رواية من بعد خوفهم الفصل العاشر بقلم حمدى صالح
-مؤيد شخصية غريبة الشكل منذ الصغر، رغم تقارب عمرنا إلا أنَّه واثقًا من نفسه، ولكن تبدل حينما بلغ الثامنة عشر وأخذ جنبًا مني، كنت أغضب علىٰ هيئتهُ ظننًا مني سوءًا، دائمًا يتجنب الحديث معي، يعتمد أبي عليه إن غاب، تغلغل حبه بقلبي فلم أنظر لشابٍ أبدًا، عكسهُ كان مختلطًا بالناس بحذرٍ شديدٍ، علمتُ أشياءً عديدةً من خلالها أدركتُ خطأي، هو غريب عني وليس أخي؛ كي أتمادى معه بل يجب البعد حينما نزداد بالعمر، نحن الفتيات علينا الحذر من الفتنة التي تودي بنا لهلاكِ أنفسنا، أغلقوا قلوبكن حتى يأذن الله بشخصٍ يصلح حالكن لا يدنسكن بألفاظٍ قاسية..
توقفت عنود حينما استمعت لزوجة عمها؛ لتفر إليهـا، بينما الفتيات يستمعون لرهف وهى تخبرهم بأحد المقاطع المتعلقة بالهندسة المعمارية، ادّعت زينب النوم تفكر في حديث عنود الصواب، دائمًا تخشى الحديث مع البشر؛ كي لا تؤذي روحها بألسنتهم حينما يصفعونها بالسموم لكونها وحيدة بالمنزل قبل أن يأخذها شقيقها الأكبر، كانت تستمع لحديثهم بهدوءٍ عكس نيرانها الداخلية، شهرين وتختفي عنود في منزلها، تودُّ الانصات إليها طوال الوقت لطالما تشبهها في عدة أمورٍ.
تسللت عنود لغرفة مؤيد تقرأ إحدى الروايات الخاصة به، أقبل الليل عليها ولم تتركها؛ لتغفو دون أن تشعر، أشعل الضوء بقلقٍ.. رآها منكبةً على الكتاب بشّدةٍ، خرج للشرفةِ نائمًا بها؛ كي لا يزعجها ففي يوم التجمع لا تغادر عائلتهُ إلا باليوم التالي، تابع إحدى الصفحات المُتعلقة بدور النشر، أيرسل الكتاب أم يظل هكذا؟! أسئلةٌ تدور بعقلهِ، يخشى هذه الخطوة، فكر قليلًا ليرسلها تاركًا الأمر لله، شعر مؤيد بخروجها مُبتسمًا على هيئتها، لم يزعجها بقدر خجلها منه؛ لهذا لم تدرك وجوده من الأساس.
ــــــــــــــــــــ
استيقظ أدهم مِن غفوته وهو مشتت الذهن من الضغوطات الزائدة عليه؛ ليقرر الذهاب لخالته، انتهز ذهاب والدهُ للمتجر؛ كي يُرتبَ البيت سريعًا وما إن انتهى ارتدى ملابسه بعشوائية مُتجهًا لمقصدهِ، تفتل بين طرقٍ واعرةٍ يضع بعض الأموال بأحد البيوت ثُم يطرق عليهم هاربًا مِنهم، لا يودُّ كشف هويتهُ أمامهم، صعد البنية؛ ليطرق بقوةٍ، فتح أُبيِّ مُردفًا بتوعد:
-ألن تكف عن أفعالك الطفولية يا أستاذ؟!
غمز بشماتةٍ:
-لا، جئتُ لخالتي الغالية لا مِن أجلك، أنا أراك أكثر مِن نفسي، خُذ جانبًا أشعر بهواءٍ ثقيلٍ!
أغلق أُبيِّ الباب يغمغم سرًا عليه، هرول أدهم لحجرتها:
-أودُّ تناول شطائر الرقاق، وطاجن مِن الدجاج الممتليء بالخضروات و..
قطع أُبيٌّ الحديث بذعرٍ:
-أنت مفجوعٌ يا أدهم! أنت لا تتناول نصف صحنك حتى! أتُريد طاجن بامية معهم وأرز بالحليب معهم أيضًا؟!
تبسّمتْ والدتهُ علىٰ حديثهِ:
-ما يطلبهُ أدهم ينفذ حالًا، انزلا سويًا لتشتريا بعض المكونات.. بالطبع لن أنزل وأنتما هُنا.
