رواية من اجلك الفصل الرابع بقلم اسماء ندا
ساد صمتٌ لفترة كبيرة، الجميع ينظر إلى أدهم وينتظرون أن يخبرهم ماذا بعد، بعد لحظات، قال أدهم
"بصوا بقى، إحنا هنتحرّك في أكثر من طريق لحد ما أقابل نعيمة وأعرف منها كل حاجة، عشان أقرر أنا هرجع بس حقي ولا هنتقم من فايز ولا منهم كلهم.
الأول، حامد باشا هيروح لفايز ويطلب منه إنه يتكفّل باستيراد أجهزة كهربائية، يطمعه بإننا هندفع مبلغ كبير.
إحنا فعلاً هنعمل من خلالهم صفقتين أو تلاتة لحد ما فايز يطمن لحامد، وفي نفس الوقت عايز من مجموعة ياسر تعمل مكتب لتأجير فلاحين للعمل في الأراضي.
عايز يا ياسر المكتب ده يكون مرخّص من نقابة الزراعيين، ورجالتك يلفوا على الفلاحين اللي في البلد ويقنعوهم إن العمل من خلالهم هيكون في عائد ليهم حلو، وكمان معاش غير التعويض لو حصل حادث لا قدر الله أثناء العمل.
وأنت يا سميح، ومعاك الرجالة بتوعنا، هتلف حوالين المحامي ده وتخليه خاتم في صباعك، وتمسك عليه أي حاجة ممكن تجيب له إعدام أو سجن مؤبد.
ورجالتنا تنتشر في المصانع على إنهم عمال، ويعملوا علاقات صداقة مع باقي العمال الموجودين حالياً، عشان وقت ما نقول إضراب الكل يشترك والمصانع تقف.
وأنا وإنت يا وافي هنروح لنعيمة النهاردة".
قال حامد"كده عرفنا كل مجموعة هتعمل إيه".
انصرف الجميع، وتبقى وافي جالسًا مع أدهم الذي كان قد تاه في مخيّلته، ولم يلاحظ انصراف الجميع إلا بعد أن تحدّث وافي
"ها، هنتحرّك دلوقتي ولا نتغدّى الأول؟"
نظر أدهم له وتبسم، ثم قال "شكلك جعان، نشتري أكل ونأكل في الطريق، إيه رأيك؟"
"بس هتجيب لي حاجة ساقعة كمان!"
"دِني وجِلدة من يومك!"
"بس بجيب لك آخر أي موضوع، مفيش حاجة بتستعصى عليه، ده يشيل ده."
"وافى، هو أنت مش كنت مقدم في كلية الشرطة من كام سنة؟"
"واترفضت عشان ماعيش واسطة، وأبويا بواب، بس إنت معرفش إزاي خليتهم يعيدوا التقييم ويقبلوني."
"ما بقى لينا واسطة يا وافى، يخدمنا بقى. عايزك تشوف سعيد ووائل كمان، كانوا دخلوا الشرطة زمان. أنا عايز يكون لينا رجالة جوه، غير الأمناء بتوعنا، عايز يبقى لينا ضباط أكتر كمان، وعايز واحد منهم يكون ثقة، نرتب ننقله يخدم في مكافحة المخدرات."
"تمام، بس عندي سؤال بيلعب في دماغي."
"ما تخلهوش يلعب واسأل."
"ليه خليت حامد هو اللي يتعامل مع فايز؟ ليه ما اتعملتش إنت؟ هو كده كده ميعرفكش."
"أنا وإنت ومعظم اللي معانا سننا صغير، شكلنا عيال ثانوية ولا حتى في الجامعة، وحامد الوحيد اللي سنه كبير وينفع يبقى رجل أعمال. أمال ليه يا فالح كل شغلنا هو المتصدر فيه بشكل رسمي في الأوراق؟ لأن لو حد فينا، كانت الحكومة نبشت ورانا، منين الثروة اللي بتلف في إيدينا فجأة دي؟"
"آها، عشان كده إنت خليت الواد المحامي بتاعنا ده يعمل ورق مضروب إن حامد ورث قريبه ده اللي بره مصر ومحدش يعرف عنه حاجة."
"عليك نور. يلا بقى فُز، خلينا نتحرك عشان الليل ما يدخلش علينا وما نعرفش نروح لنعيمة."
بعد مرور ما يقارب من ساعتين ونصف، وقف أدهم يمسك بذراع وافى، مترددًا في دق جرس الباب. يتساءل: هل هو خائف من معرفة الحقيقة وما حدث بالماضي، أو خائف من أن يضيع الأمل بوجود والدته على قيد الحياة وتشتعل بقلبه النيران لتبتلعهم وتبتلعه هو نفسه بعدها؟
ضغط وافى بكفّه فوق كفّ أدهم هامسًا له
"كده كده هننتقم، إنت لازم تعرف الحقيقة عشان تعرف إزاي تنتقم."
أومأ أدهم برأسه، ثم أبعد يده عن ذراع وافى واستدار وأعطى الباب ظهره محاولًا أن يُخفي ملامح وجهه المضطرب.
لحظات وفتح الباب، طلت منه زينب برأسها مبتسمة ثم قالت:
"بابا كان لسه بيقول هتلاقيهم هما. تخيّل يا وافى قلبه كان حاسس إنك هترجع بسرعة."
قال وافى: "قلت لك دي مسألة حياة أو موت."
فتحت الباب على مصراعيه، ليظهر الأب خلفها مرتديًا ملابسه ومستعدًا للخروج، فهتفت الفتاة
"بابا، مش تستنى يدخلوا يشربوا حاجة الأول؟"
الأب سمير "يا بنتي، كل لحظة في عمري ده و عمر نعمة منعرفش هتعدي ولا هتكون الأخيرة، بعدين يبقوا يجوا ناكل ونشرب كمان، يلا بينا، يا أدهم."
