رواية من بعد خوفهم الفصل الثانى عشر بقلم حمدى صالح
"انفرار علىٰ هيئة فُراق"
"الهروب هو أول خطوات الرجوع فلا تعترف بالحقيقة إلا بعد فوات الأوان، حينها ستدرك خيباتك القاسية علىٰ قلوبٍ أحبّت بصدقٍ دون انتظار شيء قط!".
بزغ قرص الشمس على لدن فكانت نائمةً علىٰ الأرض بعد بكاءٍ دام لسـاعاتٍ، سارت وراء نفسها دون الرجوع لهم فتمزق فؤادها على حالها، أفاقت وهى تقف بجسدٍ مهتز تحاول فتح الباب لتفشل، الساعة تقترب من التاسعة وستفقد يومها الدراسي، استمعت لأنين الشقة لتزيح رهف الباب مُتطلعةً لها بحدةٍ، ألقت ثيابها وكل ما يخصها على الفراش ثم انتظرتها حتىٰ انتهت من ارتداء ملابسها؛ لتنزل معها في صمتٍ تام، ولجـا كلاهن من بوابة الجامعة لتسرع زينب بغيظٍ ناحيتها:
-فاتت المحاضرة الأولى بسببك، تُرى هل سيعلقنا أخي؟ ما بكِ يا لدن؟ وجهك شاحب للغاية!
-لم تنْم يا زينب، الساعة الخامسة تقفين هُنا، هيا يا رفيقتي نتناول شيئًا قبل دخول المحاضرة.
هزّت لدن رأسها متجهةً لمكانها، تسّرب القلق لزينب علىٰ حالة صديقتها المتغيرة، لم تهتم لحديثها ومحاضرتها، احتضنتها بطمأنينة رغم فضولها لمعرفة السبب الحقيقي، إلا أنّها على ثقةٍ بتصرف رهف لطالما تُجيد حَبك الأمور.
جلبت رهف ما ينقصها عائدين للمنزل، ظلّت تُرتب المطبخ تائهةً في كُل شيء، كيف كذبت على جدتها في مكوث لدن الدائم عندها! انسّدلت الدموع على وجنتيها وهى تُغلق الموقد، تتذكر صفعة أخيها حينما تغيرت وكُشفت الحقيقة، تكّبرت على الغُرباء فوقعت بأرضٍ جافةٍ، لم تشفى مِن تِلك الواقعة رغم مسامحتها للجميع، زوجة عمها تبغضها لهذه الدرجة ولمَ؟! من الأساس لم تختلط بها منذ زمنٍ، وثبت أمام خزانة ياسر لتتساقط الثياب عليها من عشوائيةِ دائمة، جلبت المقعد تُرتب الجزء العلوي ثُم انتقلت للأسفل، مدت قدميها تُرتب الثياب علىٰ بعضها؛ لتضعها علىٰ حافة الفراش، انتبهت لصندوقٍ صغيرٍ مغلق بقفل، أمسكت المفتاح لتراه مزين بالورود الذابلة من الجانب الداخلي.
ترددت قليلًا قبل قراءتها للمذكراتٍ صغيرة، أزالت الخيط لتبدء بالقراءة:
(السادس من مارس.. يوم جرحي الأعظم، لم يخيل إليّ مهاتفه مؤيد الباكي على فتاة أحببتُها بصدقٍ، ظُلمت من الجميع بسبب أمي التي نُشرت القسوة؛ فنفر مني الجميع قبل إحياء روحي، ابتعدتُ عن رفقاءٍ أساء الظن بيّ، لمْ يرفعوا أصواتهم إيزاء الأمانة، حقًا عالم غريب!
المؤسف في الأمر هو بغض رهف إليّ، كلماتها حقيقية لكنها انصاعت خلف شيطانها دون النظر لهويتي، الرجال أقوياء وقد يكونوا أندال مع الفتيات دون رأفة بأهلهن، علّمني أبي الكثير من المواعظ بعد وفاة زوجته الثانية، كان غليظًا معها فرحلت عن عالمٍ قهر فؤادها؛ لهذا لم أعاقب شقيقتي علىٰ شيء، ولو كان الأمر متعلق بيّ هى حبيبتي وابنتي التي أعاقبها بطريقةٍ مؤقتةٍ.
