رواية رحيل الفصل الرابع 4 بقلم منار شريف


 رواية رحيل الفصل الرابع بقلم منار شريف



في اليوم التالي وبينما كانت رحيل تراجع أحد الملفات سمعت طرقًا سريعًا على الباب. وفتحت إحدى موظفات السكرتارية الباب برفق، وقالت لها:
استاذة رحيل في واحد واقف تحت بيسأل عليكِ.

رفعت رحيل عينيها من على الملف وسألت بفضول:
مين يا عبير؟

هزّت الموظفة كتفيها بخفة، وأجابت بلهجة خافتة:
معرفش بس شكله مش صحفي.

تبدلت ملامح رحيل قليلًا ووضعت الملف جانبًا؛ ثم نهضت من مكانها متوجهة نحو المصعد. بعد دقائق وصلت إلى الإستقبال وعيناها تلتقطان التفاصيل سريعًا. هناك وقف شاب يبدو في أوائل الثلاثين أنيق المظهر، لكنه كان يحرك يده بعصبية واضحة كأنه يجاهد للسيطرة على توتره. بادرها بصوت فيه مسحة من الرجاء:
أستاذة رحيل؟

نظرت إليه بتركيز وردت بنبرة حذرة:
أيوه حضرتك مين؟

تنفس الشاب بعمق وكأنه يوشك على البوح بسر وقال بانفعال مكبوت:
أنا أحمد أخو مريم حسان واحدة من الضحايا في القضية إللي كنتِ بتنشري عنها من فترة. مريم أختي كانت موظفة صغيرة واتهددت لما رفضت توقع على ورق يودي أصحاب شركة الأدوية إللي شغالة فيها في داهية و...

صمت؛ ثم تابع وهو يغالب دموعه:
قتلوها.

شهقت رحيل وقالت بصدمة:
أنت بتقول إيه؟

أخذ الشاب نفسًا مرتعشًا؛ ثم نظر حوله كمن يخشى أن يكون مراقبًا وخفض صوته قليلًا:
قالوا أنها ماتت في حادث بس الحقيقة أنها كانت بتكتب تقرير عن وجود عبوات لأدوية غير مطابقة للمواصفات وتم رصد عبوات دوائية غير مسجلة أو غير مختومة بالأختام الرسمية المعتمدة وغياب فواتير أو مستندات تثبت مصدر بعض الأدوية وبالأخص أدوية السرطان والعلاجات مرتفعة الثمن وده أثار الشكوك حول مصدرها وصلاحيتها وقبل ما تسلمه اختفت من البيت يومين كاملين وبعدين جاتلنا مكالمة من المستشفى أنها عندهم رحنا لقيناهم بيقولوا أنها انتحرت وسابت جواب جنبها بتأكد ده، لكن إحنا شكينا أن في شبهة جنائية وخصوصًا أن الوضع كله في المستشفى كان مريب.

انقبض وجه رحيل وساد لحظة من الصمت كأنها تحاول أن تستوعب ما سمعته؛ ثم رفعت عينيها إليه تسأله بجدية وحذر:
معاك حاجة تثبت الكلام ده؟

أخرج من حقيبه كبيرة في يده شيئًا بحرص شديد وكأنه يحمل كنزًا أو دليلاً خطيرًا وقال بثقة ممزوجة بالحزن:
أيوة ده  اللاب توب بتاعها مكتوب عليه كل حاجة.

تناولت رحيل اللاب توب من يديه بحذر، وكأنها تمسك بشاهد قبر كُتب عليه سر مَن رحل. كان الجهاز صغيرًا نوعًا ما من النوع القديم قليلًا تعلوه طبقة رقيقة من الغبار، لكن أطرافه كانت محفوظة بعناية داخل غلاف جلدي بسيط يدل على أن صاحبته كانت توليه اهتمامًا خاصًا.

تأملت الجهاز لحظات ثم رفعت بصرها إلى أحمد وسألته:
الباسورد؟

أجاب على الفور وكأنه كان ينتظر السؤال:
باسورد الدخول "MHassan1995" ومفيش عليه أي حماية تانية. مريم كانت بتكتب عليه كل حاجة المستندات، والملاحظات، وحتى التسجيلات إللي كانت بتجمعها من الشغل.

