رواية أجنبي الفصل السابع عشر بقلم الهام رفعت
مَرجٌ أطاح بكيانهِ وهو يستمع ويردد تلقائيًا خلف الإمام، وتحفّز انتباهه في خشوعٍ تام ليلحق به في كل خطوةٍ وكل ركعةٍ لعدم إجادته للقرآن عربيًا. لم يكن ليفعلها هكذا سوى باللغةِ الأجنبية، لذا صبّ جُل تركيزه كطفلٍ يتعلم على مهلٍ، وبات مسرورًا لما حدث.
بعد قضاءِ صلاة الجمعة، خرج نوح برفقة حسين ورامي من المسجد لارتداء الأحذية. انتصب نوح في وقفته وقال بشوش الوجه:
-لما لم تأخذني معك من قبل حسين!
عبّر نوح عن قبوله الأمر، فابتسم حسين ووضح:
-بصراحة كنت فاكرك في الأول مش مسلم، عرفت قبل جوازك من شهد، ويا سيدي ملحوقة، دايمًا تعالى معانا
وافقه نوح وأعلن ترحيبه بذلك، ثم سار الثلاثة ناحية العمارة، وأثناء طريقهم استوقفهم أربعة شباب في مقتبل العشرينات، نظر أحدهم إلى نوح في حدة ويبدو عليه الضيق منه واتضح ذلك حين خاطبه في غلظة:
-إمبارح قولت هتيجي القهوة علشان في تخليص حق بينا، ولا هتاخد فلوسنا كده ومنرجعش حقنا.
بكل هدوء نظر له نوح فهو لم يتعمد المجيء، فبفضل زوجته العنيدة لم يأتِ حين أصرّت ذلك، قال:
-لا مانع، غدًا نتقابل!
-وإن مجتش هيكون لينا كلام تاني.
أعلن شاب آخر تهديده الصريح له، فاغتاظ حسين من وقاحته وكذلك رامي الذي هبّ قائلًا في غيظ:
-هتعمل أيه يعني؟!
توجهت نظرات الشباب على رامي، وبدت في أعينهم السخرية منه، فقال من تحدّث أولًا في استهجان:
-خليه ميجيش وهنعرفك هنعمل أيه!
احتدت نظرات رامي نحوهم فتدخل نوح مزعوجًا:
-قلت غدًا، هيا اذهبوا!
بعدما أخذ الشباب الوعد منه رحلوا دون كلمة، فخرج حسين عن صمته حين هتف معترضًا:
-إزاي تتعامل مع الأشكال دي، دول شكلهم بلطجية وممكن يضحكوا عليك.
تعامل نوح مع الأمر دون اهتمام، فهو لا يستحق قلقهما الواضح، قال:
-سوف أذهب غدًا وأنهي الأمر، لا تقلقا!
ثم دعاهما لتكملة السير والعودة، فزفر رامي بقوة مفرغًا حدة غضبه ثم قال كالحًا:
-روّحوا إنتوا أنا هجيب شوية حاجات لماما كانت طلباها
حين تركهما رامي سار الاثنان في وجوم، كسره نوح حين تحدّث حذرًا:
-هل صحيح ما سمعته، زوجتك فضّلت البقاء مع أمها!
تيقّن حسين أنه لا يريد جرحه بكلمات أخرى، فقال متهكمًا:
-قصدك سابتني وشايفة حياتها معايا متنفعش
لم يُرِد نوح التعمق أكثر في الأمر، وكان ذلك ظاهر حين هتف مترددًا:
-سمعت شهد أمس تتحدث مع والدتها بشأن ذلك، وأن البعض هنا في المنطقة يتحدثون في الأمر
رغم محاولات حسين في تخبئة مشاعر حقده وسخطه، ظهر ذلك على قسماته، فحديث البعض من حوله هيّج مكنونات بؤسه، وأضحى كالعلكة في أفواههم. حين لمح نوح حزنه لم يتمادى، كذلك لم يعرض عليه المساعدة لعلمه بعزة نفسه وبالتأكيد رفضه، ثم أخذ الطريق في صمت حتى وصلوا لمدخل العمارة.
التفت نوح من حوله كالخائف من شيءٍ ما، ثم أسرع ليصعد الدرج في خفه ومن خلفه حسين الذي استنكر رشاقته العجيبة، فهتف يخاطبه مدهوشًا:
-بالراحة شوية، هو فيه حاجة حصلت!
