رواية رحيل الفصل الثالث 3 بقلم منار شريف

 


 رواية رحيل الفصل الثالث بقلم منار شريف



صباح اليوم التالي استفاقت رحيل من نومها عند تمام الساعة الثامنة صباحًا حين تسلل خيط من النور عبر الستائر المواربة ليلامس جفونها بلطف. فتحت عينيها بتثاقل؛ ثم نهضت من فراشها بنشاط يزداد تدريجيًًّا مع كل خطوة تخطوها نحو بداية يوم جديد. شرعت في تجهيز نفسها. أخذت حمامها الصباحي وارتدت ملابسها العملية. صففت شعرها وعقدته في تسريحة مرفوعة، ووضعت بعض العطر الخفيف، وبعض من مستحضرات التجميل التي ابرزت جمالها بدون مبالغة؛ ثم غادرت غرفتها في هدوء. توجهت رحيل نحو غرفة السفرة؛ حيث اعتادت أن تجد أسرتها مجتمعة على الإفطار وما إن فتحت الباب، حتى استقبلها مشهد عائلتها المألوف وهم يجلسون حول المائدة في صمت مهيب لا يقطعه سوى خرير الشاي أو خشخشة الخبز فقالت بصوت هاديء وهي تجلس بجانب حياء: 
صباح الخير. كده تبدأو فطار من غيري . 

ردوا التحية بخفوت وابتسم عز برفق وقال: 
حبيبتي إحنا دايمًا بنستناكِ وبنستني طلتك الحلوة إللي بتخلي المكان كله ينور. 

خجلت رحيل من اطراء والدها المحبب لها  ولشقيقتها دائمًا: 
يا بابي أنت أغلى حد في حياتي، وجودك جنبي بيخلي كل حاجة أحلى. 

أجابته كامليا في هدوء وصرامة، بينما كانت تملأ كوبها بالشاي: 
هي دي رحيل دايمًا متأخرة عن المواعيد في كل وقت، بتحب تبدأ يومها بطريقتها الخاصة بعدم الانضباط وقلة إحترام وقت الآخرين. 

نظروا الجميع لبعضهم بحذر وامتعاض وعادوا إلى صمتهم. جلست رحيل وتناولت فطورها بتمهل، لكن ما حدث أثار قلقها فمالت نحو حياء وهمست: 
فيه إيه على الصبح؟ 

تنهدت حياء بضيق وهي تسرد لشقيقتها بإختصار ما حدث: 
نناه كالعادة عملت مشكلة مع بابي علشان تصرفاتنا. شايفة إن إللي بنعمله مش لايق بينا كبنات من بيت محترم وعائلة راقية، فنحن بنات عائلات محترمات. 

ضحكت رحيل بخفوت وقالت باستنكار: 
تاني نفس الكلام. وبعدين يعني إيه تصرفاتنا؟! إحنا بنتصرف عادي زي أي بنات في سننا مفروض يعني نعمل إيه. 

ردت حياء بهدوء: 
لأ ما هو بابي قالها كده وإنه مربينا كويس، وواثق فينا، وسايبلنا حريتنا مدام في حدود الصح؛ حتى مامي قالتلها إن إحنا مش بنعمل حاجة غلط، لكن بنتصرف بطبيعتنا وهي متبعانا على طول.

تنهدت رحيل قائلة: 
أنا بدأت ازهق من تحكمها فينا، دي بتحسسني إننا طول الوقت غلط ولازم نمشي على السطر إللي هي رسماه لينا. 

هزت حياء رأسها موافقة بصمت، بينما نظرت إليهما فريال نظرة حاسمة تعني "كفى حديثًا الآن". بعد دقائق أنهت رحيل فطورها ونهضت: 
أنا هقوم علشان متأخرة على الجريدة. 

لترد عليها حياء: 
وأنا كمان عندي تدريب في النادي. 

خرجتا معًا وكل منهما تحمل في قلبها بقايا من حديث مؤجل وصباح نغص عليهما.

