رواية عشق لا يضاهي الفصل الخامس و الثمانون 85 بقلم اسماء حميدة

 

رواية عشق لا يضاهي الفصل الخامس و الثمانون بقلم اسماء حميدة


كان ظافر يختنق من عبثية هذه الأنشطة الترويجية المعلبة فتلك الاستعراضات الباهتة تقام فقط لتجميل الصورة لا أكثر وهو لم يكن يطيق التمثيل ولا يخضع بسهولة للرياء.
كاد أن يرفض بقوة لكن الكلمات انسابت من فمه كأنها لم يكن المتحدث 
حسنا... سأذهب لأستعد. 
استدارت سيرين بخطى ناعمة لتغادر لكن صوته استوقفها عميقا خشنا قليلا كأنما خرج من جوف كهف غارق في الظلمة 
إذا كنا سنزور الأطفال فربما عليك أن ترتدي شيئا... أكثر حشمة. 
تجمدت في مكانها وبدا عليها الارتباك وهي تنظر إلى الأسفل فإذا بزرين من قميصها قد انفرجا كستار متهالك عن مشهد غير مقصود إذ أن الحر كان شديدا في مكتبها وقد فتحت أزرارها لتتنفس قليلا لكنها نسيت إغلاقها قبل أن تفد إلى هنا فاحمرت وجنتاها كثمار الرمان في أول موسمها. 
خفضت رأسها تمشي بخطى ثقيلة كأنما تحمل على كتفيها وزر الخجل ذاته وبينما كانت ټغرق في دوامة أفكارها اصطدمت بجسد آخر. 
أنا آسفة... 
رفعت سيرين عينيها ببطء لتجد وجه طارق أمامها لن تنكر أن ذلك الوجه... وسيم للغاية وأرستقراطي كتمثال يوناني لا تظهر عليه تعبيرات البشر ولكنه أيضا أكثر غموضا. 
ارتجفت لا إراديا وهي تتراجع خطوة إلى الوراء كأن قربه يشعل داخلها إنذار خطړ. 
في الأيام السابقة كانت تتفاداه دوما في ممرات شركة آل نصران تحيد عن طريقه كما يتهرب المرء من شبح مر به في كابوس مفزع لكن اليوم وقعت في فخه صدفة. 
للحظة أحست سيرين بتوتر يجتاحها كأن خلاياها كلها تعلن الاستنفار كانت مستعدة لأن تسمع منه إهانة بل تنتظرها لكن طارق لم ينبس ببنت شفة وإنما نظر إليها ثم شد على فكيه بصمت فيه شيء من الألم... أو الندم ثم استدار ودخل مكتب ظافر دون أن ينطق. 
تنفست سيرين الصعداء وهي تشعر بعدم الاطمئنان فطارق رجل يحمل الاڼتقام في جيوبه كما يحمل آخرون مفاتيحهم وقد سبق أن أغضبته في ذاك الموعد الأعمى حين ذهبت إلى الحانة بدلا من كوثر... صحيح إنه لم يقل شيئا حينها ولم يتحرك ولم يبد غاضبا لكن هذا الصمت بالذات كان الأكثر ړعبا. 
وحقيقة واحدة أضاءت بعقلها فظافر لم يكن يؤذي النساء... أقصى ما يفعله أن يتجاهلهن حتى يصبحن كأنهن لم يوجدن أصلا.
أما طارق كان كالعاصفة... لا ټضرب بل تقتلع. 
لم تستطع أن تتجاهل ذلك الشعور الذي تسلل إليها تحت الجلد... الخۏف.
في عرين الرئيس التنفيذي ذلك المكتب الذي تغشاه رهبة لا يبددها حتى ضوء النهار دفع الباب بحركة محسوبة كأن من دفعه يرفض أن يعامل كأي ضيف إنه طارق الذي دخل كما اعتاد أن يفعل دوما بثقة تشبه نصلا مغروسا في غمده لا يشهر إلا عند اللزوم.
قال دون مقدمات وعيناه تتفحصان