أجاب نوح ضاحكًا وهو ما زال يصعد:
-أخشى أن تراني بثينة، فـ شهد سوف تقتلني.....!!
......................................................
وهما يرتبان أطباق الطعام على المائدة، ظلّت من حولها تعطيها كلمات محفّزة بشأن المحافظة على بيتها وطاعة زوجها، والأخيرة تستمع وترد فقط ببسمة مزيفة، ثم أنهت السيدة ذلك حين أخرجت ما في جعبتها من حزنٍ قائلة:
-كان نفسي تكوني من نصيب حسين، يلا قدر ربنا.
احتجت شهد على إصرارها عليها وقالت:
-ما ورد حلوة يا عمتي!
أظهرت السيدة زبيدة حنقها من الأخيرة وهتفت:
-مكنتش عاوزاها من الأول، بنت أمها وسابت ابني، وأنا اللي يأذي ابني ويزعله محبوش
ثم ربتت على ظهر شهد في حنوٍ ومحبةٍ جمة وهي تتابع:
-إنتِ بنت أخويا، وحلوة ومتربية على إيدي وعارفاكِ
ابتسم شهد وقالت:
-ربنا يعلم يا عمتي إنتِ بالنسبة ليا أيه
ثم أكملت حديثها بنبرة رجاء:
-بس علشان خاطري بلاش تزعلي من ورد، هي بتحب حسين واللهِ، بس تلاقي كله من أمها
لم تقتنع السيدة واستمرت على موقفها، هتفت ساخطة:
-اللي تخلي ابني اللي يسوى واللي ميسواش يتكلم عليه تبقى مبتحبوش، أنا هخلي حسين يطلقها!
-بس بابا هيزعل علشان دي رغبته
أخبرتها شهد مستنكرة، فردت السيدة في تجبّر:
-أولادي عندي أهم من أي حاجة!
ثم استمعا لقدومهم فتوجهت نظرات السيدة على الباب لترى حسين ومن خلفه نوح قد ولجا، بينما ظلّت شهد تجهّز الأطباق وتدعي التشاغل، ثم اضطربت حين انتبهت له بجانبها حد الالتصاق بها، أبانت تأففها حين نفخت بقوة، فسألها نوح مبتسمًا:
-ماذا أعددتِ من الطعام؟!
تقطّبت ملامحها من سماجته، فقد ظنّت مدحه لجمالها أو همتها أو يغازلها لربما، فالتفتت له لترد مغتاظة:
-هتموت وتعيش همك على بطنك، ربنا يصبرني عليك!، أنا ليا الجنة!
ألقى عليها نوح بسمة استفزتها، فما يطرب قلبه ويبهج روحه رؤية انزعاجها، وحين لمح نظرات السيدة لهما وهي تتحدث مع حسين زاد من غيظها حين طوق خصرها ليضمها وقال:
-أعلم كم تحبينني، وأنا أحبك أيضًا
تملّصت شهد من بين ذراعيه مستاءة من أفعاله الوقحة، همست تحذره:
-إبعد يا قليل الأدب عيب كده ميصحش
رد في براءة مصطنعة:
-السيدة تنظر إلينا، ولابد من إظهار محبتنا كي لا تشك في أمرنا.
دفعته شهد من صدره بقوة وتحررت من ذراعيه بصعوبة فزيّف الضيق. نظرت له وسخرت من تودده إليها:
-دا أيه الحب ده، على أساس إني واحدة مش كويسة!
مثّل أنه تذكر ذاك الأمر وقال:
-أنتِ محقة، أنتِ لا تعجبيني
ثم أجج من انزعاجها الذي ظهر مستأنفًا:
-ولكني أفعل ذلك من أجل الوعد بيننا
ما أغضبها ليس كراهيته لها، ولكن ما فعلته أصبح كوصمةِ العار على جبينها، جعلتها محل سخريةٍ وازدراء في أعينِ الجميع، وللآن تدفع الثمن بزواجها اللعين ذاك.
وعلى الرغم من تلذذ نوح برؤيتها هكذا، كان داخليًا يتضايق فهو لم يعتاد على إزعاج أحد، لكن هي من بدأت في إظهار نفورها وتنمرها المعتاد على منظره، فلتتحمل!