____

تركت رحيل البناية الفخمة؛ حيث تسكن واستقلت سيارتها نحو الجريدة التي تعمل بها. كان الطريق في القاهرة كعادته مزدحم، موتر للاعصاب، ينبض بالحياة والفوضى، لكن عقلها لم يكن منشغلًا بالزحام بقدر ما كان يسرح في صراعها الداخلي بين رغبتها في الحرية والقيود المحاطة بها. وصلت إلى مبنى الجريدة القديم ذي الأعمدة العالية، والبهو المكسو برائحة الورق والحبر. دخلت بخطى واثقة حاملة حقيبتها الكتانية ونظرة عميقة توحي بأنها تعرف تمامًا ما تريد.  في الطابق الثاني كانت الصالة تعج بالمحررين، والصحفيين. استقبلها زميلها معتز بإبتسامة وروح مرحه: 
أهو النور نور لما رحيل وصلت. 

ضحكت وهي تدخل مكتبها وتضع حقيبتها على المكتب: 
بلاش هزار يا معتز. أنا جاية متأخرة ومش ناقصة كفاية هاخد تهزيق من أستاذ حلمي. 

قال ضاحكًا: 
هو أصلاً مستنيكِ وسأل عليكِ من شوية ولما وعرف أنك لسه موصلتيش كان عايز يضربنا كلنا بالنار. 

قاطعته وهي تشهق بطريقة كوميدية: 
يا نهار أبيض للدرجة دي. لأ ده أنا هروح أتقذ الموقف وأشوفه استرها علينا يا رب. 

طرقت باب غرفة رئيس التحرير بخفة؛ ثم دخلت. كان حلمي عبد السلام رجل في أوائل الستين. حاد القسمات يقرأ مقالًا بنظاراته الطبية. رفع عينيه وقال بغضب خفي: 
اتأخرتي يا رحيل هانم كالعادة. 

قالت رحيل وهي ترفع حاجبها وتبتسم بثقة، وكأنها غير مبالية بما يقول: 
حقك عليا يا أستاذ حلمي الطريق كان زحمة. 

رد حلمي بهدوء محاولًا إخفاء تذمره وهو ينظر إليها مباشرة: 
أنا مش زعلان علشان التأخير. أنا زعلان علشان عندنا خبر سخن وكنت عايزك تشتغلي عليه من بدري. أنتِ أشطر وأنشط صحفية عندي في الجريدة يا رحيل وده إللي بيغفرلك أي فعل بيصدر منك.

تسألت رحيل بفضول صحفية محاولة فهم سبب انزعاجه الحقيقي: 
خير يا فندم؟ 

مد إليها ورقة فيها بعض الملاحظات بخط يده: 
الورقة دي فيه معلومات مؤكدة عن تورط شخصية سياسية كبيرة في قضية فساد، لكن مش أي حد يقدر يشتغل على الموضوع ده غيركِ. أنتِ عندك الجرأة، والذكاء، والحنكة. ده غير أن أنا واثق فيكِ. 

تسلمت الورقة بحذر، وعيناها تتقدان حماسة: 
تمام يا أستاذ حلمي هشتغل عليها فورًا. 

خرجت من الغرفة وهي تشعر بأن نبضها يتسارع. قضية كبيرة؟ فساد سياسي؟ هذا النوع من التحقيقات لا يمر مرور الكرام. دخلت مكتبها وفتحت حاسوبها المحمول وبدأت تبحث وتربط الخيوط، وتدون الملاحظات. 

وما إن مرت ساعتان، حتى رن هاتفها المحمول برقم غير مسجل. أجابت رحيل بتردد: 
ألو؟ 

جاءها صوت منخفض رجولي وغامض: 
رحيل عز الدين الصحفية؟ 

قالت بإستغراب: 
أيوه مين حضرتك؟ 

قال وهو يحدق أمامه بنظرة جادة مستدركًا الحديث بعد لحظات من الصمت: 
لو عايزة حقيقة القضية إللي بتشتغلي عليها قابليني النهاردة الساعة أربعة في كافية (.....) في وسط البلد، لكن لوحدِك. 

ردت رحيل بتساؤل وفكرها مشوشًا، بينما كانت تحاول فهم الموقف: 
معلش أنت مين وعرفت منين رقمي، وأن في قضية شغالة عليها أساسًا؟!

