رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة و التاسع عشر
ما إن استقر جسد ظافر داخل السيارة حتى استدار بنظره نحو نافذة المستشفى كأنه يحاول أن يقرأ بقايا المشهد على زجاجها المطفأ.
سأل بصوت يحمل نبرة خافتة من الحذر كأنه يتلمس خيطا قد يشعل نارا
بماذا تحدثتما... أنت وطارق بعد مغادرتي
لم تحاول سيرين أن تلتف على الحقيقة فهي تعلم أن الكذب في حضرة ظافر لا يجد له مأوى.
سألني... إن كنت قد أنقذت شخصا في الجامعة.
قالتها بهدوء كأنها تغرس سكينا في صفحة ماض لم تندمل جراحه.
عند سماعه ذلك ومضة من الذاكرة ارتسمت في ذهن ظافر.
رأى بعيني خياله تلك الليلة حين بلغ بالحادث... عن طارق وشادية وكيف كانت سيرين الطالبة الصامتة هي من أزاحت عن وجهيهما الموت وسحبت لهما الحياة من فك العدم.
وماذا حدث بعد ذلك
همس وكأنه يسير في ممر من الزجاج يخشى أن يتهشم الصوت فيه.
أجابت بصوت خافت يحمل في طياته نفورا من النبش في قبور الذكرى
ثم أتيت أنت وها نحن هنا بسيارتك.
لم تضف حرفا لم تكن راغبة في الخوض أكثر فالماضي حين يستدعى دون حاجة يتحول إلى
شبح يعبث بالحاضر... كما أن الوقت قد تأخر وظافر يتوجب عليه حضور احتفال الذكرى السنوية لشركته احتفال صاخب في ليل مكتظ بالضجيج والوجوه المتجملة.
أدارت وجهها نحو النافذة حيث تتناثر أضواء المدينة كنجوم سقطت من السماء وقالت بصوت بدا كأنه صادر من عالم آخر
أفضل أن أعود.
لكن ظافر لم يمنحها فرصة للهروب بل رد بنبرة هادئة لكن فيها من الحسم ما يكفي ليكسر اعتراضا
ستحضرين احتفال الذكرى السنوية الليلة.
رمشت بعينيها مرتين... كأنها تحاول أن تفهم ما لم يقال لكنه لم يفسر فقط أشار للسائق وأعطي الأمر بانطلاق لا يقبل النقاش.
قبيل بدء الحفل رتب لها ظافر غرفة هادئة... بعيدة عن الصخب قريبة من قلبه.
بدلت سيرين ملابسها إلى فستان أنيق بلون الليل الهادئ ينساب على جسدها كما تنسدل القصائد على وتر حزين فبدت وكأنها لوحة أعيد ترميمها بلمسة سماوية... جميلة حد السكون.
وقف ظافر عند باب الغرفة وعيناه تجولان عليها كأنه يراها للمرة الأولى.
ابتلع ريقه بصعوبة في حين أن علقت الكلمات بين قلبه ولسانه ثم قال بصوت مبحوح من الدهشة والانبهار بتلك الأيقونة المبهجة من الجمال الهادئ الذي يفتك بقلب الرائي دون أدنى جهد يبذل من قبلها
انتظريني هنا... لنعد معا لاحقا.
نظرت إليه بعينين فيهما طاعة خفيفة تشبه رضى الغيم حين يستسلم للريح... أومأت برأسها وقالت ببساطة خادعة في عمقها
بالتأكيد.
كادت تلك الكلمة وحدها أن توقظ نابضه من سباته كلمة بسيطة أظهرت خضوعها وكبلت قلبه في آن واحد فخرج مسرعا كمن يخشى أن يظهر ضعفه أمام من سكنت وجدانه دون استئذان.
كان الليل قد ارتدى بزته المخملية وتمدد فوق المدينة كعاشق يتأنق للقاء حبيبته...
وفي بهو الفندق الفاخر حيث الزجاج يتلألأ كنجوم اصطناعية.... انطلقت احتفالية الذكرى السنوية للشركة وكأنها مسرحية فارهة كتبت على نغمة الكبرياء.
وصلت دينا وشادية باكرا تتأبط كل منهما هدوءا مشوبا بالريبة.
سألت شادية وهي تراقب وجوه الحاضرين كصياد يترصد فريسة
هل تقولين إن سيرين عادت إلى قصر ظافر
أجابت دينا متصنعة البرود تخفي خلف نظراتها ألف شعور متضارب
نعم... حتى أنا لم أعد أفهم ما الذي يحدث تماما... لعلها بدأت في مضايقته مجددا... فكما تعلمين أمر طلاقهما لم يحسم بعد.... وسيرين بارعة في اجتياح المساحات كريح تعبث بالنوافذ المفتوحة.
لكن تلك الحية لم تجرؤ على إخبار شادية أن ظافر هو من فتح لسيرين الباب بنفسه... بل وربما القلب أيضا فهو من ترجى سيرين للعودة.
ارتشفت شادية رشفة من كأس النبيذ كمن يحاول أن يغرق الشك في دوامة من الكحول... ذاك العشاء الأخير الذي جمعتهم فيه المصادفة ظل يدق كطبول الحرب في رأسها... في تلك الليلة تحديدا رأت شادية نظرات ظافر تسرق لحظات من عيني سيرين وتساءلت في سرها
هل ما زال القلب الذي بين ضلوع ولدها يخفق باسمها
عاودت شادية النظر إلى دينا مجددا وقد غلفت الحزن بطبقة من الجليد
متى... ستكف تلك الفتاة عن مطاردة ابني
ثم أكملت بنبرة أكثر حدة كأنها تحفر الكلمات في الهواء
طالما وافق ظافر على الزواج بك فعليك أن تجدي وسيلة للحمل قريبا... هذه هي خطوتك القادمة.... سأساعدك الليلة كما وعدت.
