بالندم, وهو يراها تُحقق حلم والديها, بينما خسرها هو في نهاية المطاف.
ـ ما بكِ يا أماني؟ لمَ كل منشوراتك حزينة؟ وتتحدثين فيها عن التعب, هل من المعقول بأنني ظلمتك؟ وهناك خطب ما قد ألم بكِ.
لم يكن حمزة بناسيها, كان هو أيضًا يتصفح حساباتها, ولكنه لم يُشعرها بذلك, كرامته مجروحة منها, ولا يتوقف قلبه عن الصدح باسمها, وضاقت ذرعًا من علاقته بنوران, استيقظ ضميره بعد ما تعلقت الفتاة بشدة به, ولا يعرف كيف يُخرج نفسه من تلك الأزمة؟ الوضع يزداد سوءًا, ويبغض حاله وقد خدع فتاة لا ذنب لها, على الرغم من وجودها قربه, لم يستطع نسيان أماني ولو للحظة واحدة, يقطع عليه كل تلك الهواجس والمشاعر السيئة رنين هاتفه.
زفر في ضيق حين رأى اسمها, وأجاب في تأفف:
ـ نعم يا نوران, لمَ تتصلين بي باكرًا؟
استاءت من حديثه, فسألته في ضيق:
ـ ماذا هناك يا حمزة؟ لمَ تتحدث معي هكذا؟
ـ لقد ضقت ذرعًا يا نوران, ولم أعد أحتمل.
قذفها حمزة بسطوة كلماته, وهو يُلقي الحقيقة في وجهها, فبكت, ولم تستطع تمالك نفسها, حزن حمزة من نفسه, وأخذ يُراضيها:
ـ أنا آسف يا نوران, سامحيني والله فأنا لم أقصد إزعاجك, ولكن..
اقتضب حديثه قبل أن يُكمل, لا يُريد أن يجرحها أكثر, إلا أنه تشجع من صمتها, وقال:
ـ الحب يا له من إحساس غريب! يرفعنا أحيانًا عاليًا, ويستطيع أيضًا أن يرزعنا أرضًا, ولكنه والله ليس بأيدينا, حين التقيت بكِ كنت مجروحًا بشدة من الفتاة التي أحبها, فجاء وجودك كالضمادة في وقتها, إلا أنني ورغم مرور كل تلك الشهور التي جمعتنا لم أستطع نسيانها.
نوران من بين دموعها:
ـ أماني صحيح؟
حمزة في استغراب:
ـ هل تعرفينها؟
ـ لا والله, ولكنني سمعتك تهذي باسمها أثناء وجودك في المستشفى, يا لي من فتاة بائسة, بل عاثرة الحظ كانت الحقيقة جلية أمامي, ولكنني تجاهلتها, لأدفع الثمن الآن غاليًا, ولا يقوى قلبي حقًا على احتماله و..
يُقاطعها حمزة في ندم:
ـ سامحيني والله يا نوران, لم أقصد إيذائك, لكنني لا أستطيع الاستمرار في خداعكِ أكثر من ذلك, يعلم الله كم أنك عندي غالية.
ـ ولكنني لست في مثل مكانها.
قالتها نوران باقتضاب, ليُجيبها وقد خالطت نبرته البكاء:
ـ لقد كبرت بين يدي يا نوران, كنت أنا أول من حملتها, وتربت معي, نشأنا سويًا فلم يُفرق شيء شملًا, ولكنني وحدي من فعلت.
نوران في استنكار:
ـ وكيف ذلك؟
قص عليها حمزة كل شيء, فتغيرت نظرتها إليه, ورغم الحنق المعتمل داخلها نحوه, إلا أنها احترمته بشدة, وشعرت بالغبطة على أماني, تمنت حقًا لو كانت مكانها, أغلقت الخط معه, وهي تدعو له من قلبها أن يجمعه الله بحبيبته, فقد تعلمت منه التضحية.
************
ـ سينكشف أمري يا شيخ مرزوق, لقد ذهبوا بالفتاة إلى مختلف الشيوخ.
ـ لا تقلقي يا عزة, خذي مني ذلك الحجاب وضعيه في صدرك, ولن يعرف أي امرؤ بأمرك, ولكن لا تنسي حلاوتي.
