رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة الخامس و العشرون
بعد نصف ساعة عادت سيرين إلى غرفتها مثقلة بهمومها التي لا تفارق صدرها... جلست تستريح في صمت يشبه سكون الليل.
بينما كان ظافر ما زال غارقا في أوراقه بمكتبه يشابك خيوط خططه كما ينسج العنكبوت شباكه.
رن هاتف سيرين فكانت كوثر على الطرف الآخر تلك التي لم تصدق ما سمعته أذناها حين علمت أن سيرين وعدت ظافر بأن تدفع له سبعة مليارات وتسعمائة مليون دولار.
صاحت كوثر بدهشة مشوبة بغيظ مكتوم
كيف لك أن تدفعي له هذا المبلغ الهائل أليس أخوك وأمك من سرقاه لماذا تكونين أنت من يرد المال
كانت كلمات كوثر أشبه بصفعة على وجه سيرين لكنها لم تجد جوابا.
كانت سيرين تجلس بشرفة حجرتها القديمة بقصر ظافر تستنشق نسيم الليل العليل الذي يداعب وجهها كيد حانية من السماء.
نظرت إلى الأفق تائهة بين ماضيها المكسور وحاضرها المعلق على حبال الرجاء ومن ثم قالت بنبرة يختلط فيها اليأس برجس الأمل
تحدثت معه طويلا اليوم... لم يرض أبدا بنسيان الماضي لكنه وعدني بأن يطوي صفحة احتيال الزواج إذا استطعت رد دينه...
كانت كلماتها وكأنها حروف من دم تنزف من جرح قديم لم يلتئم.
شعرت كوثر بقلق يقضم قلبها كدودة تنخر في خشب هش فقالت
سيرين لماذا أشعر أنه يستغلك
ظافر... ذاك الرجل الذي يعتلي عرش مجموعة نصران لا يلهث وراء المال كما يلهث العطشان خلف السراب.... وكوثر بعين خبيرة تذكرت ما قرأته عن شركته في ردهات الإنترنت فتمتمت
وكأنها تزيح الستار عن حقيقة مدفونة
إنهم يجمعون ما لا يقل عن ستين مليار دولار سنويا من الإيجارات وحدها... ناهيك عن المشاريع الإلكترونية والأصول التي تقدر كالجبال ذهبا.
تنهدت كوثر بمرارة ثم تابعت وكأنها تلقي الضوء على قناع زائف
بعض الأجانب يقولون إن ثروته تفوق ثروة دول بأكملها.
أما سيرين فقد كانت تجهل في البداية حجم الثروة التي يملكها ظافر... فقد كانت أيامها الأولى معه كحلم وردي رسمه لها والدها حين قال
ظافر رجل كفؤ لن تندمي على زواجك منه.
لكن الحلم كان سرابا والوهم انكسر كزجاج نافذة خائر أمام ريح الحقيقة.
والدها الذي وعد بأن يسلم كل ما تملكه عائلة تهامي إلى ظافر كان يأمل أن يراها مدللة في كنفه لكن ظافر لم يجن سوى خيبة الأمل من هذا الاتفاق.... ظنت حينها أنه بحاجة ماسة للمال فسارعت تمد يدها بمدخراتها الخاصة التي قدرت بالمبلغ الذي وعد بخصمه من دينها فقط كونها كانت تخشى أن تراه غارقا في عجزه لكنها ما لبثت أن أدركت أن ظافر ذلك الرجل الغامض لا يحتاج عونا من أحد... رجل واحد يقفز فوق حدود الممكن يتسلق سلم المجد كأنه ولد ليعتليه.... إنه ظافر نصران
لحظتها تفتحت عيناها على الحقيقة
لم يكن ظافر يوما بحاجة إلى مساعدتها... بل كانت هي من تحتاج إلى أن ترى نفسها في عينيه... لكنها في ذلك الحين لم تر سوى قشرة نجاحه... ولم تكن تعلم أن تحتها عالما كاملا لا يمكن لأحد بلوغه... والآن
بعد كلمات كوثر انكشفت أمامها حقيقة طالما أرقتها إذ أدركت أخيرا ما كان ظافر يلمح إليه حين قال ذات يوم وكأنه يسفه عزيمتها
أنت لا تملكين الشجاعة الكافية لتتخلي عن بقرة حلوب مثلي.
