رواية لاجلها الفصل التاسع
عاد إلى منزله أخيرًا بعد أشهر من السجن بتهم خُلقت له من تحت الأرض، تخص تجارته والغش والتلاعب بالأسعار، والتغافل عن سداد بعض الديون لأصحابها؛ كلها أشياء معتادٌ على فعلها منذ نشأته. لا أحد يقيّم ولا مسؤول يحاسب، حتى ظهر في طريقه ذلك الملعون الذي أجاد لعبته وسلّط عليه رجال القانون، ليتم احتجازه بالأشهر بعد توقيعه على ورقة بعدم التعرض لطليقته وابنته، فتضيع عليه فرصة ردّها إليه خلال فترة عدتها في تلك الشهور التي قضاها محجوزًا، وسط تحقيقات مستمرة وكفالات تُدفع للمتضررين من ماله.
لو لم تكن التهم ملفقة إليه دون أدلة محكمة، لكان استطاع محاميه إخراجه، ولكن عيبه يكمن في الأخطاء البسيطة التي كان يرتكبها يوميًا وفي أسلوب إدارته لتجارته. ليأتي من يستغل هفواته، فيكبّله حتى عن الانتقام منه، ولكن... إلى متى؟
"وهه، عرفان! حمد الله على سلامتك يا غالي! تعالوا يا ولاد، تعالوا شوفوا أبوكم."
هللت صفا بالكلمات فور أن وقعت عيناها عليه، وهي تهبط الدرج من طابقها إلى الأسفل، تواصل النداء على أطفالها وهي تسرع خطواتها لاستقباله، حتى تفاجأ عرفان بهما يخرجان من شقة مزيونة وابنتها. ازبهل ببصره قليلًا وهو يتقبل حفاوتهم، يرفعهم إليه ويقبلهم، حتى أخذت صفا دورها، تلقي بنفسها عليه، تفاجئه بفعلها، فاضطر أن يدّعي الاستجابة على مضض، رغم حنقه من وقاحتها بتقبيل وجنتيه واحتضانه أمام الأطفال، حتى نزعها سريعًا وأبعدها بلطف:
"الله يسلمك يا صفا... بس العيال دي طالعين من شُقة مرة أبوهم ليه؟"
"مرة أبوهم!" رددت بها من خلفه بنبرة استنكارية، تواصل بالتشديد على كلماتها:
"اسمها طليجتك يا جوزي يا غالي، يعني الشُقة دي شُقتنا، مش شُقتها ولا شُقة بتها. يبقى يحقلنا نعمل فيها ما بدالنا: نربي فروج، ولا نحط كراكيبنا فيها، ولا حتى نُطلق العنزات ونفضي الحوش شوية... آااه!"
تأوهت الأخيرة بألم حين باغتها، إذ قبض بأصابعه الغليظة على مرفقها، لترى جمرتين من النار تشتعلان في عينيه، مرددًا بغضب جحيمي:
"عنزات وكراكيب وفروج؟! دا على أساس إنه بيت أبوكي إنتي مش بيتي أنا اللي أويكي فيه، تاكلي وتشربي وتربي عيالك! عملتي لنفسك سُلطة في بيتي وبتستغلي غيابي عنيكم ياصفا،عشان تعملي ما بدالك! عايزة تمحي كل أثر ليها عشان تجطعي عليها العودة! للدرجادي نارك قايدة منها؟! دا أنا أشيلك بعيالك وأحطها بدالك لو طلبت معايا يا بت!"
صرخت بألم، تنزع ذراعها عنه، وتجأر به:
"أوعى! هتكسر دراعي في إيدك ولا إيه؟! عا فوج لنفسك يا حبيبي، وافتكر إنها كانت السبب في سجنك! هي وبتها! عايز تشيلني وتحطها مكاني، على أساس إنها فاضيالك من أصله! دا مش بعيد تكون مظبطة مع الراجل اللي سلط عليك الحكومة! أمال بيدافع عنها كده لله؟!"
قطعت حديثها فجأة، وقد وضع كفه على رقبتها يضغط بعنف ليسكتها حتى كاد أن يمنع عنها النفس. صرخ الأطفال برعب، يحاولون دفعه عنها، ليستدرك خطورة ما يفعله، فيرفع كفه عنها، فتسعل بقوة عدة مرات حتى التقطت أنفاسها، تطالعه بذهول وقد أوشك أن يقتلها مخنوقة بيديه.
قابل هو نظرتها بعدم اكتراث، وحتى لا يعطيها فرصة لتأنيبه، تحرك من أمامهم مغمغمًا بأمر:
"أنا طالع أستحمى وأرتاح على فرشتي ساعتين. أصحى ألاقي الوكل جاهز، والهدوم مكوية، وشقة مزيونة نضيفة وبتلمع..."
تجمدت في مكانها بعد سلسلة التعليمات التي ألقاها عليها، تتابعه وهو يصعد الدرج، غير مبالٍ بها ولا برعب الأطفال الذين تمسكوا بها تهدئ من روعهم، وهي نفسها لم تتمالك ذاتها جيدًا بعد ما فعله بها. قاسي القلب... لم يرأف حتى بأطفاله.