أجاب بنبرة هادئة، كأنه يتحدث عن أمر بديهي بالنسبة له: 
انا الشخص إللي عنده معلومات أكتر من أي حد تاني. وإللي أنتِ محتاجة تعرفيها.
ثم أُغلِق الخط 

جلست رحيل لحظة في صمت تفكر. هل تقع في فخ؟ أم تبدأ مغامرة قد تغير مجرى حياتها المهنية للأبد؟ كل ما تعرفه هو أنها لن تتراجع. 

أخذت قراراها وفي تمام الرابعة كانت تجلس في الكافيه تترقب. مرت خمس دقائق... عشر؛ ثم دخل رجل يرتدي معطفًا قاتم اللون. وقف أمامها دون أن يبتسم: 
رحيل؟ 

سألت رحيل بنبرة متشككة وهي تحاول فهم الموقف أكثر: 
أيوه حضرتك مين بقى؟ 

أجاب بهدوء، وكأن الجواب ليس مهمًا في هذه اللحظة: 
مش مهم أنا مين دلوقتي. المهم إن عندي مستندات، وتسجيلات، وأسماء مهمه تودي ناس تقيلة في البلد في ستين داهية، لكن كلة بتمن. 

نظرت إليه بحدة: 
تمن يعني إيه بقى؟ 

ابتسم ابتسامة خفيفة وقال: 
هتعرفي أكيد. 

____

مر بعض الوقت في صمت ورحيل تجلس وقلبها يخفق كطبول الحرب. كان يجلس أمامها ذلك الرجل  بثبات وثقة تُخفي ما هو أخطر من مجرد معلومة. كسر الرجل الصمت وقال: 
بصي يا أستاذة رحيل تقدري تقولي إني كنت شغال قريب من الناس إللي بتحققي في قضيتهم. 

قالت رحيل بعدم فهم وهي ترفع حاجبها في تساؤل: 
يعني أنت شاهد؟ 

رد بهدوء، وكأن ما يقوله ليس بجديد عليه: 
مش بس شاهد. أنا كنت شريك في بعض التفاصيل، لكن لما لقيت الموضوع كبر قوي وخرج عن الطبيعي انسحبت بدون ما يشعروا واحتفظت بنسخة من كل حاجة كأمان لنفسي. 

تراجعت قليلًا في مقعدها وقالت بحذر: 
طيب أنت اتصلت بيا أنا بالذات ليه دلوقتي؟ أنا مش جهة حكومية هقدر أحميك منهم. 

أجاب بثقة، وكأن ما يقوله هو الحقيقة البسيطة: 
علشان أنتِ مختلفة. كنت بتابع تغطية الحوادث والجرائم بتاعتك قبل كده وعجبني إزاي بطلعي الحقيقة من وسط الركام. والموضوع ده لازم يطلع للنور لأسباب كتير، لكن زي ما قولتلك ليه تمن. 

نظرت إليه رحيل نظرة طويلة عبارة عن مزيج من التحدي والارتياب: 
ولو رفضت؟ 

رد بتأكيد: 
هتكونِ فوتي فرصة عمرك وكمان ممكن تلاقي غيرك ياخد القصة ويشوهها أو الأسوأ تتقفل ويطرمخ عليها. 

وأضاف وهو يحاول أن يجعلها تدرك حجم وأهمية الموضوع: 
دي قضية كبيرة ومفيش وقت تضيعيه. 

قالت له رحيل وهي تنظر إليه بعينين مليئتين بالتساؤلات: 
طيب وأنت هتستفاد إيه من كل ده؟ وليه دلوقتي عايز تظهر الحقيقة وكمان عن طريق الصحافة مش الجهات الرسمية؟ ده غير أن واضح إنك مش شخص عادي!! 

رد عليها بإبتسامة غامضة، وكأن لديه خطة واضحة في ذهنه: 
أنا مش جاي أطلب منك خدمة كواحد ضعيف إللي عندي ممكن يغير كتير، لكن في نفس الوقت ممكن يدخلني في دوامة أكبر من ما أنتِ متخيلة. 