انضم حسين لهما ثم نظر لها ليخاطبها جادًا:
-شهد قولي لـ أدريان ميروحش بكرة يلعب مع العيال دي، أنا خايف عليه...........!!
*****
انعزلت منذ أمس عن الجميع وظلت صديقة فراشها، حتى لم ترد على اتصالات والدتها المتكررة بعدما قررت العودة للشقة دون علمها، حيث ظنت الأخيرة ندمها وعودتها لوالدها، بعدما أجبرتها على الحديث معه بطريقة وقحة، أبدت فيها نكران الجَميل وأنها فتاة عاقة لأبيها.
حزنت ورد على ما فعلته وعاتبت نفسها:
-إزاي أقول لبابا كده، أنا بحبه وتعب كتير علشاني.
أخرجت شهقة شاردة كبداية للبكاء، فقد وضعها القدر قاب قوسين، وحُوصِرت بين اختيارين، والدها ووالدتها، ووجدت صعوبة في ذلك، دلّتها والدتها أنها الأفضل، وعدم رضاها عنها سيجلب مقت الله لها، وفعلت ما أمرتها به، حين تخلّت عن والدها من أجلها. استاءت ورد من نفسها فهو من عاشت تحت جناحه، بمساعدة زوجته الحنون التي لم تفرق يومًا في المعاملة بينها وبين بناتهـا وحتى تلك اللحظة يؤلمها قلبها.
انتبهت ورد لصوت جرس الباب، وبحدسها أدركت أنها والدتها، لربما علمت أنها هنا. ثم نهضت متقاعسة لتفتح لها ومعالم الاغتمام طاغية على قسماتهـا!
هدأ البركان الثائر بداخل لميس حين رأتها، فلم تصدق حارس المبنى وقت أخبرها أنها هنا، ثم انبلج السرور على وجهها وسريعًا أخذتها في أحضانها، ومن معاملتها كانت ورد مفطنة أن والدتها تحبها حد الجنون، فما تفعله فاق الحدود جميعًا، وهذا ما دفعها للاستغناء عن والدها واختيارها هي. أخرجت لميس نفسًا هادئًا ثم نظرت لها مبتسمة، عاتبتها بلطف:
-ليه مشيتي، قد كده مش عاوزة تفضلي معايا؟!
بيّنت لميس حزنها لقرارها بالرحيل، ثم سارت معها للداخل كي تجلس برفقتها بالصالون، وجدتها صامتة فأردفت معترضة:
-على فكرة اللي عملتيه هو الصح، أنا أمك وأنا اللي هديكِ عيني، قولي عاوزة أيه وفورًا هيكون عندك
ابتلعت ورد ريقها بصعوبة وقالت بصوتٍ أبح:
-مكنش ليه لزوم أكلم بابا وأقوله الكلام ده، زعل مني!
ضمتها من كتفها إليها وقالت معللة:
-مش قولتلك عاوز يبلغ عني علشان خدتك منه، يرضيكِ اتحبس علشان عاوزة بنتي!
استنكرت ورد حدوث ذلك وتحيّرت أيضًا، فهي والدتها ولها الأحقية مثله، لذا سألتها غير متفهمة:
-إزاي يحبسك بس، إنتِ ماما، ومن حقي أشوفك، فيه حاجة غلط!
توترت لميس فقد أخفت ما علمت به عنها، وهو أن والدها أجبر طليقها على إزالة النسب بينهما، وخشيت أن تتركها لعدم وجود رابط مثبت. فتحدّثت بصوت منفعل:
-هو ده اللي قاله، وهددني بـ حسين كمان
ثم أمرتها في حزم:
-أنا مش عاوزة أضغط عليكِ، بس حسين كمان لازم تبعدي عنه، مبقاش ينفعك!
-بحبه!
كلمة واحدة نطقتها مؤكدة أنها لن تفعلها، ولذلك لم تضغط لميس عليها فربما عشقها للأخير سيكون السبب في ابتعادها عنها، ثم أرضخت لإرادتها وقالت:
-طيب يا ورد اللي تشوفيه، بس متنسيش سيف طلب إيدك ومستني!
نظرت ورد أمامها وقالت في لا مبالاة:
-ما يخصنيش، أنا لـ حسين وبس.........!!