زفر باختناقٍ وهو يأخذ المفاتيح، جلب أُبيِّ لهُ ما يريد ثُم أكمل عمله يختلس النظرات إليه بشكٍ، يجلس علىٰ كرسي بالشرفةِ صامتًا، اتجه ناحيتهُ؛ ليجدهُ يقرأ أحد المنشورات المُتعلقة بمؤيد، تحدث بشكٍ:
-أدهم، ما بك يا أخي؟ لا تلف عليّ أنت شقيقي وأعلمك جيدًا!
-عقلي منشغل بوظيفة العمل فقط يا أُبيّ، الإنسان يتخرج ثُم يبدء التفكير بمنظورٍ آخر، سأذهب للمطبخ أسرق أحد الأطباق قبل أن تنقض على الفرخة كُلها.
رمش عدة مرات يحاول استيعاب مزاح أدهم، نظر لهاتفه بمغزى وهو يتفحصه، تفقد أحد التطبيقات؛ ليجد منشورًا من لدن!
توقف أُبيّ قليلًا تاركًا الهاتف كما كان، يعلم هوية أدهم وأنّهُ يخشى جرح فتاة ولا يحبهن قط؛ فكيف يتابعها إن كانت صفحتها مُستعارةً مِن مؤيد؟! جلس مقابلًا منه بشكٍ، وظيفة عمل وهو لم يتخرج بعد؟!
استمع لرنين هاتفهُ؛ مُجيبًا:
-السلام عليكم يا ياسر، هل تحتاج لشيء؟!
-وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أُريد رؤيتك ليلًا يا أُبيّ في أمرٍ هام لا تتأخر.
أغلق ياسر الخط قبل أن يرد الآخر؛ ليشعر بالريبة مِن أمره، انشغل بعملهِ مُتناسيًا أمر أخيه حتى يفاتحهُ في الأمر فيمَ بعد ثُم غادر لرؤية ياسر.
ـــــــــــــــ
تمكث بحرقةٍ كُلما فشلت مخططاتها عليهن لا تدرِ كيف تؤذيهن، صحنٌ من لفائف السجائر أمامها بجوار صديقتها، الدُخان يعم المكان تكاد شمس الاختناق، فتحت النافذة تتطلع للفراغ بدموعٍ علىٰ ما وصلت إليه، لم تتحمل سعادتهم في أمورهن، كيف يجهلون شرها؟! ضمَّت جسدها النحيف من قلة طعامها وحزنها الخفي سارحةً في حالتها مقررةً الذهاب للخارج بعيدًا عنهم، تودُّ الانفراد بروحها ولو قليلًا.
جلست بمقهى قريبًا من منزل والديها دون احتساء شيئًا، تنظر لزجاج بتيهٍ، رمقت هاتفها ببكاءٍ؛ فلم يشعر والدها بها، غيابها، أفعالها، نفور الجميع منها، الجميع ينظر إليها بشماتةٍ لكونها ابنه رجل غني، لم تعترف بضمور روحها بقدر التقليل من شأنها.
على الناحية الأخرى.. خرجت لدن من العمارة الخاصة بوالدتها تسرع مِن خطاها، التفتت يمينًا ويسارًا خشيةً من رؤية والدها فيصفعها، اصدمت بجسدٍ؛ لترفع عينها بخوفٍ، أدهم يرمقها بشرٍ؛ لتتراجع بذعرٍ:
-ماذا تفعلين هنا؟! تدمرين ثقة عنود وأبيكِ حقًا!
-أنا حرة علىٰ الأقل لا أقف مع رفقاء سوءٍ، كيف تسمح لنفسك أن تراقبني!
مسح أدهم علىٰ وجههِ بخبثٍ:
-أنتِ لسّتِ حرة لا أحد حر في هذه الدنيا، حينما رأيُتك مع مؤيد شعرت بملامحكِ لكني شككتُ بالأمر، الآن أدركتُ كلماتك، هؤلاء الرجال أفضل منكِ ومِن خيانتكِ لوالدك، كنتُ أساعدهم من العقاقير المخدرة التي أنهكت جسدهم، أنتِ الفاشلة تتهربين من الجميع علىٰ حسابكِ، ليس جديدًا لعلكِ تفعلين ما ترينهُ من أمك التي بغضت رؤيتكما علىٰ حساب نفسها، حقًا أجهل التصرف الآن.. أأخبر مؤيد علىٰ أفعالكِ أم عنود التي وثقت بكِ! أنتِ خدعتي الجميع.
غادر بألمٍ؛ لتشهق بخوفٍ، عادت للبيتِ محاولةً التماسك أمامهم، أوصدت حجرتها بالمفتاح باكيةً علىٰ فعلتها، خشي والدها الاندساس بطياتِ أمها؛ كي لا تؤثر عليها، وجدتها بحالةٍ مشينة، تحتسي بشراهةٍ وتخطط لتدميرهم.