................................
كان يعلم أنها هنا، بحكم متابعته لكل أمورها ومواعيد خروجها والمصالح التي تقضيها، بفضل المسؤولية التي تحملها الآن على عاتقها. يحاول بقدر استطاعته تسهيل أمورها دون أن يكشف نفسه أمامها، حتى لا تأخذها عزة النفس وترفض دون تردد.
ينتظر يوميًا مواعيد ذهابها إلى السوق كي يملأ عينيه منها من بعيد، دون أن تراه أو تشعر به، سواء تطلب الأمر سيارة أو لا، في كل الحالات لا يُقصّر ولا يحرم نفسه من لذة رؤيتها. لكن اليوم كان الأمر مختلفًا تمامًا؛ أمر أجبره على التخلي عن حرصه، ليطل بكليته أمامها. فلم يعلم بوجهتها إلا متأخرًا، ليأتي الآن فيجدها تنتظر شيئًا ما في تلك المنطقة الحيوية من البلدة، المزدحمة بالمصالح الحكومية.
وعلى عكس المعتاد، لم تعجبه رؤيتها اليوم، فقد استفزته وقفتها تحت الشمس، وتحت أبصار هؤلاء الفاشلين من الرجال الذين تركوا تجارتهم ومصالحهم وركزوا أبصارهم عليها وحدها.
"صباح الخير." ألقى التحية بخشونة، أجبرتها أن تنتبه إليه فتجيبه:
"أهلا، صباح الخير يا أبو ريان."
ألقى بنظره نحو المبنى الحكومي الذي تقف قبالته، ليعود إليها بكلمة واحدة كافية عن سؤال كامل:
"خير؟"
ردت تجيبه بروتينية:
"خير إن شاء الله. أنا بس مستنية أخوي وصفي دخل جوه المجلس المحلي يخلصلي ورق معاش أبويا، بعد ما تعبت من مماطلتهم ليا."
ارتفع حاجبه بشر يريد مزيدًا من الاستفسار:
"ويماطلوا معاكي ليه؟ هو مش ورجك جاهز وخلصان ولا هي نطاعة وخلاص؟"
طفا على ملامحها بعض الحرج، فجاءت إجابتها تضع نوعًا من الريبة داخله:
"والله ما أنا عارفة أجولك إيه؟ ربنا يهدي الأستاذ معاطي... غاوي شندلة الناس في الروحة والجية على مجلس الزفت بتاعهم."
تعقد حاجباه باستدراك، ليردد الاسم بتوعّد قبل أن يتركها ويتجه نحو المبنى دون انتظار:
"معاطي الزفت، رئيس المجلس..."
طالعت ظهره بتوجس، تضاعف حين وصلها غمغمته:
"أنا هشوف أمره الكلب دِه."
وقد كان. لم تنتظر خمس دقائق كاملة، حتى وجدت شقيقها يخرج مشرق الوجه، ضاحكًا برفقة حمزة الذي لم يتخل عن تجهمه حتى اقترب الاثنان منها، ليهلل وصفي بالبشرى لشقيقته:
"ورجك خلص أخيرًا يا مزيونة! حمزة باشا دخل شمال في معاطي من غير سلام ولا كلام، خلاه جاب ورا في ثانية واحدة ومضاه، مع إنه كان بقاله ساعة مدخلني في كلام كتير وحوارات مكتش فاهمها."
بابتسامة ضعيفة، عقبت تضيف:
"ما هو نفس اللي كان بيعمله معايا، رغي وكلام في مواضيع كتير..."
"عشان فاسد ابن كلب!" هتف بها حمزة، مما أجبر الاثنين على الانتباه له، وقد تملكه الغضب، ورغبة تدفعه للعودة مرة أخرى نحو هذا الصعلوك من أجل تأديبه. فهم الآن من فحوى كلماتها، حتى وإن لم تقصد أن هذا المتنطع كان يؤجل قضاء مصلحتها لغرض في نفسه. لا حاجة للتوضيح أكثر من ذلك، فهي جميلة ومطمع... بدليل حفنة الرجال التي لم ترفع أبصارها عنها حتى اللحظة. تبا لهم... ولعجزه هو عن صدهم.
"بجولكم إيه يا جماعة، كفاية كِده، تعالوا أروحكم معايا في عربيتي."
وكما توقع، قابلت دعوته بالرفض:
"لا متشكرين، أنا وأخويا أصلا رايحين السوق."
"تمام، أوصلكم معايا لحد السوق بس، نمشي من هنا الله يرضى عنكم... ما تتكلم يا وصفي!"
رغم حدته في الحديث، استطاع في النهاية أن يجبر وصفي على التدخل:
"خلاص يا مزيونة، الأستاذ حمزة مش غريب."
همّت أن تجادله، لكنه حسم قاطعًا عليها الطريق:
"يلا بجى يا ست مزيونة، خلينا نمشي من المنطجة الزفت دي، ولا أدخل لمعاطي أديله الطريحة! بصراحة، إيدي واكلاني عليه وهموت أعملها!"