*****
مبكرًا كان قد تجهّز للذهاب للشركة وتنفيذ ما طلبته منه، بعدما رفض تمامًا تلك الخطوة تحوّل فجأةً، حثه شعور داخلي بالمخاطرة والثأر لكرامته حين أطاحت بها، خاصةً وهو يرى نظرات الشفقة من البعض، والسخرية من البعض الآخر، وأضحى حدَثهم الشاغل تلك الفترة.
بلغ حُسين الشركة بسيارته ثم نظر لها لبعض الوقت، أحس برهبة مفاجئة وأن الأمر لا يستهان به ليأتي لمكان لا يفقه بأموره شيء، وتحيّر ماذا ستكون مهمته هنا. تنفّس بعمق ثم ترجل من السيارة، أخذ ينظم ربطة عنقه متأففًا فهو لا يطيق ارتدائها. ثم سار متوترًا ناحية المدخل، وفور أن نطق بهويته لرجل الأمن دخل دون إعاقة، فالأخيرة قد أوصت الجميع بحُسن معاملته، بل أكمل طريقه إليها برفقة أحدهم وذلك ما أعجبه فالأمر لم يكن صعبًا. حين علمت ديما بحضوره تركت ما بيدها لتستقبله في الرواق والبهجة طاغية على ملامحها، وفور رؤيته ابتسمت مرحبة به:
-نورت الشركة يا حسين!
جاءت لتصافحه لكنه رفض، قال في حرج:
-مبسلمش على ستات معلش!
تفهّمت عليه ولم تبدي ضيق، بل أحبت تفاصيله، شاب وسيم ومحترم، ماذا بعد لتتفاجئ به. ثم اصطحبته لمكتبها وأثناء سيرهما لمحهما أمجد من بعيد، عقد جبينه متحيرًا لسبب وجوده، ثم أشار بإصبعه لأحد الموظفين ليأتي، سأله مهتمًا:
-متعرفش الأستاذ اللي مع ديما هانم دا جاي ليه؟!
-اللي سمعته إنه هيشتغل معانا هنا يا أمجد بيه!
أجاب الموظف في احترام، فأمره أمجد بالذهاب ثم حدق أمامه يفكر ماذا جرى في فترة غيابه؟، فيبدو أن هناك خطبٌ ما، ثم توجّه ليقابل سيف ومعرفة كل شيء.........!!
..............................................................
في غرفة مكتبها، ابتسمت في لطف وهو يعطيها باقة الورود ترحيبًا بقدومها، ثم جلس مقابلها، فتنشّقتها ورد في استمتاع وهي تقول:
-متشكرة قوي!
اعترض سيف وهو يعاتبها:
-مافيش شكر بينا، كل اللي بعمله هيكون واجب عليا
تحفّظت ورد في ردودها عليه، وقالت:
-إنت جنتل مان!
استند سيف بذراعيه على المكتب ليقرّب المسافة ثم قال في مغزى:
-يعني اطمن إنك معجبة بيا وراضية عني!
ارتبكت ورد وزيفت خجلها من مدحه لها، ثم أخذت تعبث في الحاسوب أمامها وقالت:
-عندي شغل ماما كلفتني بيه ولازم أخلصه
-ورد!
ناداها بنبرة هائمة ألبكتها أكثر، ثم نظرت إليه بأعين مهزوزة، فهي لم تعتاد على جراءة أحد، وأيضًا ارتباطها بآخر يحجب حتى مجرد مخاطبة أحدهم، وتشددت وهي تحدّثه جادة:
-سيف طالما مافيش حاجة تربط بينا مينفعش تكلمني كده، أنا مش متعودة على الكلام ده، يمكن تربيتنا مختلفة.
زاد انجذابًا إليها كلما تظهر عفافها، وأجزم أنها ستكون زوجته يومًا لا محالة، وإن عانق الشدائد للفوز بها، فقال موضحًا موقفه:
-أنا مش قصدي حاجة، أنا بس متشوق يجمعنا بيت واحد
تلعثمت وهي ترد محتاطة:
-إن شاء الله!
دُق الباب ثم ولج أمجد مبتسمًا، خاطبهما في خبث:
-الحلوين هنا مع بعض أهو.
ثم خاطب سيف وهو يجلس مقابله:
-بدوّر عليك وإنت هنا مع القمر!
نظر لـ ورد فور نطقه للكلمة الأخيرة، فابتسمت في حرج وقالت:
-مش اللي في دماغك، دا كان بيعرّفني حاجة في الشغل.