ـــــــــــــــــ
مكث ياسر منتظرًا أُبيِّ بضيقٍ، لمحهُ من بعيدٍ:
-أتيت باكرًا يا صاح!
-لم أجد مواصلة واحدة يا ياسر، المهم هو رؤيتك ليّ، حقك عليّ يا رجل.
جلب مقعدًا ليجلس أمامهُ، بدأ ياسر الحديث:
-أنتَ معيدٌ جديد بالجامعة، ما رأيك في اقتراح تبادل الأدوار عليهم وشرح الأجزاء باللغة الإنجليزية ثُم تمارس عملك، صراحةً أودُّ انشغال زينب أكثر من الأول، لا ترد الآن، هى فكرة فقط.
-أنا خططتُ لها بالفعل ولكن بالعام المقبل، لا أعلم شقيقتك حتى يا ياسر، ولكن لا تقلق ربما أمارس لطفي الشديد عليها وعلى رهف، لمَ لم تتزوج حتى الآن، علمتُ من مؤيد وجود منزلك وكل شيءٍ!
توتر ياسر قليلًا مُجيبًا:
-لم أرَ فتاة تشبهني فقط.
هدر أُبيّ بانزعاجٍ:
-حقًا! مهندسٌ برتبة فائقة تخلى عن وظيفة مثمرة لا يجد عروس، أنت كاذب يا ياسر، كُلما نطق مؤيد بشقيقته مازحًا عليها تمقطهُ وتفر هاربًا.
-لأنّني لم اتعافى من فعلتها، الحب ليس كل شيء، هلمَّ لنتمشى قليلًا.
صمت ياسر بقلبٍ مكفهر علىٰ حالهِ، يدعي الانشغال؛ كي يبتعد عنها، ربما ينصتُ لحديثها مع زينب، خطٌ أحمر يخشى السير عليه فيقهر علىٰ حالهِ، استأذن مغادرًا للبيت؛ ليتدرب علىٰ الملاكمة من غضبه كُلما تذكر هيئة رهف رغم مرور فترة طويلة عليهم، وكأنهُ يصارعها في كل شيءٍ، زفر باختناقٍ يحاول ضبط أنفاسه المتسارعة، شعور الألم مِن الأساس موجع عليه، ولج للمرحاض يغتسل مِن مصائب عمله، يوشك أن يختنق مِن هول الأيام! تبسّم بوجهِ أبيه جالسًا يحدثه بأي شيءٍ يستمع إليه، مَلّ مِن أمور الزواج والهروب من والديه؛ ليهرب لحجرة زينب، شدّ الغطاء قائلًا:
-أنتِ لا تنامين الآن.
-وهل هُناك أخ يفعل هذه الأشياء؟! ما دخل الغطاء يا أخي؟!
يبدو أن أبي لم يمل من اقتراح الفتيات عليك، لا تتعشم برهف فأنتما الإثنين لا تجتمعا علىٰ شيءٍ واحد، كما علاقتكما لا تصلح؛ لإن عنود أخبرتني بأنّ العلاقات الناجحة تكمن في الحفاظ لا الخراب، لمَ لا تغفر لها خطيئتها، هى لم تذنب.
اختلس النظرات إليها مُتوجهًا لشرفتها بمقطٍ، كيف يدافعون عن فتاة أخلص من أجلها فهشّمت فؤادهُ! هى منفردة ليست كالجميع بالنسبة لهُ.
ـــــــــ
أشرقت الشمس علىٰ فراشها لتؤدي فريضتها، وضعت رهف كُتبها لتبدء استرسال مذاكرتها، تركت مشاونتها مع الجميع من أجل مستقبلها بعد أن اتفقت مع عنود، يومٌ طويلٌ بدأتهُ بقراءة وردها اليومي؛ كي تستعيد روحها، أتت أفعالها الماضية بمخيالتها؛ لتغمض عينيها بأرقٍ، ندبةٌ لن تنساها مدى الحياة، قررت الذهاب لمنزل خالتها الفارغ في هذا الوقت رغم ضيقها من حديثها فمؤيد لن يرفض، هو بالأساس لا يرَ شيئًا إلا ترتيب البيت بصحبه عنود التي شاركتها كل شيءٍ، البنية الفارغة سكنها مؤيد بالطابق العلوي بعد دفع النقود لصاحبها.
ضربت الجرس؛ ليفتح ياسر باستغراب، لم يسألها عن شيءٍ، انسحب بهدوءٍ لحجرتهِ، جلست مُتسائلةً:
-لمَ ينزعج هكذا يا خالتي؟! هل وجودي غير مرحبًا به!
-لا يا مجنونة، هو هكذا لا يعجبهُ العجب، اذهبي لزينب لم تذهب لمكانٍ.
