رواية قلب السلطة الفصل العشرون بقلم مروة البطراوي
كان الممر هادئًا، لكن خطوات ليلى فوق السيراميك المثلج كانت تصرخ. كل خطوة تحمل وجعًا، وإصرارًا. دخلت غرفتها الأخرى، الغرفة اللي ما كانتش بتدخلها غير نادرًا، وفتحت الدولاب اللي في آخره شنطة كبيرة لونها نبيتي، مرسوم عليها حروف اسمها بالذهبي.
سحبتها من تحت الملابس، فتحتها، وبدأت ترمي فيها قطع القماش اللي كانت قبل دقيقة "فستان زفاف".
في الخارج، كانت نيفين قد جلست على طرف الكنبة، وأسدلت يديها في استسلام، بينما مهاب ظل واقفًا في المنتصف، ينظر إلى الباب الذي أغلقته ليلى وراءها، قبل أن يقول:
- هي مش بترفض رائد... هي بترفض كل حاجة حصلت من ساعة الليلة دي.
ردت نيفين، بصوت فيه بحة دموع:
- عارفة... وعارفة إننا كلنا اتغيرنا، بس أنا خايفة... خايفة تبعد لدرجة ما تعرفش ترجع.
في تلك اللحظة، انفتح باب غرفة ليلى من جديد. خرجت ليلى، بعد أن بدّلت ملابسها، ترتدي بنطالاً داكنًا وبلوزة واسعة، وشعرها مربوط بإحكام. وجهها خالٍ من أي زينة، كأنها خلعت معها كل الأدوار اللي فرضوها عليها.
قالت بهدوء:
- أنا نازلة.
نهض مهاب فورًا:
- نازلة فين؟! إنتِ أصلاً مش بتنزلي من بعد اللي حصل!
- عشان كده نازلة.
اقتربت نيفين، تمسك بذراعها برفق:
- طيب استني... على الأقل قوليلنا هتروحي فين؟
نظرت ليلى في عيني أمها، وقالت بصوت ناضج، لا يقبل نقاشًا:
- هروح أدوّر على نفسي... يمكن ألاقيها ف مكان محدش اختاره لي.
ثم خرجت.
---
في السيارة، جلست خلف عجلة القيادة، لأول مرة منذ أسابيع. أدارت المحرّك، ولم تحدد وجهة. كانت تسوق وشوارع القاهرة تفرد أمامها دروبًا لا تنتهي، لكنها لم تكن تبحث عن مكان... كانت تبحث عن إحساس.
استقرت عيناها على اللافتة التي تشير إلى "الزمالك"، فانحرفت نحوها، بلا خطة.
وصلت إلى النيل، أوقفت السيارة، وترجلت. كان المساء قد بدأ يزحف ببطء، والهواء محمّل برائحة الماء والخذلان.
جلست على أحد المقاعد، تنظر إلى صفحة الماء، تراه يلمع ويجري، كأنه يهرب مثلها، ثم أخرجت هاتفها، تردّدت... ثم كتبت رسالة:
"أنا محتاجة أقابلك. بس مش علشان نرجع. محتاجة أفهم."
وأرسلتها.
---
في تلك اللحظة، كان رائد يقف أمام مكتب زجاجي مرتفع، يطل على المدينة من علٍ، حين تلقّى الرسالة. قرأها مرتين، ثم جلس، كأن الأرض اهتزّت تحته.
"محتاجة أفهم..."
تمتمها في سره، ثم نهض فجأة، تناول مفاتيحه، واتصل بسكرتيره:
- ألغِ كل حاجة عندي النهارده.
ثم خرج مسرعًا.
---
على ضفة النيل، ما زالت ليلى جالسة. في عينيها خليط من الندم، والمرارة، والتعب. لكنها هذه المرة، لم تكن تبكي. كانت تتنفس... فقط تتنفس.
اقتربت منها خطوات، وقفت عند حافّة الرؤية، ثم جلس بجوارها.
قال دون أن ينظر لها:
- أول مرة بعرف إني ممكن أفرح برسالة، حتى لو كانت مش دعوة للرجوع.
ردّت، وهي ما زالت تحدق في الماء:
- أول مرة أكتب رسالة مش علشان أشتكي... بس علشان أتكلم.
