رواية حين يهمس الحب الفصل الاول بقلم وسام اسامه
"ما أقسى أن يسكنك الحنين، ولا تملك صوتًا تنادي به من تحب... فتظلّ تهمس داخلك، وتنتظر أن يصل الصدى إلى قلبه، ولو عبر الصمت."
----
كانت تجلس بصبر غريبٍ تُحسد عليه، تجدل تلك الخصلات الطويلة المتمردة كصاحبتها ذات الأعوام الستة فقط!
تنهدت غزال بعمق وهي تستمع لكلمات شادن للمرة المئة، تسرد بحماس مغامرتها الأخيرة مع مهران، واجتماعهما على أحد الصبية ليعلّماه درسًا قاسيًا... فقط لأنه وكزها أثناء اللعب!
كم أصبح الأمر مُرهقًا.
كم أصبحت الحياة ثقيلة على كتفيها وحدها.
لم يكن يومها سهلًا، بل على العكس، بدا وكأنه فصل آخر في قصة استنزافها الدائم. استيقظت منذ الصباح الباكر، أعدّت الفطور لشادن، استمعت إلى اعتراضاتها الطفولية المعتادة، جهّزتها للمدرسة، ثم هرولت إلى عملها حيث لا يتوقف الضغط ولا تهدأ المهام، وكأن كل شيء مصمم خصيصًا لاستنزافها.
وبعد هذا كله، كان عليها أن تتلقى مكالمة مُحبطة من مديرة المدرسة، تذكرها مجددًا أنها – رغم كل شيء – لا تزال مقصرة في دورها كأم.
أغمضت عينيها بحدة وهي تستعيد في ذهنها تلك الكلمات الزاجرة التي تلقتها من مديرة المدرسة، عن مدى عنف ابنتها وتمردها الذي تجاوز سنها بسنوات، ناهيك عن الشغب والصوت المرتفع. والأسوأ من ذلك، تلميحات المديرة الساخرة حول ولع الصغيرة بالرقص في كل وقتٍ وحين، في تجاوزٍ فجّ لقواعد الذوق والأدب!
تجرّعت محاضرة طويلة عن أسس التربية الصحيحة، من امرأةٍ ذات تصفيفة شعر كارثية، كادت غزال أن تعبث بها من فرط الغيظ... لكنها تماسكت، واعتذرت صاغرة عن أفعال ابنتها العتيدة.
وضعت المشط جانبًا، وأسندت رأسها إلى كفيها تحاول ألا تفكر... هل حقًا فشلت في تربية شادن كما ادّعت المديرة؟ كيف ستواجه سلطان بما حدث؟ كيف ستخبره أن ابنته المدللة تسببت في جرحٍ سطحي لفتى في صفها، وأن والديه يصعّدان الأمر لمجلس التأديب؟ ماذا لو تم فصلها من المدرسة... وكذلك مهران؟
أفشلت في أمومتها حقًا؟
ضغطت على صدغيها بأصابع باردة، تحاول كبح ذلك الغضب الذي يتآكلها من الداخل. أيُعقل أن تكون قد فشلت إلى هذا الحد؟
هل أخطأت حين ظنّت أنها قادرة على تربية شادن بمفردها؟
لكنها لم تختر هذا الوضع! سلطان هو من اختار أن يكون بعيدًا، هو من غرق في عمله حدّ التلاشي، هو من تركها تواجه هذه الحياة وحدها، كأنما ابنته ليست مسؤوليته كما هي مسؤوليتها!
انتشلتها من شرودها الحزين أصواتُ شادن وهي تقفز بحماس، تركض نحو باب الشقة وتفتحه بسرعة. جاء صوت غزال مُتعَبًا ومؤنبًا:
— ألف مرة قلتلك، يا شادن، ما تفتحيش الباب من نفسك!
لكن الصغيرة تجاهلتها تمامًا، وهي تصيح مرحبةً بأقرانها وخاصة مهران شريكها في الجرائم !!
رمقتها غزال بنظرة سريعة قبل أن تتراجع وتعود إلى جلستها، وكأن جسدها لم يعد يملك طاقة للوقوف. اقتربت دهب وجلست بجوارها، نظرت إليها مطولًا ثم قالت بتنهيدة مرهقة:
— "أنا جيت نفكّر سوا في المصيبة اللي العيال عملوها، هقول لخالد إيه بقى؟ ده لسه استدعاء الأسبوع اللي فات مبرّدش!"
لم تعلق غزال فورًا، بل مررت كفها فوق وجهها كأنها تحاول مسح آثار التعب، ثم غمغمت بصوت شبه هامد:
— "أنا تعبت، يا دهب... شغل، وبيت، وبنت مشاغبة، ومدرسة، ومديرة بتعاملني كأني أم مهملة... أنا مهما عملت، مش كفاية!"
تأملتها دهب قليلًا، وهي تشعر بإحساس غريب يتسرب إلى صدرها. منذ متى وهي ترى غزال بهذا الانطفاء؟
غزال... التي كانت لسنوات مصدر استفزازها الأول، الفتاة التي لم تفوت فرصة إلا وأغرقتها فيها بالتعليقات اللاذعة والتصرفات المستفزة... هي الآن تجلس أمامها، ليست الفتاة المدللة المتغطرسة التي كانت تعرفها، بل امرأة مرهقة، مستنزفة، تحمل أعباءً أكبر منها.
كيف تغيرت الأمور بينهما إلى هذا الحد؟ كيف تحولت تلك العداوة الشرسة إلى صداقة حقيقية؟
كيف أصبحت أكثر شخص قريب من غزال، وهي التي لم تكن تطيقها يومًا؟
رغم كل شيء، لم تعد ترى أمامها الفتاة التي كرهتها قديمًا... بل صديقة بحاجة إلى دعم، أكثر من أي وقتٍ مضى.
مدّت يدها وربتت على كف غزال قائلة بهدوء:
— "يبقى لازم تكلميه، يا غزال! لازم تقولي له، لازم يعرف إن مشاعرك دي موجودة، وإنك مش قادرة تشيلي الحمل لوحدك!"
ضحكت غزال بسخرية خافتة، وكأنها تسخر من سذاجة الفكرة ذاتها.