أضاف بجدية وهو ينظر إليها بتمعن: 
أنا مش محتاجك علشان أهرب من حاجة وأنت تشليها مكاني. أنا جاي علشان الحقيقة تطلع وتظهر للكل، وكل واحد ياخد حقه في النهاية. الموضوع ده لازم يبقى رأي عام في ناس كبيرة وتقيلة متورطة فيه علشان كده قولتلك لو راح للجهات التانية كده خلاص هيغطوا عليه. 

أخرج من حقيبة معه ظرفًا بني اللون ووضعه على الطاولة: 
دي البداية لو وافقتي على القضية هكمل معاكِ وهديكِ داتا كاملة فيها تسجيلات صوت، صور، إيميلات كل حاجة تثبت إن إللي فوق بيتستروا على بلاوي، لكن لو خفتِ أو رجعتي عن قرارك هنتهي أنا وهتنتهي القصة معايا. إللي عندي مش مجرد ورق دي مستندات بتبين تحويلات مالية، مكالمات مُسجلة، وشهادات ناس تانية خايفة تتكلم بس صوتهم موجود. ولو طلع الكلام ده للنور البلد كلها هتتهز.

تبادل الاثنان نظرة مشحونة بالصمت والترقب، وكأن كلًا منهما يُقيم الآخر. رحيل لم تكن خائفة، لكنها كانت تعرف جيدًا خطورة اللعب في هذا الميدان. هي ليست مجرد صحفية عادية. هي باحثة عن الحقيقة وسط بحر من الأكاذيب.
قالت بنبرة حاسمة، وعيناها لا تفارقان وجهه: 
بس أنا مش بشتري معلومات وخلاص، لكن لو فعلًا عندك دليل زي ما ورتني فأنا مستعدة أخاطر، لكن مش لوحدي هبلغ رئيس التحرير وهنتصرف بالشكل الصح.

رفع حاجبيه بتعجب: 
هتبلغي رئيسك؟! مش شايفة إن كده ممكن يتسرب الموضوع بشكل أو بأخر ويعرضنا للخطر؟

أجابته بهدوء يغلفه التصميم:
أستاذ حلمي صديق ولدي المقرب ومن أكتر الناس إللي بتحافظ على سرية المصادر. ولو هنعمل حاجة بالشكل ده لازم تكون قانونية وصحيحة بنسبة مية في المية مش تهريج. وصدقني لو أنت خايف يبقى إحنا أولى بالحذر.

ظل يرمقها قليلًا وقال وهو يشير إلى الطاولة:
في الظرف ده مجرد مقدمة. لو اقتنعتِ كلمي الرقم إللي على الكارت إللي جواه وساعتها بس هتاخدي الباقي.

ثم نهض دون وداع وخرج كما دخل يذوب وسط زحام وسط البلد، بينما بقيت رحيل تحدق في الظرف ونبض قلبها يدق، كأنها أمام أول تحقيق حقيقي قد يغير وجه حياتها ومسيرتها إلى الأبد. عادت رحيل إلى الجريدة وقد تغيرت نظرتها إلى كل شيء. دخلت المكتب بخطوات مترددة وأمسكت بظرف المستندات، كأنها تحمل قنبلة موقوتة. لم تكن تعرف من تثق فيه. فكرت في معتز صديقها الصدوق وزميلها، لكنها استبعدته رغم ثقتها الكاملة فيه. فكرت في أستاذ حلمي، لكنها خافت أن يرفض ويُمنعها من التحقيق والنشر فقررت أن تبدأ وحدها. 

أغلقت باب مكتبها الصغير وبدأت تفرغ محتويات الظرف على المكتب: 
سي دي لتسجيل صوتي بحديث بين رجل أعمال ومسؤول كبير يساومه على رشوة يبدوا أن تلك القضية لها صله بقضية الفساد الأخرى، صور فوتوغرافية لوثائق رسمية عليها توقيعات وأختام مزورة، إيصالات تحويل بنكي بمبالغ ضخمة لحسابات بالخارج. كانت الأدلة لا تُقدر بثمن وكل دقيقة تمر تزيد من ثقل المسؤولية على كتفيها. جلست على كرسيها ووضعت يدها على جبينها، تُكابد ثقل ما رأت؛ ثم التقطت دفتر ملاحظاتها بخط يدٍ ثابت وكتبت: 
"طريق الخطر بدأ والرجوع منه ممنوع" 

