رواية عشق لا يضاهي الفصل الخامس و الخمسون بقلم اسماء حميدة
كان المساء يُلقي بردائه القاتم على المدينة بينما وقف طارق أمام النافذة الزجاجية لغرفته يتأمل الأضواء المتراقصة على صفحة البحر لكن شهيته للطعام كانت قد انطفأت كما ينطفئ وهج الشموع عند أول هبة ريح.
لم يكن جائعًا ولم يكن في مزاج يسمح له بمشاركة الآخرين مائدةً عامرةً بالمجاملات.
لكن الجد بحنكته المعتادة لم يترك له خيارًا إذ استدعاه إلى مأدبة العشاء في الفندق متذرعًا بواجبات اللياقة لكن طارق كان يدرك أن الأمر أبعد من ذلك.
فقد كان الجد يريد أن يقدّمه إلى فتيات العائلات الأخرى كما لو كان بضاعةً ثمينةً تُعرض
على المشترين.
بمجرد أن وطأت قدما طارق قاعة العشاء الفاخرة استدعاه الجد جانبًا ناظراً إليه بعينين تخفيان وراءهما قوةً لا تقبل التحدي:
"هذه مأدبة عائلة نصران وأشك في أنك قد تجرؤ على إفسادها."
كان الجد يعرف كيف يسدد ضرباته إلى أضعف نقاط حفيده تمامًا كما يفعل الصياد اامحترف لذا لم يكن أمام طارق إلا أن ينسحب إلى إحدى الزوايا حيث جلس في عزلةٍ تشبه العزلة التي تحيط بذئبٍ جريح.
بدأ الڠضب يشتعل في عيني ذلك الذئب الأصغر كجمرٍ تحت الرماد فأحاطته هالةٌ من النفور جعلت كل من حوله يدرك أن الاقتراب منه الآن سيكون مقامرةً خاسرة لكن ما لم
يدركه طارق أن هناك عينين صغيرتين كانتا تراقبانه بصمتٍ طوال الوقت.
في الجانب الآخر من القاعة كانت دينا حاضرةً أيضًا، بالطبع وجودها لم يكن مفاجئًا لكنها رغم ذلك لم تجرؤ على التقدم نحوه ليس خوفًا من طارق بل من الجد.
كانت تعرف أن هذا الرجل العجوز لا يُلقي كلماته عبثًا ولا ينسى وعوده أبدًا فقد ظلت كلماته عالقةً في ذاكرتها تطرق جدران عقلها كلما تلاقت عيناها بعيني طارق حتى الآن، في الواقع لو لم يبحث عنها الجد في وقت سابق ليلقي على مسامعها تحذيره التالي لكانت قد أصبحت عشيقة طارق حفيده بالنظر إلى هوس طارق بها في ذلك الوقت:
"لا يهمني
من يواعدها طارق لكن امرأة بمكانتك تلك لن تدخل هذه العائلة أبدًا! وإذا تجرأتِ على إغوائه بالزواج منك فلن أتردد في أن أجعله أرملًا."
أرملًا...
تلك الكلمة كانت تحمل بين طياتها وعيدًا لا لبس فيه فهي تعلم أن الجد لا يُلقي بالتهديدات جزافًا وأنه قادرٌ تمامًا على تنفيذ وعيده ببرودٍ لا يليق إلا بالحكام المستبدين.
وسط ضوء الشموع المتراقصة على أنغام المأدبة وقف زكريا متحفزًا يراقب المشهد كذئبٍ يتحين الفرصة للانقضاض.
كانت أنفاسه محملة بالترقب وقلبه ينبض بڼار الاڼتقام، أدرك للحظة أن خصومه مجتمعون هنا عائلة والده الغادر والمرأة التي يدّعي
ظافر حبها... الجميع حاضرون.
تلبدت ملامح الصغير بغمامة من الڠضب، في ذلك اليوم لم يرَ سوى وجه طارق الرجل الذي بسببه تجهم وجه سيرين واضطر رامي التصدي لمن جمعهم طارق حوله في ذاك المطعم.
لم يأبه زكريا لمنظمي المأدبة أو لمن يقف خلف هذا الحشد، لكن الآن وهو يتأمل الأجواء أدرك أن عائلة نصران هي من تقود هذا الحفل الباذخ ورغم ذلك لم يكن هناك مجالٌ للتراجع فلا يمكن أن يغادر بهذه السهولة ليس بعد أن وطأت قدماه أرض العرين.
