رواية من بعد خوفهم الفصل السادس عشر 16 بقلم حمدى صالح

 

رواية من بعد خوفهم الفصل السادس عشر  بقلم حمدى صالح



رفضت عنود تصريح شقيقتها بالحقيقة قبل أن ترتاح من خوفها منها؛ فلم تثق لدن في أعصاب أختها ككُل مرةٍ تصفعها بكلماتها السامة، ظلَّت بجوارها تحاول مراوغتها واضحكاها. 

صباح اليوم التالي.. وقفت لدن بملامحٍ جادة وهي ترتدي حقيبتها الصغيرة علىٰ كتفيها متجهةً للبحر وكأنها تُلقي الهموم، لم تقدر على الانتظار لشروق الشمس، بل هرولت في الخامسة صباحًا أمام الشاطئ المجاور لمشفى الأطفال، ثيابٌ سوداء وشال يحاوط ضلوعها من البرد القارس، تسير تائهةً وسط المارة فالبعض يحمل أوراقًا متجهين للمحكمة، والآخرون يسرعون لأقرب مواصلة، تمَّنت لوهلةٍ مقابلة مؤيد كعادتها في الصِغر، لكن الدنيا تغيرت وتغيرت القلوب معها، لمحت طيف أُبيِّ بملامحٍ شاردة؛ فليس من عادة رفقاء العائلة الذهاب لقضاء وقتٍ مع أنفسهم، دائمًا يهربون من المواجهة. 

توارت خلف السور تتابع حركاته قبل أن يغادر مُتناسيًا ملف والد أدهم علىٰ المقعد، أخذتهُ سريعًا؛ لتشير بيديها للسائق عائدة للمنزل، تبحث بين طيات الأوراق بقلبٍ مبتور عليهما، لم تبكِ بقدر انشقاق صدرها علىٰ شخصٍ يفقد لا يكتسب شيئًا سعيدًا، طبقت الملف أسفل كُتبها موصدةً الدرج بالقفلِ، سورٌ عملاق أمامها تنعقد خيوطهُ أكثر عليهم، خرجت من تفكيرها علىٰ صوت والدها الهاديء: 
-أردتُ أن أخبرك بانتقال السكن لبنية أخي؛ كي تكونين أكثر ثقة. 

تنفست باضطرابٍ وهي ملتفتة للشرفةٍ: 
-ننقل من منزل لمنزل، وتسافر لعملك يا أبي تاركًا فتاة تبيتُ أيامها بشقة أختها وابنه عمها وجدتها، افعل ما تُحب يا أبي طالما ترى الصواب. 

التقطت هاتفها للخارج دون النظر لوالدها، بينما عنود تأملتها وهي تضع السماعات بأذنيها تنصت لإحدى البودكاست، لم تُعقب علىٰ تصرفها فهي صواب، تنتقل كما تريد على أملٍ بالرجوع لغرفتها كل ليلةٍ تفرغ فيها صبرها، هونت علىٰ أبيها حينما لاحت نظرات الندم عينيه. 

اقتربت من لدن ببشاشةٍ؛ حاملةً أكواب العصير: 
-صِرتِ أفضل الآن؟! 

أجابت باقتضاب: 
-الحمد لله يا عنود، رأيتُ أدهم بالصف الأول الثانوي عبر طريق الدرس؛ فكان مقابلًا من محل أبيه، لم أهتم لنظرات الشباب فكما اعتدتُ بأن البيت والدرس طريقًا واحدًا، بدى الأمر لطيفًا علىٰ قلبي فكُنت انتظر أمام المحل، أسأل عن الثياب متحججةً بالحديث ثُم اشتري لمؤيد قطعة وأنتِ ترسليها لهُ، لم يكن مؤيد يعمل في هذا الوقت، شعور الحب تسلل لقلبي عن طريق الخطأ وظهر بهيئةٍ مختلفة، يقف مع الشباب يتناول أقراصًا مبهمة، في الحقيقة لم يأخذ بل ظلمتُ إياه، حتى نصحتي عقلي قبل قلبي، هو من أبعدتيني عنه يا أختي؛ لهذا كنتُ أهرب من المكوث في وجوده. 