أومأت برأسها؛ لتلج لغرفتها، تشاركا اليوم بسلاسةٍ دون انفراد أحدهن، تسرب شعور الطمأنينة بقلبهما فتحررت قيودهما بين أربع حوائط دون فعل خطيئة واحدة، انتبهت لصوت شجار خارجي؛ لتتلعثم زينب أمامها، رفعت رهف إحدى حاجبيها بشكٍ:
-أخبريني الحقيقة لا تهربين مني، أعدك بألا أنطق.
-أبي يتشاجر مع ياسر في أمور الزواج؛ فيهرب منهُ بأي طريقة.. هو يرفض الزواج منذ فعلتكِ يا رهف، يحاول إفاقة عقله من حبكِ؛ لأنكِ قطعة منهُ، أقسم لكِ بأنّني أحاول معهُ لكنهُ حادٌ!
ضحكت بسخريةٍ هاربةً منها، لحقتها أمام الباب:
-لن تغادرين هكذا! اسمعيني يا رهف لا تتهورين من فضلك يكفي أنّكِ بخير الآن، عاتبيني!
أتى ياسر على صوتهما تحت أنظار والديه:
-ماذا يحدث؟! ولمَ تعاتبك؟
رهف بحذرٍ:
-لأنّها ان تذهب معي لشراء فساتين جديدة، خذي جنبًا فمؤيد لن يرحمني يا حبيبتي.
شعر بشيءٍ آخر حينما غادرت؛ ليرمق شقيقتهُ بنظراتٍ مجهولةٍ قبل أن يغادر خلفها، تتبعها حتى وصلت للمنزل، تساءل مؤيد على حالتها: -لمَ تبكين هكذا؟!
-أنت لم تسامحني على فعلتي، الجميع لم يتعافى مني يا أخي!
أوصدت غرفتها قبل أن يلحق بها، تجمدت الدموع بعينيها فلم تزرف قطرةً واحدةً بل صمتت علىٰ حالتها، لم تتحدث منذ هذه اللحظة؛ فكان السكوت أفضل شيءٍ عليها، مرّ شهر علىٰ ذلك الموقف، حاول مؤيد تعزيز ثقتها؛ ليفشل كُلما هربت منهُ، برز حزنها علىٰ وجهها رغمًا عنها فبدتْ ضعيفة بجسدٍ مرهقٍ، كانت جالسةً علىٰ بالمكتبة الخاصة لا ترَ أحدًا بجوارها زينب تغمغم علىٰ موادٍ تخشاها، لمحت طيف شقيقها منسحبةً بهدوءٍ، جلش مقابلًا لها.
انتبهت لصوتٍ خشنٍ لترفع نظرها بقلقٍ، أردف ياسر بغيظٍ:
-المكان عام لا يصح خوفك ستعلميهم أنّني خاطف هكذا! أريد الحديث معكِ بعد أن تنتهي.
بعد وقتٍ.. لملمت أشيائها بحقيبتها؛ لتقف أمام المكتبة ناطقةً:
-إن كان شيئًا خاص بك فليس شأنًا هامًا إلي.
-أنتِ واعية بحديثك! تركتُ عملي من أجلك وأخبرتُ والدك قبل أن أراكِ، لن تتحدثين أعلم عادتك فكيف لأنثى أن تنقط حديثها دون أن تستفزني! لم أجرحك أبدًا طيلة حياتي عكسك تهدرين عليّ من خلفي، أخذتِ جنبًا خشيةً من أمي، أدعي أي شيءٍ وأهدد الجميع زورًا، أنتِ عاقلة بما يكفي؛ كي تعلمين الكلام وإلا وفرتُ الوقت من أجل الشغل أفضل منكِ، مشاعري فضّاحة ولن أتحرك لأنّكِ تألمتِ مني دون قصد، لا ذنب لمؤيد كي تبتعدين عنهُ، أخوكِ أم أنا؟! بالطبع هو، أنا لم أغفر فعلتك رغمًا عني، بالمرة القادمة سأستمع لكِ.. فقد حدثتُ خالتي بشأن خاصٍ بنا!
ضغطت رهف علىٰ يديها من أيامها المقبلة؛ لتسير بمحلِ أبيها تاركةً إياه، تستمـع لأمور زواج وأشياء لم تفكر بها، فكّرت قليلًا في شجار زوج خالتها معهُ، إن حدثهم بشأنها فلمَ تؤلم رجلًا أحبها كابنته، وافقت بشرطٍ فعل ما يحبوا بعد انتهاء عامها بسلامٍ، لم يختلف الأمر كثيرًا عن عنود التي انشغلت بترتيب منزلها في أوقاتٍ متفاوتة.