اغتنم زكريا غياب ظافر وتسلل بين الحضور بخطواتٍ محسوبة ومن ثم التقط كأسًا من النبيذ الأحمر القاني وتحرك بثقةٍ نحو طارق.
انحنى زكريا قليلًا وهو يمدّ يده لطارق بالكأس يقول بنبرةٍ هادئة مغلفة بالسخرية:
"يبدو أن مزاجك متعكر سيدي. تفضل ارتشف قليلاً."
رفع طارق بصره باستنكار متسائلًا عن
ماهية هذا الأحمق الذي تجرأ على الاقتراب منه وحين وقعت عيناه على الفتى الواقف أمامه ظن لوهلة أنه مجرد صبي ضال فقد كان طوله لا يتجاوز طول ساقيه.
قلب طارق عينيه مستنكراً يغمغم متأففاً:
كيف تسلل طفل كهذا إلى هذه المأدبة؟ ومن الذي أحضره إلى هنا؟
كان زكريا متخفيًا خلف قناع وجه يغطي ملامحه بالكامل، يعتمر قبعةً تخفي شعره لكن عينيه ظلتا مكشوفتين، عينان جميلتان، مألوفتان على نحوٍ غامض وكأنهما تهمسان بشيء لم يدركه طارق بعد، ورغم ذلك فقد كان طارق يكره الأطفال كراهيته للهواء العطن في زنزانة مغلقة.
أجابه طارق ببرودٍ جليدي:
"لست بحاجة إليه."
لكن الفتى لم يتراجع بل رفع الكأس أكثر حتى كاد أن يلامس شفتي طارق، وعندها قد ضاق الأخير ذرعًا عبس وهو يمد يده ليبعده بعيدًا عنه، يزجره
بصوت حانق:
"قلت لك، ابتعد!"
وكأن الرياح قد انقلبت ضده إذ فجأة انسكب النبيذ من يد زكريا مندفعًا كسيولٍ دموية ليغرق فخذي طارق بلون أحمر داكن وبالطبع هو لا يعلم أن تلك الرياح قد سخرها زكريا لصالحه فما حدث كان عن عمد.
تجمدت ملامح طارق وعيناه تقدحان شررًا بينما بدا وجهه ملبّدًا كسماءٍ عشية عاصفة.
زفر طارق پغضب لكن قبل أن ينبس بحرف تراجع زكريا إلى الخلف واتسعت عيناه ببراءةٍ مصطنعة ورعشة خفيفة اعترت صوته وهو يتلعثم:
"آسف جدًا، سيدي... لم أقصد ذلك... أقسم لك!"
حدق طارق في الصبي الماكر مشككًا في نواياه لكن قبل أن يقرر كيف يرد ارتفع صوت زكريا فجأة ناثرًا كلماته كحجارة في بركة ماء ساكنة:
"سيدي... لن تضربني، أليس كذلك؟"
وبلحظة توقفت الأحاديث والتفتت العيون نحوهما
في حين أن تسربت الهمسات بين الضيوف كدخانٍ متصاعد من حريقٍ غير مرئي.
حدق طارق في الصبي غير مصدقٍ لما يسمعه، متسائلاً بدهشة:
متى قال ذلك؟! صحيح أنه ليس رجلًا صالحًا، لكنه لم يمد يده يومًا على طفل!
وقف طارق وجهه متجهم كتمثالٍ منحوت في قلب العاصفة وبينما يحاول استعادة زمام الأمور شهق زكريا بأنفاسٍ مرتجفة واندفعت دموعه المصطنعة كشلالٍ صغير قبل أن يهمس بصوتٍ متوسل:
"سيدي... لقد أفسدت بنطالك... لا بأس! سأخلع بنطالي وأعطيه لك فقط لا تغضب مني أرجوك لا تضربني كما قلت الآن!"
ساد صمتٌ ثقيل توترت فيه الأجواء ولم يتمالك طارق نفسه من الذهول فأخذ يحدق بالفتى لحظة طويلة ثم زفر في إحباط... كيف بحق الچحيم انتهى به الأمر في مواجهة طفلٍ مستعدٍ للتضحية بسرواله من أجل ڤضيحة علنية
مدعياً أن شخص بالغ مثله قد هدده بالاعتداء؟!