رواية أجنبي الفصل الرابع 4 بقلم الهام رفعت

 

 رواية أجنبي الفصل الرابع بقلم الهام رفعت



اضطـرابات غزت أعضائها، ولم تعد تحملها قدمـاها، ولسوء حالتها توسّل حُسين بالبقاء رفقة والدته؛ كي يبث الأمان بداخلها، فـوافق المحقق رأفةً بوضعها، ثم جعلها تجلس أمامـه على غير العـادة، ورغم وجود ابنها بجانبها، ظلت السيدة زبيدة مرتعبة من طلبهم لها مجددًا، فهذا يعني استرابتهم في أمـــرها.
وجّه المحقق لها سؤالًا حادًا:
-ليه المرة اللي فاتت أنكرتِ إنك طلعتيلها فوق، بصماتك كانت على الجرس، يعني من آخر الناس اللي شافتهم
صُدم حسين ثم حدق بوالدته يعاتبها، كيف لها ألا تخبره، وتساءل في نفسه لما أخفت الأمر حتى عليه؟!، فنظرت له السيدة زبيدة محرجة من ذاك الوضع الذي غارت فيه، فنظرات ابنها تفوح منها اللوم والشك. تنفّست بهدوء بعض الشيء كي تستطع الرد، قالت:
-أنا طلعتلها علشان أديها الفلوس اللي كنت استلفتها منها، دي كل الحكاية
-وأيه يثبت كلامك ده؟
سألها المحقق في ترقب، فردت عليه كمن وقع في السراب:
-معرفش، هو دا اللي حصل.
مسح حسين على ظهر والدته في لطفٍ كي تهدأ، فهو لم يتحمل رؤيتها هكـذا خائفة، بينما خاطبها المحقق مشدّدًا من أسلوبه:
-الإنكار مش هيفيدك يا ست زبيدة، اعترفي دلوقتي لأن دا لمصلحتك، وهحاول يخففوا الحكم عليكِ
نزلت دمعة من عينيها جعلت قلب حسين كمن انغرز فيه السكين، ثم خاطب المحقق في ضيق رغم نبرة احترامه:
-حضراتكم كل شوية تبعتولها، هي ست كبيرة ومعملتش حاجة.
رد عليه المحقق في عملية:
-المعلومات بتتجدد يا أستاذ حسين عندنا، ووالدة حضرتك مبتقولش كل اللي حصل، وبالتالي هنشك فيها.
لاحت معالم الحزن على السيدة زبيدة تكاد تفقد الوعي، فأحس حسين بها وقال:
-أنا والدتي مريضة، وحضرتك شايف شكلها، لما تبقوا متأكدين من اتهاماتكم هي موجودة، بس متأكدة ماما متعملش كده.
تفحص المحقق الأوراق التي أمامه، فهو ليس لديه ما يثبت إدانتها، ثم تنهد بقوة، ثم عاد يقول لها في نفاذ صبر:
-يعني مش هتعترفي بنفسك، أو حتى تقولي حاجة مخبياها.
سكتت للحظات وشردت بفكرها قليلًا، ثم قالت في تردد:
-معنديش حاجة تانية أقولها.
ظل المحقق محدقًا بها لثوانٍ قليلة، وحاول سبر أغوار عقلها. وما أحس به هو كذبها، ولذلك وضعها في خانة المشتبه بهم، وأنها ستكون خيطًا أساسيًا في تلك القضية، فإن لم تفعلها بنفسها، فلا بُد أن هناك من عاونها، ونطق أخيرًا:
