رواية سدفة ج2 (عن تراض) الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم أيه شاكر


رواية سدفة ج2 (عن تراض) الفصل الثالث والثلاثون  بقلم أيه شاكر 

ربي!

أخشى قسوة فؤادي، فيبتعد عن دربك،

أخاف أن يضل، فلا يهتدي، ولا يعرف للرجوع طريقًا...


أنقذني يا الله، من أمواجٍ توشك أن تبتلعني،

ومن تيارٍ يجذبني إلى القاع، وأنا لا أريد إلا النجاة، ولا ملجأ لي سواك.


إلهي...

هذا الموجُ يريد دفني، والتيهُ يسحبني، وقلبي مضطرب، لكني أبتغي وجهك السامي، وأتشبث بحبلك... فأنقذني من الغرق.

بقلم آيه شاكر 

**********

"يرضيك اللي أختك وأبوك عملوه معايا ده يا أستاذ يا محترم؟!"

قالتها «سعيدة» بصوت متهدّج، وهي تنحني قليلًا لتُطالع عبر زجاج نافذة السيارة وجه «أخو شيرين» الذي فتح باب السيارة وارتجل، في حين ظل ابنه «يونس» في المقعد الخلفي جوار زوجته «ريمان» يحاول مواساتها.


لوحت «سعيدة» بيدها في عصبية، وقالت:

-معلش يعني يا متواضع... أختك وأبوك دول متكبرين.


قطّب حاجبيه بدهشة، ناطقًا ببطء:

-أبويا؟!


أومأت «سعيدة» في سرعة، وقالت وعيناها تتقد بالحماس:

-أيوه، مش إنت أخو شيرين؟ يبقى الحاج عبد الوهاب أبوك... هو إنت ماعرفتش ولا إيه؟ مش الحاج البدري طلع أبوك.

قالت أخر جملة بابتسامة خبيثة، كما لو أنها أسقطت قنبلة، ووقفت تتأمل الانفــجار.

نطق في سرعة:

-إإ... إنتي... إيه اللي بتقوليه ده؟

رفعت «سعيدة» ذقنها وتحدثت بثقة لم تتزعزع:

-أنا متأكدة... الحاج ده كان بيدور على عياله وكان معاه صورة لمراته ولما ضاعت أنا لقيتها، ولما أختك شافتها، قالت إنها صورة المرحومة أمك... روحت قولت لبدر وهو قالي مقولش لحد... بص من الأخر إحنا لازم نقعد ونتكلم... ميصحش برده يكون أبوكوا عايش وإنتو مش عارفين...

أطرقت في حزن وهي تضيف:

-أختك طردتني لما قلتلها كده، بس أنا كرامتي فوق أي حاجة، ولازم أثبتلها إني مش كدابة.

شعر الرجل وكأن قلبه توقف لوهلة، تسارعت أنفاسه، واهتزت أطرافه...

تمتم وكأنه يخاطب نفسه:

-معقول... أبويا؟! يظهر بعد كل السنين دي؟

كانت الجملة تُنقش في عقله، بين الرجاء والذهول، وكأنها لا تزال في طور التكوين داخله.

ران عليهما صمت ثقيل، ظل الرجل واقفًا يحدق بالأفق، وظهره مشدود...

على نحوٍ أخر 

ارتجل «يونس» من السيارة واقترب من والده، يسأله بصوت منخفض ومتحفظ:

-فيه حاجة يا بابا؟

هز والده رأسه نافيًا ثم لوّح له بيده بإشارة بالكاد تُرى، متمتمًا:

-خد مراتك وامشي يا يونس... أنا راجع عند عمتك.

رشق «يونس» «سعيدة» بنظرة سريعة تشع شكًا، فتقدّمت «سعيدة» خطوة وقالت والإبتسامة لا تفارق شفتيها:

-يلا يا أستاذ يونس... خد مراتك وامشي والدك عنده موضوع مهم لازم يخلصه...

تجاهلها «يونس» ولمس ذراع والده وهو يسأله بقلق:

-خير يا بابا؟

-مفيش... روح إنت دلوقتي وأنا هبقا أكلمك يا يونس.

وقبل أن ينطق يونس بكلمة، كان والده قد أدار ظهره وانطلق بخطى حاسمة مبتعدًا، وكل خطوة يخطوها نحو بيت «دياب» كانت تحفر في ذاكرته حفرة جديدة، ينبثق منها وجه أو صورة من زمنٍ مضى...

وفي الخلف، كانت «سعيدة» تتبعه، وابتسامتها تتسع، كما لو أنها أمسكت بالخيط الأخير من حكاية كتبت بدايتها بيدها.