لم يرتاح سيف لحديث أمجد فقد أشعر ورد بالسأم الذي استشفه من وجوده، فسأله جامدًا:
-عاوزني في حاجة؟!
أسند ظهره على المقعد في وضع أكثر راحة، فهو يعلم أن ما سيقوله سيبدل حالتهما بالتأكيد، فاستخدم مكره حين قال:
-أصل من شوية شوفت الشاب اللي كان مع ورد في عزا مرات عمك، كان مع ديما في مكتبها، بيقولوا هيشتغل هنا.
صُدمت ورد وللحظات ظنت اشتباهه في أمره، لكن حين استأنف تأكدت:
-أيوة افتكرت، اسمه حسين بركات!
وجّه سيف بصره لـ ورد ليرى ردة فعلها وجدها غير مفسّرة المشاعر، ربما مزعوجة من وجوده، بينما أعلن هو سُخطه حين هتف:
-ومع ديما ليه، لتكون هي اللي جيباه!
كانت جملته ساخرة في البداية، لكن بحنكته أدرك صدقها، لما لا، ربما تفعل ذلك لتضايقه، وأنها المسؤولة عن وجوده هنا، ثم نهض فجأة فهو لن يسمح لها بذلك، ثم تحرّك للخارج دون كلمة، وحين انتبهت ورد أدركت مشاجرته مع حسين، فنهضت هي الأخرى لتلحق به وهي تردد:
-لو سمحت يا أمجد إلحقه معايا دول متخانقين قبل كده وأنا خايفة........!!
............................................................
-متخافيش!
قالها حسين لـ ديما، معلنًا أنه سيقوم بعمله كما المطلوب، ثم استكمل كلامه في جد:
-طالما الشغل في تخصصي هعمله، إنما وجودي هنا للسبب اللي طلبتيه فمش عاوز أضيع وقتي!
لم تمانع ديما أيًا كان غرضه، فما أدركته حُسن خلقه، فردت في ترحيبٍ لقراره:
-مافيش مشكلة، أنا أصلًا كلمت عمي عليك، وكان مبسوط بالـ CV بتاعك وإن فيه حد فاهم هيمسك شحنات العربيات ويتعامل معاها
-هعمل كل حاجة تخليه مبسوط أكتر
أخفى حسين في ظل حديثه جزءًا مما جاء من أجله، وأعلن فقط همّته في العمل الذي سيتخذه مهنة له، ربما يتحسّن حاله عن السابق، وفرصة جيدة له. فقالت ديما فيما معناه:
-طلبت من عمي يشوفلك شقة تبعنا ووافق، هي قريبة من الشركة، بدل ما تروح وتيجي وتتعب نفسك!
تاه حسين في ظل المنح المقدّمة له، فبتلك السهولة يحصل على كل ذاك، وتيقن أنه في عالمٍ كبير على قوته، وللحظات تفهّم تمسّك ورد بكل ذلك والتمس العُذر لها، لكن تراجع عن سماحه لها، فما حدث له من إهانة لن يقبلها، وندم على زواجه منها.
انتفضت ديما في جلستها من دخول سيف المباغت، لم تتفاجأ من حضوره، لكن تواقحه في الدخول مثير للحنق، أيضًا التفت حسين له وتبدلت تعابيره للاحتقار من شخصه، وباتت نظراته نحوه كلها استهانة، فهو لم يتناسى صراعهما السابق.
تقدم سيف ثم هتف منفعلًا وهو يشير على حسين:
-البني آدم ده بيعمل أيه هنا؟!
رمقه حسين بنظرة مغلولة، فانزعجت ديما ونهضت تحذره:
-احترم نفسك، إزاي تدخل من غير استئذان، داخل زريبة
أثار حنقهم أكثر برده الساخر:
-هي فعلًا زريبة، وكل من هب ودب بيدخلها!
نهض حسين ولم يتحمل إهانته، فتحركت ديما لتقف في صف حسين وتمنع تهوّر سيف. في ذات الوقت حضرت ورد ومعها أمجد، ثم وقفت بجانب حسين الذي ما أن رآها أظهر نفوره ثم في غلظة دفعها بعيدًا عنه، فنظرت له في عتابٍ وصدمة، بينما الأمر أغضب سيف، فهتف وهو يدنو منه لضربه:
-ما تحترم نفسك بتزقها كده ليه!