ظافر كما لو كان يحاول قراءة أفكاره قبل أن ينطق بها 
سمعت ماهر يهمس بأنك بدأت بالإعلان عن شغور منصب الرئيس التنفيذي... هل هذا صحيح
لم يرفع ظافر نظره على الفور بل عبس قليلا وجاء صوته كحجر جر فوق حافة حديدية 
طااااارق في المستقبل اطرق الباب قبل أن تدخل.
تجمدت ملامح طارق للحظة كأن تلك العبارة البسيطة اخترقت شيئا عميقا بداخله إذ كان دائما يدخل هذا المكتب كما يلج إلى منزله دون استئذان دون حواجز لكن ظافر اليوم بدا وكأن شيئا في داخله انكسر أو تغير مما أثار فضول.
أخفى طارق ارتباكه خلف قناع الهدوء وأجاب ببرود مصطنع 
حسنا.
لم تكن العلاقة بينهما كما تبدو للعيون الغفلة فهما لم يكونا مجرد صديقين بل تشكلت بينهما عبر السنوات علاقة أشبه بالأخوة لكنها أخوة مزجت بالغيرة أو بصراع خفي أو ربما بالاختبارات التي لا تنتهي.
قد انعقدت الحيرة بين حاجبي طارق وتساءل بنبرة حملت شيئا من التحدي وشيئا من الاستنكار 
هل تنوي حقا أن تضع شخصا آخر في هذا المنصب أترى أن هناك من هو أهل لثقتك ثم أكمل بنبرة أهدأ لكنها أكثر وخزا 
كل فرد من آل نصران ينتظر هذه اللحظة منذ أعوام.
ابتسم ظافر... لكن الابتسامة لم تكن سوى غلالة من السخرية ماكرة كمن يرفع كأسا على قبر خصمه. 
ضحك ظافر ضحكة قصيرة ثم قال 
ومن فيهم يجرؤ
في تلك اللحظة لمح طارق في عينيه شيئا يشبه اللهب لا ېحرق لكنه يلسع فظافر لم يعد مجرد وريث... لقد أصبح سيدا على إمبراطورية كاملة يديرها بحنكة الذئب ودهاء الثعلب... شركات تحالفات أسرار كلها في قبضته. 
ولم يبق من المتنافسين سوى اسم واحد... 
اسم واحد فقط ربما امتلك الجرأة لكن المشكلة لم تكن في الجرأة. 
بل في الرغبة.
فهذا الشخص... لم يكن يسعى للمنافسة أصلا ولكن هدفه انكسار ظافر.
تمدد طارق على أريكة المكتب كأنه مالك المكان لا ضيفه واتكأ إلى الخلف بكسل يرسم حوله هالة من اللامبالاة المصطنعة. 
وقال بصوت هادئ يحمل تحت سطحه نبضا من الخبث 
صحيح لا أحد يجرؤ على لمس هذا الكرسي الآن... أوه بالمناسبة يا ظافر التقيت للتو... سيرين. أعني تلك المرأة الصماء. ما الذي جاءت تفعله هنا
كانت كلماته عابرة أو هكذا أراد لها أن تبدو لكن وقع اسمها ڤضح ما أخفاه الصوت هو لم يسأل بدافع الفضول بل بدافع آخر... لم يشأ الاعتراف به... لا لنفسه ولا لظافر. 
حتى الآن لم يخبره بأن سيرين قد أنقذته يوما حين كان غارقا في طين لا يرى وفي لحظة ما مدت يدها دون أن تطلب شيئا في المقابل.
كان شيئا فيه يتمنى في قرارة نفسه أن يستمر ظافر في معاملتها بذلك الجمود الجليدي... لا يعلم لماذا لكنه أراد أن تبقى بعيدة عن دفء يدي ظافر ربما... كان خائڤا من أن تكتشف سيرين شيئا في ظافر لم يرد طارق لها أن تعرفه.
طارق الوحيد الذي كان يدرك أن سيرين كانت دائما مربكة. غير محسوبة تفوق التوقعات تفتح نظراتها البريئة في نفس طارق _زير النساء_ أبوابا نسي أنه أغلقها منذ زمن.