أما «يونس»، فظل واقفًا في مكانه، يطالع ظهر والده وهو يبتعد، ثم التفت نحو «ريمان»، التي كانت تسند رأسها إلى زجاج النافذة، غارقة في عالمها، لا يبدو عليها أدنى اكتراث بما يجري.

وقف مترددًا للحظة، حائرًا بين أن يتبعه... أو يغادر، لم تمر سوى لحظات، حتى اتخذ قراره.

أطلق «يونس» تنهيدة عميقة، صعد إلى السيارة، أدار المحرك، وغادر... بلا كلمة.

************

صعدت «سعيدة» السلم بحماس تتبع «أخو شيرين» وهي تقول ببهجة:

-أخيرًا هيظهر المستخبي... مش عارفه أشكرك إزاي يا استاذ.

انتبه أنها تتبعه فتوقف والتفت لها قائلًا:

-بعد إذنك... أنا محتاج أتكلم مع أختي لوحدنا... اتفضلي إنتي دلوقتي.

ثم أكمل صعود السلم بينما وقفت «سعيدة» مشدوهة لبرهة وعادت تنزل الدرج وهي تمتم بذهول تغلفه الصدمة:

-طردني برده... يا متكبر.... كلكوا متكبرين... آه يا عالم يا متكبره... حسبي الله ونعم الوكيل.


وفي تلك اللحظة، كان أذان العشاء يصدح من مسجد قريب بصوتٍ نقي، ثابت، كأنه يذكرهم بأن القدر لا يستأذن، وأن الحق، مهما طال، لا يموت.

استغفروا🌸

                     ★★★★★

كان الكافيه هادئًا على غير عادته، الإضاءة خافتة تتسلل بين زجاج النوافذ الكبيرة بينما رائحة القهوة المختلطة بالفانيليا تملأ المكان، وعدد قليل من الزبائن يتوزعون على الطاولات، كلٌّ غارق في عالمه...


جلس «بدر» على إحدى الطاولات القريبة من الزجاج، يتأمل الشارع المظلم، بينما كان «رائد» ينظر إليه في انتظار أن يُكمل الحديث حول كارم...

قال «بدر» وهو يحرّك كوب القهوة أمامه:

-لسه في حاجة غامضه.

زفر «رائد» بقــوة، ثم قال:

-فعلًا لسه فيه حلقة مفقودة يا بدر... يعني إيه حكاية دار المسنين؟ وهو كان فين طول الفترة دي؟ حاسس إنه بيحور في حاجة... قلبي بيقولّي إن فيه حاجة كبيرة مستخبية.

استند «بدر» للخلف، أطلق تنهيدة مرتفعة وانخفض صوته وهو يقول:

-المشكلة إنه بيقول إن إخواتي وبابا كانوا بيشتغلوا معاهم... عارف ده معناه إيه؟

أومأ «رائد» ببطء ثم نهض واقفًا وقال:

-إحنا الأفضل منفكرش في حاجه قوم نرجع البيت، نشوف سراب رجعت ولا إيه، وأنا هتصل بعامر اطمّن على عمي كارم... ولما يفوق هنتكلم معاه تاني.

نهض بدر يتبعه دون أن ينبس بكلمة وغادرا المكان...

كان «رائد» يتحدث في الهاتف، يتنقّل بين مكالمة وأخرى؛ مرة مع «عامر»، ومرة مع «نداء» التي أخبرته بكل ما جرى...

إلى جانبه وقف «بدر» صامتًا، يتأرجح بين القلق والتوتر، يترقّب انتهاء المكالمة، بينما عيناه تتابعان حركات «رائد» بانتباه مشوب بالحذر.

وما إن أنهى «رائد» مكالمته وأعاد الهاتف إلى جيبه، حتى انطلقت الكلمات من فم بدر:

-بردو سراب مرجعتش؟

-للأسف لسه...

-ربنا يستر.

قالها بدر، وساد بينهما صمت ثقيل، لا يقطعه سوى صوت خطواتهما على الأرض.

كان «بدر» يرمق «رائد» بين لحظة وأخرى، يتردد في الإفصاح عمّا يحمله، ولسانه ينعقد كلّما همّ بالكلام.

لاحظ «رائد» تردده، فالتفت إليه وقال بهدوء دون أن يبطئ خطواته:

-من غير تردد، قول يا بدر.

افتر ثغر بدر عن ابتسامة شاحبة، ثم استجمع شجاعته، وتنحنح قليلاً قبل أن يبدأ:

-أستاذ رائد... أنا عارف إن الوقت مش مناسب، بس في موضوع مهم... أنا قولته لعمرو وعامر، ولازم تعرفه.