كان الرجل يتحدث وهو يتقدم، ووضع يده على كتف أدهم وهو يُكمل حديثه
"كل واحد في الدنيا دي مقدر ليه طريقه يا ابني، أكيد كان أحسن ليك إنك تبعد عن العيلة. يا ابني، أحيانًا المجهول بيكون أفضل يفضل مجهول."
ابتسم أدهم، ثم استدار ونظر للرجل وتنهد قائلًا
"عندك حق، بس لازم أعرف كل حاجة عشان أقدر أتنفس. أنا حاسس إن الماضي قاعد على صدري، مش قادر أكمل حياتي من غير ما أعرفه."
"طيب، يلا بينا."
خرج الرجل أمامهم وتبعته زينب بعد أن أغلقت الباب جيدًا، أشار أدهم للسيارة فقال الرجل
"لا، مش هنحتاجها، المقابر في أول الشارع اللي ورانا."
بعد عشر دقائق وصلوا عند مدخل مقابر حكومية لمجهولي الهوية، وبالرغم من أن تلك المقابر لا يوجد بها عامل أو حارس يراعيها، إلا أنها نظيفة وبها زرع على كل مشهد قبر، تحرك الرجل المسن في ممرات المقابر كأنه يحفظ الطريق عن ظهر قلب، حتى وصل إلى غرفة مبنية بالخشب في المنتصف، من يراها يعتقد أنها غرفة مهملة لحارس يقضي بها ساعات الليل فقط أو ساعات النهار، لكن في الحقيقة كانت توجد امرأة عجوز تجلس فوق فراش صغير، بجواره منضدة فوقها شعلة واحدة، أسفل المنضدة توجد زجاجات من المياه. خارج الغرفة يوجد ملحق صغير من الخشب به قاعدة حمام وحوض صغير، أمام الغرفة وُضعت طاولة مستديرة بجوارها ثلاث مقاعد، وفوقها فازة صغيرة داخلها ورود حديثة.
أشار سمير إلى السيدة كي تخرج وتجلس معهم، ثم جلس هو على مقعد واستند على الطاولة، فجلست السيدة على مقعد بمواجهته وهي تقول
"أهلاً، أهلاً، بيك وبضيوفك، بت... يا زينب ادخلي علقي على الشاي ولا عايزة الضيوف يقولوا عليّا بخيلة."
ضحكت زينب وقالت "من عيني يا أجمل ماما."
نظر وافي لزينب مرددًا بتعجب "ماما؟!"
ضحكت نعيمة وقالت "وانت متعجب ليه كده، أيوه بنتي وده جوزي."
قال أدهم بعد أن اقترب منها "بصي لي... انتِ عارفة أنا مين؟"
رفعت يدها تلتمس وجهه وتقول "سمير قال لي إنك جاي يا أدهم، أنا كنت مستنياك السنين اللي فاتت كلها، بس كنت خايفة أوي من فايز، ده مجرم."
قال أدهم "كل مجرم في اللي أجرم منه، متخافيش... بس بالله عليكي احكي لي كل حاجة تعرفيها."
أغمضت نعيمة عينيها، اللتان هربت منهما دمعة مصطحبة بألم، وعادت بذاكرتها لسنوات مضت كي تقص عليه ما إن ظل مخفيًا كان أفضل له.
انتشر في البلد الحديث عن عشق يزن لبنت واحد من الفلاحين اللي شغالين في الأرض بتاعت أبوه، كان يزن رغم إنه أصغر إخوته، هو اللي شايل الشغل كله عن أبوه، بعكس إخواته الكبار، فايز وفوزي. وبالنسبة لإخواته البنات، فالكبيرة كانت مخلصة تعليمها في كلية زراعة، والصغيرة، اللي هي أصغر من يزن، كانت لسه في إعدادي. فايز طول عمره نسوانجي وبيحب القمار وبيمشي يرازي في الفلاحين، فكان مكروه، بس الكل بيخاف منه ومن أبوه. بس أبوه عشان فايز فشل في الدراسة، وأخد دبلوم تجارة بالعافية، جوزه بنت العمدة اللي في البلد اللي جنبينا تقريبًا على أمل إنه ينصلح حاله، بس مكنش في أمل فيه. وفوزي اتجوز بنت عمته اللي ماتت عشان الورث ما يطلعش برة، وهي ما عندهاش غير بنتها دي.
الأب كان رافض إن البنات يشتغلوا، ولما اكتشف حب زين كان سعيد جدًا، وخلّى الطابق الأخير في القصر لزين ومراته، بس أم زين مكنتش موافقة وكانت بتكرهه، وسوسن النار ولعت في قلبها، خاصة لما زين خلف ولد، وبما إن هي مخلفتش، ومحدش من إخواتها جاب ولد غير زين، فالحقد ملا قلبها أكثر. وفي يوم، جِت المطبخ مكان ما كانت أختي الكبيرة بتشتغل، كنت بزور أختي عشان أطلب منها فلوس لأني هتجوز ومحتاجة مصاريف، وعشان الست هانم الكبيرة منعت أي حد مش بيشتغل يدخل القصر، أو أي عامل أو عاملة يدخل تليفون معاه، أختي خبّتني في دولاب للتخزين لما شافت سوسن هانم داخلة المطبخ، فضلت تلف في المطبخ زي العقرب، وتبص في الأكل وتزعق في كل اللي شغالين في المطبخ.
وفي لحظة غفلة من الجميع، شوفتها وهي بتحط بودرة في شفشق العصير اللي طالع للدور بتاع زين باشا، وبعدها خرجت على طول.