مرّت لحظة صمت. ثم استدار نحوها، وقال:
- قوليلي يا ليلى... أنا كنت سبب في كسرِك؟
هزّت رأسها ببطء:
- الكسر جه من حاجات كتير... منك، ومنّي، ومن كل الناس اللي وقفوا يتفرجوا وأنا بطيح. بس أنا قررت أجمّع نفسي... بطريقتي.
قال:
- وإنتِ متأكدة إنك محتاجة تعملي ده لوحدك؟
نظرت إليه، للمرة الأولى، نظرة طويلة وصادقة، ثم قالت:
- لو مافيش حاجة اسمها "لوحدي"، يبقى ماكنّاش هننكسر من الأول.
---
ثم نهضت، نظرت للنيل مرة أخيرة، وقالت:
- أنا مش جايه ألومك... أنا جاية آخد نفسي، وأمشي بيها خطوة خطوة، من غير مساندة، ومن غير ملامة.
قال بهدوء:
- بس تفتكري... ممكن يوم نرجع نضحك زي زمان؟
ابتسمت، ابتسامة باهتة، ثم قالت:
- لما أرجع أضحك لنفسي الأول... يمكن ساعتها أبقى أضحكلك.
ثم رحلت، وتركت خلفها رجلًا لا يعرف إن كان قد بدأ يُشفى... أم أنه لتوّه، بدأ ينكسر.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
عاد إلى شقته متأخرًا. المصعد صعد به ببطء، كأنه يعكس ما بداخله... التردد، الحيرة، الانسحاب.
فتح الباب، دخل، ألقى المفاتيح على الطاولة، وأغلق الباب خلفه بقوة لم يقصدها، لكنها خرجت منه رغمًا عنه... كأنّها جزء من الانفجار الذي كان يكبته منذ شهور.
خلع سترته، ألقى بها على الكنبة، ثم وقف في منتصف الصالة، نظر حوله... الشقة صامتة، مرتبة، أنيقة كعادتها، لكنّها باردة.
مشى حتى المطبخ، فتح الثلاجة، أغلقها دون أن يأخذ شيئًا، ثم عاد وجلس على طرف الكنبة.
أمسك بهاتفه، فتحه، وأعاد قراءة رسالة ليلى:
"أنا محتاجة أقابلك. بس مش علشان نرجع. محتاجة أفهم."
تمتم لنفسه:
- حتى وهي بتقولي مش هرجع... بحس إنها راجعة.
ثم نهض. اتجه ناحية المكتب. فتح الدرج، وأخرج منه مظروفًا صغيرًا، مغلقًا. قلّبه في يده، تمعّن فيه، ثم قال:
- كنت ناوي أبعت ده بدل الفستان... بس خفت.
فتح المظروف ببطء. كان يحتوي على ورقة مطويّة، وتذكرة سفر. الورقة كُتب عليها بخطّه:
"لو قرّرتي تبدأي من جديد... أنا مستنيك هناك. مش علشان نرجع، علشان نعرف إحنا ليه بعدنا."
جلس، وأغمض عينيه. يتأرجح داخله صوت ليلى، حين قالت: "أنا بني آدمة... والبني آدم ما بيتلزقش زي الكريستال."
همس:
- وأنا... أنا اتكسرت قبلك. بس كنت بشوف الكسر فيك أوضح، لأنك كنتي صريحة فيه.
ثم نهض فجأة. ذهب إلى غرفة نيرفانا.
فتح الباب بحذر.
كانت نائمة، محتضنة دبدوبًا صغيرًا، شعرها منكوش، ووجهها هادئ.
اقترب، جلس بجانبها، مرر يده على شعرها، وهمس:
- أنا حاولت أحافظ عليكِ، بس معرفتش أحافظ على ماما... ولا على ليلى.
همست الصغيرة وهي بين النوم واليقظة:
- بابا... ليلى زعلانة؟
ارتبك. صمت للحظة، ثم قال:
- أيوه... بس مش منك، ولا مني. زعلانة من الدنيا كلها.
- طب لما تروق... نوديها البحر؟
ابتسم، رغماً عنه. ضحكته كانت مكسورة، لكن صادقة:
- لما تروق... نوديها البحر.
ثم قبل جبينها، وهمس:
- يمكن البحر يعرف يلمّ الحتت اللي وقعِت مننا.
---
عاد إلى غرفته. وقف أمام المرآة، تأمل وجهه الذي أرهقه الزمن، والحيرة، والندم. ثم أخرج هاتفه من جيبه، وكتب رسالة:
"لما تلاقي نفسك، سيبيه يعرفني. لأن نفسي متعلقة بيها من زمان."