................................
أما عنها، وقد كان هذا موعد عودتها من درس مادة الإنجليزي مع بدء العام الدراسي الجديد وشفاء ذراعها من الكسر، فقد مرت على المجرى المائي القريب من منزلهم، فاتجهت أبصارها تلقائيًا نحوه، بحثًا عن ذلك المجنون الذي يأتي في ميعاده اليومي من أجل سقي حصانه، قاطعًا تلك المسافة البعيدة من النصف الغربي للبلدة إلى هنا، وكأنه لا توجد مياه هناك.
هي ليست بالعمياء حتى لا ترى أفعاله الغريبة، ولا عديمة الإحساس حتى لا تشعر؛ فمنذ تلصصه عليها ووقوعه من أعلى الشجرة، لم يكررها مرة أخرى ولم يحاول فتح حديث معها، يكتفي فقط بالنظرات الهائمة لها، وهي لا تهرب ولا تغضب، بل في أوقات كثيرة تصعد إلى برج الحمام فوق السطح وتتخذه حجة كي تبادله النظرات.
بداخلها كم هائل من التساؤلات نحوه، لكنها لا تستطيع البوح بها أمام والدتها رغم أنها كاتمة أسرارها وصديقتها الأقرب. كانت تنتظر أن تأتي الإجابة وحدها. لكنها اليوم لا تراه! رغم وجود الحصان الذي كان يتناول طعامه من حشائش الأرض البرية بالقرب من مجرى الماء. أخذها الفضول حتى نسيت حرصها، تبحث عنه بعينيها بلهفة جعلتها تتوقف في مكانها... ولا يوجد أثر له على الإطلاق! أيعقل أن هناك إنسانًا في العالم يملك نصف عقل، يترك حصانًا عربيًا أصيلًا مثل هذا في الهواء الطلق دون حماية ويذهب؟
شيء يثير الدهشة بالفعل... ولكن لما العجب مع رجل مثله؟ تتوقع منه أي شيء. أجفلت عند خاطرها الأخير بسماعها لأصوات صارت تصل إليها:
"بس... بس بس بسس..." دارت رأسها لا إراديًا في عدة جهات تبحث عن مصدر الصوت، حتى جاءها النداء باسمها، يرافقه عدد من ثمار التين الطازج تتساقط فوق رأسها:
"ليلى!" رفعت بصرها إلى أعلى، لتفاجأ بهذا المجنون فوق أحد فروع الشجرة مباشرة فوقها، فشهقت وارتدت بقدميها للخلف بفزع، تضاعف حينما قفز من محله ليقف مقابلًا لها دون سابق إنذار، وكادت أن تقع لولا سرعة بديهته في الإمساك بيدها:
"حاسبي... كنتي هتوجعي." نفضت يده عنها، تنهره موبخة رغم عدم اتزانها بعد:
"ما انت السبب! بتخلعني يا بني آدم انت، وبعدها تجولي حاسبي! انت إيه صنفك؟"
ابتسم قائلًا بمرح:
"يعني هيكون إيه بس يا آنسة ليلى؟ أنا ماعملتش حاجة أصلا غير إني كنت فوق الشجرة بنجي كام حبة تين حلوين. أحلى ثمر للفاكهة، دا اللي تلاقيه متعلج فووج بعيد عن إيدين الناس وعيونهم، محدش يطوله غير الغاوي."
لا تعلم لما جذبتها كلماته التي لم تعِ مغزاها، وقد سرق انتباهها بتلك الحبات الطازجة الرائعة التي كان يعرضها لها بين كفيه الكبيرين؛ حبات كاملة النضج أثارت شهيتها لتناولها والتلذذ بطعمها. ولكنها ما إن استعادت بأسها حتى هتفت به:
"مش عايزة من خلجتك حاجة! فاكرني هبلة وهيضحك عليا بحبايتين تين؟ ولا ظنيت كمان إني نسيت عملتك المهببة لما كنت بتراقبني وأنا فوج سطحنا! اللي خلاني أسكت ومكبرِش الموضوع حاجة واحدة: هي وجعتك الشديدة، عشان حسيت إن ربنا خدلي حقي منك."
معظم حديثها لم يفهمه، فقد كان هائمًا بها وبطريقتها اللذيذة في التعبير عن غضبها، حتى وهو لا يغفل نبرتها الشامتة ولا إصرارها على تذكيره بذلك الأمر رغم عدم حديثها عنه كما أشارت.
"بصراحة، أنا ممتن جدًا لمعروفك يا آنسة ليلى، برغم إني مكتش جاصد اللي في بالك عشان تبقي عارفة. أنا بس كنت فوج الشجرة زي دلوك بدوّر على فرع أنجي عليه تينة حلوة، وشوفتك بالصدفة... يمكن تنحت هبابة على برج الحمام وعليكي، لكني في النهاية وجعت زي ما شفتي بعينك. رجلي اتجزعت وضهري كله اتخرشم، ورقدت عليها أيام..."