أكملت بسخرية وهي تلملم بقايا جرحها: 
-أردتُ الابتعاد وها أنا أتذوق المرَّ، خمس سنوات من الصمت وكُشف الأمر، الحرام حرام لهذا سأحاول الإفاقة من حفرة الحب الكاذبة، هو يستحق الحياة وأنا لم أرَ الدنيا، هاتفي زوجك فهو بحاجته الآن! 

لم تبكِ ولم تصرخ بل تكتم بداخلها مثلها تمامًا! 
ـــــــــــــــــــــــ
(اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد)  
ـــــــــــــــــــــــ
انتفض أدهم علىٰ رنين هاتفه المتكرر؛ ليهرول سريعًا باحثًا عنه، مكالمةٌ يخشاها منذ أيـامٍ؛لتأتي علىٰ بساطٍ، أُبيِّ يبكي بصوتٍ عالٍ، نطق بصعوبةٍ بالغة: 
-أمات أبي يا أخي! رُدَّ عليّ! 

-آن آوانه يا أدهم، علينا الذهاب للمشفى الآن! 

ذهبـا بطريقٍ منكسر في صمتٍ تام، الأشواك تزداد أمامهم، لعن أدهم كُل شيءٍ دون تفكير، فقط يرى مرض أبيه المستلق علىٰ الفراش يزداد بدماءهِ، توقف عقلهُ أمام جسده؛ ليفقد توازنه، فلم يتوان ياسر وحسين عن مساعدتهما في بليّتهم الكبرى، أوراقٌ تستخرج من آلةٍ إلكترونية، ونعشٌ يحملهُ الرجال وسط نساءٍ تصرخ علىٰ فراق أزواجهم، مكانٌ يجلب الخوف علىٰ أدهم خصيصًا، يبكي بقهرٍ باسم (أبي)، لن يرجع معهُ كالسابق، أسندهُ أُبيِّ لمقعد السيارة وهو يضمهُ بألمٍ علىٰ حاله. 

ربما لا يشعر الإنسان بشعور الآخرين حينما يفقدوا والديهم؛ ولكن الفقد مريرٌ علىٰ القلب، تظل مضطربًا وخائفًا، لا يعلم الناس ما بصدرك بقدر اهانتهم لضعفك ولحياتك، لمَ لا تتحمل المسئولية؟! لمَ لا تفعل هذا! لمَ.. لمَ.. تزعج صاحب الواقعة؛ فلا يرى إلا أمرًا واحدًا.. الموت! 

استغل أُبيِّ وجود ياسر وهو يعتذر عن وظيفته تاركًا إياها؛ فمِن حسن حظه انتهاء النصف الأول من الدراسة، حاول معهُ في الأمر ومع إصراره اضطر لفعل مَا يريد، لم يعقب علىٰ شيءٍ بقدر حبه لأخيه، أما عن الفتيات فلم يفكروا إلا به، باختلاف لدن التي انحسرت في ترتيب الشقة، كتمت حزنها عليه في قلبها، فقدت والدتها المنكبة في ضلالٍ، وتوزانها في أمورها العملية؛ فلم تعد كما كانت! 
ـــــــــــــــــــ
انتهز كريم الفرصة بعدما غادر حسين من العمارة؛ ليطرق المنزل بثباتٍ وفرحةٍ على تكليف شقيقتهُ بهذا الأمر؛ فكان يدخر نقودهُ وينفقها على إحدى الجمعيات الخيرية في طريقه، فتحت والدة حسين بضعفٍ؛ ليشفق علىٰ حالها، أسندها للمقعد ثُم جلب كأسًا من المياه: 
-تفضلي يا خالة، ربما تتحسن صحتك على ما يبدو أنّكِ مرهقة ولم تتناولين الدواء. 

ربتت على كتفيه برفقٍ: 
-نسيتُ شراء الدواء ي بني، ألن تمل عن زيارتي، أمور أختك وأنت أولى مني. 