— "وأنا مش عايزة أكلمه ليه يعني؟! ده أنا أكتر واحدة عايزة يكون جنبي، عايزة يكون في حياة شادن بشكل يومي، مش مجرد كام يوم كل شهر ونص!"
ثم صمتت قليلًا، وكأنها تحاول ابتلاع الكلمات قبل أن تهرب منها، لكنها لم تستطع.
— "بس لو طلبت ده منه، ممكن يحسّ إني بضغط عليه ببنته... ويعمل زي ما عمل مع يُسر، يطلقني!"
شهقت بخفوت، وكأنها صُدمت من اعترافها بنفسها. هل هذا ما تخشاه فعلًا؟ هل خوفها الحقيقي ليس مجرد التعب والوحدة... بل فكرة أن تُستبعد من حياته؟ أن يتكرر معها ما حدث لزوجته السابقة؟
همست بصوتٍ أضعف، كأنها تحاول إخفاء ارتجاف كلماتها:
— "أو يحس إنه ندمان على جوازه مني، وإنه يستاهل حد أحسن مني."
نظرت إليها دهب مطولًا، قبل أن تقول بجدية صريحة:
— "يا بنتي، انتي بقالك سنين شايلة بيتك، وشغلك، وبنتك، وأمه كمان! هو لو مش شايف ده، يبقى الغلط عنده، مش عندك!"
حاولت أن تغير الموضوع، فسألتها بضعف:
— "سيبك مني بقى، أنا آسفة إن شادن دايمًا بتدخ مهران في مصايبها، أكيد خالد متضايق."
ضحكت دهب بسخرية:
-ياريته بيكون متضايق بس، المشكلة انه بيعامل مهران كإنه شاب مش طفل صغير، الطبيعي انه يتشاقى.
تنهدت غزال بأسف، همست:
— "هحاول أخلّي خالي سليمان يوصّل له اعتذاري."
لكن دهب رمقتها بنظرة حادة وقالت بانفعال:
— "غزال!! انتي مجنونة؟! اعتذار إيه؟! عن إيه؟!"
ثم شهقت وكأنها تذكرت شيئًا خطيرًا، فتحت هاتفها بسرعة وقالت بقلق
— "سيبك من ده، أنا لسه واصلي إيميل من المدرسة وأكيد وصل لخالد كمان، وأظن إن اللي جاي مش هيكون سهل!"
رفعت غزال حاجبها وقالت بسخرية رغم إرهاقها
— "متعمليش مشاكل يا دهب!"
لكن دهب رفعت رأسها وقالت بثقة ساخرة:
— "أناااا؟ لا طبعًا، أنا بس... هنعمل حرب صغيرة!"
نظرت غزال حولها، وسط ضحكات الأطفال وصخبهم، وشعرت لأول مرة منذ أيام أن هناك شخصًا يفهمها، شخصًا لا يطالبها بالمزيد، بل يرى ما تبذله بالفعل.
لكن السؤال الذي ظل يتردد في عقلها... هل سلطان يرى؟ هل يشعر؟ أم أنه غائبٌ حتى عن هذا؟
قطع شرودها ارتفاع صوت هاتفها برنين حاد جعلها تتنهد بثقل وهي تمسك هاتفها وتقف ناظرة لدهب...
-هروح اعمل حاجه نشربها، خلي بالك منهم عشان مصايبهم مبتخلصش
طمأنتها دهب وهي تنهض لتجاورهم بينما غزال دلفت للمطبخ وهي تنظر لهاتفها وقد كتمت رنينه الموتر لاعصابها خاصة حينما بصرت اسم زوجها على الشاشة... تنفست للحظات تحاول تنظيم أفكارها، شحذ همتها وتصفية صوتها من أي ضغوط وتوتر.. وما كادت تضغط على زر الرد، اختفت المكالمة من الشاشة وأصبحت فائتة، تنهدت مطولًا ووضعت الهاتف جانبًا وقد حمدت الله أن المكالمة أُغلقت من تلقاء نفسها، ولكن عاد الرنين من جديد يوترها فأمسكت هاتفها وردت بهدوء أخفت فيه ما يتعتمل بصدرها...
-ايه ياحبيبي ازيك
-الحمدلله كويس، مبترديش ليه من بدري، دي تالت مره ارن عليكي، انتي وشادن كويسين؟!
كان صوته يحمل قلق منفعل تعرفه جيدًا فحاولت طمأنته بكلمات هادئة رقيقة...
-متقلقش يابابا احنا كويسين، أنا بس مسمعتش الموبيل كان في الشنطة وكنت مشغولة مع شادن انت طمني عليك عامل ايه!
ساد صمت قصير على الطرف الأخر وقد لاحظ ما يزيد قلقه، زوجته صامتة، جادة، على غير عادتها
ولم يكن قلقه وليد اللحظة، بل لاحظ رنين نبرتها المتوترة طوال الشهر الماضي وفي كل مره يسألها أو يسأل والدته تأتيه الإجابة نافية مصحوبة بجملة " كل شيء على ما يرام لا تقلق" ولكنه يعرف خبايا زوجته، يعلم صوتها المرح الذي بدأ يختفي أثره من حياته
يعلم دلالها الفطري الذي بات يختبئ مؤخرا خلف كلمات مختصرة هادئة... ولكنه لا يعرف السبب، ولا يعرف ما الذي يحدث في غيابه !
تنهد مطولا قبل أن يغمغم في هدوء...
-غزال لو في حاجه قوليلي، البنت كويسة أكيد! انا لسه مكلم امي متطمن عليها و..
قاطعته غزال وهي تغمض عينيها مطولا وتبتسم ابتسامة ساخرة وهي تغمغم بنبرة موبخة أخفت فيها انفعالها..
-اممم انت الي قالقك البنت، عموما شادن كويسة متقلقش ثواني هناديها تطمن عليها بنفسك.
-غزال استني انا بكلمك انتي
تجاهلت غزال صوته وهي تصيح باسم ابنتها وداخلها غضب عظيم ممزوج بحزن ظل حبيس صدرها، زوجها يهتم فقط لابنته ووالدته
أما هي فلا، هي اخر أولوياته، وأخر من يفكر فيه ويقلق عليه، خرجت من افكارها وهي تنخفض لابنتها تعطيها الهاتف مغمغمة بهدوء..