ثم أضاف بنعومة:
"يعني لو كتي بلغتي عني، كتي هتاخدي ذنبي على الفاضي. وأنا كل الحكاية كنت عايز تين، شوفي بنفسك نجاوتي."
تناول واحدة من الثمار ووضعها بفمه، يتلذذ بها بين شفتيه مرددًا:
"أممم... حلوة جوي! يا سلام، وهي فيها حتة لسعة صغيرة في اللسان لكنها بتنقط سكر وعسل! آه لو تدوقي واحدة، هتعرفي إني عمري ما أنجي ولا أختار غير الزين."
سال لعابها هي الأخرى، واشتهت أن تتذوقها، لكنها أبت أن تُظهر ضعفها أمامه، وقالت بحدّة:
"مش عايزة حاجة! خدهم واشبع بيهم."
واستدارت لتتركه وتذهب، فهتف من خلفها بصوت مسموع:
"خلاص... أنا خدت كفايتي أصلا. هسيب الباقيين هنه على المصطبة، وياخدهم صاحب نصيبهم بجي."
رغم شعورها باستجابتها، إلا أنها ادعت التجاهل وعدم الاكتراث، ودلفت إلى داخل المنزل صافقة الباب بقوة. تنهد هو، وأفرغ ما بين كفيه من الثمرات على المصطبة الطينية بالفعل، ثم توجه إلى حصانه، اعتلاه وغادر، إلا أنه توقف قريبًا أسفل إحدى الأشجار، يراقب من مكانه مصوبًا بصره نحو المنزل المحبب إلى قلبه.
ولم تمر سوى لحظات قليلة، حتى وجدها تفتح باب منزلهم وتخرج منه بحرص، تدور أبصارها في الأنحاء من حولها، حتى وصلت إلى حفنة الثمار التي تركها، فحملتها بين كفيها وعادت بها إلى الداخل.
ارتسمت على ثغره ابتسامة شقت وجهه من الأذن إلى الأذن، وقد غزت السعادة قلبه. لقد قبلت هديته... وهذه بداية ليست بالهينة في طريق وصوله إلى قلبها.
❈-❈-❈❈-❈-❈❈-❈-❈
وفي داخل السيارة التي كان يقودها حمزة، وبجواره وصفي في الأمام، ومن ملكت قلبه في الخلف، توجهت أبصارها إلى خارج السيارة عبر النافذة التي جلست بجوارها، شاردة في أمور عدة إلا عنه. ثلاثة أشهر مرت على علاقة المودة التي جمعت بين العائلتين، كان يلتقط كل الفرص المتاحة من أجل التقرب منها، فعل كل شيء حتى ينال نظرة واحدة تروِّي قلبه. كان يعلم منذ البداية أن الطريق إليها صعب، لكنه لم يُقدِّر صعوبته حقًا إلا بعد أن اكتوى بنيرانه.
لقد أغلقت على قلبها منذ سنوات، ولا شيء يدفعها للحياة سوى ابنتها، أما عنها فقد قتلت مزيونة منذ زمن بعيد. فكيف السبيل لإعادتها للحياة مرة أخرى؟
مسح بكفه على شعر رأسه، محاولًا الاندماج مع حديث وصفي، شقيقها الطيب، بعد أن أنهى مكالمة هاتفية على عجالة:
ــ يعني بعد ما شندلنا في المصلحة عنده، دلوقتي عايز يطابلني على انفراد أنا وهو في موضوع خصوصي؟ دا إيه صنفه ده؟
ــ جصدك مين؟ سأله حمزة محاولًا التركيز، ليأتيه بالجواب الذي أشعل رأسه:
ــ معاطي الزفت، أنا أساسًا شكيت في أمره من ساعة ما كنت جاعد وياه. رايح جاي يتكلم عن نفسه، ويجيب سيرة أختي، وإيه اللي يخليها تتشندل على حتة معاش ومش عارف إيه؟ وهي في يدها تبقى ست الهوانم! كنه حاطط عينه عليكي يا مزيونة.
توجه بالأخيرة نحوها ببساطة، غافلًا عن حمزة الذي خرج الأمر عن سيطرته، فاضطر للضغط على مكابح السيارة بعنف، مما أجفل الشقيقين، واندفعت أجسادهما للأمام بقوة نتيجة فعله، فاصطدمت رأسها هي بالكرسي أمامها، قبل أن ترتد سريعًا إلى الخلف تتأوه:
ــ آااه...
التفت نحوها بجزع:
ــ حصلك حاجة؟ ولا اتصابتي؟
نفت بهز رأسها، دون صوت، فدافع هو مبررًا بكذب:
ــ آسف يا جماعة، ماكانش جصدي، بس السبب أرنب طلع فجأة جدامي، كنت هادوسه، بس الحمد لله ربنا ستر. المهم، حاسة بأي وج في راسك؟
خرج صوتها هذه المرة حتى يكف عن الأسئلة:
ــ يا بوي مفيش، هي بس مع شدة الهزة، أصلاً ملحقتش تتسط في الكرسي زين.