ثم تراجع، لم يُرسلها. أغلق الهاتف، ووضعه بعيدًا، وكأنه يقول لنفسه:
"خلاص... بقت ليها حريتها، وأصبحت لي وحدتي."
وطفأ النور.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
استيقظت ليلى مبكرًا، على غير عادتها في الأسابيع الأخيرة.
الستائر كانت مسدلة، لكن شعاع شمسٍ خافتٍ تسلل من بينها، لامس وجهها كأنّه يناديها برفق: انهضي... الحياة لم تنتهِ بعد.
جلست على السرير، لحظة صمت، تنظر إلى كفّيها، ثم إلى الأرض، كأنها تحاول أن تتذكّر من أين تبدأ.
غسلت وجهها، بدّلت ملابسها، ووضعت لمسة خفيفة من أحمر الشفاه... لا لتبدو جميلة، بل لتبدو حيّة.
نزلت من البيت دون أن تخبر أحدًا.
---
كانت شوارع القاهرة تبدأ يومها، والضجيج يتصاعد ببطء. خطت خطواتها بثبات، كأنها تعرف إلى أين تذهب، رغم أنها لم تحدد مكانًا بالضبط.
استقلّت مترو الأنفاق، جلست في زاوية، تُراقب وجوه الناس... وجوهًا غريبة، مليئة بتعبها الخاص، بأسئلتها الخاصة، لكنها كانت تشعر بانتماء غريب إليهم... الكل مكسور بطريقة ما.
ثم نزلت في محطة "التحرير"، مشت قليلاً، توقفت عند مبنى قديم كانت تعرفه جيدًا... معرض الكتاب المستعمل.
دخلته.
كان المكان يعجّ برائحة الورق، بالغبار، وبأصوات الصفحات التي تُقلب بفضول.
بدأت تمشي بين الأرفف، تلمس العناوين كما لو أنها تصافح أرواحًا قديمة.
مدّت يدها نحو كتاب صغير، فتحته، وجدت سطرًا بخط يدوي:
"كأنّي حين قرأتك، وجدتُ نفسي."
رفعت عينيها فجأة... لتجد أمامها رجلًا، شابًا في منتصف الثلاثينات، يحمل كومة كتب، ينظر إليها باستغراب خفيف.
ابتسم، وقال:
- واضح إننا لقينا نفس الكتاب.
ردّت بابتسامة مرتبكة:
- باين إنّه الكتاب اللي بيدوّر علينا إحنا الاتنين.
ضحك بخفة، ثم قال:
- أول مرة أشوف حد يقرأ الصفحة دي أول ما يفتح الكتاب... كنت فاكرني الوَحيد اللي بيعمل كده.
سألته، بعفوية ناعمة:
- بتدور على إيه؟
تردد، ثم قال:
- على حاجة تقولّي إني لسه ما تهتش.
نظرت إليه برهة، ثم قالت:
- وأنا بدوّر على اللي تهت عنه.
صمتا للحظة. ثم قال وهو يمدّ يده مصافحًا:
- أنا "عُديّ".
ترددت، ثم صافحته وهي تقول:
- ليلى.
---
في الخارج، كانت السماء قد بدأت تغيم، والنسيم باردًا بعض الشيء.
سارت ليلى في الشارع بجواره دون ترتيب، وبين يديها كتابٌ، وبين عينيها ضوءٌ خافت من الأمل... كأن لقاءً عابرًا قد يفتح بابًا لم تكن تدري بوجوده.
همس في سرّها صوتٌ قديم:
"ما حدش بيلاقِي نفسه فجأة... بس كل خطوة ليها صوت."
والخطوة دي... كان ليها صوت مختلف.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
في تلك اللحظة، كان رائد الذهبي يجلس في مكتبه الفخم، يستمع إلى أحد التقارير بنصف تركيز، بينما أصابعه تنقر سطح المكتب ببطء، وعيناه معلقتان بشاشة هاتفه.
كان يشعر بشيء غريب في الأجواء... شيء غير مريح.
كأن هناك عاصفة تلوح في الأفق.
وفجأة، اهتز هاتفه في يده، نظر إلى الشاشة، فوجد اسمًا محفوظًا دون لقب... فقط:
"الظل".
ضغط على زر الرد بسرعة، وانخفض صوته تلقائيًا:
- اتكلم.
