رواية عشق لا يضاهي الفصل السبعون بقلم اسماء حميدة
لم تستطع سيرين كتمان ما فاض به قلبها من امتنان وجاءت كلماتها مبللة بالعرفان وكأنها نسجت من ندى الصباح
شكرا لك كوثر.
أجابتها كوثر بابتسامة مشرقة كنسمة هاربة من صهد الصيف
لا عليك في المرة الماضية كنت المنقذة في ذلك الموعد الغامض واليوم حان دوري لأكون السند دعي الأمر لي وسنخوض هذه المعركة سويا.
كوثر كانت تكره تلك الولائم كما تكره الطيور الأقفاص فهي تشعر أنها تقاد إليها كالحمل المقاد إلى المذبح.
فقبل سفرها كان والدها يصطحبها إلى تلك الحفلات كما يصطحب الصياد طعمه والغاية كانت واحدة صيد رجل يعلوهم مالا ونفوذا.
رجال ببدلات فاخرة وأرواح خاوية يتبادلون الضحكات المزيفة.
فقد سئمت كوثر تلك المسرحية الباهتة فتنفست بضيق وقالت
حسنا.
نظرت إليها سيرين فوجدت في عينيها ڼارا لا تخبو فدوما ما كانت كوثر تصنع من الكلمات شحنة من الحماسة وقالت مازحة بنبرة ملغومة
هذه المرة عليك أن تكسري قشرة الجليد التي تحيط به وتحصلي على كنزه المكنونالسائل المنوي!
ضحكت سيرين بخفة وكأنها تخفي رغبة جامحة تحت ستار السخرية قائلة
أجل علي القيام بذلك وفي أقرب وقت ممكن
كانت سيرين على وشك أن تظفر به في المرة السابقة لولا أن الحظ خاڼها أو ربما خانهما التوقيت ولكن غدا سيكون الأمر مختلفا... فعليها أن تخطط بدقة كجاسوسة في مهمتها أخيرة.
ثم لمعت في عينيها فكرة كبرق مزق غيوم الحيرة فسألت
أتعتقدين أن دينا ستكون هناك أيضا
أجابت كوثر بثقة امرأة تعرف خبايا اللعبة
دون شك فهي لن تفوت فرصة التقرب من عائلة نصران... بل ستزحف لتكون قطعة من أثاث قصر نصران إن تطلب الأمر.
ابتسمت سيرين لكن في ابتسامتها طيف من مكر أنثوي كأنها تخطط للثأر بجناحين من حرير
هذه المرة... دينا ستنال نصيبها من اللهو.
استيقظ زكريا على غير عادته قبل أن تستفيق شمس الصباح من خدرها والقلق ينهش أطرافه لا لأنه على موعد مع الفخامة بل لأنه خشي أن تكتشف سيرين ما يخفيه في صدره كمن يخفي سيفا خلف ابتسامة.
كانت سيرين بقلبها الذي يرف كجناح حمامة قد أعدت له صندوقا صغيرا تزينه شرائط من الحرير لتكون هدية يقدمها لصديق ولكنها لم تكن تعلم أن هذا الصديق ما هو إلا مالك الحفيد المدلل لإمبراطورية نصران ولم يجرؤ زكريا على مواجهتها بالحقيقة.
كان زكريا يعلم أن اسم نصران يشعل في عقل سيرين أجراس الخطړ وأنها لن تسمح له باقتراب من عائلة نسجت حولها الأساطير وارتبطت بالمجد كما ترتبط الشمس بالأفق أو ربما لكون ظافر أحد أفرادها وهي جاهلة بأن زكريا يعلم ذلك السر الذي تعتقد أنها تخفيه في زاوية عقلها عن صغيريها لذا فقد اخترع زكريا اسما زائفا وهمس في أذنها باسم زميل عادي من الصف لتطمئن وتسكت هواجسها.
عند بوابة الروضة حيث تتقاطع البراءة مع البدايات وقف زكريا بانتظار مالك ولم تمر دقائق حتى انسلت من الشارع سيارة سوداء لماعة تهدر كما يهدر أسد في قفص مفتوح.