أومأت برأسها وأشارت له أن يتبعها دون كلمة. صعدا معًا إلى مكتبها وفي الطريق كانت رحيل صامتة، لكن عقلها يعج بالأسئلة التي تتزاحم في رأسها كأنها في سباق مع الزمن.
دخلت المكتب وأغلقت الباب خلفهم؛ ثم وضعت اللاب توب برفق على مكتبها وجلست و أمامها الآخر. فتحت الجهاز وكتبت كلمة المرور وانتظرت لم يكن الجهاز سريعًا، لكن ثمة شيء في بطئه هذا زاد من توتر اللحظة، حتى بدأ يظهر ملف شيئًا فشيئًا. كان هناك مجلد في المنتصف يحمل اسمًا بسيطًا "تحقيق دوائي" فتحت المجلد بسرعة فظهر أمامها بحر من الملفات من تقارير، صور لعبوات أدوية، ملفات PDF، ومستندات Word تحمل عناوين مثل توريد غير رسمي، مذكرة رفض، ملاحظات ميدانية، وبعض اسماء المتورطين.

همست رحيل لنفسها:
دي كانت ماشية لوحدها في سكة خطر تودي في ستين داهية.

ثم التفتت إليه وسألته:
أحمد أنت متأكد أن محدش غيرك معاه نسخة من الحاجات دي؟

هز رأسه بتوتر:
أيوه أنا خدت اللاب توب من أوضتها بعد ما ماتت على طول وقبل ما حد يلم حاجتها ومن يومها وأنا مش عارف أعمل إيه، بس لما شُفت إللي أنتِ كتبتيه عن القضية حسيت أنك الوحيدة إللي ممكن توصلي للحقيقة.

نظرت إليه بعينين تلمعان بجمرٍ خفي وقالت بنبرة خافتة حازمة:
هو مالهم كلهم اليومين دول جايين ليا وراء بعض كده في حد بردو لسه مكلمني في نفس الموضوع ده. أحمد الحكاية دي كبيرة وممكن تكون أخطر مما بنفكر ولو إللي هنا حقيقي يبقى الموضوع أكبر بكتير مما نتخيل كلنا.

أحمد بحزم لا يشبه اضطرابه الأول:
أنا مش خايف ومستعد أقول كل حاجة وأشهد كمان. أنا عايز حق أختي.

نظرت إليه طويلًا؛ ثم أغلقت المجلد، وأغلقت الجهاز بهدوء ووقفت تمدت يدها إليه تشكره وقالت:
شكرًا أنك جيت من اللحظة دي أنت مش لوحدك.

ثم أضافت وهي تتنهد بعمق:
بس هنمشي بخطوات محسوبة إللي ورا الموضوع ده مش ناس بسيطة.

خرج أحمد بعد دقائق ورحيل لا تزال واقفة مكانها تنظر إلى الجهاز كأنه بوابة إلى جحيم لا تعرف أن كانت ستخرج منه سالمة.

رفعت سماعة الهاتف الداخلي واتصلت بمعتز في القسم التحقيقي وقالت بصوت هادئ، لكن يحمل نبرة لم تُسمع منها من قبل:
معتز أنا عندي قضية لازم نفتحها من الأول والموضوع كبير ومحتاجك أنت بالأخص معايا.

____

ساد الصمت في الغرفة للحظة كأن الجدران تُنصت لتنهيدة الرجل الجالس في صدر المجلس يُقلب ما بين يديه كوبًا نصف ممتلئ من القهوة السوداء، ونظراته تتأرجح بين السقف ومرافقيه. كان سراج شاهين رجل الأعمال اللامع والسياسي المحنك يجلس فوق أريكته الجلدية وقد عقد حاجبيه بانزعاج ظاهر بدا وكأن غضبه يكاد يتفجر من حولة لولا ما تبقى من رباطة جأش مدروسة.
إلى جواره وقف رياض شريكه في كل أعماله الشبوهة رجل قصير القامة، ممتلئ الجسد، بعينين لا تهدأان. أما على المقعد المقابل فكانت تجلس آلاء السكرتيرة الخاصة لسراج، لكنها لم تكن كسائر السكرتيرات. كانت امرأة لا يعرف الخجل إلى وجهها طريقًا، ولا الخوف إلى تصرفاتها. جسدها ملفوف في فستان ضيق كأنه مفصل خصيصًا ليُكشف لا ليسُتر فهي تتعمد أن تُظهر أكثر مما تُخفي، وتتحدث بصوت خافت ناعم يقطر إغواءً، لكنها لا تنطق إلا بما يثير الريبة. ساقها تتأرجح فوق الأخرى بإغراء فاضح، وشفاهها الممتلئة مدهونة بعناية كأنها تُعلن التمرد على كل ما هو مهذب. عيناها لا تعرفان الثبات تتنقلان بين الرجال، كأنها تزنهم وتفك رموزهم بنظرة واحدة. تقترب أكثر من اللازم وتلمس بلا سبب، وتهمس بجمل قصيرة لها أكثر من معنى. لم يكن وجودها إلى جوار سراج فقط كـ سكرتارية، أنما أقرب إلى شراكة سرية ملغومة يعلم الجميع أنها أبعد من مجرد عمل، لكن لا أحد يجرؤ على السؤال.
قال سراج أخيرًا ونبرة صوته مشوبة بالحنق:
الظابط إللي اسمه عابد الوكيل واقف لنا زي الشوكة في الزور مش سايب لنا خرم إبرة نعدي منها وكل ما نحاول ننقل بضاعة نلاقيهورانا كأنه بيشم الشغل من قبل ما يبدأ ومبيفرقش معاه لا اسم ولا مقام.

