رواية لطيفها عاشق الفصل العاشر بقلم سميه راشد
"يحدث أن نشاهد بلاءً عظيمًا أمام أعيننا فنظل نهرب من تصديقه ونحاول جعله كابوسًا ولكن بالنهاية يصفعنا الواقع بأن اعتقاد البلاء حلمًا ليس سوى حلم"
- آه لو كانت الدنيا كلها عبود
هكذا ردد لسان دنيا بعدما أغلقت الهاتف للمرة التي لا تعلم عددها مع عبدالرحمن، تشعر بحالة مزاجية رائقة كلما أغلقت معه، ومن يحزن وهو يجد شخصًا يعشقه هكذا بل إن هذا لم يكن أي شخص فحسب بل هذا عبدالرحمن الذي كلما قارنت بين نبرته الحازمة مع طلابه في الدرس ونبرته العاشقة حينما يتحدث معها تشعر وكأنه بدل بآخر، كلما نظرت إليه وعيناه لا تطأ عيني إحدى الطالبات بل دائما ما تنظران إلى الأعلى كما عُرف عنه بينما هي حينما يكون برفقتها لا تبارح نظراته لعينيها ثانية واحدة وكأنه يتشبع من النظرات إليها حد التخمة فلا يقدر إلى النظر لغيرها.
مزاجها هذا أجبرها على التقليب بالهاتف ومشاهدة الحالات الخاصة بأصدقائها إلى أن أعجبتها إحدى الأغاني الرومانسية التي كانت تضعها صديقتها على صورة اثنين من الممثلين ذوي الجنسية التركية لتذهب إلى أحد مواقع السوشيال ميديا الشهيرة وتأتي بالأغنية من بدايتها ليبدأ عداد الذنوب بها وبصديقتها التي كانت سببًا لسماعها إياها وجرفها إلى هُوَّة الذنوب.
بذات الوقت
كان عبدالرحمن خارجًا من بيته متجهًا إلى مركز الدروس لتقبل على أذنيه باستحياء موسيقى خاصة لإحدى الأغاني التي يستمع إليها كثيرًا تهفو إلى أذنيه من السيارات وبعض أدوات النقل ليعقد حاجبيه باندهاش من اقتراب الصوت من منزل العائلة الذي تسكنه دنيا وشقيقها، اعتقد أن أحمد هو من يديرها إلا أنه استبعد الفكرة سريعًا لعلمه أن الآخر لا يستمع سوى الأغاني الأجنبيه لتشتد ملامحه بغضب ويكشر عن أنيابه حينما أدرك أن المستمع ليس سوى دنيا.. تلك التي لم تكف عن إغضابه ومخالفة أوامره، ليطرق على الباب القريب منه ويقف جانبًا بانتظار فتحه ليتحقق مراده وتفتح له بذاك الاسدال الرمادي الذي حفظ شكله، تفاجأت دنيا به يقف أمامها وحاجباه مرتفعان باستنكار فوزعت أنظارها بينه وبين الهاتف الذي تصدح الأغنيه منه فلم تفعل سوى أن ابتسمت إليه ابتسامة مرتبكة وقذفت الهاتف على أقرب مقعد إليها ليظلا واقفان على نفس الهيئة بينما الموسيقى الرومانسية تصدح من خلفهما.
- روحي اقفليه.
قالها عبدالرحمن بهدوء مخيف وعيناه تشيران إلى الهاتف فطالعته في البداية بعدم فهم إلى أن أدركت ما يرمي إليه فهرولت سريعًا إلى الهاتف وأغلقت الصوت منه ثم عادت إليه تقسم
- والله ما كان قصدي أسمعها.
أشار على أذنيه بمعنى أن تعيد ما قالت فامتنعت خوفًا لتقول
- كنت بسمع استوري وسمعتها غصب عني.
راوغت في حديثها، فلم يكن ما قالت هو كامل ما حدث لتظل نظراته على حدتها فطالعته بقلة حيلة عاجزة عن مصالحته بهيئته هذه التي لا تدل على الغفران فكاد أن يبتسم من داخله إلا أنه أراد معاقبتها على ذنبها كي لا تكرره مرة ثانية بعد العديد من المرات التي سامحها فيها ليقول
- مفيش كلام بيني وبينك لمدة يومين.