توقفت أمام زكريا سيارة عائلة نصران ذلك المخلوق المعدني الأسطوري الذي جعل زكريا على صغره يبدو وكأنه نملة تقف أمام قصر من زجاج.
انفتح الباب الخلفي وخرج منه مالك كأنه أمير من قصص ألف ليلة يكسوه غرور ناعم ويشع من عينيه بريق التملك يقول بزهو
أراهن أن عائلتك لا تملك سيارة كهذه أليس كذلك قالها بثقة ملك على رأسه تاج مرصع لا ليسأل بل ليقر ذلك.
أجاب زكريا بنبرة هادئة خالية من الانبهار
أغلى سيارة في عائلتي لا تساوي سوى حفنة من الآلاف... مجرد حديد يلمع.
ضحك مالك وسحب زكريا ليجلس بجانبه وكأنه يضمه إلى عالمه المسور بالنفوذ مردفا
من الآن فصاعدا التزم بي وسأمنحك واحدة مثلها عندما تكبر.
لكن زكريا لم يبتلع الطعم وأجاب بحدة مغلفة بالبرود
لنتحدث عن هداياك حين تصبح حرا في اتخاذ قراراتك.
وكأن سهما غرس في صدر مالك فارتسمت على وجهه ملامح الڠضب وقال
ما الذي تقصده! ستدرك من أكون عندما تطأ قدماك منزلي.
والحق يقال كان زكريا قد لمح بالفعل أبعاد المكانة التي يحظى بها مالك داخل أسوار نصران.
مالك لم يكن مجرد طفل بل كان قطعة من ذهب تمشي على قدمين بين الناس فقد كانوا يحضرونه ويأخذونه بسيارات ذات نوافذ داكنة تحرسه فرقة من الأجساد الصلبة والعيون اليقظة.
بل إن أفرادا من العائلة كانوا يأتون بأنفسهم إن سنحت لهم الفرصة كما لو كانوا يحوزون رمزا مقدسا من معبد عريق.
وفي طريقهما إلى القصر أخذ مالك يتحدث لا كما يتحدث الأطفال بل كما يتحدث وريث عرش مرصع بالألماس.
طائرات خاصة حدائق سرية غرف لا يدخلها إلا الصفوة...
لكن زكريا لم يشعر بغصة الحسد فقط نظر من النافذة وابتسم لنفسه فهو يعلم أن السماء لا تعطي أحدا كل شيء وأنه سيحصل على ما يشاء ذات يوم لكن بثمن من عرق الطموح لا صدفة الوراثة.
وأخيرا وصلوا قصر نصران الذي لم يكن مجرد بيت بل كان كيانا بذاته... كائن ضخم يزحف على مساحة من الأرض توازي ثلاث ملاعب لكأس العالم لا بل مجرة من الرخام الأبيض تعجز العين عن الإحاطة بها من أول وهلة وتحتاج ليوم كامل لتكتشف أطرافها.
كل حجر فيه يروي حكاية وكل نافذة به تطل على بعد آخر.
كان جزء منه مصمما على طراز قديم يعانق التاريخ وتقول الروايات إن أحد عوارضه الرئيسية صنعت من خشب نادر يقال إن ثمنها يعادل أسطولا من السيارات.
ترجل زكريا برفقة مالك وتقدمت نحوهما خادمة بانحناءة رقيقة كأنها تستقبل نبلاء من عصور غابرة.
وأثناء صعودهما درجات القصر لم يستطع زكريا أن يخفي تلك المشاعر المتضاربة في صدره إذ كان يحدق في
العظمة التي أمامه لكنه في داخله كان يقاوم ذكرى قديمة... كان يتمنى ولو ليوم واحد أن يكون ابنا لرجل لا يخجل منه.
كان يعرف أن هذه العائلة رغم هالتها لم تولد تحت الشمس الذهبية... بل كان ظافر هو من أوقد شعلة المجد ووسع الإمبراطورية. وبالرغم كره زكريا لظافر إلا أنه لا ينكر أن ظافر رجل حول الحلم إلى سلطان والورق إلى ذهب.
قال مالك وقد استدار نحوه ونبرة الكبرياء تتسلل إلى كل كلمة من كلماته
أليس بيتي رائعا أتدري هذا المكان... سيكون ملكي ذات يوم!