![]() |
رواية حين تساقط الزهر في قلبي الفصل الاول بقلم بشري اياد
الساعة الخامسة وخمس وخمسون دقيقة مساءً.
المطر يهطل بخجل، كأنه لا يريد أن يوقظ المدينة.
في تلك اللحظة، كانت رُبى تجلس وحدها في زاوية القاعة القديمة، يلفّها صمتٌ لا تُكسره سوى أنغام البيانو المتقطعة، وكأنها تحاول تذكّر لحنٍ ضائع.
أصابعها كانت ترتجف قليلًا وهي تمرّ على المفاتيح، لكن ذلك الرجفان لم يكن من برد الشتاء، بل من برد الروح… من ذلك النوع من الوجع الذي يعتاد الجلوس تحت الجلد، دون أن يصرخ.
مرت ثلاث سنوات على الحادث، لكنها ما زالت تسمع صراخها في الحلم… ما زالت ترى وجه أختها التوأم نغم وهي تبتسم في الممر، قبل أن تُغلق عليها أبواب غرفة العمليات إلى الأبد.
لم تعرف كيف خرجت من المستشفى يومها.
لم تعرف كيف لم تمت معها.
أصبحت الحياة بعدها مجرد عزفٍ بلا جمهور.
ابتسامة بلا طعم، وصوتها حين تتحدث مع الأطفال، هو الشيء الوحيد الذي يمنحها معنى مؤقتًا.
"مِس رُبى!"
صوت طفلة صغيرة قاطعها، كانت تُلوّح لها من بعيد وهي تُمسك برسمة ملونة.
ابتسمت لها بود، ثم عادت إلى عزفها، كأنها تطلب من الموسيقى أن تحميها من الذكريات.
لكن الأقدار كانت تخطّ لحظة جديدة.
فُتح باب القاعة بصوتٍ هادئ، ودخل رجلٌ بملامح جامدة ونظراتٍ باردة.
يرافقه مدير الدار، الذي بادر قائلاً بابتسامة:
– "مساء الخير، رُبى… حبيت أعرّفك على السيد عُدي الكيلاني، رجل أعمال من أكبر الداعمين الجدد للمركز. هو اللي تبرّع لنا بالقاعة الموسيقية اللي حلمنا فيها من زمان."
توقفت عن العزف للحظة، ورفعت رأسها نحوه.
نظرة سريعة، لكنها كانت كافية لتقرأ شيئًا غامضًا في عينيه… شيءٌ لا يشبه رجال الأعمال المعتادين، لا جشع، لا تباهٍ، فقط صمت كثيف، ونظرة حزينة تُخفي أكثر مما تُظهر.
قال عدي بصوته العميق:
– "تشرفت بمعرفتكِ… الموسيقى التي كنتِ تعزفينها… حزينة جداً، لكنها جميلة."
لم تُجبه.
هي لا تُجيد المجاملات، ولا تحب الظهور.
كل ما في الأمر أنها تشعر بأن هذا المكان — وهذه الموسيقى — ليست له.
قالت بهدوء:
– "هؤلاء الأطفال لا يحتاجون قاعة موسيقى فاخرة… بل يحتاجون أمانًا لا يُشبه ما عرفوه في الشوارع."
ابتسم مدير الدار بتوتر، وتدخل سريعًا:
– "السيد عدي يرى أن الفن مهم في علاج النفس… وهو ما نحتاجه هنا أيضاً."
لكن عدي لم ينزعج من ردّها، بل اقترب بهدوء وجلس على أحد المقاعد خلف الأطفال، كأنّه قرر أن يسمع أكثر مما يتكلم.
كان يُحدّق في رُبى وكأنّه يرى شيئًا يعرفه مسبقًا.
وهذا ما أرعبها.
بدأت تعزف من جديد، لكن قلبها كان مضطربًا.
لماذا كانت نظراته مألوفة؟
ولماذا شعرت، للحظةٍ خاطفة، وكأنّ الحزن في عينيه يشبه حزنها؟
**
في الخارج، كانت الأشجار تتمايل مع الريح، وسقطت زهرة من الغصن اليابس المقابل للنافذة، كأنها تُعلن عن بداية حكاية… أو نهاية أخرى.
**
بعد نصف ساعة، كانت رُبى في غرفة المكتب الصغيرة، تراجع دفاتر الأطفال، حين طر knock خفيف على الباب.
– "ممكن أدخل؟"
كان هو.
عدي.
ارتبكت للحظة، لكنها لم تُظهر شيئًا.
قالت ببرود:
– "التبرعات لا تحتاج إذن دخول."
ردّ بابتسامة باهتة:
– "وأنا ما جايب تبرعات… جايب فضول."
صمتت.
– "مين نغم؟"
تجمّدت في مكانها.
نظرت إليه كمن صُفع.
قالت بصوتٍ جاف:
– "اسم عشوائي من خيالك؟"
هزّ رأسه:
– "كان مكتوب على النوتة اللي كنتي بتعزفيها… على الهامش، بخطك."
لم ترد.
لكنه أكمل بنبرة منخفضة:
– "أنا أعرف كيف بيكون الوجع لما تخسر شخص بتحبه…"
ثم سكت، كأنّه لا يملك الشجاعة ليكمل.