جاء ليلكمه فسبقه حسين بعدة لكماتٍ استرد بها حق ضربه المرةِ السابقة، فتدخل أمجد ليدافع عن ابن عمه مزعوجًا من وقاحة حسين، فخاطبه في حزم:
-أبعد عنه، إنت مفكر نفسك مين علشان تمد إيدك عليه!
ثم أخذ سيف وأبعده كي لا يتأزّم الوضع ويصل الأمر لأبيه ومن بالشركة.
ربتت ديما على كتف حسين لتهدئ من انفعاله لكنه ابتعد عنها لا يريد أن تلمسه، وتابعت ورد ذلك في ضيق وغِيرة واضحة، فها هو المحترم يتحدث ويتقابل مع فتاة، ومعها يدّعي التقوى والحرام في الأفعال، ثم أغاظته بوقوفها بجانب سيف وتخاطبه في لطف تصنّعته:
-متزعلش نفسك يا سيف على حاجة متستاهلش
لم يُصدم حسين من أفعالها، فما فعلته مع أبيها جعله يدرك سوء أخلاقها التي تحلّت بها مؤخرًا. فهتف سيف معترضًا:
-يمشي من هنا دلوقتي، مالوش شغل عندنا
هتف ديما مستهزئة:
-مشغله عندك وأنا مش واخدة بالي، دا هنا بقرار من عمي، وهو اللي موافق على شغله ومبسوط كمان
احتقن وجه سيف وهو يخاطبها محتقرًا إياها:
-تلاقي دا كله منك، بس اللي بتفكري فيه مش هيحصل، علشان أنا واقفلك بنفسي!
رد أمجد عليه مستنكرًا معاملته لابنة عمهما:
-فيه أيه سيف، مينفعش تكلمها كده، هتعملها أيه يعني!
وجد سيف خسارته في ظل وجود أمجد، لذلك انتوى لهما في ظروف أخرى، ثم هندم هيئته وتحرّك للخارج وبالطبع اضطرت ورد لتلحق به وتعلن اهتمامها لأمره، فتهكم حسين من تصرفها وكبح ضيقه. اقترب أمجد وخاطب حسين في جد:
-طالما هتشتغل هنا يبقى تبعد عن سيف، إحنا مش عاوزين مشاكل.
ردت ديما عليه محتجة:
-إنت شوفته عمل حاجة، ابن عمك اللي بيرمي بلاه عليه، المفروض الكلمتين دول تقولهم ليه.
عاد أمجد يخاطب حسين مُنبهًا:
-كمان ورد تبعد عنها، لو كانت خطيبتك فالأمر سهل، افسخ الخطوبة من سكات، ويا ريت متكونش جاي هنا علشان حاجة غير الشغل.
استمع له حسين في وجوم، ثم قال في هدوء غريب:
-أنا جاي للشغل بس..........!!
*****
وهي في سفح أفكارها التي باتت تشغلها عن عملها، ولجت أماني عليها غرفة مكتبها ويبدو عليها الحماسة غير العادية، فانتبهت شهد لها واعتدلت في جلستها، جلست أماني أمامها وقالت مصدومة:
-كان عندك حق يا شهد، اتأكدت إنهم بيعملوا حاجة مش قانونية، بس مش قادرة أحددها
اهتمت شهد بحديثها وسألتها مترقبة:
-شوفتي أيه انطقي على طول!
نهضت أماني ثم دعتها بالقدوم معها وهي تهتف في شغف:
-تعالي معايا وأنا أوريكِ
انصاعت شهد لطلبها ثم سارت معها لترى ما الأمر، أخذتها أماني في زاوية تطل على حديقة المشفى الخلفية، ثم توارت بها خلف النافذة حتى يتسنى على شهد الرؤية، والتي تمعّنت النظر لتجد كريم برفقة شخص يبدو عليه الأهمية ويعطيه شيئًا ما في سرية مما جعل الريبة تلعب دورها بداخلها، وتأكدت أنه يفعل شيء غير مريح، فتساءلت في جهل:
-متعرفيش هيكون مثلًا بيديله أيه؟!
أجابت أماني وهي تخمن:
-حساه بيسرق أجهزة من المستشفى، يا علاج مش موجود في السوق وبيبيعه غالي!
