رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة الرابع و العشرون
شعر ظافر وكأن غصة مرة قد استقرت في حلقه تحاصر صوته وتمنعه من الخروج.
لم يكن المال يوما زاده أو غايته كان يعلم أن الذهب لا يدفئ قلبا باردا ولا يشبع روحا تتوق للصدق... ليس كأي صدق... بل كصدق مشاعرها القديمة تجاهه ولكن على ما يبدو أنه أدرك ذلك متأخرا.
ظافر رجل لا يحتمل قط أن يخدع سواء في صفقات المال أو في خبايا القلوب... تلك كانت المرة الأولى والأخيرة التي شعر فيها أنه عار أمام الحقيقة المسمومة إنه لن يكفي بلاها.
تأملت سيرين وجهه المرهق وأدركت من صمته الثائر أنه يختزن نيرانا لا تهدأ.
تمتمت بصوت خفيض وكأنها تحاول مداواة جرح نازف
بخلاف ما حدث لا أعلم حقا كيف أساعدك في التخلص من لعنة الماضي
عندما توقفت أخيرا عن الكلا استدار نحوها ببطء وعيناه الداكنتان كأنهما مجرتان من الذكريات.
حدق
في ملامحها الدقيقة وكأنها خريطة لسنوات من الندم ثم انسلت كلماته من بين شفتيه ثقيلة كصوت الريح في ليلة بلا نجوم
لقد مضت ثماني سنوات منذ أن وقع الاتفاق بين عائلتينا... تغيرت ملامح الزمن بعدها وابتلع طمع عائلتك مشاريعنا وأموالنا كيف تظنين أنك ستعيدين كل ما ضاع في هوة لا قرار لها
ارتعشت شفتاها وهي ترد بسرعة كمن يتمسك بآخر خيط أمل
قل لي ما تطلبه وسأجد طريقة لسداد كل قرش.
أضاء بريق خافت خبيث في عينيه السوداوين مثل شرارة في غابة جافة... وقال بنبرة تحمل مزيجا من السخرية والجدية
حسنا حين تسددين كل فلس استوليتم عليه سأطلق سراحك.
لكن قلبه الخفي كان يعلم أن الرقم الذي سيذكره هو فلك لا تبلغه أقدام البشر. رقم يعادل ألم كل خيبة أحرقت روحه في بعدها وكأنه أرادها أن تعرف
الثمن الحقيقي ليس مالا بل روحا مرهقة لا تقدر بثروة الدنيا.
تنفست سيرين الصعداء كمن يغادر سجنا أبديا وقد كانت متأكدة أن الحبل الذي يربطها ب ظافر بإستثناء نوح وزكريا لم يبق منه سوى خيط رفيع خيط شفاف لا يرى يلوح لها كلما حاولت الابتعاد ويشدها كلما ظنت أنها حرة.
كان الاتفاق الملعون بين عائلتيهما ذاك الذي عفا عليه الزمان هو آخر ما يربط قلبين صارا مثل مقبرة موحشة حيث لا تزهر ورود ولا ترفرف أرواح عاشقة.
أرادت فقط أن ترد إليه كل شيء لتغسل ذنوب ماضيها بماء الاعتراف وتتركه خلفها كظل ذاب في العتمة.
حين وصلوا إلى قصره شعرت ببرودة غريبة تسري في عظامها.
القصر بدا لها كوحش نائم من حجارة ورخام يفتح فمه لابتلاعها بين أنيابه... وما إن وطأت أعتابه حتى عصفت في جوفها دوامة من غثيان لا يرحم.
أسرعت إلى الحمام وهناك بين جدران باردة تلمع كالسكاكين أفرغت كل ما في أحشائها وكأنها تلفظ معه ذكرياتها الأليمة.
كان ظافر واقفا في الخارج يرمق الباب المغلق بعينين تنبضان غضبا... بدا كظل أسود يحيط به هدوء ثقيل يكتم أنفاس الحراس.
استدار ظافر إلى الحارس الشخصي الذي رافقها وعينيه مثل مقبض باب بارد لا تعرف الرحمة يهدر فيه بحدة
من الذي منحك الجرأة لتسمح لها
انحنى الحارس وكأن جسده يحمل ثقل ذنب لا يغتفر... يقول برجفة
أنا آسف سيدي
ارتفع حاجباه في هدوء مخيف وقال ببرود كالثلج
لديك عشر دقائق جهز لها الأدوية وكل ما تحتاجه لتستعيد وعيها مفهوم
غادر الحارس الشخصي مثل خيال ابتلعته الظلال.
حين خرجت سيرين من الحمام كانت كمن غمره المطر.
قطرات الماء تنساب على رقبتها ووجهها شاحب كصفحة بيضاء مسح عنها الليل كل لون.... شعرها المبلل التصق بوجنتيها مثل وشاح حزين ومع هذا بدت شهية للغاية.
رفعت
عينيها إليه لترى نظرة صارمة مزيفة تنتظرها من غرفة المعيشة.
اقتربي قالها وكأنه يلقي عليها تعويذة لا فكاك منها.
سارت نحوه بخطوات مترددة وكأن الأرض تحتها بحر هائج.