ظننتُ بعد مؤيد عني فاستنجد بي من أجل رهف، تلألأ قلبي حينما بدى الأمر بعشوائية، ألا يصفعها بالحديث وفعلتُها، هو محق لكن الذنب بعيدٌ عن أنثى بمرحلةِ مضطربة لم يتقرب منها بقدر النصح بقسوة، تألمتُ على أمي من قسوتها بخالتي.. رهف.. مؤيد.. حتى شقيقتي لم تسلم منها، عقلها مُليء بأكاذيب من زوجة سليمان، تلك مَن دمرت ابنه خالتي وفتياتها، عاملني العم سليمان وحسن بحبٍ فلم يفشلا في استماع حُزني، السر لن يكشف وهذا وعدي أنا ومؤيد إليهما، (رهف) قصة كبرى لم تبدء بعد، لم أرَ فتاة أمامي إلا إياها فكرهت رؤيتي في ليالٍ من الألم، كم أبغض الحياة العملية التي فررتُ إليها!..).
فوجئت بياسر وهو يهدرها بصوتٍ عالٍ:
-لمَ تلمسين شيئًا لا يخصّكِ؟! هل طلبتُ منكِ الاهتمام بيّ! هاتِ الصندوق!
تراجعت للخلف متحدثةً بانهيار:
-لا تضربني.. أنا لم أقصد..!
مسح علىٰ وجهِ بعنفٍ؛ فهو يُدرك خوفها من الأصوات العالية منذ صغرها، لم يقدر على التحكم بنفسه ليساعدها علىٰ الوقوف مُتجهًا للمرحاض، أسندها علىٰ المقعد يهدأ من روعتها، استغرب تشبثها بالصندوق محاولًا أخذه قبل أن يفضح أمره، صمت قليلًا ليهدرها بغيظٍ:
-هل ضربتُكِ بمرةٍ يا رهف؟! أنتِ أخذتي شيئًا خاصًا بيّ وغالي عليّ! ولا تبكين من فضلك، لا أعلم عدد مرات البكاء من كثرتها؛ لننهي الخلافات قبل أن يكشف الأمر على والدينا، سئمتُ الكوارث أقسم لكِ!
مسحت دموعها مردفةً:
-أنا لم أقصد.. حالي يسوء أكثر من قبل بعد البارحة، كُنتُ أرتب الخزانة لك فأخذني الفضول لمعرفة ما به، هو لي أيضًا أنا زوجتك وابنه خالتك التي أساءت الظن بك، ربما تنفر مني فالبكاء الكثير يتعب الغير، مؤيد لم يتحمل صرخاتي الليلية من الأساس فأنت ستتحمل، رُبما تتزوج قريبًا من أفعالي، أنا آسفة.. آسفة بحقك، ألقيتُ كلامًا طائشًا عليك، خذ صندوقك واكتب ما تُريد أما عني سأحتفظ بهم.
-الآن اعترفتي بأنّني زوجكِ ليس غريبًا عنكِ، غريبٌ أمر النساء واللهِ، أتزوج مرةً أخرى.. مَن يتزوج مرة لا يفعلها قط، ليس لدي أسرار بقدر حبي لكِ فلا تضعين أوراقي وهمّي أمام الغير، هاتِ الصندوق إذًا بما فيه بخزانتي، وقتما تحبين تقرأين ما به، اجبري بخاطر لدن كي يجبرك الله في علاقتك مع الغير.
استرسل بغيظٍ:
-السؤال الأهم هُنا مَن سيعيد ثيابي لمكانها!
رفعت شعرها علىٰ هيئة دائرة وهى تسرع من خطاها تعيد الملابس، استغرق الأمر نصف ساعة مُتطلعًا إليها بشرودٍ، أفاقت على طرقة لدن الواثبة بإسدالها:
-أُريد شراء أشياءًا من المحل، لم اتناول شيئًا من البارحة.
-طعامك المفضل بالمطبخ، افتحي الخزانة العلوية وخذي ما تحبين حتى أجلس معك ليلًا.