توقّف «رائد» فجأة، واستدار نحوه بدهشة:

-خير؟

خفض «بدر» صوته، واقترب خطوة، ناظرًا في عينيه مباشرة، ثم نطق بالكلمات دفعة واحدة، كأنها قذيفة يخشى تأجيلها:

-جدي البدري هو جدك يعني أبو طنط شيرين، والدتك.

رمش «رائد» بعينيه مرتين، ثم قطّب حاجبيه وقال ببطء:

-لا براحه عليّا كده... مش فاهمك، بتقول إيه؟


أطلق «بدر» تنهيدة ثقيلة، محمّلة بكل ما لم يُقال، ثم قال بصوت هادئ عميق:

-هو الموضوع غريب، هفهمك كل حاجة... بس لازم تسمعني للآخر.

ثم نظر أمامه، كأنّه يستعد لفتح صندوق أسرار أخر، وبدأ يحكي... بصوت خفيض، وإصرار لا يخلو من التردد.

صلوا على خير الأنام 🌸 

                ★★★★★★

في بيتٍ تعرفه «سراب» جيدًا، حيث التقت «نرمين» للمرة الأولى.

كانت تجلس وحيدة في الغرفة ذاتها... لكن هذه المرة، تنتظر مصيرًا غامضًا، ولا تدري إن كان القادم سيقضي على ما تبقّى من اتزانها، أم سيمنحها فرصة أخيرة للنجاة.

كانت تبكي بصمت، تمسح دموعها بكفّها المرتجف، ثم تستلقي على الفراش وتتكوّر على نفسها كطفلة خائفة، وسرعان ما تنتفض جالسة حين تسمع وقع خطوات تقترب من باب الغرفة، وحين تبتعد الخطوات تعود لتستلقي.

شردت نظراتها نحو الباب المغلق، وفي ذهنها تسللت صورة من الماضي... يوم كانت تعيش في دفء بيت جدّها، تتقاسم الضحك مع «تقى»، وتستمتع بمشاكسة «عمرو»...

كانت حياة بسيطة، رتيبة ربما، لكنها كانت مستقرة... وآمنة.

تمنت لو تعود لتلك الأيام، ولو ليوم واحد فقط...


انتشلها من ذكرياتها صوت انفتاح الباب.

انتفضت سراب واقفة، كأن تيارًا كهربائيًا اخترق جسدها على حين غرة.


دخل «حسين»، يمسك هاتفه ويوجهه نحوها بجمود، أمرها بصوته الغليظ:

-خدي، كلمي جدك.

لمعت عيناها بالأمل، ومدّت يدها تلتقط الهاتف، وهي تقول:

-جدو كارم!

لكن بهجتها لم تكتمل، ما إن وضعت الهاتف على أذنها حتى تحطّمت ابتسامتها، حين جاءها صوت البدري على الطرف الأخر:

-متقلقيش يا سراب... متخافيش يا بنتي...

تجاهلت كلماته المرتبكة، وسألت بصوت منكسر:

-هو جدو كارم عامل إيه؟

-كويس، متقلقيش يا بنتي... بكرة بالكثير هتكوني هنا.

لكن قبل أن تستوعب ما قاله، أو تسأله شيء أخر، انتزع حسين الهاتف من يدها بغلظة وأنهى المكالمة.


-إنت حقير.

صرخت بها «سراب» والدموع تهمي على وجنتيها، صافية، حارّة.

رشقها «حسين» بنظرة حادة فارتجف قلبها، لكنّها تظاهرت بالثبات، ومسحت دموعها في سرعة بكُمّها.

استدار حسين متجهًا نحو الباب فظنته سيخرج لكنه أغلق الباب وتقدّم نحوها بخطوات بطيئة، بينما كانت عينا «سراب» تتسعان رعبًا، وجسدها يتراجع تلقائيًا للخلف.


ظل يقترب منها وعلى وجهه ابتسامة لا تحمل أي دفء، وقال:

-نفس نظرة عين أمك لما كنت بقرب منها...

ثم أطلق ضحكة خبيثة باردة وواصل اقترابه، حتى التصق ظهرها بالحائط...

بدأت ترمش بعشوائية، كأن عينيها تبحثان عن مخرج لكنها لم تجد...

وبحركة مباغتة، جذب حجابها عن رأسها...


تحسست شعرها وصرخت، بصوت مهتز:

-حرام عليك! أنا بنتك!

وكأنها أرادت تذكرته بهويتها ليبتعد، ليرحمها لكنه ضحك مجددًا، وقال بنبرة مقيتة:

-بشوف شعرك طالع لأمك ولا طالع لي!