كاد أن يتنفس ارتياحًا لولا تعقيب وصفي:
ــ بس فين الأرنب؟ أنا ما شوفتوش.
ابتلع ريقه محاولًا السيطرة على ارتباكه، وعاد لقيادة السيارة:
ــ لا، ما هو عدى بسرعة وأنت بتتكلم مع الست مزيونة عن معاطي الزفت. إلا جولي صحيح، هترد عليه بإيه؟
جاء الرد منها، تسبق شقيقها:
ــ ولا هنجول ولا هنعيد، دا موضوع محسوم أصلًا، حتى لو وصل بيه إنه يوقفلي ورقي، الحمد لله مستورة، وعندي اللي يكفيني من نصيبي في الأرض اللي انباعت زمان، ولا الحوجة ليه دا كمان.
عقب هو على قولها بعصبية:
ــ طب خليه يتجرأ ويعملها عشان أقطع عيشه منها.
بسط وصفي يحاول امتصاص غضب الاثنين:
ــ يا إخوانا عمرها ما توصل لكده إن شاء الله. معاش أبوكي دا حقك يا مزيونة، وسيبك من قرشين البنك دول لتعليم ليلى. كفاية اللي صرفتيه الأيام اللي فاتت، ما إحنا بنرفضوا كل يوم، هتيجي على معاطي ونشيل همه.
يا ليته ما تلفظ بالأخيرة، فقد أعاده وبقوة إلى تلك الهواجس التي يتهرب منها منذ طلاقها. لا يزعجه أمر موافقتها من عدمه بقدر ما يحرق صدره نظرة الرجال لها وأطماعهم بها. يريد أن يعلنها للجميع أنها تخصه وليست متاحة للارتباط كما يظنون، حتى لا يتجرأ أحد بالتفكير بها. ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ ورأسها لن يتقبل الفكرة من الأساس، إنها حتى لا تراه ليشغل نفسه بأمر أن يصلها إحساسه.
❈-❈-❈
تحمحم بصوت خشن من أعلى الدرج ليعلمها بوجوده، بعد أن استيقظ من غفوته التي استغرقت ساعتين، ليجدها ما زالت في الأسفل. هبط الدرج بثقل متعمد في خطواته، وبطء يقارب الرتابة، حتى إذا لمست قدماه أرضية الطابق الأرضي كانت هي في استقباله، بعد أن نظفت شقة مزيونة كما أمرها. ولمزيد من الإذلال لابد أن يسمعها منها:
ــ ها خلصتي تنظيف ولا لسة محتاجة وقت؟
أجابته بابتسامة صفراء:
ــ لع اطمن، أنا غسلتها وعقمتها بالديتول، ورشيت لها المعطر، وكأنها شُقة عروسة جديدة، دا غير إني غيرت الملايات. يعني لو ليك غاية تردها من عشية، هتلاجيها جاهزة.
حسنًا، لقد أجادت توجيه ضربتها إليه، لتنزع عنه نشوة الانتصار، وتضعه أمام نفسه في خانة العجز عن فعل هذا الأمر. ليعقب كازًا على أسنانه بحنق شديد:
ــ ماشي يا ختي، كتر خيرك، انجلبي يلا على فوق وجهزيلي اتغدا، وإياك تقولي ملحقتش.
انتفضت فجأة تزيد من تصنعها:
ــ لا طبعًا، إزاي تجول كدِه؟ دا أنا أسوهولك على رموش عنيا يا غالي. كل الوكل اللي انت عايزه هيجهز على الصينية حالًا.
أشار بكفه كي تختفي من أمامه وتذهب، وقد ضاق ذرعًا منها بعد أن عكرت صفو مزاجه ببرودها. تحرك خطوتين حتى أطل برأسه داخل شقة مزيونة، ليتأكد من صحة ما أخبرته به، بل وأكثر، فقد نظفتها وعطرتها بالفعل. همَّ أن يدلف داخلها ليستكشف باقي الغرف، ولكن منعه صوت أحدهم في الخارج ينادي باسمه، قبل أن يلج إليه مهللًا:
ــ عرفان يا صاحبي كفارة، انت طلعت إمتى يا راجل؟
تبسم المذكور فاتحًا له ذراعيه:
ــ الله يسلمك يا عطوة، دا انت اللي واحشني يا راجل.
❈-❈-❈
في منزل حماد القناوي، وقد اجتمعت العائلة بأكملها على طاولة السفرة، في اليوم الأسبوعي الذي تخصصه حسنية لحضور الجميع، بناتها وأزواجهم وأطفالهم، لتناول الطعام معها ومع أفراد المنزل. غاب عنها أكبر الأبناء وأصغرهم، حمزة ومعاذ، ولكن، هالة وأطفالها، تقوم بواجبها وأكثر في الظهور وفرض نفسها بأنها العضو الأهم في المنزل.
ــ كل نايبك يا واد يا آدم عشان تكبر وانتي يا ريان، يا أم ياسين قربي اللحمة لجوز أختك، أصله ما بيحبش الفراخ.
