رواية هجوم عاطفي الفصل العاشر بقلم هاجر عبد الحليم
حدّقت رودينا فيه بدهشة، قلبها ينبض بعنف، ليس فقط من الجري، بل من وقع كلماته المفاجئة.
حاولت أن تبدو متماسكة، لكنها لم تستطع منع احمرار خديها الخفيف رغم الظلام المحيط بهما.
همست بتوتر خافت:
ــ "انت بتقول إيه يا مالك دلوقتي؟ إحنا ف مصيبة مش وقت هزار!"
ابتسم مالك، عيونه كانت بتلمع بصدق غريب وسط الظلمة، وقال بنبرة فيها إصرار:
ــ "مش هزار... أنا بتكلم جد. أنا عمري ما حسّيت إني عايز أحمي حد بالشكل دا قبل كدا."
لم تجد رودينا ما ترد به، شعرت أن الوقت توقف لثوانٍ، كأن الخطر المحيط بهما اختفى، ولم يبقَ سواهما.
لكن صوت خطوات تقترب أعاد لهما وعيهما فجأة. شد مالك على يدها مرة أخرى، وهمس لها:
ــ "كلامنا لسة مخلص بس نروق الاول"
أومأت له بصمت، وركض الاثنان بين الأشجار، تختلط أنفاسهما المتلاحقة بصوت الريح... وبدقات قلوب لا تعرف إن كانت تهرب من الموت، أم تهرب نحو حب يولد وسط الخطر.
.....
انطلق مالك ورودينا بأقصى سرعة بين الأشجار، يتلفتان خلفهما بين الحين والآخر، حتى لمح مالك من بعيد ضوءًا خافتًا. شد على يد رودينا بحماس وهمس:
ــ "بصي هناك بصي! في عربية. اخيرا بجد !"
اندفع الاثنان نحو الضوء، يتعثران أحيانًا بين الحشائش الكثيفة، حتى اقتربوا أكثر. كانت سيارة صغيرة قديمة، يبدو أن صاحبها نزل ليبحث عن شيء قرب الغابة.
مالك التفت لروادينا وهو يلهث:
ــ "اسمعي، هنركب بسرعة ونمشي من غير ما ياخد باله... مفيش وقت نشرحله يلا!"
هزّت رأسها بالموافقة دون تردد. في لحظة خاطفة، قفز مالك إلى المقعد الأمامي وبدأ يحاول تشغيل السيارة، بينما رودينا كانت تراقب الطريق برعب.
رودينا بصوت خافت مضطرب:
ــ "مالك، بسررررعة... هما خلاص قربوا!"
مالك وهو بيحاول يثبت أعصابه:
ــ "معلش... العربية قديمة، بحاول اهو."
وأخيرًا دارت المحرك ببطء، ومع أول محاولة انطلقت السيارة تعافر فوق الطريق الترابي.
أحد الرجال صاح من بعيد:
ــ "اهوم! العربية! امسكوهم!"
لكن كان الأوان فات، فقد اندفعت السيارة بعيدًا عن الغابة، ورودينا التفتت للخلف تراقب الرجال وهم يتضاءلون خلفهم.
أخذ مالك نفسًا عميقًا وقال بنبرة فيها مزيج من الراحة والضحك:
ــ "نجينا يا بنتي... نجينا ههههههه الحمد الله ربنا نجدنا يارب
رودينا وهي بتحاول تهدي نفسها:
ــ "مش مصدقة... دا احنا فعلاً هربنا منهم بجد كانت لحظة مرعبة"
ابتسم مالك وهو بيبص لها بنظرة دافئة وقال:
ــ "قلتلك حاليا خلاص الغزالة راقت ولازم نتكلم
استمروا في القيادة حتى بدأت أضواء الحياه تلوح لهم من بعيد، كأنها بوابة نجاة أخيرًا فتحت لهم أبوابها وسط ظلمة الخطر.
.....
ف الشارع
كانت رودينا تبتعد عنه بخطوات متعثرة، وكأنها تهرب من مواجهة محتومة. لحق بها مالك، وقد ضاق صدره بنيران الأسئلة التي لم يجد لها جوابًا.
قال مالك، وصوته يختنق بالغضب والخذلان:
ــ "خلاص! منا لازم أفهم... انتي رافضة الجواز مني ليه؟ مش بتحبيني ولا كنتي كدابة من الأول؟"
توقفت رودينا، واستدارت نحوه والدموع تلمع في عينيها، لتجيبه بصوت مرتجف:
ــ "لا والله، مش كدابة... أنا فعلا بحبك."
اقترب منها خطوة أخرى، وهو يحاول أن يلملم شتات قلبه:
ــ "يبقى في حاجة مخبياها عني! احكيلي علطول، بلاش لف ودوران."
همست رودينا بألم، وهي تطرق برأسها للأرض:
ــ "مقدرش... مقدرش."
تحركت لتبتعد، لكنه أمسكها فجأة بشدة من خصرها، وقربها إليه بعنف لم يعهده في نفسه.