كانت كلماته كخنجر مغروس في صدرها لكنها أخيرا فهمت معناها.
لاحظت كوثر شرود صديقتها وصمتها الغارق في دوامة الذكريات فدفعتها لتكمل الحديث
حتى لو لم يكن يستغلك من أين ستأتين بكل هذا المال يا سيرين
صمتت سيرين لبرهة قصيرة كأنها تستحضر من أعماقها طيفا قبل أن تقول بهدوء مكسور
لقد ادخرت بعض المال خلال السنوات الماضية... أظن أنني سأتمكن من سداد ديوني بعد بضع سنوات أخرى.
تنهدت كوثر تنهيدة حارة وكأن قلبها ينوح على حال صديقتها
إنه حقا وغد... كيف يطالبك بكل هذا المبلغ قبل أن يسمح لك ولنوح بالرحيل هل نسي قسوته عليك بعد زواجك يجب أن تطالبيه بثمن الألم الذي ألحقه بك! بل اطلبي منه نفقة الطفلين أيضا!
ضحكت سيرين بخفة مرة وكأنها تسخر من عبث القدر
لو طالبته بنفقة الطفلين ألن يكتشف الحقيقة ألن يعلم أنهما ابناه
أومأت كوثر بتنهيدة منكسرة
صحيح... أظنه يتحكم بنا الآن كما لو كنا دمى بين يديه... ليس أمامنا سوى العمل بجد وكسب المزيد من المال سنكتب أغنية جديدة تشعل السماء نورا... ستنتشر في الآفاق!
قالت سيرين بهدوء يشبه انسياب نهر صامت
نعم.
وفجأة تلألأت فكرة في ذهن كوثر أشعلت عينيها ببريق المفاجأة
سيرين لم لا تطلبين
المساعدة من السيد كارم سبعة مليارات وتسعمائة مليون دولار لا تشكل له سوى قطرة في بحر ثروته!
هزت سيرين رأسها بحسم مهيب وكأنها تسدل ستارا من الفخر على صدرها
لقد قدم لي كارم الكثير بالفعل... هو صديق وفي... لكن لا أريد أن أظل عالة عليه... لا أريد مزيدا من الديون التي تثقل ضميري.
ابتسمت كوثر بخفوت وقالت
حسنا... افعلي ما ترينه صوابا.
أضافت سيرين بثقة مشوبة بالتصميم
لا تقلقي... سأجني المال بعرقي وكفاحي... هذا ديني وحدي.
رغم أن كارم كان سندها خلال سنوات غربتها المظلمة إلا أنها الآن تعرف طعم النجاح الذي نسجته بأناملها وحدها... فهي من شقت طريقها في شركة الإنتاج وهي من سكبت جراح قلبها لتبرع في تأليف الأغاني التي تلامس الأرواح... وبعزيمة أقرت أنها لم تعد تحتاج إلا إلى نفسها... وحتى في أصعب لحظاتها اقتحم ظافر مخيلتها... ذاك الرجل الذي يدير مجموعة نصران كما يدير قائد بارع جيشه في خضم المعركة... فإذا كان هو قادرا على بناء إمبراطوريته فهي أيضا قادرة على سداد دينها له دون الحاجة إلى أحد.
وفجأة قطع صوت طرقات على الباب سكينة الليل فأغلقت سيرين المكالمة في لمح البصر واستدارت تخطو ببطئ نحو الباب وعندما فتحته وجدت ظافر واقفا عند العتبة بردائه الأسود تتسلل من جسده رائحة الماء والصابون كعطر ولد للتو... فتمتمت تسأله بريبة
ماذا... ماذا تفعل هنا
رفع عينيه إليها وجاءها صوته بارد كليل الشتاء
يقول بنبرة لا تقبل الجدال
أنا هنا... لأنام.