رواية ارض المنهاوا الفصل الخامس والاخير
الجميع قد عُلّقت. كانت العيون الحمراء تحدق بهم من الفراغ، وصوت اللساني طلقات كالسمّ، مخترقًا عقولهم.
"هل اعتقدتم أنكم بأمان هنا؟ هل ظننتم أن مجرد معرفة الماضي ستمنحكم القوة لمواجهتي؟"
كان صوته يتردد في الأرجاء، كأنه يتحدث من كل اتجاه في آنٍ واحد. شعر يامن بقشعريرة تسري في جسده، لكنه لم يتراجع. خطا خطوة للأمام، قبضته مشدودة، وعيناه تحدقان في الظلام.
— "إذا كنت قويًا كما تدّعي، لماذا تختبئ في الظل؟ أظهر نفسك، قاتلنا وجهًا لوجه!"
ضحك اللساني، ضحكة باردة جعلت الهواء من حولهم يزداد كثافة.
"يا فتى، القتال بالسيوف واللكمات ليس طريقتي... قوتي تكمن في الكلمات."
فجأة، بدأ الظلام يتشكل، متخذاً هيئة رجل طويل، جسده مغطى بوشاح أسود، وملامحه غير واضحة كأنها مشوشة. عندما فتح فمه ليتحدث، شعر الجميع بضغط غريب في رؤوسهم، وكأن كلماته لم تكن مجرد أصوات، بل كانت قوى خفية تحاول اختراق عقولهم لسحقها
"كلمة واحدة، وسيتوقف قلبك عن النبض، يامن... كلمة واحدة، وستنسى من تكون."
رفع الساحر يده بسرعة، مرسلاً موجة من الضوء الأبيض التي اصطدمت بالظلام، لتتراجع طاقة اللساني قليلًا.
—قال الساحر بحزم. "لن أسمح لك بذلك!"
ضحك اللساني مجددًا، ثم قال بسخرية:
"أنت مجرد بقايا ماضٍ انتهى... لن تستطيع منعي هذه المرة."
ثم أدار رأسه ببطء نحو منى، التي كانت ترتجف بجوار والدها.
"لكن الصغيرة هناك
تبدو ضعيفة. دعني أريك كيف يمكنني محوها من الوجود."
رفع يده، وتمتم بكلمات غامضة، وفجأة، بدأ جسد منى يتلاشى ببطء، وكأنها تتحول إلى دخان. صرخت يسرى بذعر، وارتمى يعقوب عليها محاولًا الإمساك بها، لكن يده مرت عبرها كأنها أصبحت غير ملموسة.
— "منى!!!"
كانت الطفلة تبكي، جسدها يختفي تدريجيًا، بينما كان اللساني يراقب المشهد بعينين ممتلئتين بالمتعة.
لكن قبل أن يتمكن من إكمال كلماته، قفز يامن نحوه بغضب، صائحًا:
— "لن أسمح لك!!!"
قبضته انطلقت نحوه، لكنه لم يضرب جسدًا صلبًا، بل مرّت يده عبره كما لو كان دخانًا. ضحك اللساني مجددًا، قبل أن يهمس بصوت منخفض:
"أنت لا تستطيع لمسيلكني أستطيع تدميرك."
وقبل أن يتمكن من إنهاء كلماته، قاطعه صوتٌ قوي، صوت الساحر الذي رفع عصاه عالياً وهتف بكلمات لم تُسمع منذ قرون:
"باسم أرض المُنى والتمني، أنا آمرك... تراجع!"
فجأة، اهتزت الأرض من تحتهم، وانطلقت دوامة من الضوء، صدمت اللساني بقوة، مما جعله يتراجع إلى الخلف، وبدأت العيون الحمراء في الاختفاء تدريجيًا.
منى سقطت على الأرض، جسدها يعود إلى حالته الطبيعية، بينما كان اللساني يحدق فيهم بغضب.
"هذه مجرد بداية... قريبًا، لن يكون هناك مكان آمن لكم، لا هنا، ولا في عالمكم!"
ثم اختفى في الظلام، تاركًا خلفه سكونًا مخيفًا.
التحضير للمعركة لم يكن سهلاً
كان الجميع يلهثون، يحاولون استيعاب ما حدث. يامن ساعد يعقوب في حمل منى، بينما جلست يسرى بجوارها تحتضنها بحنان، غير مصدقة أنها عادت.
أما الساحر، فقد كان ينظر إلى المكان الذي اختفى فيه اللساني بوجه متجهم.