ــ "لو كنتي مين، أنا هكتب عليكي النهارده! هتكوني ليا... برضاكي أو غصب عنك."
صرخت رودينا وهي تحاول تحرير نفسها:
ــ "شيل إيدك عني... عيب كده!
استفاق مالك على صوتها المرتجف، وأرخى قبضته على الفور. مد يده لها برفق وقال بحسم:
ــ "ولا تزعلى نفسك... يلا بينا عالمأذون حالًا! مش هستنى لحظة. إحنا عمرنا بقى ع المحك، وعايزك شريكة حقيقية معايا، مش بس وقت الجري والهروب."
ظلت رودينا ساكنة لبرهة، قبل أن تهمس بتردد:
ــ "هنتجوز... بس بعد ما نقبض عليهم ونكون في أمان."
ضغط مالك على أسنانه، وألقى عليها نظرة ملؤها الإصرار، ثم قال بحدة:
ــ "لآخر مرة... انتي مين؟"
رفعت رودينا رأسها، والدموع تحرق عينيها، وقالت وهي تشد أنفاسها بشجاعة:
ــ "أنا رودينا... ظابط شرطة. ومكلفة بحمايتك، يا مالك."
تسمرت قدماه في الأرض من هول الصدمة، واتسعت عيناه بدهشة لا تصدق. دفعها عنه بقوة لا إرادية، كأنها خدعته بطعنة في القلب، وصاح بذهول:
ــ "انتي... الظابط اللي جه المستشفى... واللي رجع الطفل المفقود لأهله؟!
.....
وقفت رودينا أمامه مكسورة، تحاول أن تبحث عن كلمات تنقذ ما تبقى بينهما. تمتمت بصوت مبحوح:
ــ "أنا مش هدافع عن نفسي... مش هقول إني مليش ذنب، ضحكت عليك في الأول، بس أنا..."
قاطـعها مالك بحدة، صوته يعلو بغضب:
ــ "انتي إييي؟ قولي! إي هااااا؟!"
اغمضت عينيها بألم، ثم فتحتها لتهمس بصدق:
ــ "أنا... أنا حبيتك."
شد مالك يدها بعنف، ونظراته تشتعل قسوة وهو يقول بسخرية لاذعة:
ــ "حضرة الشرطية اللي قلبها ميت... تعرف يعني إيه حب؟! مظنش! اللي معندهاش دم، مستحيل يكون عندها روح تحس بالوجع."
ابتلعت رودينا دموعها بالقوة، وتمسكت بآخر خيط للأمل:
ــ "آه ليا... بس كانت أوامر... مقدرتش أخالفها. كنت فاكرة إنها مجرد مهمة وتعدي، لكن مع كل يوم، مشاعري ناحيتك كانت بتزيد... غصب عني."
ضحك مالك ضحكة ساخرة، ثم مال نحوها قائلًا بازدراء:
ــ "واو! بجد؟ تفتكري شوية كلام هيخلوني أضعف؟! انتي إنسانة مخادعة... مش قادر أصدق نفسي إزاي كنت أعمى للدرجة دي! انجذابي ليكي كان غباء مني... خلاص، أنا مش عايزك في حياتي، ولا عايز حمايتك!"
استدار ليبتعد عنها، لكن رودينا مدت يدها تمسك بذراعه بيأس، وصاحت:
ــ "أنا موافقة نتجوز يا مالك!"
توقف لحظة، التفت إليها بنظرة ملؤها الاحتقار، وقال ببرود قاتل:
ــ "وأنا مبقتش عايزك... بقيت قرفان منك، ومش طايق أشوف وشك."
وبدون أن يمنحها فرصة للرد، استدار ومضى بعيدًا، يتركها خلفه تتخبط بين دموعها والخذلان.
......
وقفت رودينا مكانها، تحدق في ظهره البعيد بعينين غارقتين بالدموع. شعرت أن الأرض تهتز تحت قدميها، أنفاسها صارت متقطعة وكأنها تلفظ روحها مع كل خطوة يبتعدها عنها.
حاولت أن تناديه، أن تركض وراءه، لكن كرامتها ـ التي لطالما كانت درعها ـ شدت عليها القيود.
رفعت رأسها رغم الألم، مسحت دموعها بكف مرتعشة، وتمتمت بقلب منكسر:
ــ "حقك تزعل... حقك تكرهني، بس أقسم بالله بحبك أكتر من نفسي."
سارت ببطء بين الأشجار، تشعر أن الطريق يضيق عليها، وأن الوحدة تنهش روحها بلا رحمة.
مرّت سيارة شرطة في الجوار، توقفت عندها، نزل منها زميلها في المهمة، وهو يصرخ بقلق:
ــ "رودينا! انتي كويسة؟ وصلنا بلاغ عن إطلاق نار هنا!"
أومأت برأسها ببطء، وكأن الكلمات تخونها، ثم تمتمت بصوت خافت بالكاد يُسمع:
ــ "كويسة... بس فقدت أهم حاجة كنت بحارب الدنيا عشانها."
