رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة و الثامن عشر
ظن طارق أن يدي سيرين المرتجفتين قد خانتاها وأن الألم حال بينها وبين الوصول إلى موضع الجرح فتسللت يده بهدوء كمن يمد خيط ضوء في ظلمة ليعينها على وضع المرهم.
لكن ما إن لمحت عيناها يده تقترب حتى انكمشت بغريزتها كغزال فزع وارتدت مبتعدة وكأنها تتقي لسعة نار فانسكب المرهم فوق ظهر كفه اذا ظنت أنه مقدم على مهاجمتها فانتفضت واقفة وعيناها تترنحان بين الخجل والاضطراب ثم قالت بصوت مبحوح كمن يعتذر عن الذنب قبل أن يرتكب
أنا آسفة... سأغادر الآن.
قرأ في عينيها ألف ظن مشوه وعرف أن الصورة التي ارتسمت في خيالها لم تكن هي التي أراد رسمها له بعقلها ولكنها معذورة.
نطق طارق بصوته الذي حمل نبرة رجاء خافت
كنت فقط... أحاول مساعدتك لا أكثر.
أومأت برأسها كمن يقطع الطريق على عذر لا تريد سماعه وهمت بالخروج... لكنه لم يشأ أن يتركها ترحل وهي تحمل عنه ظنا مسموما فاعترض طريقها ليس بحدة بل بحضور هادئ يشبه أبواب الليل حين تغلق على الحكايات الناقصة.
قال طارق بصوت متزن فيه من الصبر أكثر مما فيه من الإلحاح
ظافر طلب منك أن تنتظريه حتى يعود.
رفعت نظرها إليه تقول بعينين باردتين كأنما تجمد فيهما دفء الشتاء
أستطيع انتظاره في الخارج.
تأمل صلابتها وتلك المسافة التي نسجتها بينهما
بلغة العيون وشعر بوخز في قلبه... ليس ألما بل شيئا يشبه العتب على نفسه.
اقترب خطوة لكن دون أن يمس السكون المعلق بينهما يتمتم بإلحاح
أرجوك... لا تخافي مني... لن أؤذيك... لن أسمح لنفسي أن أفعلها ثانية وإن كان لي أن أعود بالزمن لقطعت يدي قبل أن تمتد نحوك بتلك القسوة.
حين نطق طارق كلماته انفرجت شفتا سيرين تبتسم بسخرية خافتة كأنها سمعت للتو نكتة قديمة لم تعد تثير الضحك بل توقظ الوجع.
هو نفس الوعد بنفس اللهجة بنفس الرجاء... ذاك الذي استخدمه سابقا لينسج حولها شبكة من الطمأنينة الزائفة... لكنها اليوم لم تكن تلك الفتاة التي يخدع قلبها بسهولة.
من فضلك تنح جانبا.
جاء صوتها حادا كشفرة لا تترك خلفها متسعا للتفاوض... لم يكن يهمها إن كانت نيته إيذاءها أم لا... ما كانت لتتبادل الكلمات مع رجل يشبهه ولو كان آخر نفس في هذا العالم... لكن طارق ظل واقفا أمام الباب كجدار لا يهدم وعيناه لا تعكسان أي نية للانسحاب... ومن ثم قال بهدوء يخبئ العناد بين كلماته
سأدعك تذهبين... بعد أن نضع المرهم.
ارتجف ظل الشك في عينيها فهي لم تكن تعرف ما يضمره خائفة من أن ينقلب سكونه إلى عاصفة كما فعل ذات مرة ولأن الحذر أذكى من الندم قررت أن تنهي الأمر في صمت إذ تقدمت لتتابع وضع المرهم كمن يسير فوق جليد هش.
قال وهو يراقبها بعين يتقاطع فيها الندم مع الحرص
لا تكوني مهملة مجددا... القفز من السيارة تصرف أرعن... لقد كنت محظوظة... إصاباتك لم تكن قاتلة.
كانت نظرته تحمل اهتماما لكنه اهتدى متأخرا.
لم ترد... بل اكتفت بالصمت كما اعتادت حين تصبح تقلباته نهرا لا يمكن التنبوء بتياره.
وضعت آخر قطرة من المرهم ثم تمتمت ببرود جليدي
انتهيت يا سيد طارق.... هل تسمح لي بالمغادرة الآن
خفق قلبه لحظة عندما اصطدمت نظراته بخاصتها... تلك النظرة البعيدة التي تشبه بابا أوصد منذ زمن.
اقترب خطوة وكأنه يحاول أن يلتقط خيطا انقطع بينهما.
فقط ابقي هنا... أعدك لن أؤذيك.
قالها بصوت ناعم كأنه يلف كلماته بورق من حرير... لكن عينيها أظلمتا وقد ظنت أنه على وشك أن ينكث وعده مجددا... ومع ذلك لم يكن لها أن تتحدى سلطته... فهذه أرضه وهو ذاك الذي يسير تحت جناح أعز أصدقائها... وبما أنها لم تجد طريقا للهروب توقفت عن الجدال والتزمت الصمت كما تفعل الأرواح المنهكة حين تنفد منها طاقة المقاومة.
أخرج طارق علبة دواء أخرى وغلفها بعناية كمن يغلف ندما في صندوق صغير ثم قدمها لها... متمتما
بعد عودتك استخدميه ثلاث مرات يوميا... لا تهملي وإلا... ستترك الندبة أثرا لا يمحى.
نظرت إليه للحظة مترددة بين الرفض والامتنان... لو لم تكن ذاكرتها عنه ملطخة لكانت قد صدقته... بل ربما كانت لتراه طبيبا لطيفا لا شيئا أكثر.
شكرا.
قالتها ببرود مجامل وقبلت العلبة دون أن تنظر إليها.
أراد أن يتكلم... أراد أن يفتح دفاتر الأمس أن يمحو بجملة خطأ سنوات... لكنه لم يستطع... كانت الكلمات تختنق عند حنجرة الحقيقة.
لقد أخطأ.
ظن أن من أنقذه في تلك الليلة شخص آخر... وحتى حين اكتشف الحقيقة... كانت يداه قد جرحتا من امتدت يدها لتخلصه.
فكر مليا ثم وجد منفذا... فأسرع يقول
سيرين... هل تذكرين أنك أنقذت شابا حين كنت طالبة في الجامعة
رفعت عينيها إليه وفيهما ظل جرح قديم لم يندمل تجيبه بابتسامة باهتة
أجل أذكر... وأذكر أيضا أنه وعدني بأن يرد لي المعروف ويجعلني لا أندم.
سقطت كلماته بينهما كحجر في بركة راكدة... تكسرت الموجات في داخله وتلعثمت حروفه.
ثم أضافت بصوت متهدج كأنه شظايا
لكني نادمة... فلو عاد بي الزمن... لما أنقذته.
سيرين أنا...
بدأ كلماته لكنه لم يكملها إذ دخل ظافر فجأة كطلقة تسكت كل اعتراف.
مع السلامة.
قالتها وهي تنهض وخرجت معه.
وعند عتبة الباب رمت الدواء الذي منحها إياه طارق في سلة المهملات دون تردد.
رآها طارق... رأى الفعل بعينيه كما لو أن قلبه هو من رمي في القاع.
سألها ظافر مستغربا
ما الذي رميته للتو
قالت دون أن تلتفت
مجرد نفاية.