جاءه الصوت من الطرف الآخر، هادئًا، واثقًا، كما اعتاد أن يسمعه:
- خرجت من بيتهم من نص ساعة... لوحدها.
- راحت فين؟
- لفت شوية، وركبت المترو... ونزلت محطة التحرير.
رائد نهض من مقعده، مشى ببطء نحو الزجاج المطلّ على القاهرة، عينه مازالت على الهاتف:
- بتعمل إيه هناك؟
- دخلت معرض كتب... قعدت تقلب شوية، وبعدها ظهر شاب، واضح إنه يعرفها... أو بيحاول.
رائد شد أنفاسه بحدة، لم يقل شيئًا.
أكمل الصوت:
- مشيت معاه، مش متشابكين ولا حاجة... بس في مسافة قريبة، وفي كلام، وفي ضحك خفيف.
صمت رائد للحظة، ثم قال بنبرة مشوبة بجمرة مكبوتة:
- صوّرلي.
- حصل.
ثم وصلته صورة... ليلى تمشي بجانب الشاب، عديّ، وكتاب بيدها. ملامحها غير حزينة... ليست سعيدة أيضًا، لكنها "حية".
كأن الحياة بدأت ترجع تتنفس من خلالها.
أغلق رائد المكالمة دون أن يرد.
عاد إلى مكتبه، جلس، حمل الصورة من على الهاتف، كبرها، ودقق في نظرتها... في حركة يدها، في طريقة وقفتها.
ثم تمتم لنفسه:
- حلو... انتي بتتحركي لوحدك خلاص؟
طيب يا ليلى... شوفي هتوصلي لفين من غيري.
ثم أمسك الهاتف مرة أخرى، فتح دردشة غير مسماة، وأرسل رسالة واحدة إلى "الظل":
"كمّل تتبّع... بس من بعيد. ما تخلّيش حد يشوفك. ولو قرب منها تاني... بلغني فورًا."
ثم قفل المحادثة، وفتح درج مكتبه... أخرج المظروف اللي كان هيديه ليها بدل الفستان... نظر إليه، ثم مزّقه نصفين.
وقال بصوت منخفض، كأنه يكلّم نفسه:
- اللي عايز يختار طريقه... لازم يتحمّل سكته، ويمشيها للآخر.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
❈ ليلى - وعُديّ ❈
كانا يسيران على كورنيش النيل، بخطى هادئة لا توحي بقصدٍ مُحدد، فقط كأنّهما سمحا للطريق أن يقودهما.
في يد ليلى، الكتاب الصغير، وفي يد عديّ، قهوة ورقية، ينفخ فيها من حين لآخر دون أن يشرب.
قال مبتسمًا وهو ينظر إلى الغلاف:
- على فكرة، دي تاني مرة في حياتي ألاقي حد يخطف كتاب من تحت إيدي، وتكون بنت.
ابتسمت ليلى ابتسامة خفيفة، أقرب لظل ابتسامة:
- ويمكن دي أول مرة أخطف حاجة... من غير ما أهرب بيها.
نظر إليها طويلًا، ثم سأل بنبرة صادقة، بلا تكلّف:
- إنتِ متضايقة من الدنيا... ولا من نفسك؟
ردّت وهي تنظر إلى الماء:
- لما الدنيا تكسر فيك كتير... بتبدأ تشك في نفسك.
بس أنا حاليًا... بحاول أفصل بين الاتنين.
مرّت لحظة صمت، ثم سألها:
- بتحبي تقري ليه؟
قالت، وكأنها تحفظ الجواب عن ظهر قلب:
- عشان الكتب الوحيدة اللي بتسيبلك مساحة تكون زي ما إنت... من غير ما تحاكمك.
قال، متأملًا كلامها:
- وده معناه إنك قضيتِ وقت كتير وسط ناس بتحاكمك.
ضحكت، ضحكة قصيرة، مرّة:
- كتير أوي... وكنت أنا أولهم.
سكت، ثم سأل، بنبرة أكثر جدية:
- إنتِ خارجة من علاقة؟
توقفت عن السير فجأة. نظرت إليه، ثم قالت بهدوء:
- أنا خارجة من معركة.
ثم أكملت سيرها، ببطء.
تأملها "عديّ"، كان يدرك أنه اقترب من جرح... ولم يلمسه بعد.
قال محاولًا أن يغيّر المسار:
- تحبي تاكلي حاجة؟ فيه مكان قريب بيعمل كيكة شوكولاتة مجنونة.