-لو تعلمين أنَّ الساعة معكِ أفضل من الجميع لن تصدقيني، سأجلب الدواء في الحال وأغادر قبل رؤية ابنك، يبدو أنَّهُ يزعجك! 

-لا يا صغيري، تغيرت خِصالهِ وقص ليّ ما حدث منذ بداية الأمر، أصبح حسين فتاتًا متناثرًا، ينهك جسده في رياضة المصارعة ويدرس في الليل مع عمله، كُنت سأخبره بكَ. 

شهق كريم؛ ليقف في رفضٍ تام: 
-أقسمتُ عليكِ بألا تخبريه بأمري، هذا سر وعدتُ به شمس وإن علمت ستهشمني، ادعي لهما بالراحة والاستقرار يا خالة، ربما يصلح فؤادهما، عليّ الرحيل للدرس وسآتي في الغد. 

همَّ بالرحيل تاركًا السيدة في أفضل حالٍ؛ فقد اهتم بحالتها الصحية ولكونها ترفض المال، ضعف الدواء في كل مرةٍ يزورها، تعلم من شمس الكثير وها هو الآن يفهم نظرات النساء الكبار، يهتمون بالغير ولا يدخروا وقتًا لأنفسهم، العمل بالصيدلية وعلاقتهُ بالدواء رسم طريقًا آخر، حُلم الطب يسري بعقلهِ رغم محاولاته في التّعلم إلا أنّهُ يثق بحالهِ؛ ففي بعض الأحيان يعجز المريض عن شراء الأدوية في ظل الأسعار المتفاوتة كُل يومٍ. 
ــــــــــــــــــــــــــ
"علىٰ حافة الإنهيار تتولد قوة الحِدة والمغامرة، فلا أحد يشعر بك، يقذفونك بمَا يريدون من أجل رضاء ما تبتغه الأنفس السوداء، تغامر دون إحساس داخلي حينها تتوقف، تنهار، تفقد سيطرتك على الأمور! "

توقف أدهم أمام العمارة الخاصة بشقة والدي مؤيد بعد شهر من العزلة، يخطف سويعات العمل بقلبٍ مات من ألم الرحيل، هيئةٌ من أجمل مما يكون طمست من الدنيا، فأصبحت كالصفعة القاسية لا يحاول النهوض منها، طرق طرقةً واحدة؛ ليستقبله حسن بترحابٍ بالغ، نظرت صفاء لصمتهِ وهو يرجع رأسه على الكرسي في محاولةٍ؛ للتخفيف عنهُ: 
-لو كان مؤيد هنا لأصبحت الفوضى عارمة من شجاركما، أتعلم.. أنا أرتاح لعدم وجودهُ! 

ابتسم ابتسامةً خفيفة؛ لتلتقطهُ بين ضلوعها تطمئنهُ بكلمات الله، انتبه لصوت أنثوي بإحدى الغرف متمتًا باعتذارٍ: 
-آسفٌ لأنّني لم آتِ دون أن أخبركما.. ولكن الوحدة قاتلة عليّ. 

ردّ حسن بحزمٍ: 
-دعك من تفاهاتك يا أدهم، لدن تحبس نفسها بالغرفة في وجود أحدهم بالخارج؛ فقد انتقل أخي هنا بالشقة الأمامية بالطابق لهذا تساعد رهف في جلب ما تُريد، وإن تحركت فنحن بغرفة الضيوف أيها الخارق، البيت بيتك وإن ثار أحدهم سأطرده من أجلك . 

أكمل بنبرةٍ ماكرة:
-كما أنّها معاقبة مِن قِبل سليمان لسببٍ مَا، لهذا تصرف بتلقائية وقُم بعمل الشاي لنا. 