شهقت بقوة أثر قوله، فماذا يقول هذا؟ أيجافيها ليومين كاملين بعدما بات هوائها صوته ونبضات قلبها كلماته التي تأسرها!
ظنت أنه سيتراجع عن قوله كما تراجع عن طلبه بأن تعود للمبيت بمنزل أبيها إلا أنه ولى مدبرًا ولم يبالِ وكأنه لم يعقد معاهدة عقاب لقلبها قبل ثواني.
- عبدالرحمن!
نادته بيأس حينما أوشك على الاختفاء من أمامها إلا أنه لم يلتفت إليها فزفرت بضيق وضربت الأرض بقدميها غيظًا منه ثم أغلقت الباب بعد دخولها بكل قوتها عل صوته يصل إليه فيخبره بمدى غضبها منه.
**************
"والله لن أغفر لقلبٍ تظاهر بالمحبة ثم ولى مدبرًا كأن لم يكن يتخذني وطنًا، لست أنا مَن يُجرح فيعفو فأنا امرأة أقبض على آلامي بكامل قوتي ثم أقذفها بقلب من تسبب بها.. لن أقول وداعًا ولا عتابًا بل سأقولها بكل صوتي لا تعودوا كي لا ترون الوجه الذي كنت أبذل قوتي كي أخفيه عنكم"
هكذا كتبت رحمة على حسابها الشخصي على أحد المواقع الشهيرة بعدما دق هاتفها صباح اليوم بمكالمة صوتية من حساب غريب على تطبيق "الماسنجر" فعلمت صاحبه دون أن تجيب من صورته الشخصية التي كانت تحوي ظهر شخص لم تتبين ملامح وجهه إلا أن قلبها قد تعرف عليه دون أن يبذل جهدًا، فلماذا عاد الآن بعد هذه الشهور التي هجرها فيها فتركها ضعيفة، حائرة، خائرة القوى إلى أن تماسكت واستعادت نفسها فنوى العودة؟! لا لم تعد بحاجته فهو بات لا يؤتمن على قلبها منذ اللحظة التي لفظه بها وكأنه لم يكن يسكن بداخله يومًا، فهو استباح ألمها ذات مرة دون أن يرمش له جفن أيطمع بعد جرمه أن تقدم له قلبها على طبق من ذهب بكل سذاجة كما فعلت من قبل؟!
لم تكن من محبي مشاركة أحداث حياتها على الملأ إلا أنها لم تجد طريقة أفضل من هذه كي تصل إليه رسالتها وتقطع الأمل من جذور قلبه إن كان قد بذر بذوره حتى ترعرع هكذا فأعطاه الجرأة ليتواصل معها مرة أخرى.
على الجهة الأخرى
قرأ رسالتها بدقة و شقت شفتيه ابتسامة غامضة لم تصدر عنه من قبل ثم ردد بثقة
" إن لم يعد قلبك يبالي رحمتي فلماذا أردتِ لي أن أرى رسالتك هذه؟ فلنرى يا حبيبة الروح من منا سيحقق كلماته بآخر المطاف" .
أراد أن يفعل شيء يستفز عقلها به ويثير حنقها الطفولي الذي يحفظه عن ظهر قلب ولكن لا يعلم كيف يفعل إلى أن ابتسم بمكر ثم ضغط على زر الإعجاب بمنشورها مطولًا إلى أن ظهر له القلب الأحمر فتركه ليصل إليها أن كلماتها لم تعجبه فقط بل أحبها للغاية.
بالفعل نجح في ما أراد فرحمة التي كانت ترتدي رداء المرأة القوية قبل ثواني باتت تجوب في الغرفة غيظًا من ذاك الغليظ الذي أعجبته كلماتها، ماذا أحب بما قالت؟ أحب قولها بأنها لن تسامحه بل ستجرح قلبه كما فعل؟!
