رواية عشق لا يضاهي الفصل السادس و الخمسون 56 بقلم اسماء حميدة

 

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل السادس و الخمسون بقلم اسماء حميدة


بينما كانت العيون تتقاطر عليه كسهام مسمۏمة شعر طارق وكأنه يقف عاريا في ساحة عامة تفتش النظرات ملامحه تزن خطواته وتنبش في تفاصيله كأنه مچرم وقع في قبضة الضوء.
كان طارق على يقين تام بأن بقاءه في هذا المكان ولو للحظة أخرى سيجعله محور الأحاديث وهمسات التأويلات التي تنسج حوله قصصا لم يعشها قط. 
كل من لم يدرك كواليس المشهد قد يظنه رجلا ينهال ڠضبا على طفل مسكين أو ربما شخصا فقد أعصابه في غير موضعها لذا لم يكن هناك وقت للتبرير أو الهروب بالكلمات لذا اتجه مباشرة نحو الحمام كأنما يحاول الهروب من فخ استدرجته إليه الصدفة من وجهة نظره. 
أما زكريا فقد خلع قناع البراءة في لحظة واحدة وارتسمت

على وجهه ابتسامة المنتصر وبحركة محسوبة رفع زكريا معصم يده وأطلق نظرة خاطفة إلى ساعته الذكية قبل أن يلتقط صورة لطارق في تلك الحالة بعد أن نجح في إثارة غضبه إلى أقصى حد فكانت زاوية اللقطة مثالية تكاد تنطق بحكاية من طرف واحد ولم يكن ذلك كافيا بالنسبة له فالمتعة الحقيقية لم تبدأ بعد.
تابع زكريا خطوات طارق عن كثب متسللا وراءه إلى الجناح كصياد يدرك أن فريسته لم تستنزف كما يجب.
من بعيد وقع بصر شادية على زكريا فاجتاح قلبها شعور دافئ يشبه رعشة الحنين التي تسبق العناق.
تسللت نظرتها إليه كنسيم رقيق يلامس الوجوه في صباح هادئ ثم رفعت كوبها برفق إلى شفتيها واحتست منه رشفة كأنها تستطعم الفكرة قبل أن تنطق بها ثم التفتت
إلى دينا وقالت بصوت غلفته لمسة من التمني 
يا له من فتى صغير رائع يحمل في ملامحه براءة لم تفسدها الأيام وسکينة تنم عن عقل راجح. إنه مهذب ومتزن لو قدر لظافر أن يكون أبا لكان طفله على الأرجح صورة منه. 
كان وجه شادية الذي اعتاد الجمود يلين فقط أمام هؤلاء الصغار كأنهم مفاتيح سرية تفتح أبواب مشاعرها الموصدة. 
أما دينا فقد فهمت المغزى خلف كلمات شادية فذلك التلميح لم يكن يخفى عليها أبدا إذ كانت تعلم أن شادية تحثها مرة أخرى بلطف متوار خلف الكلمات على الإسراع بمنح ظافر طفلا يحمل ملامحه ويمضي باسمه في دروب الحياة.
لم تجد دينا ردا سوى إيماءة هادئة هزت بها رأسها موافقة وإن كانت أعماقها تضج بالكثير
مما لم يقل.
في ذلك الحين ما إن بلغ طارق جناحه حتى التقط هاتفه واتصل بماهر طالبا منه إحضار ملابس جديدة عوضا عن تلك التي غطاها المشروب بالكامل.
لم تمض سوى لحظات حتى أطل ماهر متأبطا حزمة مرتبة من الملابس ووضعها بعناية على الطاولة قائلا بنبرة مهنية جامدة 
لقد وضعت الملابس على الطاولة يا سيدي. 
رد طارق بإيماءة مقتضبة ثم قال بصوت خاڤت مشوب بملامح الإرهاق 
حسنا يمكنك الذهاب الآن. 
أجاب ماهر بإيجاز
مفهوم يا سيدي. 
أدار ماهر المقبض وخرج دون أن يلقي نظرة على زوايا الغرفة غافلا عن ذاك الصبي الصغير المتكوم عند طرف الأريكة كظل كامن في العتمة يراقب بصمت مترصد إذ لم يخطر ببال ماهى للحظة أن
أحدا قد يتسلل إلى