خلع أدهم معطفهُ وهو يومأ بحركةٍ مضحكةٍ، لم ينصت لصوت لمصدر الصوت بقدر معرفة السبب حتى وإن ام يتحدثا، لكن وعدهُ لنفسه بألا يراها مجددًا جعل كبريائه يبغضها؛ فبعد الحب يتولد الكره، حبٌ سري نتيجتهُ محرمة، لم ينسَ نظراتهُ ومحادثاته لها في الماضي، وما بدأ بحرامٍ لن ينتهي إلا بتدمير شيئًا إما نفسك الآمارة بالسوء، أو كرهك لحياتك. 
ـــــــــــــــــــــــــــ
دارت الأيام سريعًا منذ حادثة أدهم، وتغير الجميع منذ وفاة أبيها؛ فكانت سيرتهُ تذكر في كل مجلسٍ يجلس به صاحبهم، يعلمون أنهُ يمارس الأشياء دون إحساس، بيتُ فارغ لم يعد كما كان، وغرف مملوءة بالغبار الكثيف وكأن الكِبر نُشر بالمكانِ، نفس العادات تمارس باليوم لا اختلاف، مؤيد  يخطف أسبوعًا؛ لكي يطمئن علىٰ رفيقه مثلما وعدهُ؛ فكان يشعر بالراحة حينما يتحدث فأصبح المستمع هو والمتكلم مَن فقد الثقة والأمان، أدهم الذي عشق الحياة تقوقع في بؤرة بعيدة عنهم؛ مما غير خِصال أُبيِّ من العنف والصوت العالي لنبرة هادئة، فانتبه لعملهِ بالهندسة الكهربائية بدلًا من الجامعة وانزعاجهُ من الأمور المملة بها. 
ــــــــــــــــــــ
تسامر أدهم مع العميل الأخير بالبنك قبل أن يجر خيباته عائدًا للمنزل، خالتهُ لا تتركهُ بمفرده بل تأتي وكأنهُ طفلًا يرفض المجيء وتأخذهُ لبيتها؛ ليوافقها علىٰ الجلوس برفقةِ أخيه ويوما الخميس والجمعة يأتون لبيتهِ. 

خرج من البوابة الخلفية؛ ليجد مؤيد واقفًا يمسح عدسات نظارته، اقترب منه بسعادةٍ؛ ليضمَّهُ الآخر بشوقٍ بعد شهرٍ من الغياب: 
-صِرت قوي البنية يا أخي! 

-جيدٌ أنَّك تتذكر كلمة (أخي)؛ لهذا تركتك شهور ولم أتحدث عن هيئتك، محل والدك يجب أن ينير من جديدٍ، لقد نجح في حياته ولابد أن يشيع انتشاره الآن، وجسدك واهن لا يعجبني أيضًا، تبقى القليل وسأعمل معك، نمارس الرياضة ونتشاجر، أدهم أنت صاحبي الوحيد، عِدني بأنّكَ جيد، فراق والدك ترك ندبة قوية بنا، وأيضًا بيت أبي مفتوحًا لك. 

زفر باختناقٌ سائرًا بجوارهِ: 
-وهل عمارة أبي أتركها؟! تعلم أنَّ بيتنا كبير وكل طابق به شقتين، أنا أنصت لكم ولكن كفى، سأنظف شقتي وأسكن بها، وخالتي وعدتني بهذا، أخبرتني بالأمس عن انتقالها بالطابق الثاني وبهذا لن أكون وحيدًا، رُبما أقنع حسين أيضًا. 

أكمل بغمزةٍ: ويعلمني أمور الفتيات! 

-حقًا! وهل تعلمتُ مشاكسة الفتيات طيلة سنواتك الأربع بالجامعة! اصمت وسر أمامي! 

كتم ضحكتهُ وهو يدلف لمطعم الدجاج؛ يتذكرا شيئًا من أيامهما الماضية، يتمنى للحظة الرجوع للدراسة لا لحياةٍ لا يرى به نفسهُ حتى! 
ـــــــــــــــــــــ
الصمت يكسو المنزل وعنود تتطلع للفراغ بمللٍ بعد أن أتمّت وردها وجزء من القراءة، كُل بقعةٍ في بيتها تشبه مؤيد؛ فلم يختار إلا بأحاسيس الحياة والحب، يعلم ما تُحب ويكره ما تكرهُ، ولجت للمطبخ بشهيةٍ عالية وهي تخرج من المبرد البذنجان والفلفل، بدأت بإشعال الموقد ثم وضعت الزيت بشيءٍ كبير (الطاسة)، قطعت الفلفل لجزئين مع الثوم؛ ليصبح ممتزجًا.. لتضعهُ على الجانب الأيمن لحين أن يُقلى البذنجان. 