— "علينا التحرك بسرعة. لقد اكتشف وجودكم، ولن يترككم وشأنكم بعد الآن."
يامن نظر إليه بجدية:
— "إذن، ما الخطوة التالية؟ كيف يمكننا إيقافه؟"
التفت الساحر إليهم، وعيناه تحملان شيئًا جديدًا هذه المرة
وقا
— "يجب أن نعرفو كيف دُمرت أرض المُنى والتمني بالكامل... هناك شيء لم أخبركم به بعد."
نظر الجميع إلى الساحر بترقب، بينما أكمل بصوت هادئ:
— "الأرض لم تُدمر بالكامل كما ظننتم... جزء منها لا يزال موجودًا، ومخبأ في مكان لن تتخيلوه أبدًا."
نظر إليه يامن باندهاش:
— "أين؟"
تنفس الساحر بعمق، ثم قال:
— "داخل المنهاوا نفسها."
ساد الصمت المكان بعد كلمات الساحر الأخيرة. الجميع كانوا ينظرون إليه بذهول، غير قادرين على استيعاب ما قاله للتو.
جاء صوت يامن يحمل مزيجًا من الصدمة والتشكيك.
"داخل المنهاوا؟ كيف ذلك؟!"
تنهد الساحر، ثم جلس على الأرض، وكأن الحمل الذي يحمله على كاهله قد أثقل من أي وقت مضى.
— "قبل أن تتحول إلى المنهاوا، كانت هذه الأرض تسمى أرض المُنى والتمني... كانت مكانًا مليئًا بالسحر النقي، حيث تتحقق الأحلام، وتزدهر الحياة. لكن كما يحدث دائمًا، الخير لا يبقى بلا عدو."
نظر إلى يعقوب ومنى، ثم تابع بصوت خافت:
— "الصراع الذي دار بين الأخوين كان أعظم مما تتخيلون. لم يكن مجرد قتال بين ساحرين، بل كان حربًا بين قوتين متناقضتين... بين النور والظلام، بين الأمل واليأس."
---
أصل الصراع
استقام الساحر في جلسته، ثم أشار بيده إلى الفراغ، فبدأت أشكال من الضوء تتكون أمامهم، كأنها رؤى من الماضي.
رأوا أرضًا جميلة، مليئة بالأنهار المتلألئة والأشجار الشاهقة التي تنبض بالحياة. في وسطها، وقف شابان متشابهان في الملامح، لكن عيونهما تحكي قصتين مختلفتين...
— "هذا هو الأخ الأكبر، اللساني، وهذا هو الأخ الأصغر... أنا."
شهقت يسرى، بينما اتسعت عينا يامن:
— "أنت؟!"
أومأ الساحر برأسه بحزن:
— "نعم... كنت أنا من حكم أرض المُنى والتمني مع أخي. كنا متكاملين، كنت أجلب النور، وهو يحفظ التوازن. لكن شيئًا ما تغير... أخي بدأ في البحث عن قوة أكبر، قوة لم يكن يجب عليه لمسها."
ظهر في الرؤية شكلٌ غامض، كيان مظلم يهمس في أذن اللساني، وعيناه تشتعلان بشيء غريب.
— "وجد قوة قديمة، قوة تجلب له ما يريده، لكن بثمنٍ باهظ."
فجأة، تحولت الرؤية إلى مشهدٍ مرعب، حيث بدأت الأرض تذبل، والسماء تتحول إلى سواد، والمياه تتبخر من الأنهار.
— "حاولت إيقافه، لكن الوقت كان قد فات... المنهاوا وُلدت من هذا الظلام، وأنا لم أستطع سوى إنقاذ جزء صغير من الأرض، وإخفائه داخل قلب المنهاوا نفسها."
عاد المشهد إلى الظلام، بينما كان الجميع ما زالوا يحاولون استيعاب ما رأوه.
تكلم يعقوب أخيرًا:
— "إذن، الحل الوحيد هو الوصول إلى هذا الجزء المخفي صحيح؟"
أومأ الساحر:
— "نعم، لكن الأمر ليس بهذه البساطة. اللساني يعلم بوجوده، وهو يحرسه بكل قوته. الدخول إليه يحتاج إلى مفتاح وهذا المفتاح ليس شيئًا ماديًا، بل هو شخص."
نظر الجميع إلى بعضهم البعض، قبل أن يسأل يامن بقلق:
— "من هو؟"
التفت الساحر ببطء إلى منى، التي كانت تراقبه بعينين واسعتين.
— "إنها هي."