قالتها بإشارة نحو منصور زوج منى، التي ضجرت منها ومن تصنعها، لتتدخل قائلة:
ــ خلاص يا حبيبتي، جوزي أصله مالوش لا في دي ولا في دي، وكله خفيف في الاتنين. اجعدي على حيلك، وحطي اللقمة في حنكك بدل الحديت، كفاية صوت المعالق ولعب العيال.
بسخرية ماكرة استطاعت أن تربكها عن الجدال، فتبسمت تحاول حفظ ماء وجهها برد ساخر هي الأخرى:
ــ لا لحمة ولا فراخ! أمال مقضيها خضار وبس؟
جاء رد منى ليخرسها تمامًا:
ــ فسفور، سمك وفسفور.
فغرت فاها بذهول، وقد تسرب داخلها شك حول المعنى المبطن خلف عبارتها، فجاءت الإجابة بكل وضوح من منصور، الذي سعل بضحك مكتوم مطأطئًا رأسه بخجل من باقي المجموعة، رغم ابتسامتهم هم أيضًا، إلا منى التي كانت تأكل بثبات وبراءة وكأنها لم تفعل شيئًا، لتضاعف من حنقها منها. تلك المحبوبة من الجميع، حتى من زوجها منصور، العاقل الوسيم الوقور أمام الجميع إلا معها. ليتها تملك نصف حظها.
ــ حمزة يا ولدي، انت جيت؟تعالي
كان هذا صوت حسنية بعد أن وقعت أبصارها عليه عائدًا من الخارج، يلفت انتباه الجميع إليه، ليُجبر نفسه على رفع كفه نحوهم بالتحية والترحيب بكل فرد منهم باسمه، قبل أن يستأذن ويتركهم، رافضًا الدعوات بمشاركته الطعام معهما، بحجة عدم شهيته، بابتسامات مغتصبة لا تخفى على قلب والدته، ولا عن شقيقته منى التي تعلم سر حزنه.
❈-❈-❈
زي ما بقولك كده يا صاحبي، أنا قاعد كافي خيري شري، لكني مش نايم على وداني. الكلام كتير، وأنا بشوف بعيني. الراجل اللي اسمه حمزة ده دخل حتى في زواريق أخوها. أني مش فاهم بصراحة غرضه إيه؟ ومن إمتى كان يعرفهم من أصله عشان يتقرب منهم كدِه؟
هكذا كان يبث سمومه في أذن هذا الأحمق، والذي من المفترض أنه صديقه، ولكن حقد النفس يعمي صاحبها عن الحقيقة حتى لو كانت بوضوح الشمس.
أمم... وإيه تاني كمان؟ قول يا صاحبي، أنا مش هكدبك. اللي يرميني في السجن الرمية دي، ويسلط عليا الحكومة تنخور في الجديد والجديم، حتى شريكي طفش مني لما اتضر هو كمان. بس، وأنا ورحمة الغاليين، ما هسيبه. لكن اللي عايز أعرفه دلوك، وصفي إيه دوره؟ عامل نفسه دكر عليا أني بس؟
تبسم عطوة بخبث، يردد من خلفه:
ما أنت جولت بنفسك: دكر عليك أنت وبس؟ أكيد هو كمان لاقي مصلحته. لكن إنت هتسكت؟
زفر مخرجًا دفعة كبيرة من الهواء المشبع بهيج النيران التي تسري بداخله:
أمال عايزني أعمل إيه؟ وأنا متكتف يدين ورجلين، بعد ما بجيت تحت عنين الحكومة، على أي غلطة ممكن تعكشني. لكني برضو مش هسكت. مستني الدنيا تهدى شوية وأروح للشيخ خميس...
ونستنى ليه يا عمنا؟ ولا تروح للشيخ خميس؟ وانت عارف من الأول إنها مصدجت، ونقبك هيطلع على شونة. اضرب ضربتك قبل الواد ده ما يسبجك، وأنا معاك وفي ضهرك.
حدق به عرفان، يريد أن يصل إلى ما يرنو إليه بحديثه. فواصل عطوة الشرح بصوت خفيض، كوسوسة الشيطان الذي يدفع الإنسان للخطيئة ثم يتبرأ منه:
أنا جصدي، إن كانوا كتفوك بالتعهد بعدم التعرض جدام الناس، اخلص من الراجل ده اللي واقفلك زي اللُجمة في الزور، وساعتها مرتك و أخوها هيبقوا في يدك، بعد ما يغور ده اللي مستجوين بيه.
هكذا صار يبسط الأمر أمامه ويدعمه، وكأن القضية قضيته، مستغلًا عنجهية الآخر وغباءه عن فهم ما يدور برأسه. ومع ذلك، فاجأه بالرد:
طب والله فكرة زينة. نفذ يا عطوة وأنا أديك اللي انت عاوزه، بدل ما ندخل حد غريب ويفضح أسرارنا، وأنت خبرة ومش جديد عليك.
انتفض المذكور وقد أجفله بعرضه، يردد برفض تام:
وه! أنفذ كيف، الله يخرب مطنك؟ الشغل دِه أنا بطلته من زمان، من ساعة ما توبت. شوفلك حد غيري يا حبيبي، شوفلك حد غيري.