توقفت عما تفعل حينما دلفت إلى الغرفة شقيقتها رقية الساهمة وكأنها تلقت على قلبها صفعة جعلتها على هيئتها هذه، عقدت حاجبيها باندهاش لا تعلم ما بها لتسألها على الفور
- مالك يا رقية؟
لم تروِ الأخرى فضولها الذي ازداد مع وجوم وجهها بل كل ما فعلته أن طلبت منها بهدوء
- بعد إذنك يا رحمة عايزة أقعد لواحدي.
هزت رحمة رأسها بعدم فهم ليرتفع صوت رقية
- قلت لك اخرجي.
فلم يكن منها سوى أن أطاعتها فارتمت رقية على فراشها تفكر في ما حدث قبل دقائق، فعمها رفيق قد أخبرها أن هناك خاطبًا تقدم لخطبتها، وليت هذا الخاطب أي شخص بل هو أحمد، من تمنت طلبه هذا منذ أعوام كثيرة ولكن لما تشعر يطلبه باردًا هكذا؟، لما لا تسكن السعادة قلبها كما كان من المفترض أن يحدث حينما يفعل؟! بل كل ما تشعر به هو الضيق، الضيق فقط وعدم القبول، فطلبه هذا جاء بعد خيبة أمل، بعد تجربة فاشلة لم تكن هي بطلة حكايتها، بل تكاد تقسم أن طلبه ليس سوى لحب ابنته لها ورؤيتها شخصًا مناسبًا، ماذا يريدها أن تفعل؟ أترفض طلبه وتقضي على حلم السنين أم تقبل دون سعادة وراحة وبلا حب، تقبل دون كرامة فقط لأنه رآها مناسبة؟!
**************
- بقا كدا يا عبود مش عايز تكلمني
- هكذا أرسلت إليه دنيا تمرح في الحادية عشرة ليلًا الموعد الرسمي لبدء حديثهم وهو لا يقبل الرد على رسالتها بل يراها دون أن يجيب ففتحت مسجل الصوت وأرسلت إليه تناديه باسمه عشرة مرات إلا أنه أيضًا استمع إليه دون إجابه، فكل ما يفعله هو استقبال رسالتها بابتسامته التي تظهر على شفتيه بغرور ليجعلها تضيق لعدم رده فكتبت إليه
- على فكرة زعلك وحش جدًا وقلبك مش بيصفر بسرعة
لتستفزه عبارتها فأجابها
- عندك حق مش سهل أسامح حد غلط.
ليرتجف بدنها فور قرائتها لجملته دون أن تدري لما، فهي لا تعتقد أنها ستفعل يومًا بحقه ولكن جديته في الحديث أشعرتها بالقلق حتى أنها لم لجب على رسالته بل لم تعد تبالي بإجابته كل ما فعلته هو أن ذهب عقلها إلى التفكير بذاك الشاب الذي لا تعلم اسمه، ذاك المندوب الذي ربط عقلها كلمة الغلط به فأسرعت إلى الشات الخاص بهما لتحذفه كي لا يراه عبدالرحمن فيخطيء الفهم لتصطدم برسالة الآخر التي تقرأها للمرة الأولى
" عن أي هجر تتحدثين وكلماتك لا تتوقف عن جذب قلبي كلما حاول الابتعاد لتعاونها تلك البرائة التي اتسم بها وجهك بذاك اليوم الذي قابلتك لأقع صريعًا لعيناك إلى المرة التي لا أعلم عددها"
كلماته تلك التي كانت ردًا على رسالتها التي تلومه بها على هجره ولم تكن تقصده هو بل كانت تقصد عبدالرحمن بحديثها ليفهم كلامها أنه له، شعرت بالشفقة عليه والاحتقار لنفسها لإرسالها الرسالة له وتعليق قلبه بها أكثر من اللازم فأرادت إنهاء هذا الموضوع وغلق صفحته وهي تكتب كي تريح ضميرها
- لو سمحت متبعتش ليا تاني.. أنا آسفة إن كنت شغلتك بيا في يوم بس كنت غير متزنة نفسيًا.. أنا واحدة متزوجة حاليًا بعد إذنك متبعتش ليا تاني"
كتبت رسالتها ثم وضعت رقمه على قائمة الأرقام المحظورة وحذفته بعدها من الهاتف ولم تبقِ له أثر ثم فتحت كتابها تذاكر دروسها بملل فيبدو أنها حقًا حرمت من حديثها الليلة مع عبدالرحمن.