-امضي على أقولك!
قرّب منها الدفتر ومضت السيدة بيد مرتعشة، فقال له حسين:
-خلاص ماما تمشي؟
أومأ المحقق مؤكدًا وقال:
-تقدر تروّح معاك، والأفضل طالما القضية شغالة تشوفلها محامي.
أومأ حسين مطيعًا، ثم نهضت السيدة زبيدة بمعاونة ابنها الذي أخذها للخارج. 
أمام الباب كان يقف أدريان مترقبًا خروجهما، وحين رآهما ركض ناحيتهما يهتف:
-ماذا حدث لكل ذلك؟!
جاوب عليه حسين في هدوء ظاهري:
-موضوع كده متشغلش بالك
وجّه أدريان الحديث للسيدة في لطفٍ:
-هل أنتِ بخير سيدتي؟
ابتسمت له السيدة زبيدة في ضعفٍ وقالت:
-بخير يا قدري يا ابني، ربنا يكرمك
ثم سار ثلاثتهم ناحية باب الخروج، وتنفّست السيدة زبيدة الصعداء حين وجدت نفسها خارج ذاك المكان الذي قبض قلبها وفجع روحها. 
ثم انتبه الثلاثة لرجلٍ يبدو عليه الإجرام يضرب بعنف العسكري الذي يمسك به ليهرب، والمفاجأة الكبرى كانت بتدخل أدريان الشرس الذي ما أن رأى ذلك حتى توجّه إلى المجرم يضربه بقوة في وجهه حتى سأل الدم من أنفه وفمه، حملق به حسين مبهورًا بقوته، فمن يرى جسده البدين لن يصدق أن يفعل ذلك، كذلك السيدة زبيدة التي تهلل وجهها وهي ترى براعته في تأديب ذاك المجرم الذي خارت قواه بفضل شراسته. وحين سيطر العسكري على المجرم شكره قائلًا:
-شكرًا يا بيه!
تعالت أنفاس أدريان من التهور الذي فعله للتو، وجاء حسين من خلفه يقول معجبًا:
-أيه العظمة دي، الراجل مخدش في إيدك غلوة
ابتسم أدريان وقال:
-من واجبي أن أفعل ذلك، فالمجرم لا بُد أن يأخذ عقابه
لم تقل دهشة السيدة مما رأت وزاغت بفكرها فيما حدث، وظلت هكذا حتى ركبوا السيارة لمغادرة المكان. وهي جالسة بالخلف، تحدّثت مع نفسها وقالت:
-واللهِ الواد قدري ده ممكن وجوده في الشقة حماية ليا
ثم تراجعت عن التفكير في ذلك وشغلها تحريم وجوده معها وحديث الناس عن مكوثه في حضرتها، فمطت شفتيها قائلة:
-خلاص أوقّفه على باب الشقة يحميها 
لامت نفسها سريعًا على ذلك فهي بذلك تحتقره وقالت:
-لأ يا زبيدة هو كلب هتوقفيه على الباب.
ثم زفرت بقوة وعقلها يأخذها هنا وهناك، ولم تجد الحل لضالتها، ثم غمغمت في حيرة:
-هتعملي أيه يا زبيدة، العين عليكِ ومش هيسيبوكِ.......!!

