رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة و السابع عشر
خفق قلب ظافر كطبول الحرب عندما أبصر الدماء تلطخ يدي سيرين وساقيها كأزهار نازفة في ربيع جاف.
لم يتردد بل اجتاحه خوف مميت فالتقطها بذراعين مذعورتين وسحبها نحو السيارة كما لو كانت كنزا فر منه في لحظة غفلة.
صرخ ظافر بسائقه بصوت أثقلته الرهبة
إلى المستشفى الآن!
انكمشت سيرين في مقعدها الخلفي كزهرة ذابلة تحت عاصفة عيناها تسبحان في دوامة ندم وصمت خانق.
كانت أفكارها تتراكض كأشباح هاربة من ماض لا يرحم كيف سمحت لنفسها بهذا التهور! لا تزال تملك نوح وزكريا لا تزال تملك ما تخاف فقدانه فلم أقدمت على فعل متوهر كهذا!
قطع ظافر الصمت بصوته المثقل بالحزن كأنه ينقب عن نبض قديم قد اندثر
لماذا أنت غاضبة
لكن سيرين لم تجبه كان الألم يسكن أطرافها ووجع الصمت أعمق من أن يروى.
خيم السكون على السيارة وكأن الزمن قد قرر أن يتوقف احتراما لحزنها.
راح ظافر يحدق بها كأنه يبحث عن تلك الفتاة الصغيرة التي كانت تثرثر دوما تقذف الكلمات عليه
كما لو كانت طائرات ورقية في سماء طفولتهما.
أين اختفت! متى خفت صوتها ولماذا
زفر بضيق ثم سألها بنبرة كادت تخنقها الحسرة
إلى أين كنت ذاهبة
همست بصوت أقرب إلى الريح حين تمر بين قضبان النافذة
لا مكان... أردت فقط أن أتمشى.
كانت تكذب لا وجهة لها سوى الهرب لكن الهرب من ماذا من ماضيها من حاضرها أم من نفسها
توقفت السيارة أمام المستشفى وهبط منها ظافر كمن يسابق الوقت ثم التف حول السيارة كعاصفة مباغتة وقبل أن تفتح سيرين بابها كان قد فتحه هو.
مد يده إليها فمدت طرفها بارتباك لكنها لم تكد تلمسه حتى انتشلها من المقعد كأنها دمية خزفية يخشى عليها من الانكسار مشى بها بخطوات متسارعة نحو قسم الطوارئ يفتح الأبواب وكأنها جدران لا تستحق الوقوف في وجهه.
وحين دخل إلى غرفة الجراحة دوى في الغرفة صوت مألوف صوت يحمل نبرة وجع
ما الذي جاء بك إلى هنا يا ظافر
التفت ظافر بحدة فوجد طارق جالسا يرتدي معطفا أبيض تلطخ بحزن غير مرئي لم يكن أنيقا كعادته بل كان الحزن جاثما على ملامحه كأنه خلع البهجة وارتدى الجدية بدلا منها.
لم يجبه ظافر بل رد بسؤال أجوف يخفي أكثر مما يقول
لماذا أنت هنا
لم يكن طارق أعمى عما بين يدي ظافر فقد لمح سيرين و جسدها يئن بصمت وعيناها تسألان ألف سؤال بلا صوت.
ارتبك طارق ومن ثم أشاح ببصره سريعا كمن لمس جمرة من نار ثم تمتم بنظرات زائغة
أراد جدي أن أعيش الحياة هنا... وها أنا ذا.
لم يكن الطب يوما شغف طارق بل كان كابوسا يرتديه كل صباح بقناع الرضوخ فرضه عليه جده بسطوة القرار وبأس التقاليد... كان قلبه معلقا بالقانون وعقله في متاهات إدارة الأعمال الدولية لكنه وجد نفسه ذات يوم يرتدي المعطف الأبيض كما يرتدي السجناء زيهم الموحد فلا فرار من سجن الأنساب.
في تلك اللحظة كان الجد يحلم بوريث لا تزيغ عينه عن الورق والموازين رجل تسلم له مفاتيح الإمبراطورية دون أن ترتجف يداه... وما كان طارق ليطأ أرض المستشفى لولا التهديد الذي نزل على رأسه كالصاعقة
إما الحضور وإما فتح ملف زواجه من كوثر... كوثر التي لم يعرف سر افتتان الجد بها ولا سبب هذا الإصرار القاسي على ربط مصيره بها.