-بابي عايز يكلمك يطمن عليكي، ادخلي اوضتك كلميه براحتك، وانا هطلع أقعد مع تانت دهب.
كان صوت سلطان يأتي من الهاتف منفعلا وهو يطالبها بمحادثته إلى أن ارتفع صوت شادن السعيدة بمكالمة والدها وهي تصيح راكضة لغرفتها بحماس...
-بابي وحشتني أوي أوي انت هتيجي امتى!
أما غزال، فقد كَبَحَتْ غضبها بكل ما أوتيت من قوة، وأخرجت نفسها من شرود ذهنها لتجلس مع دهب وأطفالها، مُحَاوِلَةً بكل جهدٍ أن تكتم غمَّها وحزنها المتراكم. وعلى الرغم من قدرتها على إخفاء ذلك، إلا أن قلبها كان يعتصره الألم، وكان ثقل الأيام يُطَوِّق صدرها كطوقٍ لا يُفَكُّ.
وجاءت النجدة فجأة من السماء، حينما استأذنت دهب بعد عشر دقائق فقط، مغادرة هي وأطفالها لظرفٍ طارئ كما بررت لها قبل أن تنسحب. ودَّعتهم غزال بأدبٍ متصنّع، ثم عادت إلى مكانها على الأريكة، تجرُّ في قلبها أثقالًا لا تُرى لكنها شعرت بثقلها على عظامها. كان صوت شادن يملأ المكان، تحدثت بحماسٍ لا يوصف مع والدها، وكأنها تعيش في عالم آخر بعيد عن هموم والدتها. كانت تُقَصُّ عليه تفاصيل يومها الأخير، تروي له مغامراتها وأحلامها الصغيرة، ووجدت غزال نفسها تستمع إلى الحديث من بعيد، وهي تَحْتَسِي كأس الحنين والماضِ الذي لا يعود.
أسندت غزال رأسها إلى ركبتيها، التي عانقت صدرها، وشرَدت في ماضٍ كان مليئًا بالدفء والطمأنينة. ماضٍ كان سلطان فيه هو تلك الأذن التي تلقي على قلبها كل همساتها، حتى في غيابه. كانت تروي له كل ما يحدث في غيابه، تتحدث وتضحك، أحيانًا تبكي وتنساب كلماتها بحرية كما كانت تُسمع. في تلك الأيام كان صوتها يتردد في سمعه كما الأمواج تلامس الشاطئ، وكان حضور سلطان في حياتها يكسر وحشتها بكل مرة تسمع صوته. أما الآن، فقد تغيّر كل شيء، أصبحت همومها حبيسة صدرها، وشوقها له أصبح يختنق في حلقها، ولا تستطيع أن تنطق به بحرية كما كانت تفعل في الماضي، ولا تسعده كما كان الحال سابقًا.
هل تغيرت حياتهما إلى هذا الحد؟ هل غابت تلك اللحظات البسيطة التي كانت تَسَعُ قلبها وتشعرها بالراحة؟ تساءلت غزال في داخلها، وهي تشعر بثقل الوحدة يزداد عليها، يضغط على قلبها كما يضغط الزمن على شريط حياتها المنفصل.
شعرت بشيء من الضغط في صدرها، وحاولت أن تطرد تلك الأفكار التي تثقل قلبها. فجأة، جاء صوت شادن من غرفة النوم، وصوت خطواتها الصغيرة تقترب منها.
"مامي، بابا عايز يكلمك!" قالت شادن بحماس، وهي تحمل الهاتف في يدها.
أخذت غزال الهاتف ببطء، وكأنها تمسك بشيء ثقيل. وضعت الهاتف على أذنها، وسكتت للحظة. صوت سلطان الهادئ وصل إليها، وكأنك يسمعها من مسافة بعيدة، فاختلطت مشاعرها بين الحنين والقلق.
"ممكن اعرف بتعملي كدا ليه؟ لو في حاجة، قوليلي، أنا محتاج أعرف."
كانت كلمات سلطان تحمل حنوًا، لكنها في نفس الوقت تذكرها بكل ما غاب عنها، بكل ما كانت تتمنى أن يشعر به. أغمضت عينيها قليلاً، حاولت جمع نفسها، وأجابته بصوت خافت، غير قادر على إخفاء الألم الذي يعتصرها:
"أنا بخير، بس... الشغل، والضغوط، وحاجات كتير... مش عارفة، مش قادرة أقولك كل حاجة."
سكت سلطان لحظة، وكأن كلماتها وصلت إليه، فشعر بثقل الحزن في صوتها. ثم قال بحذر:
"لو محتاجة اتكلمي، أنا هنا، غزال. انا عارف اني طولت المرادي في الشغل، لكن خلاص هانت كلها أيام واجي."
حاولت أن تبتسم، لكن الدموع كانت تكاد تغلبها.
"تيجي بالسلامة ياسلطان، انا وشادن مستنينك؟
لم تكن تحتاج للكلمات أكثر من ذلك، فسلطان كان يعرف ما تعنيه. لكنها كانت تحتاج منه أن يكون أكثر حضورًا، أكثر قربًا.
***
كانت الغرفة شبه مظلمة، الضوء الوحيد الذي يبدد الظلام هو شاشة الهاتف التي بين يدي "نورا". جالسة على السرير، تتصفح صور خطبة خطيبها السابق في صمتٍ ثقيل. في كل صورة كان يبتسم، وتلك الابتسامة التي كانت تخصها يومًا، كانت الآن تتناثر في الهواء كأنها جزء من عالم آخر. بدا في الصور أكثر سعادة، بينما كان قلبها يغرق في كل لحظة تمر. دموعها تتساقط على وجهها، لكنها كانت تحاول جاهدة ألا تُصدر أي صوت. كأنها تخشى أن يُسمع ألمها من خلف جدران غرفتها.
كان "هو" في كل صورة، وفي كل صورة كانت هناك "هي" الأخرى، الفتاة التي لم تكن موجودة في عالمها من قبل. خصلات شعرها القصير تتطاير في الريح، وملامحها مليئة بالاسترخاء والدلال. كانت "نورا" تتابع الصور بعيون مشوشة، وكل صورة تحمل في طياتها وجعًا جديدًا، لكن الأكثر قسوة كانت تلك اللحظة التي أدركت فيها، دون أن تقول، أن هناك شيء تغير. ربما هو لم يراها أبدًا كما كانت ترى نفسها. وربما كانت "هي" التي في الصور، أكثر من مجرد شخص آخر.