جذبت الحجاب من يده ووضعته على رأسها سريعًا، ويداها ترتجفان، بينما قلبها يكاد يثب من صدرها...


ابتعد عنها وجلس على طرف الفراش، وضع ساقًا على ساق، وأشار بجواره:

-تعالي يا حبيبة بابا، اقعدي جنبي.

لم تتحرك، بل تجمدت مكانها تراقبه بتوجس، فكرّر كلماته بنبرة هادئة يظنها من لا يعرفه لُطفًا وود، لكنها في الحقيقة أشد رعبًا من الغضب...

تجاهلته «سراب»، فشَدّ فكيه بغضب، ثم هب واقفًا، واتجه نحوها، فاختلجت كل ذرة في جسدها...

وقف قبالتها وقرب وجهه من وجهها ثم قال وهو يضغط على أحرف كل كلمة:

-هو أنا مش قولت تعالي جنبي؟!

إزدردت لعابها وساد بينهما صمتٌ ثقيل يتبادلان النظرات وهو يُحدق بوجهها زامًا شفتيه....

لم ترمش أهدابها خشية رد فعله القادم والذي كان صفعة أدمت زاوية فمها ولم يكتفِ بل جرها من شعرها حتى دفعها على الفراش، قبل أن ينطق صوت كالرعد:

-لما أقولك حاجة تسمعيني! فاهمة؟!

انهال عليها ضربًا، عشوائيًا، هستيريًا وانتهى بركلها في بطنها، ثم وقف يفكّ حزامه وأخذ يجلدها، وهي تبكي وتصرخ وتتوسله أن يتوقف، لكنه لم يتوقف بل زاد صراخها من جنونه.

كانت تصرخ ودموعها تتساقط ممزوجة بدم من أنفها وفمها.

ثم فجأة، ابتعد، شهق وألقى حزامة بعيدًا ثم اقترب منها يضع يده على ظهرها ويمسح عليه برفق وكان شيئًا لم يكن، فانتفضت وكأن لمسته تلسع جلدها أكثر من حزامه.

همس بودٍ زائف وهو يربت على ظهرها:

-خلاص يا سجى... أنا آسف يا حبيبتي... إنتي اللي بتعصبيني يا قلبي وترجعي تزعلي... اسمعي كلامي وأنا مش همدّ إيدي عليكي.

كانت تتنفس بصعوبة، تتكوّر على نفسها كجسد مكسور، تحاول أن تحتفظ بما تبقّى من طاقتها لتزحف بعيدًا عنه، وهي تردد بصوت بالكاد يُسمع:

-أنا بنتك... أنا بنتك.


دار «حسين» بالغرفة وهو يضحك بصوت مرتفع، كمن استمتع بعرض مسرحي مجنون، ثم توقف وأشار نحوها وهو يقول:

-حاسس إني شايف سجى... نفس اللي كانت بتعمله بالضبط.


اقترب منها مرة أخرى، وتحدث وكأنه يفتخر بنفسه:

-عارفة أنا اتجوزت أمك إزاي؟ اغتصـ.ـبتها... وجدّك اضطر يجوّزها ليا... بس أنا ما عملتش كده من نفسي... أبويا وعمي اللي قالولي أعمل كده علشان جدك ييجي راكع...


ضحك بصخب، وصفق بيده ثم تمادى:

-بس أنا كنت بستمتع وأنا بضــربها... وأنا شايفها بتتلوى من الوجع... زي دلوقتي، وأنا شايفك... مش قادر أوصفلك متعتي.

اقترب منها مرة أخرى وأخذ يمزق ملابسها، وهي تصرخ وتتوسله أن يبتعد، وهي تُذكره مرارًا وتكرارًا:

-أنا بنتك... أنا بنتك...

ولا تدري أن كلمتها تلك تثير حنقه أكثر من أي شيء أخر، جذبها من شعرها وسحبها عن الفراش ثم دفعها بعنـ.ـف فارتطمت بالأرض وهي تصرخ بأعلى صوتها...

رفع حزامه مرة أخرى، لكنه توقّف في الهواء حين جاءه صوت من خلف الباب، وكان نافع يناديه، ثم فتح الباب وقال:

-البت هتموت في إيدك يا باشا... تعالى كده روق وخلينا نشرب كاسين... دا القاعده حلوه بره متعكرش مزاجك.

رشقها «حسين» بنظرة طويلة، كأنه يزن الرحيل أو البقاء، نظرة حائرة، ثقيلة، قبل أن يجذبه «نافع» من ذراعه للخارج.