أومأت دينا برأسها كأنها تبتلع مرارة الصفقة فهي على يقين تام بأن ظافر واقع لسيرين ولا مكان لها في حياته ولا قلبه ولكن هدفها الآن المال الذي سيصب بمجراها بعد لقب السيدة نصران فتحمحمت وقالت بابتسامة باهتة تحاول اكتساب تعاطف شادية التي لا تعنيها مصلحة دينا من الأساس فهي أيضا تبحث عن كنز الإرث الذي تريد أن يحظى به نسلها
لا تقلقي سيدة شادية... لن أخيب ظنك هذه المرة.
بدا الرضا على وجه شادية رضا أشبه بابتسامة تمثال لا حياة فيه.
وفجأة ارتج المكان بهمسة هائلة
ظافر قد وصل.
أخبرتها السكرتيرة فتوقفت شادية عن تبادل المجاملات واستدارت كأنها جنرال يستعد لمعركة مفصلية.
خطت إليه بخطى واثقة لا تحمل فقط الأنوثة... بل التاريخ والمصلحة.
بينما وقفت دينا قريبة إليهما تراقب المشهد بعيون متوترة كأن الكأس في يدها قد تحول إلى قيد زجاجي شدت عليه أصابعها حتى كادت تهرس البلور.
لحظة دخول ظافر كانت كطلة الملوك
ارتفعت الرؤوس وانسحب الحديث من الألسن وتحولت الأنظار إليه كما تتحول الأشعة نحو الشمس عند الشروق.
اقتربت شادية منه وكأنها تحاول تطويق الضوء بنخب فاخر
ظافر إن نجاح هذه الشركة ما هو إلا صدى لاسمك... وظلك الممتد من والدك وجدك... اسمح لي أن أرفع نخبا باسم من أسسوا وباسم من سيكمل المجد.
كان بإمكانه أن يرفض المجاملات... لكنه لم يستطع رد كأسها تماما كما لم يستطع يوما أن يرفض حمل عبء ذلك الاسم... رفع الكأس بصمت يخفي في داخله آلاف الأصوات المتصارعة.
في الطابق الثاني خلف زجاج لا يفصح جلست سيرين كظل يراقب العالم من عل في غرفة خافتة الإضاءة كأنها صندوق أسرار مغلق بإحكام.
كان الزجاج عاكسا كمرآة لا تريك ذاتك بل تمنحك امتياز التلصص دون أن تكتشف... ومن مقعدها المخملي الوثير كانت ترى كل شيء... ولا يراها أحد.
تناولت كأسا من النبيذ لونه كدم مؤجل الانسكاب وارتشفت منه رشفة خفيفة كأنها تذيب بها أفكارها المتجمد ومن ثم مدت بصرها نحو الساحة أسفلها حيث كانت الأضواء تتراقص على وجوه الحاضرين كأنها ترسمهم بلون آخر كل ثانية.
رأت شادية تقف إلى جوار دينا تتبادلان الحديث بلغة العيون بينما كان ظافر يتقدم بخطاه الواثقة يرافقه الحرس كحاشية لصقر لا يسجن.
كادت تشيح بنظرها لتغلق الستار بين قلبها وبينهم... لكن شيئا ما علق عينيها هناك كما لو أن حاسة سادسة أيقظت غريزة لا تخطئ.
بعينيها اللامعتين كالعدسة رأت النادل يقترب بخفة قطة على أطرافها يضع شيئا خفيا في كأس نبيذ نظرة سريعة يد ثابتة... ثم ناوله إلى شادية التي ابتسمت للنادل باستحسان كتحفيز لما فعل بأمر واضح منها ومن يد شادية إلى يمين ظافر وهي ترسم على ثغرها ابتسامة أشبه بمخلب في قفاز حرير.
دينا بدورها كانت تقترب من المشهد كمن يسعى لتثبيت النهاية التي كتبت سلفا.
لم تكن سيرين في العادة ذات دهاء خارق لكنها كانت تعرف لغة الخداع جيدا تلك اللغة التي لا تنطق بالكلمات بل بالنية.
ارتعشت أنفاسها وتجمد النبيذ في حلقها.
هل تفعلانها! هل تحاولان خداعه جره إلى مستنقع آخر باسم الحب أو السيطرة
لم يكن بوسعها الانتظار أكثر فنهضت كمن كسر قيده فجأة.
لكن الباب كان مؤصدا بجسد الحارس الشخصي عريض الكتفين صارم النظرات... ذاك الذي قال بصوت آلي
سيدة تهامي... السيد ظافر طلب منك أن تبقي في الغرفة حتى عودته.
رفعت حاجبيها ببرود قاتل وردت بجفاء مر كالسخرية
وهل هذا يعني أنني لا أملك حق الذهاب إلى الحمام أيضا أم أنكم نصبتم محكمة في هذا القصر وتنفذون قرار احتجازي هنا
لم يكن خوفها على ظافر... بل على اللحظة... تلك اللحظة التي قد تحسم فيها معركة باردة من دونها.
لم تكن لتسمح بأن تنل امرأة أخرى ما تسعى إليه ذات يوم لا يهمها ماذا سيحدث بعد أن تحقق هدفها وليذهب الجميع إلى الجحيم وأولهم ظافر نفسه.
أيقنت أن الحارس لن يستطيع إيقافها إن قررت المغادرة... فاشتعلت نظراتها بنار من يقين... وفي لحظة خطت للأمام.
فلو كان حدسها صادقا... فإن التأخر يعني خسارة كل شيء.