*****

كانت تركض كالفراشةِ هنا وهناك لتجلب ما تحب لمن تحب ولها، ابتاعت ورد ما يناسبها من الملابس، ولم تنسى أهلها، فابتاعت لهم أشياء رائعة. ثم عادت للمنزل بعد يوم قضته في تلك المهمة، وحين ولجت لداخل الشقة صاحت تنادي على الجميع بطلعةٍ مشرقة متهللة.
أتت السيدة هنية أولًا متعجبة من أمرها، فقابلتها ورد وهي تقول مبتهجة:
-تعالي يا ماما شوفي جبت أيه!
تطلعت السيدة هنية على ما جلبته مبتسمة، وحين أخرجت ورد الثياب الرائعة هتفت مبهورة:
-أيه الحاجات الحلوة دي يا ورد!
رفعت ورد جلباب أنيق ثم وضعته على جسد السيدة وقالت:
-حلو يا ماما!
لم تصدق السيدة هنية ما تفعله وهي تتأمل الجلباب عليها، قالت لها ممتنة:
-حلو يا ورد زيك.
انحنت ورد لتجلب المزيد وقالت في سرور:
-جبتلكم كلكم حاجات تجنن.
جاءت رشا إثر أصواتهما وانضمت لهما، ثم مررت أنظارها الجاهلة لما ترى وتساءلت:
-هو فيه أيه؟.
انتبهت السيدة لابنتها وردت بابتسامة متسعة:
-تعالي شوفي ورد جابتلنا أيه!
على الفور تفهّمت رشا أن ورد بدأت في الاستمتاع بأموالها، وحاليًا تشفق عليهم ببعضها، زيفت بسمة بصعوبة وقالت:
-كتر خيرك يا ورد
ما ابتاعته ورد يخصها رفعته في حقيبة بلاستيكية ثم ناولتها إياه قائلة:
-دول حاجاتك، يا رب بعجبوكِ!
أخذتهم رشا وأخذت في فحصهم، تأملتها ورد ولاحظت عدم فرحتها كما توقعت، كما لا يوجد إعجاب، فقط تراهم بطلعة جامدة. لاحظت السيدة هنية غلاظة ابنتها وتضايقت منها، فخاطبتها كابحة زجرها:
-مش هتقولي لأختك شكرًا!
نظرت لها رشا واحتجت:
-ما أنا لسه قايلة كتر خيرها، أيه، أقوم أرقص يعني.
جاءت السيدة لتعاقبها على وقاحتها فأسرعت ورد تقول:
-خلاص يا ماما، هو فيه شُكر بين الأخوات
-ولو يا ورد
قالت ذلك السيدة بعصبية، فقطع حديثهن حضور الحاج منصور من الخارج بطلعته السمحة، تقدم للداخل وعينيه تتوزع عليهن وعلى المشتريات، خاطبهن في ود:
-السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 
ردوا عليه السلام سويًا، فاستفهم الحاج مبتسمًا:
-بتعملوا أيه؟!
جاوبت السيدة هنية بلُطفها:
-دي ورد يا حاج جابت لينا كلنا لبس وحاجات حلوة.
تأملها الحاج معجبًا من حلاوة ما تفعله، ثم مدحها:
-ربنا يكرمك يا حبيبتي، وتفضلي على طول بتحبي إخواتك وأهلك.
ثم ضمها من كتفها معربًا عن رضاه نحوها، فابتسمت ورد ولم تقول شيء، وتابعت رشا حنان والدها المدرار لأختها في غِيرة؛ لكن لم تعلّق على ما يحدث أمامهــا. فتساءل الحاج في اهتمام:
-شهد فين، لسه مرجعتش........؟! 

*****
وقف جميعهم في تساوٍ احترامًا لوزير الصحة الذي جاء ليمر على المشفى، وفي إنصاتٍ تام استمعوا لما يقوله ويأمر به. ثم تحدث في مروءة:
-المرضى دول حاطين أملهم عليكم، يعني من واجب الطبيب إنه يقدم اللي يقدر عليه علشانهم.
ثم تحمّس في حديثه واستأنف:
-المستشفى حكومي ومش لازم نستغل حاجة الناس، بيجوا هنا علشان مش معاهم حتى تمن العلاج، فواجبكم هو التفريج عنهم ومساعدتهم.
نطق بعضهم يؤكد ما قاله وأنهم متعاونون مع الجميع، ثم مر الوزير على الغرف لفحصها ومن خلفه مدراء المشفى. فوقفت ورد مع بعض الأطباء زملاء العمل متأففة بشدة، فقد درست سنوات وفي النهاية لم تستطع حتى فتح عيادة خاصة بها، وها هي تعمل في مستشفى عام وبمرتب ضعيف.
تأملها الطبيب كريم ومعه آية بملامح حاقدة، ثم وقفا جانبًا للحديث معًا، هتف كريم في غيظ:
-مافيش غير اللي قولتلك عليه هو اللي هيجبها الأرض.
علّقت آية متخوفة:
-ما هي ممكن تجر رجلينا معاها، ممكن أيه، دا أكيد
رد ساخرًا:
-ومين هيصدقها، إنما إحنا هنصوّرها متلبّسة
نظرت آية لها وهي تتذكر صداقتها معها وقت الجامعة، ثم استشعرت خيانتها لها، فـ شهد صديقة وفيّة ورائعة، ثم تراجعت عن ذلك قائلة:
-بلاش يا كريم، دي مهما حصل كان فيه بينا عيش وملح.
-هي اللي بدأت وقلّت مني.
رد عليها غاضبًا من ترددها، فقلقت أن يكون قد تضايق منها، فهي خطيبته وسيتزوجا قريبًا، فقالت لترضيه:
-اللي تشوفه صح أعمله
لاح تحديه وهو يطالع شهد التي انتبهت لوقوفهما معًا وأخذت تتطلع عليهما في جهل، وأيقنت أن صداقتهم انتهت حين لم يتحدثا إليها، ثم تحركت لتترك المكان وتجاهلتهما كما فعلا..........!!

