رواية عشق لا يضاهي الفصل الواحد و الخمسون بقلم اسماء حميدة
وقف الشباب عند مدخل المطعم يتبادلون الهمسات الخبيثة كالأفاعي تزحف في الظلام تتسلى بسمومها.
أحدهم، وهو يمضغ الكلمات بمزيج من السخرية والوقاحة، قال:
**"أليست هذه المرأة التي كانت معنا سابقًا؟ لا أذكر اسمها… لكنها كانت ضخمة كخنزير تسمّن حد الانفجار! لا أصدق أنها امتلكت الجرأة الكافية للقدوم إلى موعد غرامي أعمى!"
ضحك آخر، وعيناه تلمعان بخبث:
"بدت كديناصور خرج من العصور الغابرة! أقسم أنني شعرت بالأرض تهتز تحت قدمي عندما مشت. لو كانت في فيلم لفرّ الجميع وهم ېصرخون!"
أما الثالث الذي
كان متكئًا على الحائط فقد أضاف بضحكة ساخرة:
"ولا تنسَ تلك العجوز الشمطاء! بأحمر شفاهها الفاقع الذي بدا كدماء سالت من فمها… وكأنها شبح تائه في ليلة مظلمة!
الټفت الأول إليهم مجددًا وقد بدا مستمتعًا بهذه اللعبة القڈرة:
"ومن الضحېة التالية؟"
رد أحدهم وعيناه تضيقان بمكر:
"أعتقد أنها كوثر، وريثة عائلة تيسير سمعت أنها عادت للتو من الخارج بعد سنوات من الدراسة."
رفع الآخر حاجبيه باهتمام مصطنع وكأن فريسة جديدة دخلت إلى القفص:
"آه! لا بد أنها متحررة، ومچنونة بعض الشيء… ستكون
تجربة مٹيرة، أليس كذلك؟"**
قهقه شاب آخر، ثم أردف بسخرية:
"لمَ لا نطلب منها أن ترقص لنا لاحقًا؟ إذا أدّت العرض بشكل جيد فقد نسمح لها بالبقاء!"
تعالت ضحكاتهم، تتردد في المكان كأصداء سخرية لا تعرف الرحمة.
أما سيرين فقد كانت تقف على مقربة تشهد هذه المهزلة المقيتة.
شعرت بالڠضب يتصاعد في صدرها كبركان على وشك الانفجار الآن فهمت السبب وراء ڠضب النساء اللواتي غادرن المواعيد السابقة بوجوه متجهمة وعيون مشټعلة المهانة إذ لم يكن هذا المكان موعدًا غراميًا بل مصيدة خُطط لها بعناية وساحة سخرية لا
تعرف الشفقة.
تنفست ببطء محاولة تهدئة النيران المشټعلة في داخلها وقد شعرت بارتياح خفي لأن كوثر لم تأتِ… فلو عرفت بهذه المهزلة لظل الڠضب يأكلها أيامًا طويلة.
قادَت موظَّفة الاستقبالِ سيرين إلى الداخلِ حيثُ امتدت أمامَها أروقةُ المطعمِ الذي طالما اشتهرَ بأناقتهِ ورُقيِّه غير أنَّ هذه الليلةَ لم تكن كسابقاتها؛ فقد انزاحت عن المكانِ هالةُ الفخامةِ ليُكشف عن وجهٍ آخر غارقٍ في الفوضى.
كان المشهدُ أقربَ إلى حفلةٍ صاخبةٍ انفلتَ زمامُها حيثُ التصقت أجسادُ النساءِ بأذرعِ الرجالِ لا لشيءٍ سوى إثارةِ غيرةِ
مَن جاءوا بحثًا عن لحظةِ حبٍّ مسروقة.
وبينما كانت الأحاديثُ تعجُّ بالمُراوغةِ والتلميحات اخترقَ حضورُ سيرين الأجواءَ كنسيمٍ باردٍ وسطَ صيفٍ قائظ.
وما إن وقعتْ عليها أعينُهم حتى اڼفجرت ضحكاتُهم، كانت ضحكاتٌ مشبَّعةٌ بالتهكُّمِ كأنها سياطٌ من لهبٍ مُتطاير.
"أوه، انظروا! لقد جاءت متخفيةً بقناع!"
"ترى، هل تُخفي خلفَهُ وجهًا لا يُطاقُ النظرُ إليه؟"
لم يكن استهزاؤهم سوى عزفٍ رتيبٍ على نغمةِ الغرور غير أنَّ سيرين لم تأبهْ ولم يتغيَّرْ نبضُها ولم يَخْفِتْ وهجُ نظرتِها.