رمت "نورا" هاتفها على السرير بعنف، وكأنها تحاول أن تتخلص من كل شيءٍ يربطها بتلك اللحظات المؤلمة. وضعت رأسها بين يديها، محاولة أن تمنع الصوت الذي كان يكاد يخرج من قلبها، صراعًا داخليًا بين ما كانت تشعر به وما كانت ترغب في إنكاره. كان ذلك الشعور يكاد ينهش قلبها، لكن دون أن تسمح له بالخروج، قررت أن تبقى هادئة، رغم أن كل شيء حولها كان يصرخ بألم لا يمكن تهدئته.
لا تصدق !! مر أسبوعان فقط على الفراق، ولكن وكأن الزمن قد تجمد منذ تلك اللحظة. ومنذ أيام قليلة، طرق والدها باب غرفتها، ناولها صندوقًا صغيرًا بكلمات قليلة أن خطيبها السابق رفض أخذ الذهب أو الهدايا لأنه هو من تركها في عرفهم، ثم تركها وحدها.
كانت الهدايا التي أعادها، الذهب والخواتم، والساعة التي اختارتها بنفسها... كل شيء كما كان.
أمسكت بالصندوق بحذر، وكأنها تلمس ذكرى قابلة للكسر. فتحته ببطء، تتأمل تلك التفاصيل التي كانت قبل أسابيع فقط تعني لها بداية، حلمًا مشتركًا، ومستقبلًا كانت تراه واضحًا. اليوم، لم يعد شيء من ذلك واضحًا. كل قطعة بدا وكأنها تسخر منها، تذكرها بما لم يعد موجودًا. الخاتم الذي كانت ترتديه، الساعة التي لمست يدها ويده في آنٍ واحد، كلها أصبحت شواهد صامتة على ما خسرته.
وضعت الصندوق على الطاولة، تنفست بعمق وكأنها تحاول إخراج وجعٍ تجذر في صدرها. لم يكن الألم في الذهب، ولا في الصور، بل في سرعة اختفائه من حياتها، في أنه وجد مكانًا آخر بهذه السهولة.
نظرت إلى الخاتم الذي كانت تحتفظ به في يدها، أدارته بين أصابعها، تراقب لمعانه في ضوء الغرفة الخافت، ثم رمته فوق السرير دون تفكير. لا أحد يعلم كم من الوقت جلست هناك، تتأمل الفراغ، تسمع فقط صوت دقات قلبها المتسارعة، تحاول أن تفهم... كيف انتهى كل شيء بهذه البساطة.
لم تستطع النوم تلك الليلة. كانت كلما أغلقت عينيها، ظهرت ابتسامته من جديد، نفس الابتسامة التي رأتها في الصور، تلتف حول قلبها وتشد عليه حتى تكاد تخنقها. فتحت هاتفها مرات ومرات، تتردد، تُمسح الرقم وتكتبه من جديد. لم تكن تريد شيئًا، فقط أن تفهم.
وفي لحظة ضعف، ضغطت زر الاتصال.
طال الرنين، وكاد قلبها يتوقف مع كل ثانية تمر. ثم جاء صوته... هادئًا، وكأنه لم يترك خلفه شيئًا يستحق الرجفة في صوتها.
– "ألو؟"
لم تجبه. كل ما خرج منها كان شهقة مكتومة، تبعتها دموعٌ غزيرة لم تستطع السيطرة عليها. بقي هو صامتًا، ينتظر، بصبرٍ باردٍ لا يشبهه، ولا يشبهها.
– "ليه؟" خرجت الكلمة من بين شهقاتها متقطعة، "ليه عملت كده؟ ليه سببتلي الوجع ده كله؟"
صوته جاء ساكنًا، كأنه يتحدث عن غريب:
– "نورا... إحنا خلاص انتهينا."
– "بس أنا بحبك... مقدرتش أنساك، ولا هقدر. حتى بعد ما خنتني... أنا كنت مستعدة أسامحك، بس ماتسبنيش كده. ماينفعش تسيبني كده!"
توقفت للحظة تنتظر كلمة، لمسة حنين، أي بقايا من الحب القديم... لكنه فقط قال بهدوء قاتل:
– "أنا خطبت، ومبسوط. اللي بينا خلص، ومينفعش نكمل. لازم انتي كمان تقفلي الصفحة... وتنسي."
كان صوته حاسمًا، لا يحمل ندمًا، ولا حتى عتابًا. وكأنها لم تكن في حياته من الأساس.
ابتلع قلبها كلماتها القادمة، لكن دمعها لم يتوقف. شعرت وكأنها تنهار تمامًا، لكنه لم يترك لها حتى لحظة لتجمع بقاياها.
– "لو سمحتي يانورا... ياريت تبطلي تبعتيلي، ولا تتصلي بيا تاني. مش عايز مشاكل مع خطيبتي. احظري رقمي، أو لو اتصلتي تاني... هضطر أنا اللي أعمل كده."
ثم أُغلق الخط.
ظل الهاتف في يدها، والصمت يلف المكان من حولها، كأن العالم كله توقف ليسمح لها بالبكاء كما لم تبكِ من قبل. لم يكن صوته فقط من قسا عليها... بل الواقع، الحقيقة التي واجهتها أخيرًا. هو مضى، وهي... ما زالت هنا، تحبه، وتنهار في غيابه.
رفعت وجهها المبلل، ونظرت حولها... بحثت بعينيها عن شخص واحد فقط، صديقة، أخت، أي كتف تستند إليه، تُلقي عليه هذا الحمل الثقيل الذي سحق روحها الليلة. لم تجد أحدًا. الهاتف في يدها لا يحمل إلا أسماء بعيدة، أسماء هجرتها بإرادتها ذات يوم، أو ربما سُحبت منها دون أن تدرك.
