رواية عشق لا يضاهي الفصل الرابع و الثمانون 84 بقلم اسماء حميدة

رواية عشق لا يضاهي الفصل الرابع و الثمانون بقلم اسماء حميدة



فجأة انقبض صدر ظافر كما لو أن جدارا من الضباب انزلق إلى رئتيه وسد عليه التنفس شعر أن الهواء ثقيل ثقيل بما يكفي ليخنق فكرة أو ليغرق قلبا.
وضع الوثائق التي كانت بين يديه على سطح المكتب كمن يلقي عنه ثقل جبال لا تطاق ثم الټفت إلى ماهر وقال بصوت فاتر بدا وكأنه يقاطع نبضات قلبه
وظف رئيسا تنفيذيا... فورا.
تجمد ماهر في مكانه وكأن الكلمات اصطدمت بعقله فخلفت رجفة في مراكز إدراكه وهتف متوجسا 
سيد نصران... ما الذي يحدث معك
رفع ظافر عينيه وكانتا كمرآتين مشروختين تعكسان ألما لا يقال وقال بصوت أقرب إلى التنهد منه إلى الحديث 
أحتاج إلى راحة ولو لفترة لا أريد أن يزعجني أحد إلا إذا كان الأمر لا يحتمل التأجيل.
كان من المعتاد في عالم المال أن تدار الشركات الكبرى عبر رؤساء تنفيذيين لكن هذا القرار... من ظافر! بعد قراره هذا وكأن الطقس قد تبدل في لمح البصر من صيف مشمس إلى عاصفة ثلجية إذ لم يكن ظافر رجلا يفوض الأمور لغيره فمنذ أن تولى زمام الشركة كانت أصابعه تكتب على كل ورقة ونظراته تراقب كل تفصيلة كمن يحرس حلمه من الاڼهيار.
أما الآن فهو ينسحب... يتراجع كقائد أدرك أن المعركة خاسرة حتى قبل إطلاق الړصاصة الأولى.
احتاج ماهر إلى دقائق طويلة حتى يستوعب الصدمة التي اعترت كيانه ثم قال بنبرة يغلفها الذهول 
نعم... سأقوم بنشر إعلان التوظيف حالا.
وما إن غادر ماهر الغرفة حتى عاد الصمت سيدا للمكان واختلطت أنفاس ظافر بأنين الأوراق.
جلس وحده يقرأ الوثائق تكرارا كمن يبحث بين السطور عن مخرج لم يوجد أو لعله كان يتمنى أن يجد تفسيرا واحدا يبرر كل هذا الخړاب... لكن كل الطرق كانت تؤدي إلى اسم واحد سيرين.
كانت سيرين تتقافز بين أفكاره كظل لا يغيب وكأنها طيف يعاند النسيان كلما حاول طرده التصق بجدران ذاكرته أكثر.
زفر پاختناق وتقاذفته الأفكار فكيف له أن يقبل بهذه النهاية! لقد قضى عمره في الركض خلف المجد وراء الأرقام بين الصفقات وأضواء النفوذ.
كان يكد ليلا ويصحو قبل الضوء لا ليعيش... بل ليثبت أنه ليس من أولئك الذين يؤكلون باسم الطيبة.
كان يجمع المال لا حبا فيه بل كأنه يجمع شظايا كرامته بعد ما سرقه آل تهامي من اسمه. كان المال وسيلته للاڼتقام... سلاحا باردا يغرسه في ذاكرة مجتمع لم يرحمه يوما.
لكن بماذا نفعه المال 
لقد صار عنوانا ساخرا في مجتمع النخبة يهمسون باسمه كأنهم يروون نكتة قاسېة ذلك الأحمق الذي خدع باسم الحب وظن أنه يستطيع شراء النفوذ بأنثى!
لم يخسر ثروته فحسب... بل خسر كبرياءه اسمه وحتى قدرته على الحب.
ولم تكن الطامة فقط فيما خسره... بل في ما أجبر عليه فقد تزوج من امرأة صماء لا تسمع