منى الصغيرةرواية ارض المنهاوا
للكاتب جاسر شريف السحلي
الفصل الأخير مفتاح الخلاص
ساد الصمت للحظات، لم يقطعه سوى صوت الرياح الباردة التي تتسلل عبر الشقوق العتيقة للمكان. حدّق الجميع في الساحر وكأنهم لم يفهموا كلماته بعد.
منى... هي المفتاح؟!
بدت الطفلة الصغيرة شاحبة أكثر من أي وقت مضى، وعيناها الواسعتان امتلأتا بالخوف وعدم التصديق.
— همست بصوت مرتعش"أنا كيف وكأنها تتمنى أن يكون هذا مجرد كابوس آخر ستستيقظ منه قريبًا.
أومأ الساحر ببطء، ثم قال:
— "دمها يحمل نقاءً لم تفسده المنهاوا بعد. إنها آخر رابط بين أرض المُنى والتمني وبين هذا العالم... دمها هو ما يمكنه فتح البوابة المؤدية إلى الجزء المخفي."
هتف يعقوب بغضب:
— "مستحيل! لن أسمح لأحد بأن يمس شعرة واحدة من ابنتي!"
—أضاف "ولن نتركها تواجه هذا المصير وحدها!" وهو يمسك يد منى بإحكام
ابتسم الساحر بحزن، وقال بهدوء:
— "أعلم أنكم تحبونها، وأنا لا أطلب منكم التضحية بها. لكن اعلموا... إذا لم نتحرك الآن، لن يبقى أي عالمٍ ننقذه."
نظر إليهم يامن، ثم قال بحزم:
— "إذا كانت منى هي المفتاح فماذا علينا أن نفعل؟"
رد الساحر :سوف تعرفون ولكن عليكم اتباعي
بدأت المجموعة رحلتها عبر المنهاوا، متبعين الساحر الذي كان يسير بخطوات واثقة وسط الظلام الحالك. كانت الطرق متعرجة، والجدران تنبض وكأنها حية، تتهامس بأصوات غير مفهومة.
همست سهيلة ليامن:
— "كل شيء هنا... كأنه يراقبنا."
— "لأنهم يفعلون." أجاب الساحر بصوت منخفض.
وصلوا إلى ساحة مفتوحة، تتوسطها بوابة ضخمة مصنوعة من ضوءٍ غريب، يتلوى كالدخان لكنه لا يحترق.
—قال الساحر "هذه هي البوابة لكنها مغلقة
اقتربت منى بخطوات مترددة، بينما همس لها الساحر:
— "مدّي يدك، ودعي الأرض تعرفك."
نظرت الطفلة إلى والديها، فهز يعقوب رأسه مشجعًا رغم القلق الذي يملأ قلبه. مدت منى يدها الصغيرة إلى البوابة.
وفجأة، انفتح المكان كله في ومضة من النور، وابتلعتهم الظلمة.
وجدوا أنفسهم في عالم مختلف تمامًا. السماء هنا لم تكن سوداء، بل زرقاء صافية، والأرض كانت مغطاة بالعشب الأخضر، والهواء مشبع بعطر الأزهار النادرة.
تنهد الساحر براحة:
— "هذا هو ما تبقى من أرض المُنى والتمني... وهذا هو المكان الذي يجب أن نحميه بأي ثمن."
لكن قبل أن يتمكنوا من التقاط أنفاسهم، دوّى صوت عميق من الخلف.
التفتوا بسرعة...
ورأوا اللساني واقفًا أمامهم، عيونه تتوهج بشرّ مطلق، وعلى شفتيه ابتسامة مليئة بالظلام.
— "أخيرًا... أتيتم إليّ بأنفسكم يا أيها الغباء
وقف الجميع في ذهول أمام اللساني، الذي بدا وكأنه جزء من هذا المكان، قوته تنبض في الهواء حوله، وظلاله تتحرك كأنها كائنات حية. ابتسم ابتسامة باردة وهو يخطو نحوهم ببطء.
— "لقد استغرقتم وقتًا طويلًا لتصلوا إلى هنا."
قبض يعقوب يده بقوة، بينما وقفت يسرى خلف منى، تحيطها بذراعيها بحماية. أما يامن، فتقدم إلى جانب الساحر الطيب، عينيه مليئتان بالإصرار.
—." قال يامن بصوت حازم. "لن ندعك تدمر ما تبقى من هذا العالم
قهقه اللساني، ثم رفع يده، فاهتزت الأرض تحتهم، وبدأت السماء الصافية تظلم ببطء.