*****

نهض من على كرسي القهوة حين لمح سيارة أخيه تلج الحارة، ثم هرول ليستقبلهم. أوقف حسين السيارة أمام العمارة ثم عاون والدته على الترجل منها مع أخيه رامي الذي يطالعها في قلق، فقد علم بأمر الاستدعـاء.
حين شرعوا في الدخول هتف متبرمًا:
-مش هنخلص بقى من الموضوع ده، هي ماما مالها بس!
ركبوا جميعهم المصعد وما زال رامي يُظهر عدم رضاه، فرد حسين ضجرًا:
-خلاص يا رامي كفاية اللي حصل معانا، من بكرة هكلم المحامية تمسك القضية.
خرج جميعهم من المصعد وساروا ناحية الباب، وحين شرع حسين في فتح القفل لاحظ حركات غريبة من الجيران، فمنهم من يتوارى خلف بابه الموارب ويتابع، فيبدو أن الأخبار قد انتشرت، وبالطبع ليس ذلك جيد لوالدته، واعتزم عدم التحدُث معها الآن حتى تهدأ فاليوم قاسٍ عليها. أكمل دخوله وتجاهلهم، ثم خاطب والدته في حنوٍ:
-ادخلي ارتاحي يا أمي
-مش هحضرلكم لقمة الأول
قالت السيدة ذلك معترضة، فتدخل أدريان الصامت طوال الطريق وهتف متحمسًا:
-أجل أريد الطعام!
حين نطق انتبه رامي له، فخوفه على والدته أنساه إياه، بينما لم يصدر من السيدة زبيدة تملُّق كما السابق، بل انجلى صدق أصالتها حين قالت:
-أحسن أكل هجهزه
ثم تحركت ناحية غرفتها لتبديل ثيابها ومن ثم تُعِد ما لذّ وطاب، فتبادل حسين النظرات مع أخيه مدهوشين من تبدُل حال والدتهما المفاجئ. لم يتحدثا في الأمر بل تحركا ناحية أدريان الذي وقف قُرب طاولة الصالون يتناول التفاح. كان حسين في غاية الدهشة من وده المبالغ فيه، فهو يتحرك بأريحية. خاطبه رامي معتذرًا:
-مش عاوزك تزعل من ماما علشان حسين خدك الورشة معاه، أصل ماما ما تقدرش تتعدى الأصول، مش علشان بتكرهك ولا حاجة.
ابتسم أدريان معربًا أن الأمر بسيط ولم يسأم منه، هتف:
-السيدة محقة، ولم اتضايق منها!
سأله حُسين مهتمًا:
-هتقعد فين يا أدريان؟
تدخل رامي مقترحًا:
-ممكن نشوف أوتيل قريب من هنا
تابع أدريان حديثهما ويبدو أنه قد اتخذ قراره بنفسه وقال:
-لدي أموال كثيرة، من الأفضل أن استأجر شقة قريبة منكم، وحبذا لو كانت بنفس عمارتكم
أحب حسين الفكرة وقال:
-من بكرة هشوف صاحب العمارة، وإن شاء الله يكون فيه شقة فاضية.
شرعت السيدة زبيدة في ترتيب الأطباق على المائدة وهتفت:
-اغسلوا إيديكم علشان تاكلوا
تذكر رامي سبب مجيئه وقبيل أن يتحرك للمائدة أمسك بذراعه فقد بات يشغله الطعام عن أي شيء، قال مترددًا:
-الأهم من دا كله، عاوز أوريك شغلي......!!
*****