تذكّرت كيف كان يرفضهم جميعًا. "ما بحبش صحبتك دي، بتحب تخرج كتير"، "دي بتأثر عليكِ، متكلمهاش تاني"، "أنا كفاية عليكِ"، وواحدة تلو الأخرى انسحبن من حياتها بهدوء... حتى أصبحت هي وهو فقط. ثم... أصبح هو فقط. ثم... لم يبقَ أحد.
أحاطت نفسها بذراعيها، كأنها تحاول أن تعوّض الفراغ، لكن الدفء لم يأتِ.
ألمٌ أعمق من الهجر احتل قلبها، ألم الوحدة. فالحب حين ينتهي لا يتركنا فقط، بل يأخذ معه أشياءً كثيرة... الأصدقاء، الضحكات، وحتى صورتنا القديمة عن أنفسنا.
جلست في ركن السرير، تنظر إلى الفراغ، وتشعر أن العالم بأسره يدور... إلا هي، عالقة في لحظة واحدة، لا تنتهي.
أغلقت الهاتف ببطء، وكأنها تُنهِي آخر صِلَة تربطها بالعالم. ظلت تحدّق في الشاشة الخافتة، تحاول أن تجد في انعكاسها سببًا... مبررًا لكل ما حدث، لكن وجهها بدا غريبًا، كأنها تراه للمرة الأولى.
ارتعشت يدها وهي تضع الهاتف جانبًا، ثم دفنت وجهها بين كفّيها. لم تكن تبكي، بل كانت تنهار. انهيارٌ لا صوت له، لا عويل، فقط تفتّت صامت يتسلّل من عينيها إلى أطرافها. كانت الوحدة تحتل صدرها، تتوسّع فيه بلا رحمة.
نظرت حولها كالغريق... تبحث عن شيء يمسك بها قبل أن تُسحب أكثر، أي اسم يمكنها الاتصال به، أي صوت يمكن أن يربّت على قلبها المثقوب.
فتحت قائمة الأسماء... لا أحد.
صديقتها "نهى"؟ حذفتها من شهور.
"سارة"؟ لم تعُد تتحدث إليها منذ أكثر من عام.
كل واحدة منهن خرجت من حياتها بصمت، بعد أن كانت كل حياتها.
تذكّرت كلماته: "أنا كفاية عليكِ... صحبتك دي بتبوّظك".
ابتسمت حينها، وظنّت أنه حب.
واليوم فقط أدركت... أنه كان عزلًا ببطء، عزلاً حتى عن نفسها.
جلست في منتصف سريرها، ظهرها محني، رأسها مثقل.
الشباك مغلق، الستائر لا تتحرك، حتى الهواء بدا وكأنه نسي طريقه إلى غرفتها.
الساعة على الحائط تمضي...
ثانية، ثم ثانية، ثم ثانية...
لكنها لم تكن تتحرّك.
نورا كانت هناك، في منتصف الحزن، لا تبرحه.
لم تأكل منذ الصباح.
لم تتكلّم مع أحد منذ يومين.
حتى مرآة الغرفة لم تنظر فيها.
فهي لا تريد أن ترى من أصبحت عليه.
ووسط هذا السكون، خرجت تنهيدة باردة من صدرها، وكأنها كانت تحتجزها منذ سنين، تنهيدة تحمل كل الخسائر... وأوّلها نفسها.
****
كأن السنوات لم تمر...
ولكنها مرّت بالفعل، وتكاد آثارها تُعلن عن نفسها في كل شيء حوله.
كانت تلك الأفكار تدور في ذهن رامي، وهو يجلس في غرفة الجلوس في منزل أمنية.
على فخذه جلست أمل الصغيرة، تلهو بهاتفه بانسجام تام، كأنها معزولة عن الزمان والمكان، بينما أخوها الأصغر كان يتلاعب في خصلاتها السوداء بشرود تام.
كل شيء تغيّر...
أمنية نفسها لم تعد تلك المرأة المكسورة التي عرفها قبل سنوات.
لم تعد الدموع تُجاور عينيها كما كانت، حين كانت زوجة أبيه، بل بدت حرة، جميلة، ترتّب بيتها وتزرع فيه سكينة باردة بمساعدة زوجها رحيم، الذي زادته السنوات تفهمًا ووقارًا.
رامي جال بعينيه في أرجاء الغرفة، لاحظ أن تصميمها قد تبدّل، حتى اللوحات على الجدران تغيّرت، وكأن كل زاوية في هذا البيت تعلن أنها مضت قدمًا، ولم تنتظره.
خرج من شروده على صوت أمنية تقترب وهي تحمل طبقًا ملأته بما لذّ وطاب، وصوتها يعلو بلهجة حنونة، لم تخلو من عتاب بسيط:
– مش كفاية لعب بالموبايل يا ميلا؟ بقا هي دي العشر دقايق اللي اتفقنا عليهم؟
ابتسم رامي لنبرتها الحانية أكثر من المؤنبة، تلك النبرة التي سمعها مرارًا في طفولته، حين يخطئ، أو حين يعاند.
وجاء رد أمل ناعمًا، بريئًا، زاد من ابتسامته:
– اللعبة هي اللي مش عايزة ميلا تمشي!
ضحكت أمنية، ثم قالت:
– لا، معلش، سيبك من اللعبة دي، ويلا روحي البسي عشان تروحي التمرين مع تمارا، يلا قبل ما تمشي من غيرك.
وضعت الصغيرة الهاتف في يد رامي وبدأت تنزلق من على فخذيه بخفة، وقد أخافها التهديد المبطن بحرمانها من التمرين، وركضت بسرعة نحو غرفتها لتبدّل ملابسها كما طُلب منها.
ضحك رامي وقال وهو يتأمل خطواتها:
– حاسس إني شايف نسخة مصغّرة منك، الشبه بينكم خطير.
لم تشاركه أمنية ضحكته، بل ابتسمت بخفة، تلك الابتسامة التي تشبه ظل غيمة عابرة على وجه الشمس. كانت تمسك بسكين الفاكهة، تنزع قشور التفاحة برتابة، كما لو أنها تحاول أن تُسلخ عن قلبها شيئًا من الثقل الذي تراكم بمرور الزمن.
همست وهي تشرّد بعينيها نحو اللاشيء:
– فاكر يا رامي؟ زمان... مكنتش تاكل التفاح غير متقشّر.