أُنهيت سريعًا الطبق؛ لتشرع في تناوله بفرحةٍ، وفي غضون لحظاتٍ وجدت رهف تحمل أكياس الفاكهة، أخذتها منها لتلتقط الأخرى أنفاسها تحت صدمتها من رؤيتها، اقتربت تتحسس رأسها بسخريةٍ وهي تلتقط لقمة صغيرة: 
-إنهُ حار يا زوجة أخي! منذ متى تتناولين الشطة والطعام المقلي! 

أجابت بضيقٍ: 
-اشتهيتُ شيئًا بسيطًا يا رهف. 

-لكِ ما تحبين يا ابنه العم، المهم هو صحتك وعافيتك، عليّ الرحيل وإن أردتِ شيء أخبريني. 

-ولكن هذه أموال زوجك، انتظري دقيقة فقط.. 

رفعت رهف إحدى حاجبيه: 
-مال ماذا! حينما اشتكي تحدثي يا عنود، ما هذا الهراء!، ابتعدي قبل أن انفجر غيظًا، كائن عجيب يجلب الصداع لأخي! 

-ولكن أريد الحديث معكِ؛ فأنا لم أجد شيئًا أمامي إلا الثرثرة ولو قليلًا معكِ أو الفضفضة معكِ يا رهف، لم أشعر بسعادتي بقدر تغيرك الملحوظ في الآوانة الأخيرة، تذهبين لبيوت الجميع رغم انزعاج ياسر حتى وإن لم يقل هذا، فالرجل إن لم يجد اهتمامًا يتغير على الأنثى، أنا آسفة على مَن أزعج فؤادك الطاهر، لا تستحقين ما حدث وما يحدث الآن.. 

جلست رهف بجوارها: 
-يبدو أنَّ فراق أخي المتفاوت جلب لكِ الأوهام، لقد مضي أشهر على هذا الحديث، الشكر لله على نعمة الحب واللين بيننا يا عنود، أنا لا أتذكر شيء سيء لهذا تناسي وافرحي، بقي ثلاثة أشهر ومؤيد يمكث بينك كل يوم ويزعجنا بأفكاره وثقافته المتعددة، المهم هو راحتك؛ فيبدو أنّكِ عاجزة بمشاعرك وتثرثرين بأشياءٍ كثيرة ليس لها شأن، أنتِ لستِ زوجة أخي فحسب بل الصاحبة والأخت. 

أجهشت عنود بملامحٍ باكية: -وأنتِ أيضًا.. 
-هذا كثير، كثير عليّ حقًا.. صمتت لبرهةٍ قبل أن تقف: 
-أأنتِ حامل يا عنود؟! 
قرصت وجنتيها بمشاكسةٍ: -لا، إنها هرمونات أخرجها عليكِ! 

ألقت الوسادة عليها مغمغةً بغيظٍ وهي تصفع باب الشقة؛ لتعلو ضحكات عنود علىٰ هيئتها الغاضبة. 
ـــــــــــــــــــــــ
تتقلب بفراشها تُفكر في أمر تدريبها في دراستها؛ فإن حاولت إقناع شقيقها سيرفض والدها ويزمجرها بغضبٍ بالغ، أغمضت زينب جفونها تتذكر أُبيِّ وطريقة اعتذاره عن الدراسة من أجل وظيفة أعلى، تمتمتْ بداخلها: 
-لا يصح أن تفكرين في شخصٍ غريبٍ، نامي يا زينب. 

وكأن النوم رفض الانصات، التقطت هاتفها وهي تغلق غرفتها، أمها تتلو آيات الله في الظلام على إضاءة خافتة؛ لتضيء بتوترٍ مردفةً بملامح طفولية: 
-أمي، أريدك بأمرٍ ولكن قبل هذا أنتِ ستساعديني، ربما لم تتقبلين وجودي فأن يملك رجلك امرأة أخرى أمرًا صعبًا؛ لهذا.. 