ارتدت ذاك الثوب الرائع وتأملت جمالها عبر المرآة، كم أصبحت فاتنة، مشّطت شعرها البني بالفرشاة والابتسامة الناعمة تزين ثغرها الصغير، معجبة بطلعتها الرائعة، ثم أخذها خيالها بعيدًا، وتمنت من قلبها الصّب أن تجتمع بمن تحب، وعمدت في نفسها أن تتزوج به، فتلك فرصتها التي منحها الله لها بعد فقدان الأمـل.
عادت سريعًا لواقعها المُوجع وعلمت بأنه لن يوافق بها، فمنذ أدركته وهي بمثابة أخته ليس إلا. تجهمت ورد بشدة فسوف تقابل صعوبة في كسب محبته، وبالفعل لن تخبره، لم تأتيها الجراءة لتفعلهـا. تناست واقعها قليلًا وألقته جانبًا، فلتكفي فرحتها الآن، فقد ابتاعت أثواب رائعة سوف تُجمّل بها مظهرها، كي يراها أجمل فتاة، ولن تتبرم مطلقـًا.
لم تعي ورد نظرات شهد التي أتت من خلفها وتتابع في اهتمامٍ وفضول ما تفعله، ثم مررت نظراتها على ما ترتديه في إعجاب. تأمّلت مؤشرات وجهها وعلمت بما يدور في خُلدهـا. حين تحركت صوبها انتبهت ورد واستدارت موترة الأعصاب، هدّأتها شهد ضاحكة:
-مالك خوفتي كده ليه؟
ازدردت ريقها محاولة الهدوء وقالت لتنفي:
-هخاف من أيه، دخولك كده خضتي مش أكتر
مطت شهد شفتيها وعينيها تجوب ما ترتديه بنظرات جعلت ورد تضطرب أكثر، ثم رمشت لتخفف من حدة حرجها، قالت شهد في قتامة:
-بس الفستان حلو، معقول هتطلعي بيه برة، مش شايفة إنه قصير قوي.
ردت عليها ورد مزعوجة:
-أنا محجبة، هطلع بيه إزاي!
-أومال جيباه ليه؟!، مش معقول هتقعدي بيه في وسطينا، دا باين غالي!
سألتها شهد بنفس دهائها، فتحركت ورد ناحية ما جلبته ثم جمعته بين ذراعيها دفعة واحدة كي لا ترى ما جلبته من أثواب أخرى سوف تخجل إن رأتها، قالت مدعية القوة:
-أنا بجهز نفسي علشان لما أتجوز، ارتاحتي!
ثم وضعت الأثواب في الدولاب وخبأتهم في إحكام، كل ذلك تحت نظرات شهد الماكرة، فهي تعرف ما تفكر به، ثم جلست على التخت تتابع في صمت ما تفعله الأخيرة. بدّلت ورد ثوبها لترتدي آخر جديد وردي كاسمها متأهبة للخروج ولم تعطي المجال لأختها للكلام في شيء فهي تعرفها دخيلة. ارتدت حجابها وجمّلت من طلعتها التي باتت ملفتة فهي ذاهبة لرؤيته. قبيل خروجها من الغرفة خاطبت أختها في جمود:
-فيه حاجات ليكِ جبتهالك، شوفيها هتعجبك......!!