وهكذا أخرج نفسه من الحسبة، ولكن رأسه اتجهت لشيء آخر، بعد أن ذكره بمهنته القديمة... لماذا لا يستغلها لمصلحته الآن؟
❈-❈-❈
ثلاثة أشهر مرت عليها في ترتيب المنزل بإمكانياته المحدودة، ليصبح في النهاية جنتها الصغيرة. وقد اكتمل من معظم الأساسيات المطلوبة، حتى الأجهزة الكهربائية استطاعت توفير الضروري منها، فاشترت ثلاجة بالتقسيط، وحصلت على التلفاز من شقيقها كهدية. وجدت فيه تسليتها وقت الفراغ، خاصة حين تنشغل ابنتها عنها في استذكار دروسها، كما كان يحدث الآن قبل أن تأتي إليها المذكورة داخل غرفة نومها حاملة طبقًا تأكل منه.
أنا خلصت مذاكرة بدري النهاردة، قولت أجي أكمل الفيلم معاكي. دخليني جنبك يا مزيونة؟
قالتها ليلى وهي تصعد إلى السرير، لتحشر نفسها معها تحت الغطاء، حتى تناثرت من الطبق عدة ثمرات فوقه، لِتلفت أنظار والدتها التي علقت مبتسمة:
يا ما شاء الله، جيبتي منين التين الحلو ده؟
تبسمت ليلى وقدمت الطبق إليها لتتناول منه هي الأخرى:
من شجرتنا يا أمة، هو إنتي غريبة عنه؟
وضعت مزيونة إحدى الثمرات في فمها، تلوكها وهي تستلذ بالطعم قائلة:
لا يا ست الحلوين، طبعًا عارفاه. أنا بس مستغربة جبتيهم كيف! الشجرة تقريبًا محلوبة؛ كل اللي رايح واللي جاي ياخد منيها، دا حتى بيجطفوه أخضر. ومحدش بيصبر على التينة لما تطيب زين، إلا الفروع العالية دي محدش بيوصلها واصل. لا تكوني ركبتي الشجرة يا جزينة؟
قهقهت ليلى نافية وهي تهز رأسها:
لا يا أمة، ما وصلتش للدرجادي. إينعم أنا شقية، بس معدتش صغيرة على طلوع الشجر.
أمال جبتيها منين؟
ابتعلت ليلى محاولة إخفاء توترها، واختلقت قصة سريعة للإجابة:
بجريدة نخل سحبتها معايا وأنا جاية من الدرس، بجيت أرفعها لأعلى فرع، وأنزل بيها أحلى واحدة أنمر عليها.
قطبت مزيونة حاجبيها تستوعب الفكرة، والتي لم تروق لها كثيرًا، فاكتفت بتوجيه النصح:
طب ياريت متكرريهاش تاني. مش مستاهلة شندلة وتعب على شوية تين طازة. لو عايزة، أبقى أشتريلك.
أومأت ليلى رأسها بطاعة، ثم رفعت إليها الطبق مرة أخرى لتجعلها تشاركها في تناوله أمام التلفاز، حيث كانا يشاهدان فيلمًا عربيًا قديمًا. لم يكن الفيلم يروق لليلى كثيرًا، لكنه يعجب والدتها التي تندمج في أحداثه. كانت تعلم أن مشاهدة الأفلام الرومانسية هي متعتها الوحيدة بعدما حرمت منها، كما سُرقت منها أحلام الفتيات العادية في سن المراهقة؛ السن الذي لم تمر به أصلًا بتحملها مسؤولية الزواج المبكر.
❈-❈-❈
انتظرت خروج الجميع وذهابهم إلى منازلهم، حتى تخرج إليه داخل الحديقة التي التزم الجلوس بها ومراقبة الخيل الصغيرة وهي تأكل أمامه، وقد غفا طفله على الأريكة الخشبية بجواره، وظل هو لوحدته وهمومه كما يبدو أمامها.
اللي واخد عقلك؟ تفوهت بها بمشاكسة لتلفت انتباهه إليها، فتبسم ونهض عن مقعده لاستقبالها:
يعني هيكون إيه بس يا حاجة حسنية؟ هو إحنا معانا غير الشغل؟ اجعدي بس الأول.
تحدثت بعد أن أجلسها بجواره:
والله اسأل نفسك، ولا بص في المراية وانت تعرف، أكيد اللي شاغلك أكبر من أي هموم ولا أي شغل.
طالعها باستفسار فتابعت تفصح عما يشغلها:
بصراحة يا ولدي، أنا خايفة من حاجة كده ومش عارفة أوصلهالك إزاي؟
حثها أن توضح أكثر:
جولي يا أمة، إنتِ هتتكسفي مني؟ دا انتي الحجة حسنية!
تشجعت تجيبه هذه المرة:
أنا سمعت إنك كنت سايق العربية النهارده ومعاك مزيونة وأخوها، الولية مطلجة وأنا أخاف لحد يشوف كده ويظن يعني...