ردّت دون تردد، لأول مرة يظهر فيها صوتها أخفّ:
- لو معاها قهوة... يبقى موافقة.
ضحك وهو يشير بيده للأمام:
- يبقى تعالى... بس تحذير، النُدل هناك بيحبوا يحكوا قصصهم، فخلي بالك، ممكن تطلّعي من عندهم بشخصيتين لروايتك الجاية.
سألته وهي تمشي بجانبه:
- مين قال إني بكتب؟
ردّ وهو يغمز بخفة:
- مفيش حد بيحب الكتب، ويخطف كتاب من معرض مستعمل، ويتكلم زيك... إلا وبيخبّي جملة ما بين سطرين.
---
وصلا إلى المكان. جلسا على طاولة خارجية تطلّ على النيل. الهواء صار ألطف، والضوء المسائي انعكس على صفحة الماء كأنّه يصالحه.
بدأ الحديث بينهما ينساب، خفيفًا، فيه ضحكات خجولة، واعترافات صغيرة.
لكن في الطرف الآخر من الشارع... رجل يجلس في سيارة داكنة، لا يُظهر وجهه، يحمل هاتفًا، يلتقط صورًا، ثم يرسلها.
وفي هاتف رائد... بدأت الصور تنهال.
ليلى... تبتسم.
ليلى... تضحك.
ليلى... ترفع كوب القهوة وتغمض عينيها.
---
وفي قلب المكتب الزجاجي، كانت أصابع رائد تضغط على الشاشة، حتى ابيضّت مفاصله.
لكن لم يُرسل شيئًا.
فقط أطفأ الشاشة، ووضع الهاتف وجهه لأسفل... وحده يعلم أن النار بدأت تشتعل... من جديد.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
(رائد × عديّ)
المكان: نفس الكافيه الصغير على النيل، ليلى وعديّ بيضحكوا في هدوء، والمشهد شبه شاعري... لولا الظل اللي بيتمدد واقفًا قدامهم فجأة.
رفعت ليلى عينيها بحركة تلقائية... وتجمّدت.
وقف رائد أمام الطاولة، يلبس قميصًا رماديًا داكنًا، ونظرة عينيه كأنها سكين حاد وبارد في نفس الوقت.
نظرت إليه، ثم إلى عديّ... ثم قالت بهدوء مشوب بالتوتر:
- رائد...
لم يرد. نظر إلى عديّ نظرة طويلة، قبل أن يقول:
- ممكن دقيقة؟... مع الأستاذ؟
عديّ ابتسم، بهدوء يُخفي يقظته:
- طبعًا.
ونهض.
سار الاثنان نحو طرف الكافيه، بجانب الحاجز الزجاجي، حيث ضجيج الشارع أخف، لكن لا أحد يسمع.
نظر رائد في عينيه مباشرة، وقال:
- تعرف مين ليلى؟
رد عديّ بثقة ساكنة:
- أعرف اللي هي اختارت تورهولي.
- يعني ما تعرفش غير اللي عايزة تقوله.
- وده الطبيعي، مش كده؟ ولا إنت متعود تعرف كل حاجة غصب؟
تصلّبت ملامح رائد للحظة، ثم قال:
- ليلى مش أي حد.
- وأنا كمان.
صمت رائد، ثم قال:
- إنت مين؟ شغلك إيه؟ بتقابلها ليه؟
ضحك عديّ ضحكة قصيرة فيها دهشة:
- هو أنا في تحقيق؟ ولا دي طريقة تعارف خاصة برجال الأعمال؟
اقترب رائد، نبرة صوته خفضت، لكنها بقت أخطر:
- لو إنت فاكر إنك داخل حياة ليلى من غير ما تتشال على الميّزان، تبقى غلطان.
رد عديّ، بنفس الثبات:
- وأنا ما دخلتش حياتها... إحنا مشينا جنب بعض ساعة، مش عقدنا قران.
رفع رائد حاجبه، وقال بجفاف:
- بس واضح إنك ناوي تطوّل.
عديّ مالت نبرته لنوع من التحدي الهادئ:
- مش أنا اللي ناوي... هي اللي تقرر.
سكت رائد لحظة، ثم قال:
- بص، إنت ممكن تكون شخص محترم... بس في حاجات أنت متعرفهاش.
ليلى مش عادية... واللي حواليها مش عاديين.
رد عديّ، وهو يميل بجسده شوية لقدام:
- وأنا مش جاي أحارب... أنا جاي أسمع.
