رواية عشق لا يضاهي الفصل الواحد والسبعون 71 بقلم اسماء حميدة

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل الواحد والسبعون بقلم اسماء حميدة



أدار زكريا رأسه بهدوء كمن يهرب من وهج الضوء إلى ظلّ الحائط وأجاب بصوتٍ غارق في اللامبالاة:  

"بالتأكيد..."

كانت الكلمة كسکين مغطاة بالحرير تقطع ثقة مالك دون أن تُحدث جرحًا ظاهرًا.

رمقه مالك بنظرة ممتزجة بالشك والضيق وكأنها ومضة نارٍ تخبّطت داخل صدره وقال بتحدٍ يشبه صړاخ غرورٍ صغير:  

"لنذهب إلى قاعة الضيوف... فقط انتظر سأُثبت لك من أكون!"

ردّ زكريا بنبرة لا تخلو من السخرية:  

"حسنًا... لنذهب."

في تلك اللحظة كانت قاعة الاستقبال تتحول تدريجيًا إلى لوحة من الفخامة المتعمدة.

الأرض تلمع كبريق الحليّ والعطر يملأ الأركان كما تملأ الموسيقى أذن العاشق.  

كانت شادية زوجة ابن كبير العائلة تقف كقائدة أوركسترا تهيئ العزف قبل العرض الكبير، تُشرف على كل تفصيلة من ترتيب الزهور إلى مزاج الخدم.

قالت شادية بصوتٍ هادئ لكنه يقطر سلطةً:
 
"اليوم هو عيد ميلاد السيد نصران الأب... انتبه لكل تفصيلة."  

ثم رفعت بصرها إلى كبير الخدم كأنها تُلقي عليه وصايا مقدّسة وأردفت:  

"وإذا ما ظهرت شابات مناسبات من عائلات رفيعة... أبلغني فورًا."

كان في نبرتها ما يُشبه الصراع الصامت ذلك النوع من الخۏف الذي ينمو في الظلال.  

فدينا، تلك التي رافقت ظافر قبل سنوات، لم تُرزق منه بطفل بعد لكن ما لم تعلمه شادية هو أن ظافر وريث المجد والدم البارد لا يهوى العلاقات العابرة ولا يرتمي في حضڼ النساء سهلة المنال كما يفعل البعض فقد كان ينظر إلى دينا كما ينظر ملك إلى جارية حاولت التسلل إلى عرشه.

وهكذا بقيت شادية سيدة الحسابات الصامتة تترقب اڼهيار دينا كخطوة أولى نحو نصرٍ آخر.

"مفهوم يا سيدتي." قالها كبير الخدم وانحنى باحترام وخرج.

وقبل أن يختفي الخادم خلف الباب لمح مالك وزكريا يقتربان، فأشار بأدب:  

"سيد مالك..."  

لوّح له مالك بلا مبالاة كأنّه يحيي أحد خدّامه المخلصين فتابع الخادم طريقه وانصرف في صمت.

لكن عيون شادية كانت تراقب، عيونٌ اعتادت أن تُحلّل قبل أن تُحدّق.

لطالما شعرت شادية تجاه مالك حفيد أخيها بشيء أقرب إلى الجفاء، للحق هي لم تكن تكرهه علنًا، لكنّها لم تحبّه أبدًا بل كانت تُتقن فن التمثيل، تُلقي عليه نظرة مزيفة كلّما حضر، تُبدي العطف أمام الآخرين، وتُخفي الجفاء خلف حجاب مصقول بالصبر.

واليوم كادت أن توبّخه بصوتٍ ناعم وتطلب منه أن يذهب ليلعب في مكانٍ آخر بعيدًا عن دوائر نفوذها... لكن فجأة تسمر بصرها على الطفل الذي يقف إلى جانبه.

تجمّدت أعين شادية للحظة وكأنها رأت شبحًا يعود من الماضي.  
ذلك الصبي...  
تلك الملامح...  
كأنّ وجهه استُخرج من لوحةٍ قديمة لظافر في طفولته.  

الأنف، العينان، حتى نظرة التحدي الصامتة.

لم تدُم لحظة الذهول طويلًا لكنها كانت كافية لتوقظ شيئًا قديمًا في صدرها.

أفاقت من شرودها ثم التفتت بسرعة وقالت لأحد الخدم بنبرةٍ صارمة لكنها مشوبة بالاهتمام:  

"أحضِر مالك... والفتى الذي معه حالاً."     أجابها الخادم بطاعة:

"كما تأمرين، سيدتي."

وضعت شادية الزهور المتبقية جانبًا وكأنها تُنحي شيئًا من قلبها لم يعد يصلح للزينة.