لم تكد تنهي الجملة، حتى انقطع سكون المكتب بصوت طرقات خفيفة. رفعت رأسها بتوجس وتفاجأت حين انفتح الباب دون إذن ليطل منه هو بكل قوته وهيبته، وبملامح وجهة الصارمة، ونظرته النافذة. تجمدت لوهلة وقد تسمرت عيناها عليه بدهشة وشابها شيء خفي من الإعجاب لم تدركه هي نفسها، لكنه التقطه بخبرة من يعرف كيف يقرأ العيون. بدا حضوره مفاجئًا ومربكًا، لكنها تماسكت قدر استطاعتها. أبتسم لها بهدوء وقال بصوت رخيم يكسوه الغموض: 
ممكن أدخل؟ ولا باين إنك مشغولة؟ 

تلعثمت قليلًا؛ ثم قالت وهي تنهض: 
أنت. أنت جيت ليه؟ قصدي دخلت إزاي؟ يوووه قصدي .... آسفة طبعًا اتفضل. 

وأشارت بيدها المرتبكة إلى الكرسي المقابل لمكتبها. 
جلس عابد بثقة بالغة. ظهره مستقيم، وذقنه مرفوع قليلًا، وعيناه تتفحصان المكان بسرعة خفية. أما هي فكانت تحاول السيطرة على ارتباكها، بينما تسأله بنبرة ودودة: 
تحب تشرب إيه؟ 

قال بثقة: 
قهوة مظبوط لو سمحتي. 

أمسكت هاتف المكتب بسرعة وضغطت على زر البوفية الداخلي: 
لو سمحتوا ابعتولي اتنين قهوة مظبوط على مكتبي. 

ثم أعادت الهاتف إلى مكانه وهي تسرق النظرات إليه في محاولات فاشلة لإخفاء التوتر الذي سيطر على نبرتها. لم يعلق عابد فقط راقبها بهدوء؛ ثم قال مبتسمًا: 
هعطلك عن شغلك شوية معلش. 

ردت سريعًا محاولة إظهار الثبات: 
لأ ولا يهمك. أنا مستغربة عرفت مكان شغلي فين إزاي؟ وجيت ليه؟ يعني مش قصدي متجيش، لكن الزيارة غريبة. 

أمال رأسه قليلًا للوراء ونظر إليها نظرة محملة بالذكاء والصرامة: 
نسيتي إني ظابط شرطة ولا إيه وأي حاجة أقدر أعرفها عن أي حد مهما كان هو مين. 

صمت قليلًا؛ ثم أردف بصوت أخف: 
وجيلك في إيه؟ جايلك في شغل. 

نظرت رحيل إليه بترقب وحاولت أن تُبقي ملامحها ساكنة رغم نبضات قلبها المتسارعة وقالت وقد اعتدلت في جلستها محاولة أن تستعيد مهنيتها: 
طيب شغل زي إيه؟ أنا مش شايفة إن فيه علاقة مباشرة بين شغلك وشغلي. 

ابتسم ابتسامة خفيفة فيها شيء من المكر: 
ليه هو مش أنتِ بردو صحفية ومسؤولة في قسم الحوادث وبتكونِ متابعة سير التحقيقات في القضايا الجنائية، أو تطور نتائج الحوادث، حتى نشر آخر المستجدات وأحيانًا كتير بتتعاملي مع مصادر غير معلنة للحصول على معلومات حصرية حول القضايا أو الحوادث إللي هو إحنا. وبعدين إللي أنتِ بتدوري وراه داخل في دايرة شغلي من الأساس. 

رفعت حاجبيها كعادتها وقد اشتد فضولها، لكنها أجابت بتحايل متجنبة الإجابة المباشرة وقالت: 
أنا بشتغل على ملف صحفي ليه علاقة برجال أعمال وحسابات مشبوهة في كذا قضية مش قضية واحدة محددة. فأنت بقى شغلك في أي قضية من دول؟ 

انحنى قليلًا للأمام وأسند ساعديه إلى طرف المكتب، وعيناه لم تفارقا عينيها: 
فيه ملف فساد كبير جدًا وأنا مكلف بيه من فترة. وكل يوم حد جديد بيتجر اسمه. والنهارده الصبح وصلني اسمك واتقال إنك بتقربي من مناطق خطر. 