أخرجت المال من حقيبتها, وناولته رزمة, تنهال من ثروة صاحب البيت, تنعم في خيره هي وزوجها, وتحصد ابنته جزاء إحسان والدها بالإساءة والكيد من زوجة عمها, وكان لأخيها نصيبًا أيضًا, فقد عُمي بحب ورد بعد أن سحرته والدتها, كان لا يطيق ابنتها منذ صغره, ولكن تبدل الحال كثيرًا ما أن أصبح شابًا يافعًا, تُريد أن تصبح تحت الثروة تحت طوع ابنتها, فقد جاءت من أسرة معدمة, ورغم قبول تلك العائلة بها, ما زالت عقدة النقص تلحق بها.
وكانت ورد على علم بما تفعله والدتها, تستقبلها عبر الباب:
ـ أمي.. ماذا فعلت عند الشيخ مرزوق؟ هل أعطى لكِ شيئًا جديدًا؟
زجرتها السيدة عزة, ووكزتها في ذراعها, وهي تُغلق الباب عليهم:
ـ كيف تتحدثين بتلك الأمور على الملأ هكذا؟ احتاطي عزيزتي, الحيطان لها آذان كما يقولون.
ـ المهم ألا تصل أماني إلى حلمها, فكم أكرهها! لم أر قط فتاة في مثل تكبرها.
ابتسمت والدتها بغل, وتفوهت بكلمات الحقد من ثغرها:
ـ لا تتعجلي حبيبتي, كل شيء له أوانه, ومن سوء حظ الفتاة أنها عادت إلى هنا.
ـ ماذا ستفعلين بها أكثر من ذلك يا أمي؟
قالتها ورد بلهفة, وصرحت بمكنونها:
ـ يا ليتها تموت يا أمي, انهي تلك الحياة كي لا نجد من يُنازعنا في تلك الأموال, فأنا سأفعل ذلك بسعيد ما أن أجعله يتنازل لي عن كل ما يُملكه.
نظرت إليها والدتها بإعجاب, لم تتخيل بأن ابنتها قد ورثت عنها كل هذا الشر, بل تفوقت عليها, ولا يرتد لها طرفًا أو يرمش لها جفنًا وهي تكيد لغيرها, تضع خطط شيطانية لسلب ما هو ليس بحق لها.
ـ ورد .. يا ورد أين أنتِ؟
يُناديها سعيد عبر الباب, فزفرت في ضيق:
ـ لست في مزاج جيد لك أيها المدلل, لا أعرف حقًا متى يأتي الوقت الذي أتخلص فيه منك؟
ضربتها والدتها على كتفها, وهي تقول:
ـ هذا هو مفتاح الكنز يا ورد, إياكِ وإفلاته, فالكثير من الفتيات يحومن حوله.
ورد في زهو:
ـ وهل تظنين بأنه قد يُبالي بهم في وجودي؟ أنا أشغل لبه إلى أقصى حد, ولا يكفيني السحر الذي أضعه له في الطعام, فلا تنسي بأنني أنثى, لي أساليبي الخاصة, كيدهن عظيم يا أمي.
ضحكت منها والدتها, وهي تُردد:
ـ هههه.. يا لك من فتاة ماكرة.
ـ طبعًا يا أمي, فأنا نسخة عنك, بل لدي ما لا تعلمين عنه شيئًا.
استجابت ورد لنداء سعيد, اصطنعت الحزن أمامه, وادعت البكاء قائلة:
ـ إلى متى يا سعيد سنظل هكذا؟ أخشى بأن ما بيننا قد يُصبح علكة تلوكها الألسنة, وقد تأخر الآن موعد زواجنا.
تأثر سعيد من حديثها, وردد في استياء:
ـ ماذا بإمكاني أن أفعل يا ورد؟ كما ترين حالة أماني تسوء يومًا تلو الآخر, وأبي مغموم للغاية, لا يرى شيئًا أمامه باستثناء تعبها, كلما تحدثت معه لا يُجيب, تناسى وجودي كليًا, وكأن الحياة أصبحت تدور حول ابنته.
وجدت ورد فرصتها في تسميم عقله أكثر على والده, وهمست له بخفوت:
ـ لأجل ذلك كنت أريد أن نُسرع في زواجنا, عمي أصبح كالطفل الصغير تعلق بأماني بشدة, وأصبح وضعها هو جل ما