أصابعها التي اعتادت الانضباط ارتجفت لوهلة كمن لامس البردَ أوردتها.

في ذلك اليوم لم يُخفِ زكريا وجهه خلف قناع بل جاء كما هو عاريًا من التحايل غير متأهّب لمفاجآت القدر إذ لم يكن في حسبانه أن تكون أول من يعترض طريقه داخل هذا القصر هي ذاتها المرأة التي كان اسمها يُهمس على لسان أمه بمرارة… المرأة التي نكأت جراح والدته في زمنٍ مضى إنها الجدة شادية.

نادت مدبرة المنزل الصبيين بلهجة مدرّبة لا تملك روحًا بل تؤدي وظيفة، فتقدّم مالك يتباهى بنفسه وكأنّه يُقدّم قطعة نادرة إلى متحف زجاجي:  

"هذه والدة عمي ظافر... الجدة شادية."

اكتفى زكريا بنظرة سريعة وقول مقتضب:  

"أرى."

كان زكريا يقترب بخطى ثابتة بينما عينا شادية لا تبارح ملامحه كأنها تحاول تفكيك شفرة غامضة محفورة على جبينه.  

كل خطوة منه كانت تشبه صفحة تُقلب من كتابٍ قديم... كتابٍ كانت تظنه قد أُحرق منذ زمن.

هو لم يكن يشبه ظافر وحسب... بل بدا كما لو كان هو ظافر نفسه وقد عاد بآلة الزمن إلى صباه.

زكريا بعينيه الواسعتين التقط ارتباكها وذلك النوع من الحذر البارد الذي يشي بالخطړ إذ قرأ بنظراتها استفساراً لم يُسأل بعد، وتساءل في داخله إن كانت قد استشعرت سره.

"مرحبًا جدتي شادية."  

قالها مالك بطاعة روتينية كما يلقي  الجنود التحية العسكرية على الضباط.

ردّت شادية تحية مالك بإيماءة باهتة كرد دين لا أكثر.

ثم جاء صوت زكريا هادئًا كنسيمٍ يسبق العاصفة:  

"مرحبًا سيدة نصران."

ذاك الصوت...  

ذاك التهذيب النابع من طينة مختلفة
ذوّب جليدها وجعلها تنحني لا بجسدها بل بانتباهها الكامل.

شادية لم تعد تُبصر مالك، لم تعد تُبصر القاعة.  

كل شيء تلاشى ولم يبقَ في المشهد سوى هذا الطفل... هذه الملامح... وهذه الرجفة التي سرَت في صدرها كذنبٍ قديم.

صوتها خرج على غير العادة ناعمًا، كأنّها تحاور حُلمًا خشيت أن يضيع:  

"ما اسمك يا صغيري؟ أين تقيم؟ كم تبلغ من العمر؟"

كلماتها تساقطت كحبات مطر على تربةٍ عطشى بينما كان زكريا ينظر إليها بدهشة مكتومة، وتسائل:

كيف يمكن لتلك المرأة التي سمع عنها من والدته قصصًا باردة كالشتاء أن تبتسم هكذا؟ أن تتودّد كجدةٍ حنون؟  
شيء ما كان خاطئًا... أو ربما، شيء ما كان يتغيّر.

أجاب بحذرٍ مغلّف بالعفوية:  

"اسمي زكريا تهامي... أعيش هنا في المدينة وسأُتمّ عامي الرابع قريبًا."

كان قد اختار كلماته بعناية كمن يسير على حافة شفرة.

لم يُفصّل، لم يُفصح؛ خشية أن يورّط أمه في معركة لا وقت لها.

لكن الاسم...  
ذاك الاسم!

"زكريا... تهامي؟"  

ردّدته شادية وكأنها تتذوق طعمه في فمها للمرة الأولى.

ثم سألته، بخيط ارتباكٍ ينسلّ من صوتها:  

"هل اسم عائلة والدك تهامي؟"

ارتبك زكريا للحظة ثم أومأ برأسه بصمتٍ ثقيل.

شيء ما تبدّل في وجهها كأن ذكريات ولّت قد خرجت من جحورها لتنهش يقينها.  

لكنها لم تستسلم.

اقتربت أكثر وعيناها تُضيّقان الخناق على الحقيقية:  

"ومن هي والدتك؟"

رأى زكريا في عينيها ومضة...  
ومضة لم تكن مجرّد فضول بل اكتشاف مفاجئ كأن أحدهم أضاء فجأة مصباحًا في غرفة مغلقة منذ سنين.
تعليقات



×