رائد قرب أكتر، وقال بصوت بالكاد يُسمع:
- لو جرحتها، حتى بالغلط... أنا هعرف قبلها. وفاكر كلامي ده كويس.
عديّ ابتسم، وقال:
- لو جرحتها... هي مش هتستنى حد ياخد لها حقها، سيبك من الصورة اللي في خيالك.
ثم التفت، ومشى باتجاه الطاولة.
لكن قبل ما يوصل، سمع صوت رائد وراه:
- خليك فاكر... في ناس بتظهر في حياة اللي بنحبهم بس علشان يعلمونا الفرق بين الظل... والنور.
رد عديّ وهو لسه ماشي:
- وفي ناس بتختفي علشان نفس السبب.
---
جلس عديّ أمام ليلى من جديد.
قالت ليلى، بصوت مهزوز:
- حصل إيه؟
ردّ وهو ينظر في عينيها:
- ولا حاجة... بس واضح إنك محاطة بجدران أكتر من الكتب اللي في المعرض.
قالت بهدوء:
- وأنا لسه بحاول أخرج منهم.
في نفس اللحظة، كان رائد قد ركب سيارته، أمسك هاتفه، فتح رسالة ليلى القديمة، نظر لها طويلًا...
ثم أغلق الهاتف، وقال لنفسه:
- ما كنتش ناوي أرجع اللعبة... بس شكلك محتاجة تفتكري أنا كنت مين في حياتك.
وحرّك سيارته.
---
❖ مرّت خمسة أيام... ❖
خمسةُ أيامٍ ثقيلة، مرّت كأنّها دهور.
توقّف رائد خلالها عن إرسال رجاله خلف ليلى، أغلق الكاميرات، أوقف التقارير، وأمر الجميع بالابتعاد.
قال لنفسه: "هسيبها تاخد مساحتها... تشوف هتروح لحد فين".
لكنّ القرار لم يهدئه، بل زاد من ارتباكه الداخلي.
لم يكن غريبًا على الغياب، لكن غيابها لم يكن عابرًا.
كانت تتحرّك بعيدًا عنه، خطوة بخطوة، وكل يوم يمضي كان يشعر أن الخيط المشدود بينهما... يهتزّ، يضعف، يوشك أن ينقطع.
في الليل، كان يُحدّق في شاشة هاتفه، ينتظر ومضة، إشعارًا، رسالة... أي شيء يدل على وجودها.
لكنها لم ترسل.
ولا اتصلت.
ولا رجعت.
والصمت، حين يجيء منها، يكون أبلغ من ألف مواجهة.
وفي اليوم الخامس...
رنّ الهاتف.
❖ اسم "يقين" أضاء الشاشة. ❖
رفع رائد حاجبه، ثم أجاب بنبرة هادئة، تحمل في طياتها توترًا مموّهًا:
- أيوه، يقين؟
جاءه صوتها مترددًا، مشحونًا بقلق واضح:
- رائد... أنا رايحة أطّمن على ليلى.
ماما نيفين كلمتني وقالتلي إنها راحت لعائشة.
ضاقَت عيناه ببطء، وكأنّه يحاول أن يفهم ما بين السطور.
ثم أسند ظهره إلى الكرسي، وسأل بنبرة جامدة لا تخلو من الغضب المضبوط:
- راحت لعائشة؟ ليه؟
ردّت يقين بسرعة، كأنها تخشى ردّة فعله:
- والله ماعرفش، بس شكلها كانت متوترة جدًا.
مهاب قالّي إنها خرجت فجأة من غير ما تقول رايحة فين، ومامتها كانت على وش انهيار...
أنا قلت أطمن عليها قبل ما تتصرف تصرف مش محسوب.
سكت رائد.
وساد صمتٌ كثيف، لم يُسمع فيه سوى أنفاسه العميقة، وكأنّه يُخفي وراءها عاصفة.
ثم جاء صوته أخيرًا... هادئًا على نحوٍ مُخيف:
- تمام.
وأنهى المكالمة.
❖ ❖ ❖
ظلّ الهاتف بين أصابعه، ينظر إليه دون تركيز، وملامحه تتقلّص شيئًا فشيئًا في تعبيرٍ حادّ.
كانت عينا رائد الذهبي جامدتين... لكن عقله في سباق.