أومأت برأسها؛ لتغلق غرفة ياسر ذاهبةً لأداء فريضتها بالركن الخاص بها، تتضرع لله علىٰ أيامها رغم ندوبها الخفيّة، أمسكت مصحفها البرتقالي المزركش بالورود التابع لياسر بهدوءٍ، قرأت وردها اليومي قبل أن يضيع؛ لتأخذ دوائها دون طعام، أنهت كتابة المحاضرات مُتناسية أمر التدريب ومستلزماتها، تنحنحت بهدوءٍ؛ لتجلس بالقرب من لدن الصامتة:
-لمَ فعلتِ هذا يا لدن! لمَ لم تنتظرين قدوم عمي من الخارج وتمارسين ما تحبين..!
-أمي.. إنّها أمي مهما فعلت، وثقتُ بها وتعمدتُ الكذب خشيةً منكِ، ترددتُ قليلًا في تشابه أمورنا، ربما تناسيتُ الجميع من أفعال أمي فانزعج أدهم من تصرفاتي، الشاب الوحيد الذي نفرتهُ ساعدني بالأمس، أنا أحمل ذنبًا تجاه نفسي كُلمَ فكرتُ في نظرات مؤيد، لقد شك بيّ أمام رفقاءه، صدقتِ حديث أدهم بعد شهورٍ من عِلم عمي حسن بفعلتي، كيف أعيش بدون أمي يا رهف؟ كيف ينفصل أبي عنها دون كشف الحقيقية؟ تزوجها علىٰ هذا الحال أم ادّعت! وأدهم لمَ ينزعج ولم تربط علاقة رسمية بيّ! أنا كاذبة ومنافقة.. استحق صفعتك ألف مرة، أنتِ ادّعيتِ المرض علىٰ جدتي وستعلم الأمر؛ فبعد أن قدم ياسر الأدلة سأكون شاهدةً، يا لسخرية نفسي أمام الغُرباء.
ضمّتها رهف بقوةٍ مُتألمةً على حالها؛ فإن أعادتها لجدتها يمكن لوالدتها فعل الضار بها، ظلت بجوارها لتغفو بعد قراءة القرآن علىٰ رأسها، وضعت رأسها علىٰ الوسادة ثُم أغلقت الضوء حاملةً ثيابها بالمرحاض، فتحت المياه علىٰ وجهها وهى مغمضة العينين ومِن ثُم بدّلت ملابسها تغير الجرح، ابتسمت بسخريةٍ أمام دماءها، الجرح لا يشفى بسهولةٍ فارتكاب الفعل مِن أقصى ما يمر به الإنسان.
صنعت كوبًا من القهوة الدافئ جالسةً بالشرفة تُفكر في أمورها الزوجية، لم يلح عليها شيء احترامًا لرغبتها، تذكرت مشاجرتهما منذ الصغر علىٰ أتفه الأمور وبغضها الدائم إليه، شعرت بقشعريرة باردة لتغلق الشباك الخاص بالغرفة، أرسلت مقطع صوتي لزينب بعدم ذهابها بالغد وأن تأتِ لأخذ لدن متحججةً لها بأي شيء؛ لتغفو بعد يومٍ أُرهقت به.
ـــــــــــــــــــــــ
صوت المؤذن يعلو بآذان الفجر؛ لتغلق التلفاز متوجهةً للمرحاض، لململت خصلات شعرها ثُم ارتدت عبائتها مؤديةً الصلاة، دعت الله بعودة مؤيد؛ فلم تخرج عنود منذ زواجها إلا لمراتٍ قصيرة تزور بها جدتها والعائلة، سئمت الحوائط والنظر إليها في غياب شخصٍ يشاركها ما تُحب، أسندت ظهرها علىٰ الفراش وهى تتذكر دموعها علىٰ رفض الأمر وأن تمكث مع والدتهُ كما تشاء دون اعتراض منهُ، تخشى أن يكرر الشيء الذي فعلهُ والدها معهم منذ زمنٍ، تنفست باختناقٍ وهى تشعل البخور؛ لتسرع من خطاها للمخبز، وقفت بتأففٍ تنتظر دورها ثُم جلبت الطعام عائدةً لجدتها؛ فقد خصصتْ ساعتين من أجلها بعد اعتراض دام لأيامٍ.