يظن إيه يا أمي؟ صدرت منه بمقاطعة وانفعال تخلل كلماته، مردفًا:
انتي بنفسك شوفتي الست المحترمة هي وأخوها. انتي عارفة زين باللي مرت بيه، منبقاش إحنا والزمن عليها! ولا انتي هتخلي هالة تنخور في دماغك؟
وه يا ولدي، وإيه اللي جاب سيرة هالة دلوك؟
عشان عارفاها يا أمي، وعارفة حشيريتها في كل كبيرة وصغيرة.
توقفت برهة تمتص غضبه، وقد بدا أمامها كعود ثقاب قابل للاشتعال، وهي تريد المزيد من التوضيح:
طب لو سألتك عن الولية نفسها، إن كان ليك غاية فيها؟
بماذا يخبرها؟ عن حب يائس يثير شفقتها، أم عن امرأة لو انقلب العالم رأسًا على عقب لما حدث وتراجعت عن قرار اتخذته مسبقًا بدفن نفسها من أجل صغيرتها وفقط؟ عند خاطره الأخير وجد الحل سريعًا يصارحها بما يخطط له مع شقيقه منذ شهور:
مش موضوعي يا حجة حسنية، ومدام فتحتي الموضوع بنفسك يبقى أنا هصارحك بالحقيقة عشان أخلص من زن ولدك فوج راسي.
ولدي مين؟
ولدك معاذ يا أمي، عايز يتجوز بت مزيونة.
وعرفان الراجل العفش! انت بتقول إيه يا حمزة؟ أضافتها بغضب احتل محياها، لتفاجأ بقدوم المذكور عائدًا من الخارج، فهتفت منادية توقفه قبل أن يدخل إلى المنزل:
واض يا معاذ، تعالَ هنا، عايزاك.
❈-❈-❈
في منتصف الليل، حيث يسود السكون أرجاء المكان، وتتوقف حركة البشر عن مشاغل الحياة لينالوا قسط من الراحة الذي يستحقها الجسد، كان هناك صنف آخر من البشر لا يجد فرصته إلا في هذا الوقت. مغامرة بسيطة قد تحقق له ما يتمناه ويؤرق مضجعه منذ سنوات.
وصل هذا الملثم إلى خلف المنزل الوحيد وسط المزروعات، حيث لا بشر ولا جيران يخشاهم. وبخفة القرد، تسلق الحائط الطيني القديم مستعينًا ببروز بعض الحفر في الطوب اللبن المبني به، ليصبح أعلى الجدار في ظرف لحظات قليلة، حيث الجزء الخالي بطرف المنزل من السقف. حاول تكرار الأمر والنزول بخفة، لكن حظه هذه المرة لم يساعده، فانزلق ساقطًا إلى الأرض بوقعة خفيفة لم تؤثر فيه، لكن وقعها كان في الداخل؛ إذ وصلت إلى تلك الغافية التي تحتضن ابنتها، ففتحت عينيها مستيقظة بإجفال جعلها تنهض بجذعها عن الفراش في لحظات قليلة.
قادها إحساسها بشيء غير مريح جعلها تطل برأسها خارج الغرفة، فازداد شكها حينما وصلت إليها أصوات أخرى من الجهة المكشوفة للمنزل بطرازه القديم. وقد أحسن شقيقها صنيعًا حين أحكم إغلاقها من قبل، بالطين وبباب حديدي غليظ، تزيد عليه مزيونة ليلاً بأشولة الحبوب والقمح من الداخل، زيادةً في الحرص وتقديرًا ليوم مثل هذا.
أرهفت السمع جيدًا لتتحقق مما إذا كان مصدر الصوت قطة أو حيوانًا آخر لا تعرفه، فجاءها التأكيد بشيء أخطر حينما رأت بأم عينيها المحاولات الحثيثة بمغلق الباب لفتحه...
انتفضت من مكانها عائدة إلى الغرفة، متجهة نحو خزانة الملابس، لتفاجأ باستيقاظ ابنتها تسألها:
في حاجة يا أمة؟
هشششت، قاطعتها منذ البداية، واضعة سبابتها على فمها بنظرة تحذيرية جعلت الوعي يعود إلى الأخرى، فتقعد جالسة تراقبها بخوف، وتذعن لرغبتها بعدم التحدث رغم فزعها. وما لبثت عيناها أن جحظتا رعبًا حين رأت ما أخرجته مزيونة من داخل الخزانة.
بندجية يا أمة! — خرجت منها العبارة دون إرادتها.
فعادت إليها الأم بتحذير أشد، مطالبة إياها بالصمت الكامل، رغم رعبها الذي لم يمنعها من مراقبتها وهي تجهز السلاح الناري، متأكدة من حشوه، قبل أن تتحرك به خارج الغرفة وقد اتخذت قرارها بشجاعة. فهذه اللحظات الفارقة لا تحتمل التردد على الإطلاق.
استقامت ليلى عن فراشها تتبع والدتها، وما هي إلا خطوتان حتى دوى في الأرجاء صوت الطلق الناري يصم الآذان من قرب المسافة...