ليلى عند عائشة؟
لماذا هناك؟
لماذا الآن؟
وأيّ حديث قد يُقال في غيابه؟
إذا كانت تظن أنّها تستطيع التمرد والخروج من دائرته بهذه السهولة... فهي واهمة.
بدأت المدينة تغرق في عتمة المساء، والشارع يهدأ، لكن روحه كانت تغلي.
لم يكن يقبل أن تُروى القصة من دونه.
ولم يكن ليرضى أن تُعيد ليلى تشكيل نفسها خارج قبضته.
قبض على الهاتف بين يديه بقوة، ثم زفر ببطء، ورفع عينيه إلى الأمام، وقال بنبرة نافذة لا تقبل التأجيل:
- أسرع.
وامتثلت السيارة للأمر، كوحشٍ حديدي يشقّ العتمة بثبات.
كان متجّهًا نحو عائشة،
لكن في قلبه... لم يكن يقصدها.
كان ذاهبًا إلى "ليلى".
إلى الجرح الذي تحوّل إلى كيانٍ يمشي.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
❖ الليل يزحف... والخطوة التالية محسوبة ❖
كان الليل قد بسط ستاره الثقيل فوق المدينة، يغلفها بسكونٍ غامض، لا يخلو من توتّرٍ كامن يزحف بين الجدران.
الطرقات خلت إلا من أضواء السيارات المتناثرة، تُومض كعيونٍ ساهرة، تشهد بصمتٍ ما يدور خلف الأبواب المغلقة.
وسط هذا الصمت المترقّب، شقّت سيارة رائد الذهبي طريقها بثبات، تتوغّل في الأزقة الضيقة المؤدية إلى وجهتها المنشودة.
في المقعد الخلفي، جلس رائد وقد عقد ساقًا فوق الأخرى، أنامله تنقر برفق فوق ركبته، بإيقاعٍ لا يسمعه أحد سواه... إيقاع رجلٍ يُراجع خطته الأخيرة قبل التنفيذ.
وجهه جامد كالحجر، لكن خلف جمود ملامحه... كانت العاصفة تشتعل.
وحين بدأت ملامح المبنى تلوح في الأفق، أخرج هاتفه، واتصل.
جاءه صوتها سريعًا، لكنه لم يمنحها سوى أمرٍ واضح:
- سيبيها لوحدها... اتحججي بأي حاجة.
أنا عايز أدخل ألاقيها لوحدها.
ثم أغلق المكالمة قبل أن يسمع الرد، وكأنّ الكلمة الأخيرة لا تليق بغيره.
أشار للسائق أن يتوقف، وترجّل من السيارة بخطى رزينة، خالية من العجلة... لكنها مشبعة بثقة رجلٍ يعلم أن الأبواب، مهما أُغلقت، ستُفتح له...
طوعًا أو كرهًا.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
❖ داخل الشقة... حين لا يوجد مكانٌ للفرار ❖
داخل الشقة، كانت العتمة تنسج خيوطها الخافتة على الأثاث، تغلّفه بصمتٍ متواطئ مع الترقب. جلست ليلى على الأريكة، ساقاها مطويتان أسفلها، وعيناها شاردة تحدّقان في اللاشيء.
كان صدرها يعلو ويهبط ببطء، كأنّها تحاول أن تطرد من قلبها بقايا خوفٍ لا اسم له.
لم تصدق حتى الآن أنها فعلتها.
أنها غادرت منزلها... دون وداع، دون شرح، دون أن تلتفت لما قد ينجم عن ذلك من عواقب.
لكن، رغم كل ما توقّعَته، لم تكن تظن أنه سيلحق بها... إلى هنا.
دوّى صوت الجرس، متتابعًا، نافذًا، كأنّه طَرقٌ من قَدَرٍ لا يُمهل.
زفرت بضيق، قامت من مكانها تتمتم بامتعاض:
- أيوووه... جاية أهو، في إيه يعني!
لكنها ما إن فتحت الباب، حتى تجمّدت.
عيناها اتسعتا بذهول، وصوتها خرج مبحوحًا من أعماق الذهول:
- إنت؟!!!
كان يقف أمامها... رائد الذهبي.
بهيبته المعتادة، وملابسه السوداء التي زادت من قتامته الساحرة، وبعينين خاليتين من دفء العسل الذي كان يسكنهما ذات يوم.
في مكانه وقف، مغمورًا بهالة من السيطرة الباردة، وابتسامة ماكرة تحتل زاوية فمه، وكأنها توقيعٌ على حدث لا مفر منه.