اسمـي؟! 
قالتها بانفعال خافت وقد تراجع جسدها قليلًا في مقعدها 

أيوه وده إللي خلاني أجيلك. فيه فرق بين إنك تدوري على الحقيقة، وإنك تـوقعي نفسك في شبكة أكبر منك. 

صمتت برهة؛ ثم ردت بثقة: 
أنا مش طفلة وبعرف أنا بعمل إيه وبعدين أنا مش بدور على مجرد تحقيقات صحفية ناجحة وخلاص لأ فيه حاجات مينفعش نسكت عليها. 

هز رأسه ببطء وقال بنبرة جادة: 
أنا مش ضدك يا رحيل ولا ضد شغلك بالعكس. المعلومات إللي عندك ممكن تغير حاجات كتير وتتعرضي بسببها لمشاكل كبيره ممكن توصل لقدر الله لما لا يُحمد عقباه. 

دخلت العاملة بالقهوة في تلك اللحظة، وتوقفت قليلًا أمام الطاولة؛ ثم وضعت الكوبين بهدوء، وكأنها كانت تعي تمامًا حساسية اللحظة. غادرت سريعًا بعد أن أدارت ظهرها تاركة الغرفة في صمت ثقيل. حمل عابد كوبه بيد ثابتة؛ ثم رفع عينيه نحوها بهدوء وهو يراقب عن كثب اهتزاز حدقيتها التي كانت تفضح رعبها من حديثه الذي خرج على لسانه للتو.  قال بلهجة هادئة وهو يوجه لها نظرة جادة تحمل وراءها الكثير من المعاني: 
ممكن أطلب منك حاجة؟ 

أجابته رحيل بتردد محاولة إخفاء التوتر في صوتها: 
اتفضل. 

قال عابد وهو يضع الكوب جانبًا وينظر إليها بعينين لا تخلوان من الجدية: 
كل إللي عندك من صور، تسجيلات أي شيء عايز نسخة منه. أنا مش هعطلك عن تحقيقك وفي المقابل لو فيه خطر هكون أول واحد يحميكي منه. 

ترددت رحيل قليلًا ونظرت إلى الظرف المفتوح على الطاولة؛ ثم رفعت عينيها لتلتقي بعينيه. فلاحظت رحيل ما فيهما لم يكن هناك أي تهديد أنما صلابة تحمل مزيجًا من المسؤولية وربما اهتمامًا خفيًا، لكنها لم تفهمه بعد فقالت أخيرًا، وكأنها تفكر في كل كلمة قبل أن تنطق بها: 
أنا هفكر الأول. 

ابتسم بهدوء ونهض من مقعده، قائلًا: 
خدي وقتك، لكن متتأخريش عش الدبابير إللي دخلتي فيه مليان ناس تقيلة ومعروفة ومش بتهزر وخطوة واحدة غلط ممكن تبقى الأخيرة. 

اتجه نحو الباب؛ ثم توقف فجأة ونظر إليها مجددًا وهو يترك ابتسامة خفيفة على وجهه: 
وبالمناسبة الإعجاب مش عيب. وأنا عارف إنك مش من النوع إللي بيقدر يخفي شعوره مهما حاولتِ. 

ثم استدار وفتح الباب قبل أن يضيف بثقة وهو يغادر:
خدي بالك من نفسك. 