وما إن مر طيفها في خياله حتى تكاثرت صور زكريا المشاغب في رأسه كأصوات طبول تضرب جمجمته من الداخل.
زفر طارق بضيق وقد بدأ الصداع ينهش أطراف تركيزه جراء مرور طيف هذين البغيضين بعقله ألا وهما كوثر وزكريا.
قطع ظافر أفكاره بسؤال لم يطرحه بل بأمر أكثر وضوحا
قف أمامي وعالج جروحها.
استدار طارق وتلاقت عيناه سيرين التي لمح دماء قد تجمدت على جلدها كحروف حمراء كتبتها الريح على جسد أنهكته الرحلة.
ركز نظراته ومن ثم أشار برفق
تفضلي بالجلوس هنا.
وبرغم تلك الوخزة التي انتابت نابضه إلا أن صوته كان ثابتا باردا كأن شيئا لم يهزه محترف كما دربوه أن يكون لكن عينيه لم تكذبا.
علمت سيرين أنها في مأمن مادام ظافر يقف على بعد نبضة منهما فجلست دون تردد وسلمت جسدها لفحص لم تتوقعه فيما بقيت عيناها تراقب عن كثب.
تفقد طارق الجراح ثم خلع قفازيه البلاستيكيين بحركة مدروسة... وقال بنبرة هادئة كنسيم يجبر الخاطر
ليست خطيرة كلها جروح سطحية فقط.
أشار طارق للممرضة فأتته بمرهم شفاف ناولته إياه في صمت لكن قبل أن يباشر بوضعه على جسدها امتدت يمين ظافر كصفعة تقبض على معصم الآخر وصوته جاء كتحذير مبطن
أعطني إياه.
تجمدت يد طارق للحظة ثم رد بجفاء مغلف بابتسامة مهنية
لا بأس سأضعه لها.
لكن شرارة الغيرة في عيني ظافر لم تكن بحاجة إلى تفسير إذ كان على وشك انتزاع المرهم منه كما ينتزع عاشق وردة من يد رجل غريب.
شعرت سيرين بتوتر كاد يملأ الغرفة بدخان وهمي فأسرعت لتطفئ النار قبل أن تندلع وسحبت الدواء من يد طارق وهي تهمس بنبرة حاسمة
سأتولى ذلك بنفسي.
أمسكت سيرين بقطعة قطن وراحت تمررها على جراحها كأنها تروي ألما قديما الألم الذي لا يشفى بالدواء بل بالهروب.
ساد الغرفة صمت مريب كأن أحدهم قد أغلق أبواب الزمن وألقى بالمفتاح بعيدا... كان كل شيء هادئا أكثر مما ينبغي.
وقف طارق جوار ظافر وعيونه تحاول قراءة ما بين السطور ثم همس
ماذا يحدث يا ظافر
استند ظافر على الحائط وكأنه يختبئ من شيء بداخله وعيناه لا تفارق سيرين كأنها مشهد يوشك أن يختفي إلى الأبد
هناك من قرر أن الحياة لم تعد تستحق العيش فقفز من السيارة.
تقلص قلب طارق بصدره وخنقته لحظة شعور غامض تجاهها لكنه لم يظهره بل تابع الحديث كمن يهرب من نفسه
أليست شركتكم تحتفل اليوم بعيدها السنوي متى تنوي الذهاب
أجاب ظافر وهو ينظر إلى ساعته كما لو كان يحسب أعمارا لا دقائق
سنرى الليلة
كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية ظهرا لكن الوقت داخله كان متوقفا منذ لحظة رؤيتها تنزف.
في مكان آخر من المشفى نقل أحدهم إلى الجد خبر وجود ظافر ولأنه كان هناك بدوره لإجراء بعض الفحوصات أرسل فورا من يستدعي ظافر لمقابلته فكل حركة في تلك العائلة تحسب بالميزان.
وحين هم ظافر بالخروج التفت نحو سيرين وقال بصوت خافت لكنه أثقل من وعد
انتظريني سأعود.
وخرج من الغرفة تلاه ظل الممرضة ولم يبق سوى سيرين وطارق... وهدوء ثقيل يقطر من جدران الغرفة كما يقطر المطر من سقف بيت مهجور.