ابتسم وهو يتنهد، بنبرة كسولة تحمل في طيّاتها حنينًا خجولًا:
– كنتِ مدلعاني أوي يا منمن... أيام ما كنتِ بتحبيني. إنما دلوقتي قلبك قسى عليا، وبقيتي تكشّري في وشي.
توقّفت يدها للحظة، ثم عادت تتحرك ببطء، وكأن ما قاله وخز موضعًا قديمًا في قلبها.
قالت بصوت أقرب إلى العتاب الدافئ:
– ما إنت اللي بقى يهون عليك زعلي... ازاي ترفض تعيش معانا يا رامي؟ دا مش بيتي... دا بيتك. حتى رحيم، هو اللي اقترح عليا نحول أوضة المكتبة لأوضة ليك!
تنهد، وحرك رأسه في هدوء كمن يحاول أن يُطفئ نارًا دون أن يحترق بها:
– وليه نكركب الدنيا يا ماما؟
أنا عارف إنك عايزاني أكون جنبك... بس مبقاش ينفع دلوقتي، ولا يصح حتى.
– وليه ما يصحش؟ هو أنا مش أمك؟ ولا خلاص... كلام أبوك أثّر فيك، وبقيت تشوفني طليقة أبوك وبس؟
رفع رأسه إليها، بعينين فيهما الكثير من المحبة، والحيرة، والخذلان:
– لا... إنتِ أمي. وهتفضلي طول عمرك أمي. اللي ربتني، وكبرتني، وشالتني على كتفها لما كنت بعيط من الحلم.
بس الزمن اتغير، وأنا كبرت...
ما بقاش ينفع أعيش في بيت راجل تاني غير أبويا، حتى لو هو راجل محترم، بيحبك، وبيحترمني.
هو نفسه ممكن يتضايق من حاجة زي كده، من غير ما يقول.
أمنية كانت تنظر إليه، لكن قلبها كان في مكان آخر... هناك، في ماضٍ يحمل طفله بين ذراعيها، يضحك لها دون حواجز.
قالت وهي تبتلع الغصة كمن يبتلع شوكة دون أن يئن:
– رحيم عمره ما هيضايق منك...
أنا اللي مكسورة يا رامي، مش عارفة ليه دايمًا بتختار تبعد، وتسيبني لوحدي أواجه التغيير.
– أنا مش بسيبك، أنا بحاول أختار الصح... عشانك، وعشان نفسي، وعشان حتى رحيم.
مينفعش أجرح خصوصيته، مش كل حاجة نقدر ناخدها، حتى لو بنحبها. أوقات الحب بيكون في التضحية، مش في القرب.
ترددت لحظة، ثم سألته بنبرة فيها ألم متحجّر:
– يعني أمل... وتمارا؟
مش إخواتك؟
هزّ رأسه ببطء، كأن كل شعرة فيه تحمل ثقل القرار:
– بالنسبة لي؟ آه. وبالنسبة لك؟ أكتر من كده.
بس الناس حوالينا مش هيشوفوهم كده.
وخصوصًا... تمارا.
تقلص وجهها لحظة، وكأن اسمه على لسانه وخزها في موضع غير متوقع، فقالت بصوت هامس غاضب:
– تمارا أختك يا رامي... ازاي تقول غير كده؟
– بالنسبالنا، آه. لكن في عيون الناس؟ لأ.
صدّقيني، يا منمن، مش هينفع.
سقط الصمت بينهما فجأة. لم يكن صمتًا فارغًا، بل كان محشوًا بسنوات من الذكريات، بالحزن المكبوت، بالعتاب الذي لم يُقال، وبالحب الذي تغيّر شكله لكنه ما زال مقيمًا.
ثم، وكأنها فقدت قدرتها على تحمّل ذلك الثقل، قالت بصوت مخنوق:
– أنا عارفة إنك مش نازل تستقر، صح؟
رفع نظره إليها ببطء:
– إيه؟
– كنت مستنياك تقوليها من بدري...
بس كنت مأجلة الوجع.
ابتسم رامي ابتسامة شاحبة، وقال:
– أنا نازل إجازة كام شهر بس، وهرجع شغلي.
ماينفعش أرجع هنا وأبدأ من الصفر... هناك بنيت حاجات كتير، والتضحية بكل ده، مش عقل.
أمنية نظرت إليه بعينين امتلأتا بالدمع، لكنها أبت أن تسقطه.
قالت بشجن مكسور:
– عندك حق، يا رامي.
دا مستقبلك، وأنا ماينفعش أضيعه بأنانيتي إني عايزاك جنبي.
ثم وقفت، وابتعدت بسرعة، قبل أن يفضحها صوت شهقة كانت تحاول دفنها.
رمقها رامي وهي تغادر الغرفة، والدموع تهرب من عينيها كما تهرب الكلمات من قلبٍ ثقيل.
أراد أن يلحق بها، لكن قدميه خانتاه، وكأنهما تآمرتا مع الزمن على إبطاله.
تنهد بعمق، يخلّل أصابعه بين خصلاته كأنما يبحث عن نقطة أمان بين فوضى مشاعره.
هذه اللحظة، بالذات، كانت أكثر ما يخشاه منذ لحظة نزوله من الطائرة...
تسمر رامي مكانه، يراقب الباب المغلق الذي خلفته أمنية وراءها، وكأن بُعدها عن عينيه خَلف فراغًا موحشًا في روحه.
ما زال يسمع صدى خطواتها، وصوت شهقتها المكبوتة، كأن البيت كله تنفّس وجعها.
وهو واقف هناك، شعر فجأة ببرودة في أطرافه، لا علاقة لها بالجو.
كان الأمر أشبه بموجة برد خفيفة تعبر عظامه، وكأن الحنين نفسه يعاقبه على تقصيره، ويذكّره بأنه مهما حاول أن يكون عقلانيًا، فالقلوب لا تنسى، ولا تغفر بسهولة.
وفجأة، أحس بتلك النظرة...
نظرة اخترقت سكون اللحظة، حادة، واضحة، لا تُشبه أي شيء آخر.
رفع عينيه ببطء، ليقع بصره عليها... تمارا.
تجمّد رامي في مكانه، كأن اللحظة علقت في حلقه ولم تعرف كيف تُقال.