____ 

كانت الشمس بدأت تميل نحو الغروب تغمس السماء بألوانها الدافئة، كأنها تبكي بصمت على من رحلوا. وقف آسر أمام القبر الرخامي الأبيض يحمل باقة من زهور البنفسج التي كانت تحبها. ارتجفت أنفاسه وهو يجثو على ركبتيه أمام شاهد القبر ويمد يده ليمسح الغبار عن اسمها المحفور بعناية. 
آسر بصوت خافت مختنق: 
وحشتيني يا حبيبتي والله لو كنتِ عارفة حالتي من بعدك كنتِ هتحسي قد إيه الدنيا بقت وحشة من غيرك. كل يوم بيعدي كأنه مش يوم طبيعي. بحس إن الوقت بيمشي بطيء وكأن العمر كله أتوقف في اللحظة إللي مشيتي فيها. مش قادر أفهم ولا أستوعب فراقك لحد دلوقتي. حياتي بقت فراغ وكل حاجة حواليا بقت من غير معنى. 
كنتِ أنتِ السند، والحياة إللي بتديني أمل دلوقتي مفيش غير الصمت والوحدة إللي مالياني، وكل يوم بيعدي بحس فيه بألم أكبر. مفيش حاجة هتقدر تعوضك، ولا أي شخص هيملى الفراغ إللي سبتيه. كل شيء من غيرك فقد معناه. كنتِ حياتي والنهاردة مش قادر أعيشها من غيرك. 

أطرق برأسه تتساقط دموعه على الأرض الجافة يكمل رثاء محبوبته: 
عارفة دلوقتي كل حاجة باهتة، روحي مش راضية تترد فيا من تاني والطفل إللي استنناه كتير وقولت هيعوضني غيابك متحملش بعدك ورحلك. بكلمك كل ليلة وبحكيلك كل حاجة حصلت. يمكن صوتي يوصلك ويمكن قلبك يحس بيا. 

سكت قليلًا؛ ثم أخرج من جيبه صورة قديمة لهما وهو يحتضنها في إحدى الرحلات وابتسامتها تضيء الصورة. 
وحشتيني يا مروى. وحشتيني أوي. 

غرس بعض الزهور في التربة بهدوء قبل الشاهد؛ ثم نهض متثاقلًا، وكأن كل خطوة تُنزع من روحه، وألقى نظرة أخيرة طويلة على القبر قبل أن يهمس: 
هارجعلك تاني زي كل مرة ولحد ما أرجع زوريني في أحلامي. 

خرج آسر من المقابر متثاقل الخطى، كأن حزنه يثقل على كاهله كما يثقل الليل على صدر الأرض. الشمس كانت قد انسحبت خلف الأفق تاركة وراءها خيوطًا خجولة من ضوء باهت، والنسيم البارد يلفح وجهه فيزيد من وخز الغياب داخله. سار نحو سيارته بوجه شاحب لا شيء في ملامحه يوحي بالحياة. وحين جلس خلف المقود أضاءت شاشة هاتفه المحمول فجأة زفر تنهيدة قوية "رسالة جديدة من رقم مجهول" 
مد يده بهدوء وفتح الرسالة، ليفاجأ بكلمات تتسلل إلى القلب بلطف وعمق، مزيج من الصراحة والرقة، مفعمة بمشاعر رومانسية جريئة ولكن ناعمة أنما ليست إلى قلبه هو: 
"لا أستطيع أن أجد الكلمات المناسبة، لكنني أشعر بشيء عميق إتجاهك. ربما تظن أنني مجنونة أو تتساءل عن من أرسل هذه الكلمات، لكن صدقني لا أطلب شيئًا سوى أن تعلم كم أنت مهم بالنسبة لي. حضورك، صمتك، قوتك وحتى لحظات حزنك كل شيء فيك يسرق قلبي ويترك أثراً لا يمحى. لن أخبرك من أكون، ولن تعرف، لكنني سأبقى هنا أراقبك عن كثب وأتمنى لك دائمًا السعادة والطمأنينة. وأدعو الله أن تكون لي" 

رفع حاجبيه بدهشة؛ ثم قطب جبهته بانزعاج وتمتم بصوتٍ متهدج: 
إيه الهبل ده؟ مين يعرف رقمي البرايفت أصلًا ده مش مع حد غير ناس معدودين؟! 

ظل يُحدق في الشاشة للحظات؛ ثم زفر بضيق وضغط على زر الحذف دون تردد، كأنه يمحو سطرًا من الجنون تسلل إلى حياته المثقلة بالحزن. 
قاد السيارة نحو الفيلا في صمت ثقيل وما إن فتح الباب، حتى استقبلته رائحة البيت التي يعرفها جيدًا مزيج من عبق الياسمين الدافئ وطعام منزلي يُذكره بأيام الطفولة. 