ظنّت شهد مثلها وعزمت على فضحه، لكن في وقت آخر، ثم خاطبت أماني في حرس:
-متقوليش لحد على اللي شوفناه، وأنا هتصرف معاهم، بس خليكِ متابعة بيعمل أيه وعرّفيني.
للأمانة المهنية الواجبة عليها أطاعتها أماني، ثم تحرك الاثنان ليغادرا المكان، ولم ينتبه أي منهما لـ آية التي رأتهما وهي تريد الخروج من الباب، ثم اختبأت جانبًا لتستطيع رؤيتهما عن كثب، وحين ذهبا أكملت طريقها شبه مهرولة قاصدة مكان كريم. فور وصولها إليه كان قد أنهى اتفاقه مع الرجل، فنظر لها كريم متهللًا وجاء ليخاطبها لكنها سبقته حين هتفت في سأم:
-شهد من شوية كانت هنا وشافتك، وبتفكر تبلغ عنك وتنتقم مننا!
ازدرد ريقه من هول خوفه وسألها مبهوتًا:
-تفتكري عرفت بعمل أيه؟!
-معرفش!
أجابت في جهل، بينما لم يقل رعب كريم، فإن علم أحد سينتهي أمره، ثم حدق بالفراغ وقال متوعدًا:
-شهد بقت خطر علينا، علشان كده مش لازم تعيش!
صُدمت آية من قراره ولم توافقه حين هتفت:
-إنت بتقول أيه، على آخر الزمن هنقتل كمان، مش كفاية اللي بنعمله
جذبها كريم من ذراعها ناحيته مزعوجًا وهو يهتف:
-لا خليها تودينا في داهية أحسن، هتبقي مبسوطة ساعتها!
رمشت آية من ضراوته وقد شعرت بأن ما يفعلاه زاد عن الحد، فقالت مترددة:
-طيب خلينا نبعد عن القرف اللي بنعمله ده، مش عاوزين مشاكل أكتر
ثم جعلته يترك ذراعها، فرد عليها ساخطًا:
-القرف ده هو اللي مخلي معانا فلوس، تقدري تقوليلي لولا اللي بنعمله كنت هشتري شقة منين بمرتبي ده
حثته على التراجع حين قالت في رجاء:
-علشان خاطري كفاية، أنا بدأت أخاف، اللي بتفكر فيه مينفعش، دا قتل يا كريم!
اختار كريم أن يحرر عنقه من أحكام في انتظاره، لذا قرر وانتهى، وظهر إصراره حين قال متجبرًا:
-هتموت يا آية، والنهارده.............!!
*****
فور إخباره بتلك التفاصيل العجيبة، تأكد بأن الأخير هنا، وأن ما فعله لعبة منه، ربما حاكها برفقة شخصٍ داهية، وما عليه سوى أن يعرف مكانه، ويتخذ حذره منه، فقد ارتاب بأن الآخر ربما يراقبه الآن ويعرف خطواته القادمة، ثم جلس على الأريكة، نظر لـ بيتر وقال:
-خليت حد يراقب ساندرا!
أكد بيتر في جد:
-تحت المراقبة، ولكن في حذر، يبدو أن نوح وضح حماية مشددة على ابنته.
ثم سكت للحظات وتساءل مترددًا:
-لما علينا مراقبتهم، هل سوف تفعل شيء للفتاة؟!
لم ينكر حمزة تفكيره في ذلك، كي يضغط على الأخير، فابنته هي نقطة ضعفه، ثم قال في عزيمة:
-لو عمل حاجة ليا وقتها هعمل، علشان اللي جايين علشانه هيكون لواحد بس، وأكيد أنـا!
تأكد بيتر من تفاقم المشكلة حين يجد المطلوب، وكان في أتم الاستعداد لها وتنفيذ الأوامر. بينما هتف حمزة على يقين:
-نوح عمره ما هيفكر يروح الحارة، مش متعود على الأماكن دي، وميقدرش يتصرف فيها.
ثم استأنف في ثقة واضحة:
-إنما أنا عارف مصر حتة حتة، وهروح هناك وهدخل كمان شقة عمتي!
فكر بيتر جيدًا وقال في تعقل:
-ربما وضع أحد من رجاله هناك!