— "وهل تعتقد أنك قادر على إيقافي؟"
لم يمنحه الساحر الفرصة للحديث أكثر، بل رفع عصاه، فانطلقت موجة من النور تجاه اللساني، لكن اللساني اكتفى برفع يده، فاختفت الطاقة كأنها لم تكن.
— "لقد تأخرت كثيرًا، أخي. قوتي الآن ليست كما كانت من قبل."
بينما كان القتال بين الساحرين يشتد، شعرت منى بشيء ما يناديها. كان هناك صوتٌ خافت يتردد في عقلها، يشبه الهمس، لكنه كان واضحًا بما يكفي.
"اقتربي من البوابة... أنت المفتاح."
نظرت إلى البوابة التي ما زالت متوهجة خلفها، ثم إلى والديها. كان يعقوب مشغولًا بمحاولة حماية يسرى، بينما كان يامن يصرخ باسمها.
لكنها عرفت ما يجب عليها فعله.
ركضت بسرعة نحو البوابة، بينما حاول اللساني إيقافها، لكن الساحر الطيب استجمع قوته ودفعه بعيدًا للحظات، مما منح منى الفرصة.
وضعت يديها على البوابة، وشعرت بقوة دافئة تتدفق من داخلها. ثم، فجأة، انطلقت موجة من النور، غمرت كل شيء.
بدأت المنهاوا تهتز، كأنها تحتضر. الأرض التي كانت سوداء بدأت تضيء، والسماء تشققت، ليظهر خلفها نورٌ ساطع.
صرخ اللساني بغضب:
— "لاااااا!"
حاول الهروب، لكن قوته بدأت تنهار، وبدأ جسده ينهار معه. نظر إلى أخيه بعينين غاضبتين، ثم همس:
— "هذه ليست النهاية أنتم لا تفهمون شيئًا بعد."
ثم اختفى وسط الظلام، وكأن الأرض ابتلعته.
أما منى، فقد انهارت على الأرض، بينما ركض الجميع نحوها. كانت تتنفس بصعوبة، لكن النور من حولها بدأ يتلاشى.
نظر الساحر إلى البوابة، ثم قال:
— "لقد فعلتها، لقد أعدت التوازن... لكن علينا الرحيل الآن، فالمنهاوا لن تبقى كما هي."
وجدوا أنفسهم فجأة في عالمهم، داخل غرفة منى كما لو أن شيئًا لم يحدث.
لكنهم كانوا يعلمون أن كل شيء قد تغير.
كانت سهيلة تمسك بيد يامن بقوة، بينما نظر يعقوب إلى زوجته ومنى، وكأنهما كنز لا يريد فقدانه مرة أخرى.
تنهد الجميع براحة، لكن الساحر، الذي عاد معهم، كان لا يزال يحمل نظرة غامضة.
—سأل يامن. "هل انتهى كل شيء؟" .
ابتسم الساحر ابتسامة حزينة، ثم قال:
— "ليس تمامًا... المنهاوا كانت مجرد بداية."
نظر إليه الجميع بصدمة، فتابع بهدوء:
— "هناك عوالم أخرى... أراضٍ مثل المنهاوا، بعضها أقوى، وبعضها أقرب إلى عالمكم أكثر مما تتخيلون."
—سألت سهيلة بقلق. "ماذا تعني؟"
— "أعني أن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد."
ثم، قبل أن يتمكنوا من سؤاله المزيد، اختفى في ومضة من الضوء، تاركًا الجميع في حيرة.
بعد مرور أشهر، عاد الجميع إلى حياتهم الطبيعية، لكن شيئًا ما كان مختلفًا.
يامن وسهيلة قررا أخيرًا الزواج، بعد كل ما مرا به معًا. كانت الحفلة بسيطة، لكنها مليئة بالفرح.
أما منى، فقد أصبحت أكثر هدوءًا، وأكثر وعيًا بما حدث. كانت تشعر أحيانًا وكأن شيئًا ما لا يزال يراقبها، لكن لم تخبر أحدًا بذلك.
وفي ليلة زفاف يامن وسهيلة، بينما كان الجميع يحتفلون، ظهر في السماء قمر غريب، لم يكن هناك من قبل.
نظر إليه يعقوب بقلق، ثم همس لنفسه:
— "ماذا لو لم يكن هذه هي النهاية؟"
وبعيدًا، في مكان آخر، فتحت بوابة أخرى
وتُركت العالم ينتظر ما سيأتي لاحقًا.