رد رياض وهو يفتح دفترًا صغيرًا أمامه:
أنا قلت لك من أولها يا سراج ده مش مجرد ظابط عادي الواد داخل بصدره وعارف إنه مسنود من أبوه. ده ابن فريد الوكيل الراجل ده لو حط عينه علينا يبقى قول يارحمن يارحيم على كل واحد فينا دي نص البلد تحت إيده.

اعتدل سراج في جلسته وضرب بكفه على طرف الأريكة:
ما هو ده إللي مخليني مش طايق نفسي. إحنا بنخطط لشغل كبير والعملية الجاية مش مستحملة ولا غلطة. عايز أشتغل وأنا مطمن مش كل شوية صحفي نازل بمقالة تفتح العيون علينا، وظابط بيجري ورا دليل يودينا في داهية. 

نظرت لهم آلاء بتمعن وقالت ببرود:
طب ما تخلصوا عليه وخلاص ما أنتم مش أول مرة تعملوها.

نظر إليها رياض سريعًا وقال بسخرية:
يعني أنتِ فاكرة الموضوع سهل كده؟ ده لو اتلمس منه شعرة البلد كلها هتتقلب علينا. أبوه لوحده كفيل يمحينا من على وش الأرض.

صمت سراج لحظة وبنبرة أهدأ، لكنها تحمل تهديدًا باردًا:
إللي زي عابد ده لازم له تخطيط جامد جدًا، وحرص علشان نوقعه بس من غير ماحد يحس، ومن غير ما نسيب ورانا أثر.

اقترب رياض قليلًا وهمس:
عندي فكرة، لكن محتاجة تخطيط صح نخليه هو إللي يغلط ونلبسه مصيبة تخليه يتشال من جوه جهازه نفسه.

هز سراج رأسه ببطء، بينما راحت أنامله تداعب حافة الكوب:
ابدأ جهز بس عايز كل خطوة محسوبة مفيش مجال للغلط يا رياض.

قالت آلاء وهي تلاحظ بريق التواطؤ في عينيه:
وأنا هاساعدكم بطريقتي.

نظر إليها نظرة طويلة وابتسم ابتسامة ضيقة:
متقلقيش يا حلوة أنتِ ليكِ دور مهم ومحدش هيقدر يعمله غيرك.

كان الجو داخل المكان ساكنًا، لكن خلف تلك الجدران العازلة للصوت كانت مؤامرة ثقيلة تُخاط بخيوط الشيطان. ولأن الرجال أصحاب السلطة أو النفوذ يعتبرون أنفسهم فوق الخطأ ولا يسمحون لأحد بأن يقول إنهم أخطأوا. فإن وقع منهم خطأ بالفعل فإنهم لا يعترفون به، أنما يحاولون إسكات أو التخلص ممن قد يشهد عليهم أو يفضحهم، حتى لو كان ذلك بالقتل مجازًا أو حرفيًا.