ظلَّت عيناها مُركَّزتين تبحثان عن طارق ذاك الرجل الذي احتلَّ رأس الطاولة يترنَّحُ بين كؤوسه منشغلاً بلعبةِ البوكر غير عابئٍ بما حوله كأنه ملكٌ على عرشه يُراقبُ الميدانَ دون أن يُلقيَ بالًا لصغارِ الجنود.
كم تساءلت عن ذلكَ السحرِ الذي يملكهُ ليجمعَ حوله هذا العددَ من النساءِ
المتهافتاتِ كأنَّهن نجماتٌ تدورُ في فَلَكِه.
ضحكة بسخرية إذ لم يكن هناكَ أدنى شكٍّ إنهُ أميرُ المدينةِ الحقيقي! فإن كان ظافرُ هو طاغيتها المُتنمِّر فإن طارقَ كان وجهَها الآخرَ أميرها المتوَّجُ على عرشِ المتعِ، صاحبُ اليدِ العليا في حياةِ الناس تمامًا كما يملك ظافرُ زمامَ الاقتصادِ. وكلاهما يا للعجب لم يفترقا يومًا!
لكنَّ طارق لم يلحظها، ولم يرفع عينَهُ ليكتشفَ أنَّ الزائرةَ هذه المرَّةَ ليست كوثر بل سيرين متنكرةً في اسمٍ ليس لها.
لاحَظ البعضُ صمتَها الطويلَ فتسللَ الشكُّ إلى نبراتهم.
— "هل هي بكماء؟"
تدافعت الكلماتُ حولها كأنها طوقٌ يُحاصرُ رقبتَها لكنها لم تهتزّ، الآن وقد جاءت فلن يجرؤَ والدُ كوثر على مضايقتها بعد اليوم لقد أدَّت ما عليها وآنَ لها أن ترحل.
استدارت لتنسحب غير أنَّ خطوتَها اصطدمت
بجدارٍ بشريٍّ سدَّ عليها الطريق.
كان رجلاً مُترنِّحًا تفوحُ منه رائحةُ الخمرِ الثقيلة يتأرجحُ بين وعيٍ غائبٍ وغطرسةٍ مُستفزَّة.
"إلى أين، يا آنسة كوثر؟ ألم تأتي لأجلِ موعدٍ مع السيِّد طارق؟ كيف ترحَلين دونَ أن نُلقيَ نظرةً على وجهِكِ الحقيقي؟ أزيحي هذا القناع!"
امتدَّت يدُه الوقحةُ نحوَها لكنَّها لم تكن الوحيدةَ.
ترددت حولَها ضحكاتٌ أكثر فظاظةً هتافاتٌ محمَّلةٌ بالسخريةِ والتحدي.
"لنرَ ما إن كانت تستطيعُ النطقَ فعلًا!"
لكنَّ الرجلَ المخمور لم يكتفِ بمحاولةِ كشفِ وجهها بل غاصت يداه أكثر تُحاولُ انتهاكَ مساحتِها بينما التفَّت ذراعه الثقيلةُ حولها كأفعى تُحكمُ قبضتَها على فريستِها.
في تلك اللحظة على بعد أمتارٍ من هناك كانت سيارةٌ رياضيةٌ سوداء مركونةً أمام المتجر المجاور للمطعم. وفي داخلها كان
رامي يُنصت لصوتٍ عبر سماعة أذنه، وجهه مشدودٌ، عيناه تضيقان بتركيزٍ قاټل.
قال لزكريا بنبرةٍ قاطعة:
"انتظرني هنا".
أومأ زكريا بصمت بينما دلف رامي إلى الداخل خطواته ثابتة، وكتفاه مشدودان كصقرٍ استشعر الخطړ.
داخل المطعم، كان الرجل المخمور قد نزع قناع سيرين وقبل أن يدرك أحدٌ ما يحدث كان وجهها مكشوفًا أمام الجميع.
للحظةٍ، تجمدت يد الرجل كأنما أصابه سحرُ جمالٍ لم يتوقعه.
لكن ما ألقي عليه من لعڼة لم يكن إلا قناعًا زائفًا لوقاحته المتزايدة إذ لم يكتفِ، بل حاول أن يجرها إليه كي ېمزق المسافة بينهما كما مزق قناعها.
ثم، فجأة لم يكن هناك سوى صوتٍ واحدٍ.
ارتطام جسد الرجل المخمور الذي سقط على الأرض كدميةٍ فقدت خيوطها.
وقف رامي أمام سيرين يرمقها بنظرات باردةٌ كفصل شتاءٍ قارس.
لم ينطق بكلمة لكن عينيه
كانتا تقولان الكثير.