وفي داخله، شيء كان يتحرّك…
لأنّه، دون أن تعلم، كانت قصتهما متشابكة منذ سنوات…
بجريمة واحدة…
بخسارتين…
وبحقيقة… لم تظهر بعد.
حدّقت فيه رُبى لثوانٍ طويلة، وكأنها تبحث عن خدعة خلف صوته الهادئ. كيف عرف اسم أختها؟ وكيف قرأ ما لم تنتبه هي أنها كتبته أصلاً؟
تراجعت خطوة للخلف، وأغلقت الدفتر ببطء، ثم قالت بنبرة ممزوجة بالحذر:
– "أنا ما بحب حدّ يتدخل في خصوصياتي."
ابتسم عدي ابتسامة قصيرة، لكنها لم تصل إلى عينيه، وقال:
– "ما كانش قصدي أتدخل… بس أنا بحسّ بالموسيقى، وأحيانًا… الموسيقى بتفضح الوجع."
جملته الأخيرة أصابتها في مقتل.
ولأول مرة منذ سنوات، شعرت أن أحدًا استطاع أن يرى الشقوق التي كانت تخفيها بابتساماتها المهذبة.
حاولت تغيير الموضوع، فقالت وهي تنظر إلى الملفات:
– "لو كنت ناوي تزور المكان بشكل مستمر، أتمنى تحترم خصوصية الأطفال قبل أي شيء."
– "أنا جيت عشان الأطفال… بس يمكن، كمان… عشان حاجة تانية."
رفعت نظرها نحوه، فوجدت أنه يحدق في صورة صغيرة على الحائط، صورة قديمة لفرقة موسيقية صغيرة يقودها أطفال الدار، وهي تعزف في المنتصف، مبتسمة.
قال بنبرة غريبة:
– "عرفت إنك بدأتي تعزفي هنا بعد الحادث… معقول الموسيقى كانت طريقك للهروب؟"
أجفلت من كلماته.
– "إنت بتراقبني؟"
– "لا… بس أنا كمان عندي ماضي."
قالها ثم التفت ليغادر.
لكن قبل أن يصل إلى الباب، توقّف، وأدار وجهه قليلًا نحوها.
– "بتعرفي شو الغريب؟ إنو لما سمعت عزفك… حسّيت إني سامع صوت فقدي."
ثم خرج.
**
ظلت واقفة وحدها في الغرفة، ويدها ما تزال فوق الدفتر المغلق.
كلماته تسللت إلى قلبها، رغم كل الحواجز.
منذ متى لم تشعر أن أحدهم يفهم ما لا يُقال؟
منذ متى لم يخترق أحد صمتها؟
وفي أعماقها، بدأت نغمة جديدة تتشكل… نغمة لم تعزفها من قبل، لكنها بدأت تتنفس.
**
في الخارج، كان المطر قد توقف.
وآخر زهرة على الشجرة المقابلة… سقطت.
**
لكن رُبى لم تتحرك. بقيت تنظر للباب الذي خرج منه، وكأن صوته لم يكتفِ بالرحيل، بل خلّف وراءه زلزالاً صامتًا.
"صوت فقدي"... كلمته ترددت في أذنها أكثر من عزفها ذاته، وأكثر من بكاء الأطفال حين يخافون من الليل.
رفعت يدها ببطء، ولمست طرف البيانو… نفس البيانو الذي عزفت عليه يوم ماتت رُلى.
كانت الموسيقى وقتها مجرد هروب… لكنها اليوم تحوّلت إلى قبر، تدفن فيه مشاعرها كل مساء.
جلست على المقعد، وكأنها تتحدى الذكريات. وضعت أصابعها على المفاتيح، لكنها لم تعزف.
بل همست كأنها تخاطب أختها:
– "رُلى… تفتكري لو عرفتي إن الشخص اللي دخل حياتنا من جديد… هو ابن اللي قتلك؟ كنتي هتسامحيني لو قربت منه؟"
صمت قاتل.
ثم فجأة… انقطع التيار الكهربائي في القاعة.
دوت صرخة من أحد الأطفال في الخارج، تبعتها خطوات مسرعة، وصوت أحد الموظفين يصرخ:
– "يا ناس! الطفل الجديد اختفى!"
قامت رُبى بسرعة، خرجت من الغرفة وهي تمسك بمصباح هاتفها. قلبها يدق بجنون.
في الزاوية الخلفية من المبنى، وجدت الباب المؤدي للحجرة القديمة مفتوحًا. هذه الحجرة لم يُفتح بابها منذ سنوات… تحديدًا منذ الحادث.
دخلت بخوف.
كانت الغرفة مظلمة، وباردة، و… ساكنة بشكل مريب.
لكن على الجدار المقابل… كان هناك شيء مكتوب بالفحم.
اقتربت. وارتجفت يداها.
"رجعت تاني… ورح تاخدك متل ما أخدت رُلى."
شهقت… وكأن قلبها توقف.
وفي تلك اللحظة… سُمعت ضحكة صغيرة من خلفها.
ضحكة طفل… أو شيء آخر.