____

في أحدى قرى الريف المصري كانت الشمس تميل إلى المغيب تُلقي بأشعتها الذهبية على الحقول الممتدة فتكسوها حُلة من دفء وسكون. في جنينة صغيرة لكن رائعة التنسيق تفوح منها رائحة الياسمين والنعناع بداخل منزل ريفي كبير جلست امرأة في أوائل الخمسين فائقة الجمال لا تزال ملامحها تنبض بنعومة وبهاء رغم مرور الزمن، وكأن الزمن قد مر بجانبها دون أن يمس منها شيئًا. كانت ترتدي عباءة منزلية هادئة اللون من قماش ناعم ينسدل على جسدها برقة، وشعرها مغطى بطرحة شفافة تُظهر بياض وجهها وصفاءه وأمامها كوب شاي تركته على طاولة خشبية صغيرة تفوح منه رائحة النعناع وقد برد تمامًا دون أن تمسه، كأنها أعدته ونسيت العالم من حولها.
كانت تحدق في نقطة بعيدة ووجهها يغمره شرود عميق يغوص في بئر الذكرى، بينما النسيم يحرك أوراق الحديقة من حولها بلطف كما لو كان يُنصت لأنفاسها الثقيلة.

وفي داخلها كانت ترى المشهد نفسه يتكرر منذ خمسة وعشرين عامًا. شابة في ربيع عمرها واقفة في بهو قصر كبير ذو سقوف عالية وثريات تلمع، كأنها مرايا القدر. وجهها غارق بالدموع، وعيناها تنطقان برجاء تقف أمام امرأة جميلة، متسلطة الملامح، ذات كاريزما نافذة ونبرة لا تعرف الرجاء وإلى جانبها رجل يبدو أنه والد الفتاة متردد يميل قلبه إلى الرحمة، لكن صوت عقله يخون مشاعره.

كانت الفتاة تصرخ والدموع تخنق صوتها:
يا بابا أنا بحبه. صدقني عزيز راجل مهندس زراعي ومحترم أهله ليهم قيمة في بلدهم وأكتر واحد يستاهلني. 

التفت الأب نحو زوجته بتردد وكأن قلبه يهتز مع صراخ ابنته، لكن تلك المرأة المتسلطة لم تترك له مجالًا للحديث. وفجأة دوى صوت صفعة قوية ارتد صداها في أرجاء المكان لتسقط على خد تلك الفتاة الجميلة تترك أثرًا من الألم والمهانة.
قالت الأم بصوت حاد صارم لا يقبل النقاش:
بنت صوتك مايعلاش على صوتي أبدًا. وقولت مفيش جواز من غير رضانا ومش هتتجوزي غير واحد من مستوانا مش حتت فلاح انسي الوهم ده. 

تجمدت الفتاة لحظة وتراجعت خطوة للوراء وهي تضع يدها المرتجفة على خدها المحمر، ودموعها تنهمر بصمت هذه المرة. نظرت إلى والدها بنظرة مكسورة تبحث في عينيه عن نصير. عن أب، لكنه ظل واقفًا في مكانه صامتًا، عاجزًا.
همست بصوت مخنوق، كأنها تودع شيئًا في داخلها:
أنا بنتكم مش لعبة في إيدكم. 

ثم أدارت ظهرها وسارت ببطء  نحو باب القصر وكل خطوة كانت أثقل من التي قبلها، كأنها تسير بعيدًا عن حلمها وعن العشق.

كانت الذكريات تمزق روحها كلما حاولت دفنها صوت بكائها، ملامح الحبيب وهو يُنتزع من قلبها ويطرد أمامها بكل قسوة وأهانه دون حول ولا قوة كان كل شيء يُروى داخلها كما لو كان يحدث الآن. وفجأة انتشلها الواقع من شرودها يد دافئة، ثقيلة بعض الشيء رُبتت على كتفها بحنان. استدارت بخفة فعادت إلى الحاضر لتجد رجلًا في أواخر الخمسينات يرتدي جلابية صعيدية نظيفة، تعلوها عباءة رجالية تقليدية. وجهه فيه طيبة الزمان، وملامحه تروي ألف حكاية. نظر إليها بعينين دامعتين وقال بصوت مفعم بالشجن والحنين:
مش ناوية تنسي بقى يا ست الستات؟

ابتسمت ابتسامة شاحبة وقالت بصوت منخفض فيه نبرة وجع دفين:
هو في حد ينسى أحبابه يا عزيز؟

اقترب منها أكثر وجلس بجانبها وقال وهو يمسح على ظهر يدها بلطف:
أكيد لأ بس هوني على نفسك مسير الشمل يتلم، والأحباب تتجمع من تاني أن شاء الله.

هزت رأسها ببطء، وكأنها تصادق على كلماته بقلب يؤمن ولا ينسى؛ ثم همست ودمعة دافئة انسلت من عينها:
يا رب يا حبيبي.

لم يكن بينهما سوى الصمت، والغروب، وعبير الزهور، ونبض قلبين استعصى على الزمن أن يخمد وهجهما.

تعليقات



×