مط حمزة شفتيه غير مقتنع، فتلك المهمة تستدعي مكان لذاك المراقب للمكوث فيه، وهذا لن يحدث في حارة لا تستقبل الغرباء هكذا بينهم، فقال في إصرار:
-ظبط كل حاجة بس علشان أروح هناك، ويا ريت من بكرة، أنا خلاص مش قادر اتحمل.........!!
*****
بداخل سيارة ما، جلس في الخلف برفقة أحدهم وهو في حالة انتظار مريبة جعلت أوتاره تتراقص توترًا، فما هو مُقدم عليه لا يستهان به، ثم ترقّب خروجها من المشفى لتنفيذ عملية خطفها، وحين رآها تقف على الباب خاطب السائق في حزم:
-طلعت أهي، أنا مش عاوز الموضوع ياخد ثواني، البت شديدة وأول ما أسحبها للعربية تكون طاير، مش عاوزها تستوعب بيحصل أيه لحد ما خدرها.
تأمل الرجل شهد في دقة ووجدها طويلة ومن طلعتها تظهر قوة بنيانها، فهي ليست فتاة ضعيفة الجسد، ثم رد على كريم مستنكرًا:
-متأكد هتقدر عليها، كنا شوفنا راجل كمان معاك
نظر له كريم في احتقار كونه استخف به وهتف:
-شايفني عيل قدامك، حتة بت مش هقدر عليها
ثم لكزه في ذراعه وأردف مزعوجًا:
-جهّز نفسك إنت بس.
ثم ارتدى كريم قناع قماش من اللون الأسود، وفعل السائق مثله، وحين هبطت شهد تلك الدرجات وقد حان الوقت، أمر السائق بالتوقف، ثم نزع القناع متجهّمًا وهو يرى زوجها الأجنبي جاء بسيارته ليأخذها، ثم خبط نافذة السيارة في عنف لإفساد المهمة، غمغم في غضب:
-ليكِ عُمر، بس واللهِ ما هسيبك غير وأنا واخد عنيكِ الحلوة دي.....!!
........................................................
شعرت بالحرج من وجوده لاستقبالها، وسريعًا ركبت معه السيارة خوفًا من رؤية إحدى الزميلات له والسخرية منه، بل الاستهزاء من حظها المخيب للآمال، لاحظ نوح عدم محبتها لحضوره ولم يعلق، ثم قام بتشغيل السيارة، وحين تحرّك بها نطقت متضايقة:
-متبقاش تعدي عليا، أنا بعرف أروّح مش صغيرة
أحس نوح بنفورها المعتاد، فوضح موقفه:
-ليس لدي مهام، وجئت لاصطحابك معي، فالوقت متأخر و...
قاطعته متأففة:
-هو أنا أول مرة أروّح لوحدي، وبطل بقى تعمل فيها الزوج اللي مافيش منه، حياتنا مع بعض ووضحت خلاص.
ثم احتدت نظراتها وهي تأمره:
-أسبوع كده ونكون مطلقين، أنا بصراحة مبقتش طايقة وجودي مع واحد زيك، ولو يا سيدي على إن بابا هيجوزني غيرك، هيكون أرحم منك!
ثم أدارت رأسها لتنظر من النافذة بجوارها غير مهتمة بوقع كلماتها العنيفة عليه، فتحمّل نوح ما تفعله وقال في برود زيّفه:
-ولكني لا أريد الطلاق، ولن أفعلها
عادت تنظر إليه في حنق، هتفت متعجبة من أمره:
-منين بتقول ميشرفكش تتجوز واحدة زيي، ومنين مش عاوز تطلق، إنت هتجنني، أنا مبقتش عارفة عاوز مني أيه!
تابع الطريق أمامه متحيّرًا في إيجاد رد لتعلقه بها، فما قاله سابقًا كان ردًا على تهازؤها من هيئته. فاهتاجت شهد من صمته وصاحت:
-اتكلم عاوز مني أيه؟!، لو مفكر في يوم هكون لواحد زيك تبقى بتحلم، زي ما قولتلك، قدامك كام يوم لو مطلقتنيش أنا هطفش من خلقتك.
ابتلع نوح كلامها الأحمق وصمت، فرمقته بنظرات مستهجنة قبل أن تنظر أمامها وتتجاهله، لكن لفت انتباهها مرة أخرى إليه حين خاطبها:
-والدك هو من طلب مني، ولذلك لن أطلقك............!!