عادت إليه، لكنها ليست كما تركها… لا تشبه الصورة التي سكنت ذاكرته، ولا الحنين الذي نبت في صدره بغيابه.
تمارا، واقفة أمامه كأنها لا تنتظر شيئًا، ولا تمنح شيئًا.
ملامحها ناعمة، ناضجة، سمراء بلونٍ نوبيّ دافئ، لكن في عينيها عسلٌ معتّق لا يسمح بالغرق، يلمع بحذرٍ وانتباه. فيها شيء من الجبال… ثبات، وصمت، وقسوة خفيفة لا تخلو من الجاذبية.
كانت ترتدي بنطالًا جينز واسعًا، أكبر من مقاسها، لا يظهر كعدم اهتمام بل كاختيار متعمّد، وكأنها تقول دون كلمات: "أنا لا أُجاري أحدًا".
وسترة بُنّيّة طويلة تصل لفخذيها، تتحرّك معها برشاقة لا تخلو من هيبة.
شعرها العسليّ معقود في كُعكة عالية، مشدودة، تفضح ما بداخلها من ترتيب وسيطرة.
حول عنقها سماعات ضخمة، كأنها جزء من شخصيتها، لا تسمع بها بل تختبئ، أو تعلن حدود عالمها.
وعلى كتفها شنطة سوداء كبيرة، لا تبدو عبئًا، بل امتدادًا لطبيعتها المتحرّكة، العملية، المستقلة.
نظرت إليه بثبات، لا غضب، لا حنين، لا حتى عتاب.
نظرة هادئة، مباشرة، كأنها تقيّمه دون أن تُفصح، وكأنها لا تسعى لفهمه بل ترى من خلاله.
هو لم يعد أمام طفلة… بل أمام امرأة، تعرف جيدًا من تكون، وأين تقف، وما الذي لا تريده.
امرأة غامضة بما يكفي لتثير أسئلته، وناضجة بما يكفي لتُبقيه صامتًا.
كانت واقفة قرب باب الغرفة، تقف كما يقف الليل على أطراف المدينة، صامتًا، هادئًا، لكنه يُخفي خلف ستاره عاصفة كاملة.
عيناها العسليتان كانتا ترمقانه بحدة لا تخلو من العتاب، نظرة صلبة، تنبض ببركان خامد، لكنها ما قالت شيئًا.
دهش من حضورها، وارتبك من نظرتها، فحمحم ليجلي صوته، محاولًا أن يكسو كلماته بلطف مصطنع، أشبه بوردة ذابلة في يد مرتعشة:
– ازيك يا تمارا؟ أخيرًا ظهرتي!
لكن كلماته، بدت لها كأنها صدى فارغ في ممر ضيق.
رفعت حاجبها في لا مبالاة فاضحة، تحمل في طيّها استنكارًا لكل ما قاله، بل لكل ما يمثّله.
وكأنها تسأله بصمت: أي ودّ ذاك الذي تأتي به بعد كل هذا الغياب؟
لم ترد. لم تبتسم. لم تُجامل.
فقط أمالت رأسها في إيماءة خافتة، لا تحمل لا ترحيبًا ولا عداء، ثم بدأت تسير نحوه بهدوء مهيب، حتى إذا اقتربت منه، مرّت بجواره كأنها تمر بجدار قديم... مرّت، وكأن قلبها ما عاد يعرفه، أو لا يريد أن يعرفه.
كاد يلتفت ليناديها، ليقول شيئًا... أي شيء، لكنه لم يفعل.
فمن أين يبدأ الكلام حين تمرّ السنوات دون إذن؟
ومن أين يأتي بالصدق بعدما خذل الصمت؟
وفي تلك اللحظة، جاء صوت أمل الصغيرة من إحدى الغرف، صافٍ، طري، كأنما جاء من عالم آخر لا يعرف التعقيد:
– توومي! أنا خلّصت! استني، متمشيش من غير ميلا!
توقفت تمارا في مكانها، والتفتت ناحية الصوت.
وراحت شفتيها تنفرجان عن ابتسامة ناعمة، دافئة، كسرب نور في ليلة حالكة.
ابتسامة، رغم بساطتها، كشفت عن ثقب صغير في وجنتها اليمنى، كأن وجهها يحمل فيه توقيعًا سريًا من الجمال الخفي.
أشارت للطفلة كي تسرع، لكن أمل، كعادتها، كانت تعرف وجهتها أولًا.
ركضت نحو رامي بخفة، كما يركض نسيم الربيع في الحقول، وشدته من سترته القطنية، وهي تنظر إليه بعينين واسعتين كالسؤال.
انخفض لها، طاوعها مبتسمًا رغم وجعه، فاقتربت منه وطبعَت على وجنته قُبلة صغيرة، هامسة:
– متمشيش غير لما ميلا تيجي... واللعبة كمان متمشيش.
ضحك بخفّة، يربت على رأسها بحنان لم يُغيّره الزمن:
– مش هنمشي، لا أنا، ولا اللعبة.
وانطلقت الصغيرة تركض نحو تمارا، التي استقبلتها بابتسامة سريعة، ثم أدارَت ظهرها لرامي، وعادت السكون يحتلها من جديد، كأن تلك الابتسامة لم تكن.
راقب رامي ظهرها وهي تبتعد، شعر أنه لا يرى فتاة تمشي، بل يرى كلّ ما لم يُقال، وكلّ ما لم يُصلَح، وكلّ ما مضى...
وكأن تمارا، بنظرتها تلك، همست له دون أن تتكلم:
أحيانًا، الغياب مش بس بيبعدك عن المكان... بيفصلك من القلوب كمان.
ظلّ واقفًا أمام باب الغرفة المُغلَق، يطرق عليه بخفوت يشبه نداء الطفل لأمه حين يغلبه الندم، ويعجز عن المواجهة.
كان الباب صامتًا، كما صارت هي… لكنّه شعر بصوت أنفاسها المختبئة خلفه، تختلط بحرارة البكاء، وتراوغ القرار.
اقترب أكثر، ووضع راحة يده على الباب كأنّه يتحسّس نبضها من الجهة الأخرى، ثم همس بصوت خفيض:
– "منمن… أنا همشي دلوقتي، طالما زعلانة مني ومش طايقة تشوفيني."