رأت على طاولة القهوة حساء دافئا وأكوابا من الدواء تلمع كنجوم بعيدة.
قال وهو يزيح كرسيا لها
تناولي بعض الحساء قبل النوم. جسدك بحاجة إلى دفء يعيد إليه نبضه.
هزت رأسها في شكر صامت وجلست.
احتضنت طبق الحساء كما تحتضن صدرا يمنحها بعض الأمان.
ملعقة بعد أخرى واستعادت القليل من عافيتها وعندما تناولت الدواء أحست أن رأسها الذي كان يئن كالطبل قد عاد إليه السكون.
رفعت رأسها نحوه وصوتها ينبع من أعمق نقطة في روحها
كم يجب أن أسدد لك
للحظة شعر ظافر أن السؤال نفسه كان رصاصة طائشة أصابت صدره... وتسائل
ألهذا الحد تتوق إلى هجره
نظر إليها نظرة ثقيلة وهو يرفع كوب الماء إلى شفتيه يشرب بعض منه ببطء وكأنه يستعيد رباطة جأشه قبل أن يجيب.
لا أذكر كم وعدني والدك به لكن المبلغ يجب أن لا يقل عن خمسة مليارات دولار... ثم هناك التضخم والزمن الذي مضى.
كان صوته أشبه بجرس حزين في دير مهجور ولكنه سايرها.
فتحت سيرين عينيها جيدا وضعت يديها على ركبتيها في خضوع يشبه سجود قلب يائس.
هذا منطقي تمتمت وصوتها يوشك أن ينكسر.
حين رأى إذعانها شعر للحظة بلسعة ندم مبهمة كمن يطعن قلبا يعرف أنه مات منذ زمن... ومع ذلك أكمل ببرود
ثمانية مليارات دولار... ألم تمنحيني مئة مليون في الماضي سأخصمها وستبقين مدينة لي ب 7 9 مليارا. لن أطالبك بهدايا زفافنا. والدك وعدني بالتعاون. لكن أمك وأخاك دمرا الاتفاق وخسارتي كانت فادحة.
توقف قليلا قبل أن يتابع بنبرة ثابتة
سأطلب من أحدهم حساب خسارتي بدقة. هل توافقين على هذا الشرط
رغم خفقان قلبها أومأت برأسها
نعم أهذا كل شيء
لم يشعر ظافر بأي انتصار. كان صوتها خافتا لكنه كتب بالدم وكأنها تقرأ آية الوداع الأخيرة بينهما.
وفي صمت مريب شعر ظافر بأن ما بينهما صار ركاما من مشاعر دفنتها الأيام.
رفع عينيه إليها وبدا له أن الليل كله قد سكن في سواد حدقتيه... تمتم بشرود يعلم أنه سيندم عليه لاحقا
لا ليس كل شيء... ما زال لدي هذا الحريق هنا وضع يده على صدره بقوة وكأن قلبه يقرع على جدران ضلوعه يريد أن يخرج... ومن ثم همس بوجع
لكنه حريق لا أعرف كيف أخمده ولا إن كنت أريد إخماده أصلا.
ساد الصمت بينهما كأن الزمن توقف لبرهة يلتقط فيها أنفاسه... لكن صوت المطر الذي بدأ يطرق النوافذ أعاد إليهما وعي اللحظة.
رمق ظافر نافذة الغرفة وقطرات المطر تتهافت كأنها في سباق أبدي وتابع وكأنه يكلم روحه
أتعلمين ما الغريب في المطر يا سيرين
رغم برده ووحدته إلا أنه يغسل كل شيء حتى لو لم يترك شيئا خلفه.
أجفلت سيرين من صوته وكأنها سمعت للمرة الأولى صدى هشاشة لم ترها فيه من قبل.
إذن ماذا تريد يا ظافر
تنهد طويلا بحدق في الحساء على الطاولة وكأنه يقرأ مستقبله في بخار يتصاعد ويموت ومن ثم استدعى جموده المعتاد
أريدك أن تفي بوعدك... أريد ديوني كاملة ثم بعد ذلك ارحلي... لا أريدك أسيرة هنا.
شهقت سيرين شهقة قصيرة قبل أن تقول بهدوء ممزوج برجفة خافتة
سأفي بوعدي. لكنني لن أبقى هنا أكثر من اللازم... لن أبقى هنا إلا لأنني مدينة لك لا أكثر.
اقتربت من الطاولة يديها ترتعشان وهي تلتقط ملعقة جديدة من الحساء كأنها تحاول أن تثبت أنها ما زالت تملك قوة لم تسرقها الأيام بعد.
في تلك اللحظة شعر ظافر أنه يراها حقا للمرة الأولى
امرأة تحارب سجنا لا تراه تحارب أشباحا لا يسمعها سواه... وداخل صدره تحرك شيء يشبه الحنين أو ربما الندم لا يعرف.
لكنه حين التقت عيناهما عينا رجل بقلب يحترق أدرك أن ما بينهما أكبر من ديون وأموال... شيء يشبه الخسارة التي لا يمكن حسابها ولا يمكن الفرار منها.