لو لم يكن قلبها يدق كطبول حرب، وحرارة خديها تلسعها كصفعة... لظنت أنها تهذي.
أما هو، فكان يتأملها بصمت، يمرّ بعينيه على ملامحها المشدوهة، ثم إلى بيجامتها الفضفاضة، التي بدت وكأنها ارتدتها على عجل.
ورغم عشوائية مظهرها، إلا أنها كانت... فاتنة.
قال بصوت ناعم مخادع، وابتسامة تتسع ببطء:
- مساء الخير يا عروسة.
ثم أكمل، وهو يخطو خطوة واحدة فقط للأمام:
- شكلك لسه هتنامي... أنا كنت خايف ألاقيكي نايمة، بس الظاهر إن الحظ معايا.
ظلت تحدّق فيه، كأن عقلها عاجز عن تصديق ما تراه، لم تنبس بكلمة، ولا تحرّكت خطوة.
لكن رائد لم يكن من هواة الصمت... خصوصًا لو جاية منها.
- مالِك؟
بتبصيلي كده ليه؟
شكلك مش مبسوطة إنك شفتيني!
استجمعت صوتها أخيرًا، فخرج متقطعًا لكن ثابتًا:
- إنت... إيه اللي جابك هنا؟!
ابتسم، وكأن سؤاله كان متوقعًا، ورد بنبرة وادعة:
- جيت أشوفك.
جيت أشوف عروستي... فيها حاجة؟
نظرت إليه بذهول، لم تصدق أنه يقف بهذا الهدوء أمامها، بعد كل ما حدث.
- إنت مش طبيعي!
حد يعمل اللي إنت عملته؟
جايلي بيت مش بيتك؟!
رفع حاجبه، وزفر بهدوء مدروس:
- وأنا عملت إيه يعني؟
ده أنا بحبك، ومش مصدق إنك خلاص هتبقي مراتي !
ثم اقترب منها قليلًا، وخفَض صوته:
- وبعدين... إنتِ في بيت مش بيتك ليه؟
تشنّجت ملامحها، وضعت يديها على خصرها، محاولةً الصمود، لكنه تابع، بصوت هادئ، ونبرة ساخرة:
- هتسبيني واقف على الباب كده؟
أنا جاي أشرب معاكي فنجان قهوة.
قالت بسخرية:
- قهوة إيه حضرتك؟
إنت فاكر نفسك فين؟
وبعدين صاحبة البيت، مس عائشة... مش هنا.
أمال رأسه بخفة، وابتسم ابتسامة جانبية مفعمة بالثقة:
- عارف...
وأومال أنا جاي ليه؟!
تسارعت أنفاسها، وتراجعت خطوة لا إراديًا.
فاستغل هو ذلك، وتقدّم ببطء، يهمس:
- ادخلي، ادخلي يا حبيبتي... ما تخافيش.
ثم أغلق الباب خلفه، بهدوءٍ مثير للقلق.
لكنها صاحت بعصبية، ترفع يدها في وجهه:
- إنت بتعمل إيــه؟
اطلع برا! لو سمحت!
ضحك في هدوء، يقلّد نبرتها:
- "اطلع برا... ولو سمحت"...
مش راكبة على بعض خالص، ليلى!
ثم اقترب أكثر، وانخفض صوته حتى صار أقرب للهمس:
- بطلّي تهربي مني.
فاكرة إنك لما تروحي بعيد... هتبقي بأمان؟
نبض قلبها ارتفع في صدرها بعنف، لكن عينيها ظلتّا مرفوعتين، تتحدّيان بآخر ما تبقّى من عزيمة.
كانت تعرف جيدًا...
هذه الليلة لن تمرّ بسلام.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
"عتبة اللوم"
"عتبة اللوم" - نسخة مختصرة
رنّ جرس الباب في فيلا الذهبي. فتحت الخادمة:
- "أهلاً أستاذ شامل... رائد بيه مش موجود."
أومأ بهدوء، ثم سأل:
- "في حد تاني؟"
- "نيرفانا هانم فوق، تحب أندههالك؟"
تردّد لحظة، ثم قال بصوت خافت:
- "لأ... مالوش لازمة."
لم يدرِ أن نيرفانا كانت تسمع من أعلى الدرج. تجمّدت، ثم بدأت تهبط وجهها صلب لكن عينيها تفضحان الانكسار.
- "أونكل شامل؟..