مرّت لحظات ثقيلة لم تُجبه فيها، وكأنّ الزمن نفسه يتريّث منتظرًا ما ستقرّره.
ثم تحرك مبتعدًا بخطوات وئيدة، كأن كل خطوة منه تقتلع شيئًا من قلبه. وما إن وصل إلى طرف الممر، حتى سمع صرير الباب يُفتح من خلفه.
استدار بسرعة، فوجدها واقفة هناك، تغالب دموعها التي لم تُفلح محاولاتها في إخفائها.
كان وجهها متورّدًا، وعيناها تلمعان بندى الحزن، لكنها لم تبدُ منهارة، بل ثابتة… كأمٍّ اختارت أن تَضمّ ابنها إلى صدرها بدلًا من أن تعاتبه.
رفعت يدها أمامه كأنها تردّه، وقالت بنبرة ناعمة اختلط فيها الحزن بالإصرار:
– "مش هتمشي، أنا مش هقلبها نكد، ومش هسيبك تبات بعيد عني وإنت في حضني، فاهم؟"
ابتسم رامي… ابتسامة صغيرة، مطيعة، خجولة، فيها شيء من اعتذار غير منطوق، وشيء من حنين طفلٍ يعثر على أمانه في حضن أمّه.
تقدّم نحوها دون كلمة، فقط عيناه كانتا تتكلّمان، تقولان ما لم يستطع لسانه البوح به.
اقترب منها أكثر، فمدّت يدها تربت على كتفه، ثم أمسكت يده كما كانت تفعل وهو صغير، وقالت بابتسامة دافئة:
– "يلا تعالى معايا المطبخ، في غدا لسه هيتعمل."
هزّ رأسه موافقًا، وسار إلى جوارها وكأنه عاد طفلًا من جديد، لا يسعى سوى لرضاها.
كان البيت صامتًا، إلا من صوت خطواتهما العائدة، وخفقة قلبين اختبرا المسافات والحنين، فعادا ليجدا في قربهما عزاء لا يُقال، ولكن يُعاش.
***
كالعادة تقف خائرة القوى، شاردة، حزينة
ولكنها اخيرًا خرجت من غرفتها الكئيبة وشاركت والدتها في أعمال المطبخ بصمت طويل دون أن تُبجي تفاعل لحديث والدتها ولا لمحاولاتها المستميتة كي تخرجها من هوه الحزن التي دفنت نفسها فيها بعد فسخ خطبتها
شق السكون بينهم صوت هاتفها الذي ارتفع برنين حاد، كان صوت الهاتف يرن في يديها، وكأنّه ينبهها لشيء بعيد، شيء كان مدفونًا في أعماقها منذ فترة طويلة.
نظرت إلى الرقم على الشاشة، وقرأت اسم "هالة" بحروفٍ قديمة محفورة في ذاكرتها.
زميلة من أيام الجامعة، توقفت عن الاتصال بها منذ سنوات، ولم يعد بينهما سوى ذكريات ضبابية وأحاديث منسية.
فجأة، عاد صوت هالة المألوف يتسلل عبر السماعة، وكأن الزمن قد رجع إلى الوراء لحظة واحدة.
– "أيوه يا نورا، عاملة إيه؟"
أجابتها نورا بصوتٍ متردد:
– "أنا بخير، الحمد لله. إنتِ عاملة إيه؟!"
تتساقط الكلمات بينهما كما لو كان كل منهما يستعيد شريطًا قديمًا من الحياة.
لكن كان هناك شيء مختلف في نبرة هالة، شيء غير مألوف، يعبّر عن رغبة في التواصل بعد فترة من الغياب.
– "بصِّي، في فرصة شغل في الشركة اللي أنا فيها، وكنت عايزة أسأل لو كنتِ تعرفي رقم زميلتنا نوال؟ كانت معايا في نفس الدفعه، بس الرقم ضاع مني، وأنا انها كان نفسها تشتغل في الشركة دي، معاكي رقمها أو لسه على تواصل معاها؟"
حاولت نورا أن تسترجع الصورة، لكنها تذكرت نوال بعد فترة صمت. كانت زميلة قديمة، وأحيانًا تبادر بتبادل الحديث، لكن لا شيء عميق بينهما.
ولكن فجأة، خطر لها شيء… وكان هذا شيء لا يُقال، بل يُشعر.
في قلبها، خطرت فكرة خاطفة، فكرة كانت قد اختفت لفترة: "هل يمكنني أنا كمان أن أقدم على هذا الشغل؟"
ترددت لحظة، ثم قالت بصوتٍ متلعثم:
– "م… ممكن أشتغل في الشغل ده أنا كمان؟ لو فكروا في حد تاني."
هالة من الجهة الأخرى كانت متحمسة، صوتها يعبّر عن حماسة حقيقية:
– "طبعا يانورا نورا..أكيد! الشركة دي بتحتاج اختصاصات زي بتاعتنا، يعني فرصتك كويسة! تعالي يوم الخميس ده على الساعة 10 الصبح في مقر الشركة، وأنا هكون موجودة هناك علشان أساعدك.هبعتلك العنوان على الواتساب، وهبعتلك نموذك اسئلة قريب من الي بيسألوه في الشركة متخافيش، هتعدي الإنترفيو بكل سهولة!"
شعرت نورا بشيءٍ غير مألوف يغمرها، ترددت في جوابها بينما تتنقل أفكارها بسرعة.
كيف يمكن أن يكون هذا هو الطريق الذي سلكته؟ هل هي بالفعل مستعدة لهذا التحول؟
هل كان هذا هو القرار الصائب، أم مجرد خطوة على طريق لا تُعلم نهايته؟
– "م… طيب، شكراً يا هالة، هكون هناك…"
أغلقت المكالمة، وما إن وضعت الهاتف جانبًا حتى غمرت ذهنها أسئلة لم تجد لها جوابًا.
هل هي جاهزة؟ هل هذا هو الاتجاه الذي يجب أن تسلكه؟
بين قلبها وعقلها، شعرت بأنها تتخذ خطوة لا تعرف إذا كانت إلى الأمام أو إلى الوراء.
لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من التفكير بأن الحياة بحاجة إلى تغيير… حتى لو كان هذا التغيير مُربكًا وغير واضح المعالم.