رواية عشق لا يضاهي الفصل التاسع و الستون 69 بقلم اسماء حميدة

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل التاسع و الستون بقلم اسماء حميدة


كان الوقت يزحف ببطء في زوايا المكان يلف كل شيء بهدوء قاټل كأن الزمن نفسه يختبئ بين الجدران مترقبا.
الضوء يتسلل من النوافذ المعتمة كأصابع شبح يحاول استراق النظر ومالك جالس أمام زكريا وجهه مضاء بنصف ظل كأنه يحمل سرا يتأرجح بين الاعتراف والصمت.
قال مالك وصوته يقطر براءة كالمطر الأول على أرض عطشى 
سمعت والدي يتحدثان ليلا... فقد قالا إن العم ظافر لا يحب السيدة دينا لكنه يرافقها لأنها أنقذت جدتي شادية ذات يوم عندما كانت بين الحياة والمۏت أنقذتها فصار على العم ظافر أن يرد الجميل.
سكنت كلمات مالك بينهما لحظة كأنها طلقة خرجت من مسډس في غرفة مغلقة لا تحدث صوتا لكنها في مقټل.
ثم أضاف بنبرة لا تخلو من الخۏف المتسلل خلف ثقته 
وأنا... أنا رأيت العم ظافر يدفع السيدة دينا وكأنها ثقل يرهقه لا امرأة يحبها.
كان زكريا يراقبه بعين يطفق بها مزيج من الدهشة والريبة فهو لم يكن ليحفر في ماضي أبيه لكنه بمحض صدفة ضړب المعول في المكان الصحيح.
كلمة هنا صورة هناك والحقيقة بدأت تخرج من القپر الذي دفنت فيه لسنوات.
اقترب زكريا قليلا وقال ونبرته مشوبة بالتحليل لا التصديق 
هذا تفسيرك أنت... لا الحقيقة.
توقف الزمن بينهما وارتجف جفن مالك كأن تلك الكلمات صفعت قلبه الصغير لكنه سرعان ما تماسك ونفخ صدره وكأن الكبرياء نفسه استعاره للحظة
هذا الأسبوع سيقام احتفال كبير في بيتنا بمناسبة عيد ميلاد جدي الأكبر والسيدة دينا ستكون هناك وكذلك أنا ووالدي فإن كنت لا تصدقني فتعال معنا. فرأي العين لا ېكذب.
ثم ارتسمت على شفتي مالك ابتسامة صغيرة لم تخل من التحدي وأضاف 
ألا ترى الأمر بسيط جدا... فقط احضر وستفهم كل شيء.
صمت زكريا وتاه قليلا في عمق عيني مالك وكأن فيهما بئرا من الأسرار ثم أدار وجهه ناحية النافذة حيث كانت الشمس تتكئ على كف الغروب وقال
اتفقنا. سأذهب معكم... وإن ثبت صدقك سأقر بذلك لكن بشرط.
نظر إليه مالك بتوجس 
ما هو
ابتسم زكريا تلك الابتسامة التي تخفي أكثر مما تظهر وقال يتصنع الفكاهة 
أريد أن أتناول كل الأطعمة الشهية التي ستقدم في الاحتفال.
ضحك مالك وكأن الشرط مسل أكثر من كونه طلبا جادا وهز رأسه موافقا.
لكن داخل زكريا كانت النيران تتراقص كأن الفتى كان بداخله يشحذ سکين انتقامه.
لم يكن هدف زكريا الاحتفال ولا الطعام بل كان يطمح أن يرى تلك المرأة... دينا 
دينا التي تجرأت على سړقة أبيه وكأنها لصة عواطف تنتزع الحب من صدور من حولها بلا رحمة. 
دينا التي وضعت يدها على عمل أمه كأنها ټحرق جهدها بولاعة من ذهب.
كان يريد أن يراها بعينيه لا ليسأل بل ليواجه... ليجرها إلى ساحة الحقيقة ويجعلها تتعثر بكذبها أمام الجميع.
في عقل الصغير كان الاحتفال أشبه بساحة معركة... وهو الآن جنرال صغير يخطط لحربه الأولى.
في صباح لفه الرماد الناعم انطلقت سيرين بسيارتها تطارد وجهة واحدة لكنها كانت تهرب من ألف وجهة داخلها.
السماء كانت تبكي والمطر ينهال كأسرار تسقط من بين أهداب الغيم وداخل السيارة كان الصمت سيدا لا يقطعه سوى صوت المساحات وهي تتنقل على زجاج النافذة كبندول ساعة قديمة يحاول محو الذاكرة.
كانت عيناها معلقتين بالخارج تحدقان في قطرات المطر المتسارعة وكأنها ترى انعكاس قلبها المتعب على كل قطرة ټنفجر على الزجاج.
قال السائق وهو ېختلس النظر إليها عبر المرآة ونبرته مشبعة بالحكمة والحنين
سيدة تهامي... السيد كارم يشاركك هذا الطبع لطالما جلس في المقعد الخلفي يحدق خارج النافذة بنفس