أما ظافر فقد كانت نظرته أثقب من سکين جراح فهو لم يكن غافلا قط بل كان يقرأ ملامح طارق كما يقرأ كتاب تلونت صفحاته بالغيرة والرغبة والشكوك القديمة ولم تعد المسألة غامضة كما كانت لسنوات طويلة مرت وفجأة... تفتحت أمامه الحقيقة كزهرة مسمۏمة
ما يكنه طارق تجاه سيرين لم يكن كرها كما أوهم الجميع بل انجذابا صاخبا يخفيه تحت عباءة من الصدام.
ظافر بابتسامة صغيرة لا تفصح عما يدور في رأسه قال بصوته الواثق 
لقد طلبت مني أن أرافقها في زيارة للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة... أولئك الذين نرعاهم.
كان يعلم أن طارق يدرك جيدا كم يكره ظافر هذه الفعاليات هذه المظاهر المغلفة بالشفقة. 
لكن طارق وبسرعة لا تخلو من الغرض قال وكأنه يعرض معروفا نبيلا 
سأذهب بدلا منك.
إنه يريد أن يبعد سيرين عن عيني ظافر... لا أكثر ولكن ظافر كان قد انشغل بقراءة ملف أمامه أما طارق فظل جالسا في مكانه لم يتحرك وعيناه لم تفارقا خصمه لكن عقله كان في مكان آخر... أو مع شخص آخر إنها سيرين إذ تسللت صورتها إلى ذهنه كوميض برق في ليلة جافة. 
ملامحها حين التقاها منذ قليل... الخجل المرتبك في عينيها صوتها الغائب لكنه حاضر أكثر من أي ضجيج سمعه في حياته. 
هي لا تتكلم لكن كل حركة منها تصرخ. كل نظرة كل ارتعاشة في يدها تحكي رواية كاملة... رواية يعرفها وحده.
ابتلع ريقه كأن الهواء صار أثقل فجأة... 
لماذا الآن 
لماذا أصبحت هذه المرأة التي كان يعتقد أنه يكرهها تسكن رأسه بهذه الطريقة الوقحة 
ولماذا يشعر بالذنب كلما تذكر كيف كان يعاملها كطفل غبي ېمزق أجنحة فراشة فقط ليرى كيف تسقط!
هو لم يكرهها أبدا. 
هو فقط... لم يفهم نفسه. 
كان يراها مختلفة أقوى من أن تكون هشة وأضعف من أن تعترف بضعفها... كانت كتلة من التناقضات وطارق دائما ما أحب ما لا يمكن فهمه.
الټفت إلى ظافر فجأة وقال بصوت بدا كأنه يحاول إقناع نفسه 
هي لا تزال تعمل هنا في مكتبها بعد كل هذا الوقت
رفع ظافر رأسه يتأمل طارق لحظة ثم قال ببطء وكأنه يرمي الحجر في مياه راكدة ليرى ما سيطفو
ولم تسأل
تردد طارق لثانية ثم هز كتفيه بتصنع البرود 
مجرد فضول.
لكن الحقيقة كانت أن اسم سيرين قد ارتبط باسمه حتى ولو في داخله... رغما عنه. 
سيرين... هي المرأة الوحيدة التي لم تنظر إلى طارق كرمز للسلطة أو الجاذبية
أو المال بل نظرت إليه كأنه مجرد رجل ضائع... وربما كانت الوحيدة التي رأت في عينيه الألم.
ولكن ماذا جنت بعد أن كادت أن تفقد حياتها في ذلك الحاډث وهي تحاول إنقاذه! صحيح هي لم تمن على أحد بصنيعها ولكن منذ أن علم طارق بحقيقة ما حدث قرار أنها كنز لا يجب التخلي عنه حقيقة لن يغفلها وطارق عنيد... 
هو... لن ينس ذلك... سيرين كنزه وسيناضل لذلك مهما كلفه الأمر ومهما كانت النتائج.
تعليقات



×