لم يفهم زميلها شيئًا، لكنها لم تكن بحاجة لشرح شيء. كل ما أرادته الآن هو أن تختفي عن الأنظار، أن تختبئ من نفسها قبل أي أحد.
ركبت السيارة في صمت، وقلبها يحترق على حب لم يكتمل... على قلب خذلته بيدها.
.......
كان مالك يمشي في الشارع المظلم، يكتم الغضب في صدره بعد مشادة رودينا، حين شعر بحركة خلفه. استدار بسرعة، ليجد رجلاً ضخم الجثة ينقض عليه حاملاً عصا غليظة.
بلا تردد، حاول مالك تفادي الضربة الأولى، لكنها لامست كتفه بقوة فدفعته للخلف. تألم بشدة لكنه لم يستسلم، زم شفتيه وهو يشد قبضته واندفع نحو الرجل، وجّه له لكمة مباشرة في وجهه.
ارتد الرجل خطوة للخلف وهو يزأر غاضبًا، ثم عاد يلوّح بعصاه بقوة. مالك، رغم إصابته، انخفض بمرونة وتفادى الضربة، ثم ركله بكل قوته في ركبته فاضطر المهاجم للانحناء قليلًا.
استغل مالك اللحظة، أمسك بالعصا من يد الرجل بقوة، وجذبها نحوه بحدة حتى اختل توازن المهاجم وسقط أرضًا. ولكن قبل أن يلتقط أنفاسه، انقض الرجل عليه مجددًا، تشابكا بالأيدي، يتبادلان الضربات بقسوة.
مالك كان يتلقى الضربات لكنه يردها بصلابة، يتشبث بروحه المقاتلة. تلقى لكمة قوية في فكه جعلته يترنح، لكنه بسرعة استعاد توازنه ووجه ضربة عنيفة بقبضته في معدة خصمه.
سقط الرجل على الأرض يتلوى من الألم، بينما وقف مالك فوقه، يتنفس بصعوبة ووجهه ينزف قليلًا من شفته.
نظر مالك إلى خصمه الملقى تحت قدميه، وعيناه تلمعان بمرارة وعزم. رغم كل شيء، كان لا يزال واقفًا... لا يزال يقاتل.
...
كان مالك يلهث وهو ينظر إلى خصمه الملقى أمامه. لمح شيئًا يلمع يخرج من جيب الرجل بفعل السقوط، فانحنى والتقطه. كانت بطاقة تعريف مزورة، وإلى جوارها ورقة مطوية.
فتح الورقة بسرعة، فوجد خريطة مبسطة لمكان المستشفى وبعض العلامات عليها وكلمة واحدة بخط بارز:
"التنفيذ الليلة."
اتسعت عينا مالك بصدمة، وتمتم:
"الليلة؟ يعني في مصيبة كبيرة بتحصل دلوقتي وأنا واقف هنا!"
لم يكن بوسعه إضاعة لحظة واحدة، يجب أن يصل إلى المستشفى ويكشف ما يُخطط له، لكنه يعرف جيدًا أن اقتحام وكر العصابة بمفرده انتحار.
أمسك هاتفه بسرعة واتصل بأول رقم في باله: رودينا.
مالك وهو يلهث: "رودينا! أنا محتاجك دلوقتي ضروري."
رودينا بتوتر: "مالك؟ في إيه؟ أنت كويس؟"
مالك: "لقيت ورقة مهمة، في مصيبة هتحصل في المستشفى ولازم نتصرف في ارواح لازم ننقذها"
رودينا: "طيب الاقيك فين؟"
مالك: "هقابلك تحت الكوبري اللي جنب المحطة القديمة... بسرعة."
أغلق المكالمة دون انتظار، ثم تواصل مع اللواء المسؤول مباشرة، يبلغه بكل التفاصيل.
مالك بحزم في المكالمة مع اللواء: "يا فندم، أنا لقيت دليل بيأكد إن في عملية إجرامية ضخمة بتحصل جوه المستشفى... محتاج دعم وحماية للمدنيين اللي جوه."
اللواء: "كويس يا مالك، احذر وخليك متخفي، بس أوعى تتحرك لوحدك، إحنا هنجهز قوة دعم ونتواصل معاك."
أنهى المكالمة، وركض مسرعًا إلى مكان اللقاء.
لم تمر دقائق حتى ظهرت رودينا، تقود دراجة نارية صغيرة. توقفت أمامه وهي تقول بسخرية رغم التوتر:
رودينا: "ايه يا بطل؟ محتاج توصيلة؟"
ابتسم مالك بسخرية وهو يركب خلفها:
مالك: "محتاج أكتر من توصيلة... محتاجك جمبي وبس يلة احنا اتكتب علينا نكون سوا ولازم نكمل للاخر."
وانطلقا معًا وسط الظلام نحو المستشفى، الخطر يحيط بهما من كل جانب، لكن هذه المرة... لم يعودا وحدهما.