الطريقة وكان يقول دائما إن هناك فتاة صغيرة كانت تحب التطلع إلى المطر عبر النافذة وتؤمن أن قطراته تغسل الهموم من الروح... ويبدو أن تلك الفتاة كانت أنت.
ابتسمت سيرين وقد ارتسم على محياها شبح ذكرى بعيدة كأن الزمن فتح أمامها نافذة على طفولتها وهمست
لا بد أنني قلت ذلك فعلا... لكنني نسيت.
قال السائق وفي عينيه لمعة من إيمان بالقدر
أحيانا يعيدنا القدر إلى من كنا لنلتقي بما افتقدناه... السيد كارم وأنت لم يكن لقاؤكما الأخير صدفة.
لم تجبه لكن قلبها صمت فجأة كأنه يصغي. 
هل كان لقاؤها بكارم قدرا أم اختبارا 
أم لعله بداية شيء لم تفهمه بعد
ما هي إلا لحظات حتى توقفت السيارة أمام بوابة فيلا كوثر التي بدت في ضباب المطر أشبه بقصر قديم يخفي حكايات خلف جدرانه العتيقة. 
فتحت سيرين باب السيارة وكان الهواء المحمل برائحة الأرض المبتلة يلامس بشرتها كنسمة مشحونة بالذكريات.
استقبلها زكريا وكوثر معا كمن كانا ينتظرانها بشغف صامت.
قالت كوثر بابتسامة دافئة 
سيرين تفضلي أنا وزكريا كنا ننتظرك لتناول الفطور.
لم تنطق سيرين بشيء لكن عينيها كانتا تنطقان بالشوق فمنذ أيام لم تر ابنها وحين وقعت عيناها عليه لم تتمالك نفسها فقامت باحتضانه كما لو كانت تضم إليه عمرا فاتها.
مررت سيرين يدها على خد زكريا بلطف وقالت بصوت تغلفه عاطفة الأمومة
كيف حالك في المدرسة مؤخرا
احمر وجه زكريا خجلا كأن السؤال نكز فيه شيئا دفينا وأجاب بصوت خفيض
كنت بخير... أمي.
تدخلت كوثر وهي تضحك بخفة
ابن أخي يخبرني بأنه أصبح محط أنظار الفتيات في مدرسته... يبدو أنه يسرق الأنظار من كل الفتيان الآخرين.
ضحكت سيرين وقد لمح قلبها ظلا من فخر مستتر فزكريا لم يرث منها الملامح فقط بل ورث أيضا ذلك البريق خاصة أبيه الذي يترك أثرا أينما حل.
أمي لقد كنت أحاول أن أتصرف بأفضل ما يمكنني أضاف زكريا بإصرار صادق.
فركت سيرين خديه مرة أخرى بطرفي أناملها ثم قبلت جبينه قبلة مطولة كأنها ختمت على قلبه أمانها الأبدي تقول بحنو
وهذا كل ما أريده منك.
خجل زكريا أكثر وتحولت وجنتاه إلى ثمار طماطم ناضجة وظل لدقائق يبحث عن جملته التالية حتى تذكر وقال
بالمناسبة يا أمي... غدا سأذهب إلى منزل أحد الأصدقاء.
لم يخبرها أن هذا الصديق هو مالك ولم يرد لها أن تعرف.

لكن سيرين بحماس الأم التي ترى ابنها يفتح نافذة على العالم أجابت
أوه هل كونت صداقات بالفعل هذا رائع! إذا عليك أن تنام مبكرا الليلة.
تمتم زكريا بخفوت
سأفعل أعدك.
حل المساء بهدوء وانسحب زكريا إلى فراشه تاركا كوثر وسيرين تغوصان في حديث نسائي دافئ. 
كانت الأضواء خاڤتة والشاي يبخر في فناجين زجاجية حين أخرجت كوثر من حقيبتها مظروفا يحمل بداخله دعوتين أنيقتين.
وضعت إحداهما أمام سيرين وقالت وهي تتأملها
دعوة لحفل عيد ميلاد السيد نصران الأب غدا سيبلغ الثمانين وسيكون جميع وجوه المدينة البارزة هناك.
ترددت سيرين ثم سألت بفضول
وما علاقتي أنا بذلك
تنهدت كوثر وقالت بنبرة هادئة تحمل ما بين السطور
أبي كالعادة يتدخل في شؤوني إذ يظن أن قصور نصران مليئة بالفرسان العازبين فحصل لي على هاتين الدعوتين ففكرت... أليست لديك رغبة في الاقتراب من ظافر هذه فرصتك سيرين.
حدقت سيرين في الدعوة وكانت تشعر أن الورقة التي في يدها ليست مجرد دعوة... بل مفتاحا لباب لا تعرف إن كانت مستعدة لعبوره أم لا.
تعليقات



×