في بهو الفيلا سمع صوتًا رجوليًا مألوفًا: 
آسر باشا كنت فين يا راجل؟ 

التفت فابتسم رغم تعبه، حين رأى خالد شقيقه يقف هناك بزي الطيران الرسمي ويبتسم بود حقيقي. أقترب منه وعانقه سريعًا: 
رجعت من الرحلة إمتى يا كابتن؟ 

أجابه خالد: 
لسه واصل حالًا قبلك على طول. 

وفي اللحظة التالية هبطت نادين شقيقتهما الصغرى من أعلى السلم بخفة ومرح: 
أخوااااتي وحشتوني البيت من غيركم بيبقى كئيب أوي. 

ضحك خالد وهو يحتضنها: 
أنتِ إللي عاملة في البيت كله دوشة وبهجة يا عفريتة. 

نظروا جميعًا إلى آسر وقد جلس بصمت على الأريكة. خرجت أمال من المطبخ تمسح يديها في منشفة صغيرة وتحدثت بصوتٍ مملوء بالشفقة: 
رُحت قبر مروى النهاردة بردو يا آسر. حرام عليك يا أبني كل سنة في نفس اليوم تسيب كل إللي وراك وتقضي اليوم هناك وترجع حالتك النفسية أصعب من الأول. 

تجمدت ملامح آسر للحظة ورمقها بنظرة حزينة ممتلئة بالغضب الصامت، لكنه لم ينطق احترمًا لأمه كما اعتاد فآثر الصمت على الرد، لكن خالد بادر قائلًا بلوم مهذب: 
ماما مش وقته الكلام ده. آسر محتاجنا جنبه مش نلومه. كل واحد فينا بيفرغ حزنه بطريقته. 

قالت أمال تنهدت بأسى ولم ترد. أما نادين فحاولت تغيير الجو المتوتر بإبتسامة مرحة: 
يا خالد بيه إييييه فين الهدايا؟ مش معقول ترجع من السفر من غير ما تجيبلي حاجة. 

ضحك خالد: 
كل ده ولسه فاكرة تسألي؟ استني شوية لما أرتاح دي الرحلة كانت مرهقة جدًا. 

ضحك الجميع بخفة، كأنهم يفرون من جرحٍ مفتوح إلى حضن الدفء العائلي، لكن آسر ظل صامتًا يتأملهم بمحبة، كأنهم الضوء الوحيد المتبقي في حياته. 

____ 

في النادي جلست حياء إلى جوار صديقتها نهى ووجهها متورد، وعينيها تتراقصان بين الخجل والانفعال. كانت نهى تحدق بها بدهشة ممزوجة بتوبيخ: 
يعني بردو صممتي وبعتي الرسالة لآسر؟! 
ده جنان رسمي يا حياء. ده ممكن يعرف أن أنتِ ويعملك مشكلة. 

ضحكت حياء بهيام وخفة وأجابت بصوتٍ خفيض: 
وهيعرف منين؟ لا يمكن ييجي في باله. 
يابنتي أنا مش هخليه يعرف غير لما يقع في حبي. 

رفعت نهى حاجبيها في دهشة: 
ده إيه الثقة دي. طيب قوليلي جبتي رقمه منين أصلًا ده مش رقم سهل يتجاب؟ 

أجابت حياء وهي تخفض رأسها خجلًا: 
جبته من تليفون بابي لما طلبت منه أعمل مكالمة من عنده. ربنا يسامحني بقى وبابي كمان لو عرف هيزعل مني جدًا، لكن آه من قلبي مقدرتش كان لازم أبعتله. 

نظرت نهى إليها بقلق حقيقي وقالت: 
ربنا يستر يا حياء أنا مش مطمنه وخلي بالك اللعب بالنار مش سهل وآسر رضوان مش أي حد. 

تنهدت حياء ورفعت وجهها نحو السماء، وهي ترجو من الله عونًا خفيًا. فالحب حين يداهم القلب لا يستأذن، ولا يعترف بأي قوانين. 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1