لا تتواصل إلا عبر الصمت... كأن القدر أراد أن يعيد عليه مشهد العزلة المجتمعية كل يوم في صورة زوجته.
وفي النهاية ماذا فعلت 
غادرت حياته تحت ذريعة فقدان الذاكرة تنكرت له كأنه لم يكن شيئا في عالمها ثم اختفت كغيمة لم تمطر أبدا تاركة وراءها صحراء من الندم.
تركته... عمدا. 
والأسوأ من الخسارة أن تخسر وأنت لا تزال تحب.
عند تلك الفكرة التي عبرت ذهنه كرمح من لهب شد ظافر ربطة عنقه بشيء من الحدة كأنما يخنق بها نواياه المشټعلة.
لم يعد يحتمل لعبة التظاهر وقرر أن يستعيد الطفل بنفسه ثم يكشف قناع فقدان الذاكرة المزيف الذي ارتدته سيرين بدهاء ملاكي وبعدها سينزل عليها عقاپا يليق بمن عبثت بكبريائه حتى تتعلم ألا تتلاعب بالنمر حين يكون نائما.
كان عقله كخلية نحل متمردة تضج بالأفكار والاحتمالات والخطط إلى أن قطع طرق على الباب خيوط أفكاره المتشابكة.
ادخل.
دفع الباب بهدوء لتدخل العاصفة...
سيرين.
كانت ترتدي فستانا بلون الفجر كأنها قطعة من الضوء تمشي على قدمين.
وقفت عند العتبة تنظر إليه بعينيها اللامعتين كنجمتين نضجتا في سماء معتمة وفي عينيه... انعكس كل شيء.
بلا وعي مد يده مرة أخرى إلى ربطة عنقه يريح انعقادها كما لو أن رؤيتها زلزلت نظامه الداخلي فحاول أن يعيد التوازن الشكلي الذي يليق بظافر نصران.
ما الأمر سيدة سيرين سأل وصوته مشوب بجفاف مصطنع.
دخلت بخطوات هادئة لكن وقع كعبها العالي كان كطبول حرب في صدره عيناه ظلتا تتابعا تقدمها المتريث فبدت بجمالها وجاذبيتها كأنها خرجت للتو من لوحة لامرأة لا تنتمي إلى هذا العالم... تأملها بذلك الرداء المثير الذي يعلن عن جسد صار أكثر رشاقة أكثر نضجا... أكثر خطړا وعندما انحنت لتضع مستندا على مكتبه ارتبك الهواء من حولها وارتبك ظافر معه ظافر الذي رأى ما لا ينبغي فابتلع بتوتر ثم حاول أن يشيح بوجهه عنها كمن ېخاف من ذنبه لكنه لم يستطع كأن نظراته ټخونه وتعود إليها رغما عنه.
تأفف بضجر حالما تآمرت عليه أفكاره فسيرين... زوجته بأي حق يمنع نفسه من النظر إليها!
شرد بها وعينيه تلمعان بانبهار وتقييم يقر بأنها أيقونة من الجمال... كم تغيرت وكأن الزمن قد أعاد تشكيلها ليجعلها أكثر سحرا وأكثر حضورا مما كانت.
لم تلحظ سيرين عينيه الهاربتين إلى جسدها ولم تتخيل يوما أن هذا الرجل الذي يحمل على كتفيه صرامة الجبال يمكن أن يفتن أن يذوب أن يهتز.
سيد نصران لقد أجريت بعض الأبحاث حول المشاريع الخيرية... هذه بعض الاقتراحات. أرجو تنفيذها.
قالتها بنبرة عملية لكنها كانت تخبئ الكثير خلف الكلمات. 
ثم أضافت 
الأهم هو أن نبذل كل جهد ممكن لضمان التعليم لهؤلاء الأطفال من ذوي الإعاقات...
كانت تبحث عن حجة عن ذريعة نبيلة تقودها إلى هنا.
لكن الحقيقة أنها كانت تريد فقط أن تراه أن تشعر بنبضه
ولو خفية رغبت وبكامل إرادتها أن تقترب من ضوءه المحظور.
والحقيقة الأخرى... أنها كانت طفلة مثلهم ولدت بنقص بنقطة ضعف لكنها قاومت وحين تتحدث عنهم فهي تتحدث عن ذاتها الصغيرة التي ظلت تصرخ داخلها طوال السنوات.
بدأت تشرح أفكارها نقطة تلو الأخرى وصوته الداخلي لا يسمع شيئا سوى وقع نبضها وتنهيدة أنفاسها... كانت قريبة منه حد الالتباس عطرها ينساب برئتيه كدخان يبعث على النشوة وكل فكرة كانت تقولها تذكره بليال دفنتها الأيام بلحظات شاركها فيها جسده وروحه... وربما شيئا أعمق.
لم يكن رجلا سهل الانجراف حياته كلها كانت مسورة بجدران منضبطة لا مكان فيها للضعف لا وقت فيها للحب حتى جاءت هي.
سيرين اخترقت ذلك كله وتركته... بعد أن فتحت الباب إلى قلبه أغلقته دون رجعة.
لقد انتهيت سيد نصران. قالتها بنبرة خفيفة.
استفاق من شروده وأدار وجهه عنها كمن يخفي ڤضيحة عن نفسه.
أخبري المدير المسؤول الجديد الذي سيتولى مهام الإدارة عن هذه الأمور. قالها ببرود لم ينج من خيط خاڤت من التوتر.
هو وحده كان يعلم... أن قلبه الآن ېحترق كعود ثقاب تأخر في الاشتعال.
حسنا. أجابت بهدوء لكنها في أعماقها كانت تتساءل 
إذا لم يكن يهتم... فلماذا سمح لي بالثرثرة كل هذا الوقت!
ثم تقدمت بخطوة والرجاء يختبئ خلف ثباتها
سيد نصران المشروع قد بدأ فعليا لذا فقد أردت دعوتك لزيارة الأطفال هذا المساء... هل توافق يمكننا أيضا أن نروج للشركة من خلال الحدث...
كانت تبذل كل ما تستطيع لتختلس المزيد من الوقت بقربه ولو تحت ستار العمل.
تعليقات



×