ألمٌ فتاك يتغلغل بعقلها كُلمَ استمعت لصوت الجرس؛ لتضع حجابها سريعًا، أزالت القفل صارخةً ما إن هرب الشخص:
-ليس من شيم الرجال الهرب فالسكان نائمين، قلة احترام!
ظهر مؤيد من الطابق العلوي والابتسامة تزين فاه:
-قلة احترام، مَن غيري سيفعل هكذا يا ابنه العم!
كتم ضحكتهُ علىٰ هيئتها، فمُنذ دقيقة كانت منزعجةً والآن ألجمها الصمت، حاولت استيعاب هيئتهُ الجديد فكان أكثر لياقة من قبل، قبل رأسها مُتأسفًا على فعلتهُ:
-ألن تتحدثين من جديد يا عنود! أم قطع لسانك برؤيتكِ ليّ!
-أنت مستفز حقًا، بل سأقطع أنا لسانك إن فعلتها مجددًا، متى عدت؟
-منذ ساعة، تركتُ الحقيبة بالشقة فلم أجدكِ، فخمنت وجودك هنا، سأرى جدتي حتى تُنهي أشياءك؛ لنعود سويًا فأنا أشتاق إليكِ وأعلم غضبكِ هذا.
توترت من نبرته؛ لتُكمل ما بدأتهُ وهى تنصت لضحكات جدتها مع مؤيد، وضعت الطعام بالأطباق ثُم رتبت الطاولة بجوارها ناطقةً برفقٍ:
-صنعتُ لكِ ما تشاءين بالمطبخ وفعلتُ الحلوى التي طلبتيها مني يا حبيبتي، فلا تنسين تناول الدواء قبل الطعام، ولو جاءت لدن ستكمل، لا أعلم لمَ ذهبت لرهف، فتاتان مختلفتان حقًا.
-تعلمين الدراسة وهن بنفس الجامعة، اذهبي مع زوجك يكفي رؤيتك ليّ كُل يومٍ، وتناولين جيدًا يا حبيبتي لن ينفعك حفيدي!
هدر مؤيد بصدمة: -ماذا! أنا لم أزعجكِ حتى يا جدتي!
-بالطبع يا حبيبتي، لن ينفعني غضب الرجال ومؤيد أولهم، بارك لنا بقلبكِ يا جدتي، علىٰ العموم سأخبر لدن بالاطمئنان عليكِ حتى يغادر حفيدك للمعسكر مجددًا.
قالتها عنود وهى تضحك؛ ليغادرا سويًا تحت غيظ مؤيد، ولج للمرحاض ثُم ارتدى ثيابًا جديدة جالسًا علىٰ الأريكة بنعاسٍ، تفحص هاتفهُ مرسلًا لياسر وأدهم بعودته، أقبلت عنود عليه وهى تحمل طبق الخضروات، قائلة بأسفٍ: -لم أقصد غضبك كان مزاحًا فحسب.
-أنتِ تفعلين ما تريدين يا حبيبتي، ثُم حديثك صواب، المهم كيف أيامكِ الماضية بدوني؟
-تقليدي يا مؤيد، أردتُ وجودك بجواري في كل شيء ولكن أثق بالله، بالمناسبة تبدو رائعًا بهيئتك الجديدة.
ردّ مؤيد بقلقٍ:
-هل أنتِ دافئة؟! ماذا تريدين أيتها الأنثى مقابل هذا الغزل!
-لا حول ولاقوة إلا بالله، أنا لا أريد شيئًا فقط أعبر ثُم لا تتحول هكذا، كائن حزين!
توعد لها وهو يبتعد عنها للداخل؛ ليرتاح قليلًا من أثر التدريبات.
"أُزيلت الخيوط المعقدة فأضاءت القلوب بصفاءٍ رغم الغمامات السوداء"
دخلت رهف وهى تفرك يديها جالسةً بأحد المقاعد أمام ياسر في صمتٍ تام بعد أن اطمئنت علىٰ لدن، رفع أحد حاجبيه لتتلعثم في الحديث:
-أودُّ..أودُّ النوم هنا..
وضعت يديها علىٰ المكتب بخجلٍ حينما رأتهُ يلملم أشيائه:
-اتركها كما كانت..
-ما هذا التردد! لمَ لا تكملين حديثكِ للنهاية.. النوم لكِ والعمل لي، ماذا يحدث معكِ؟!