غرفة طارق فغادر مطمئنا تاركا الأقدار تعبث بمسرحها كما يحلو لها. 
داخل الحمام انهمرت المياه الساخنة على جسد طارق تذيب تعب الليلة الماضية بينما استند بكفيه إلى الجدار يحاول أن يغسل أكثر من مجرد عناء يومه لكنه لم يكن وحده في المشهد... 
عند سماع خرير المياه نهض زكريا بخفة لص متمرس يتسلل على أطراف أصابعه كقط بري حتى بلغ الطاولة حيث استقرت ملابس طارق وهاتفه ولم يتردد لحظة بل أمسك بهما واندفع نحو النافذة وفتحها بحذر.
لمعت عينا الصبي بنظرة اڼتقام طفولية ثم همس بسخرية حاقدة قبل أن يلقي بهما نحو المجهول 
هذا ما تجنيه حين تستهين بأمي... 
ولم يكتف بهذا بل اقترب من الهاتف المثبت على الجدار وبضغطة ماهرة قطع أسلاكه تاركا طارق محاصرا في عزلته. 
وقبل
أن يغادر خفض حافة قبعته على وجهه وأسرع خارجا متسللا بين أروقة الفندق المزدحمة. 
لكنه في غمرة اندفاعه اصطدم فجأة بأرجل رجل طويل معضل فارتد للخلف ككرة مطاطية ورفع رأسه في اضطراب.
تلاقت نظرات الصبي بعينين باردتين ثابتتين كأنهما تقرآن دواخله في لحظة خاطفة. 
أنا آسف... تمتم زكريا محاولا تفادي أي اشتباه. 
لكن نظرات الرجل اخترقته وسكنه إحساس غريب... كأنه يرى انعكاسا غير واضح لنفسه في تلك العيون.
رد الرجل بصوت منخفض كأنه يزن كلماته بميزان العقل 
لا بأس. 
ثم أكمل زكريا طريقه راكضا متمنيا أن يكون قناعه وقبعته قد أنقذاه من أي ريبة قد تضج بها رأس ظافر نصران لكن قلبه ظل يتسابق پجنون حتى بعدما غادر الفندق. 
وفي تلك اللحظة خرج طارق من
الحمام يجفف شعره بمنشفة قبل أن تلمح عيناه الطاولة الفارغة فتوقف لبرهة ثم الټفت بحدة يبحث بعينيه عن ملابسه وهاتفه لكن لا أثر لهما فاندفع نحو الهاتف الأرضي ليجده مقطوعا. 
شعر طارق بدمه يغلي كأن أحدا صب الزيت فوق ڼار غضبه المستعرة تأفف بضجر وهو يجز على أنيابه بغيظ فلم يكن أمامه خيار آخر سوى أن يلف المنشفة حول خصره ويفتح الباب ليجد نفسه أمام دهشة نزلاء الفندق وهم يحدقون فيه وكأنه مشهد سينمائي غير متوقع. 
بهدوء ساخر اقترب من أحدهم ليستعير هاتفه واتصل بماهر وبعد دقائق من البحث المحموم عثر على ملابسه وهاتفه ملقيين في الطابق السفلي كجثتين باردتين على أرض قاحلة. 
تناول طارق الهاتف وقلبه ينبض بالأسئلة لكنه لم يظهر شيئا فقط ضغطه بين يديه بينما ماهر
ينظر إليه بقلق قائلا 
هل يعقل أن أحدا يريد الإيقاع بك يا سيد طارق 
نظر إليه طارق نظرة غامضة ثم أجاب ببطء 
لا أظن... 
لأن من يريد إيذاءه لن يكتفي بإلقاء ملابسه وهاتفه فقد كان الأمر أشبه بمقلب طفولي لا يشبه إلا عقلية صبي... 
توقف عند هذه الفكرة وتجمدت ملامحه وهو يسترجع وجه ذلك الطفل المتنكر المدلل الذي عرض عليه مشروبا متسائلا هل يمكن أن يكون... 
ابتلع شكه قبل أن يفلت لسانه بأي اعتراف ثم قطع طارق صمت ماهر بقوله الحازم 
اترك الأمر. 
رفع ماهر حاجبيه في دهشة لكنه أطاع وإن كانت في رأسه ألف علامة استفهام. 
وما إن بدأ ماهر
في الحديث عن نتائج التحقيق الذي طلب منه حتى كان عقل طارق في مكان آخر تماما حيث أسئلة لم يكن
مستعدا لمواجهتها...
تعليقات



×