دق هاتف عبدالرحمن باسم هلال صديقه يخبره بأنهم سيجتمعون بمنزل مهدي لعدم وجود أحد به، وأن ناصر سيقدم من قريته ليجلس معهم فشعر بالحماس بهذا التجمع الذي لم يحدث منذ أشهر وبدل ملابسه وأسرع للحاق بهم.
كان مهدي أول من استقبله بابتسامته المرحبة بينما أخبره بأن هلال يشتري بعض الأطعمة فاقترب من ناصر يقول
- أهلا بالندل.
ليصيح ناصر معترضًا بقوله
- خلاص يا عم بقا ذلتني على خطوبتك اللي محضرتهاش كنت مسافر مع أهلى.
ليرمقه عبدالرحمن بضيق قبل أن يستقل المقعد المجاور له. دلف ناصر إلى المرحاض ليدق هاتفه باسم هلال فأذن لعبدالرحمن بالرد عليه لعله يساعده في انتقاء الاطعمه فأجابه عبدالرحمن بمرح
- إيه يا بتاع الأكل
لترتفع ضحكة هلال قبل أن يقول
- أهلا بالشيخ
ابتسم عبدالرحمن ليتابع هلال
- اسأل ناصر على المحل اللي بيقول عليه في اتنين بنفس الاسم مش عارف يقصد إيه؟
ليجيبه عبدالرحمن بمرح
- ناصر في الحمام
ارتفعت ضحكة هلال ليقول
- خلاص أما يطلع خليه يشوف الواتس باعت له عليه ومردش.
أجابه عبدالرحمن بالقبول ليغلق معه الهاتف وكاد أن يضعه على الطاولة إلى أنه وجد رسالة ظاهرة تظهر له على الخارج برقم وصورة يحفظهما عن ظهر قلب، فقبض الخوف على قلبه وأسرع يضغط على الرقم سريعًا ليفتحه فناصر لم يكن يضع كلمة مرور خاصة بالهاتف فصدمه ما تيقن منه، استأذن مهدي منه للنزول لشراء شاحن لهاتفه فلم يشعر به، بل كل ما كان يسيطر على عقله رقم دنيا وصورتها التي تضعها بالنقاب حينما كانت ترتديه على الواتساب، شعر أن الأرض تميد به رغم جلوسه بل كاد أن يغشى عليه من هول ما يرى، أهذه دنيا من تطلب من صديقه عدم محادثتها لأنها تزوجت؟! أهي نفسها من كتب لها ناصر رسالة غرام وبالرسالة السابقة كان يشكو لها وضعها لرقمه على قائمة الأرقام السوداء؟ إذا بينهما محادثات عديدة على رقمه الآخر وحدث خلاف بينهما فحظرت رقمه؟ شعر بضغط دمائه يرتفع لدرجه جعلته خائر القوى، يشعر بأنه بكابوس مفزع وسيستيقظ منه بعد ثوان، فهذا من المستحيل أن يكون حقيقيًا، دنيا لم تحادث غيره، لم تشغل قلبها بأحدًا غيره هو، هو فقط، فبالطبع ما يراه من خيانتها له ومن قبل خيانتها لربها ليس حقيقيًا، قلب بالهاتف بجنون، عله يجد شيئًا خاطئًا، ظل يقلب ويبحث ولكن النتيجة كانت واحدة.. دنيا من تراسل صديقه ناصر.
تسارعت أنفاسه واسودت معالم وجهه وصارت عيناه حمراوان بطريقة غير طبيعية إلى أن خرج ناصر من الداخل وظهر أمامه فرفع الهاتف أمام وجه الآخر يسأله بصوت تائه صوت مشبع بالرجاء لعله ينفي ما يراه بعينه
- رقم مراتي بيعمل إيه معاك يا ناصر!