-تُرددين حديثك المزعج ثانيةً! ما الأمر يا فتاة الذي يجعلك مستاءةً لهذا الحد! 

تلعثمت الكلمات بفمها؛ لتفرك يديها بقلبٍ مضطربٍ: 
-أودُّ التدريب بعيدًا عن أخي وإن علم بالأمر سيرفض، وربما ينهرني ويمسك ثيابي ثُم يعلقني أمامكما، لا أريد مالًا بقدر الوفاء بتعليمي، أنا أرى مساري والقى صفعة الدنيا، كما مشاعري هائجة تجاه شابًا ولا أستطيع التّحدث لأحدٍ، كيف لفتاة لم ترَ شابًا وتحدثه هكذا ينعقد قلبها به، أرفض هذا الأمر فإن سمحتِ لي.. انصحي ابنتك، جئتُ أحدثك قبل أن يدنو أبي للمنزل. 

ربتت صفية عليها برفقٍ: 
-غريبٌ أمرك يا زينب، أنتِ تبغضين أُبيِّ في أي تجمع وحينما تقلبت الأحوال تشعرين بمشاعر هائجة، أنا أعلم نظراتك ونبرة صوتك في ذكر هذا الرجل، أعاتبك على هذا ولكن سلطة القلوب مفتوحة لم تتقيد قط، ادعِ لهُ ولكِ بالبعد إن لم يكن صالحًا، وإن كان نصيبك؛ فهذا رزقك وعوض من الله-سبحانه وتعالى-على حزن الأيام وما فعلتهُ معكِ، صغيرتي يحبها الجميع، المهم هو عملك.. ما رأيك في نزول تدريبًا قريبًا من البيت، وسأقنع والدك بهذا مقابل الوفاء بالمواعيد؛ كي لا نتطرد من أفعالك البائسة. 

-موافقة على أي شيء، المهم التدريب، أنتِ كالحلوى حقًا! 

قذفت الوسادة بمرحٍ متجهةً للبراد تتناول طعامها؛ لتترك زوجة والدها بمتاهةٍ كُبرى، تلك من أنارت البيت منذ جلوسها، شقاوتها الطفولية وأمورها الجادة رغم نوائبها السرية، بدى الأمر جيدًا علىٰ صفية إلا أنّها توقفت علىٰ صخرة مهشمة في معاملتها مع شقيقتها الكبرى، شعور الغيرة الجامع في الماضي، تدمير ما تحب يؤلم جسدها؛ فكيف لدماءٍ واحدةٍ فعل كُل هذا وأسوأ! 

رجع زوجها ملقيًا السلام وقبل أن يهم للنوم توقف علىٰ صوتها الحاد: 
-من الغد ستمارس زينب عملها! 

-وأنا رفضتُ هذا وانتهى الموضوع، هي ابنتي أنا وحدي، فهمتِ! 

-وهل أدركتُ ما تعانيه ابنتك أو ابنك! هل تعلم حزنهم وما بهم من كوارث! أنت تذهب لعملك وتعود في منتصف الليل، زوجت ياسر في وقتٍ خاطيء، أنا لن أسمح بتدمير ابنتي، هي ابنتي ولو فعلت كل سوء لن أسامحك، فات الآوان! 

صفعت صفية الباب بعنفٍ دون الاهتمام بحديثهُ العنيف والقاسي، هو مَن غير بها كل شيءٍ لأسوأ، يقارنها بالغير فتمزقت داخليًا، شكرت الله علىٰ انسياب ياسر خلف الدنيا تعلمهُ لا مَن يغمر عقلهُ بشرٍ، يوشك الخوف أن يقتلع فؤادها من تصرفات زوجها الطائشة، بينما توقفت زينب خلف الباب بملامحٍ باكية، كيف يقسو بهذا الشكل عليها! تتساءل عن السبب وهي الأساس، لوهلة فكرت في اخبار عنود؛ لتجد حلًا مناسبًا دون إنقاص قدرها وطاقتها، الخوف قاتل، مرير، يضعف قوة الإنسان، وما أبشع الشخص حينما يقع ضحية والديه! 
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1