*****

حين توجه لورشته، أبلغه الحاج طه بأن حماه السابق قد سحب جميع القضايا، وذلك بعدما أرسل حُسين ورقة طلاقها بالأمس. كحالته السابقة، شعر بالاختناق والألم؛ رغم أنه تعهّد بنسيانها، فيبدو أن الأمر سيأخذ وقتًا، وخشي أن يظل هكذا.
جلس حُسين أمام ورشته كئيبًا، فقد استوحش لذة الحياة وبقى مغتمًا، تنفّس بهدوء محاولًا التخفيف من حالته تلك، لكن لا فائدة.
على أول الشارع لمحته ورد جالسًا هكذا، تلاشت بسمتها وهي ترى حزنه طافح عليه، اغتمت للغاية وسارت ناحيته لترى ما به، فهي قد جاءت من أجله. 
وهي تسير بالطريق لم يعجبها نظرات المارة نحوها، كذلك أصحاب المحلات، ومنهم من طالعها من نافذة منزله، ظنتهم في البداية معجبين بها فثوبها رائع؛ لكن تلك النظرات خلفها أمرًا ما مجهول؛ خاصةً حين مال البعض على الآخر يتهامس في سرية مريبة، ابتلعت ريقها وتذبذبت، وكذلك تعثرت في خطواتها نتيجة سيرها المتعجل، وحين مرت من جوار سيدتين، تجمدت لوهلة وهي تسمعها تقول للأخرى في احتقار:
-أما بجحة بصحيح، طبعًا علشان تلفت رجالة الحتة اللي ماشية معاهم
تعالت دقات قلبها وارتعش جسدها بشدة، ثم تابعت طريقها في زللٍ، وكلما تمشي كانت تسمع الأفظع، وحين اقتربت من حُسين قالت إحداهما بصوتٍ مسموعٍ:
-بت متختشيش، تلاقيها السبب في خراب بيته
أغمضت ورد عينيها للحظات فهي لم تستوعب كم الإهانة التي تتعرض لها والافتراء الواقع عليها، ثم هرولت ناحية حسين لتصل بسرعة إليه. حين انتبه لها ابتسم عفويًا، ثم تأملها في إعجاب من جمالها وهيئتها، انتبه لارتجاف جسدها وعينيها التي بدأت تدمع، فخاطبها في قلقٍ كبير وهو ينهض لمقابلتها:
-خير يا ورد، حد مزعلك؟!
بدأت تبكي وهي تشرح في ترجرُج:
-معرفش يا حسين، بيقولوا عني كلام مش كويس
حين أشارت خلفها وعي لنظرات الناس من خلفها، ثار وغضب بشدة، فهي ابنة خالة ولن يسمح بذلك، فتركها خلفه ثم خاطب الجميع بصوتٍ جهوري:
-مين هنا بيتكلم على بنت خالي، سمعوني كده بتقولوا أيه!
لبعض الوقت لم يتجرأ أحد على الرد؛ نتيجة نظراته القاسية وهيئته الساخطة، لكن ردت سيدة تقف بالقرب في نزق وهي توضح:
-وإحنا مالنا يا سي حسين، إحنا سمعنا زي ما الكل سمع، إن المحروسة بنت خالك ماشية على حل شعرها مع كل واحد.
لطمت ورد خديها مبهوتة مما تسمع وترى، فعن أي فتاة تتحدث تلك المرأة المشؤومة، كان حُسين مثلها بل وأيضًا مهتاجًا من ذاك التضليل، وشُده من ماهية الأمر، فبالطبع هناك سوء فهم، لم يجد ما يقوله سوى أنه يحذرهم، فصاح منفعلًا:
-اللي وصلكم دا كدب، وأنا بنفسي هعرف مين الكلب اللي طلّع الكلام ده وهحاسبه، بنت خالي أشرف من الشرف، واللي هيبص ليها بنظرة متعجبهاش هو حُر
هدأت ورد قليلًا من مساندته لها وارتاحت من وجوده، فالبعض بدأ في الانسحاب، التفت لها حُسين ثم أمسك بيدها لأول مرة وجعلها تسير معه ناحية مسكنه، مما جعلها تشعر بالحرج، وخشيت ما يفعله يؤكد ما يقوله الناس من حولهــم.
حين وصل إلى مدخل العمارة وقف معها بعيدًا عن الأعين، خاطبها في لطف:
-مش عاوزك تزعلي، ولا تقلقي طول ما أنا جمبك
تزعزعت من كلامه نحوها، بالأخص حين تابع في دراية:
-بس يمكن أدريان لما وصل الكلام زاد ويمكن دا خلاهم يتكلموا عليكِ لما شافوه عندنا وإنتِ معانا
أنصتت له في اهتمام، مترقبة أن يقول ما انتظرته الآن، فتابع حُسين مبتسمًا في ودٍ:
-أنا حاسس بيكِ وأخدت بالي على فكرة، وعلشان كده هخرس ألسنتهم كلها
ذابت من نظراته نحوها ومحت البسمة معالم حزنها وتعالت أنفاسها، فما تتمناه يقترب، فقالت في عشق ظاهر:
-بجد يا حسين حسيت بيا، أنا كنت فاكرة هفضل كده طول عمري 
فاجأها حُسين حين أردف:
-كان باين عليكِ من قبل ما يوصل 
لم تتفهم مقصده وعن أي شخص يتحدث، فاستفهمت في جهل:
-تقصد مين؟
كانت الصدمة من نصيبها حين أكمل في جد:
-أدريان، هكلمه وهو مش هيرفض واحدة في جمالك وأخلاقك..
تعليقات



×