وما إن أُغلق الباب خلفهما، حتى انسكب الصمت على الغرفة كالدخان... كثيفًا، خانقًا، بلا منفذ.

بقيت «سراب» على الأرض، نصف ممدّدة، تئنّ بصوت خافت، كما لو كانت تخشى أن يسمعها حتى الحائط.

ضغطت يدها المرتجفة على بطنها، التي التهبت بالألم، كانت كل خلية في جسدها تصرخ، تنهار، تتوسل للخلاص، لكن دموعها تأخرت... كأن البكاء نفسه خذلها.

مرّت لحظات ببطء، قبل أن تدفن وجهها بين ذراعيها، وتنكمش، كأنها تريد أن تبتلعها الأرض... وأن تنفصل عن هذا الواقع، عن الألم، عن كل ما جرى.

أفلتت شهقة صغيرة من بين أسنانها، حادّة، ثم... انفجر البكاء، وانفلت منها كالسيل، اجتاحتها موجة غامرة من الدموع والصوت المكبوت، كأنها لم تبكِ منذ سنوات.

بكت أمّها... بكت ماضيها الغامض، والأسئلة التي لم تجد لها إجابة.

كلمات «حسين» ظلت تطنّ في رأسها كصفعات متكررة... لقد اغتصـ.ـب والدتها بل وكان يعذبها أيضًا.


بكت جدها... بكت «عمرو»... بكت كل الأيادي التي كان يجب أن تمسك بها ولم تكن هنا.

نظرت إلى الحائط المقابل... نفس الحائط الذي شهد أول أحلامها، حين جاءت إلى هذا المكان بشغف فتاة تبدأ خطواتها الأولى كخبيرة تجميل، لم تكن تعلم أن هذا الجدار سيحمل في ذاكرته بداية الكابوس الذي لم تستيقظ منه حتى الآن.

كم كانت ساذجة، حين ظنّت أن العالم سيفسح لها مكانًا لحلم صغير!

رفعت رأسها ببطء، تنفّست بصعوبة، وحدّقت في السقف المتهالك وكأنها تبحث عن الله... عن معجزة... عن نجاة.

همست بشفاه مبحوحة:

-يا رب... يا رب.

مرّت لحظة من السكون، سكون يُشبه نهاية المعركة، ثم زحفت بجسدها بصعوبة حتى وصلت إلى الحائط، أسندت رأسها عليه، أغمضت عينيها، تتوسل لنفسها أن لا تنهار... ألا تسقط أكثر.


وما إن لامس جسدها الفراش، حتى استسلمت لثقل جفونها... لا تدري إن كانت قد نامت أم أُغشي عليها، لكنها غرقت في ظلام كثيف... ولم ترَ شيئًا بعده.

استغفروا🌸

                  ★★★★★★★

لم يغادر «آدم» شقته، وطلب من «نادر» أن يبقى بجواره، فالتوجس لم يفارقه.

ما جرى معه ومع «عامر» كان كفيلاً بأن يزلزل يقينه، وكان يخشى أن تعاوده تلك الحالة في أي لحظة.

اتصل «بيحيى»، وطلب منه أن يأتي ليخبره بشأن الكتاب...

تأخر «يحيى» قليلاً، ثم حضر، بخطوات وئيدة ووجهٍ مطبق الملامح.

جلس «يحيى» قبالته هو و«نادر»، يبدل نظره بينهما في صمت طفيف، قطعه بتساؤل حذر:

-حصل إيه يا آدم؟

تعثرت الكلمات على لسان «آدم»، كأنها تتنازع داخله، قبل أن يُشعل ما تبقى من شجاعته ويتمتم:

-أستحلفك بالله يا شيخ يحيى، تتعامل مع اللي هقوله بهدوء... وبحكمة.

اعتدل «يحيى» في جلسته، حدّق في عيني «آدم» بترقب، وسأل بنفاد صبر:

-إنجز يا آدم... فيه إيه؟ متضيعش وقتي الله يكرمك!

ازدرد «آدم» ريقه، ونظر سريعًا إلى «نادر»، فتكلم «نادر»:

-أنا هحكيلك كل حاجة، يا شيخ يحيى.

التفت «يحيى» إليه وقال بلهجة حاسمة:

-قول يا نادر... سامعك.

انحنى «نادر» للأمام قليلًا، تهدج صوته وهو يقذف بكلماته دفعة واحدة:

-آدم... معاه الكتاب الأصلي.

زمّ «يحيى» شفتيه، واستدار ببطء نحو آدم يحدجه بحدة وهو يقول:

-والله العظيم كنت حاسس... وأخدت رأي مين يا أستاذ آدم قبل ما تعمل كده؟ افرض كانوا عملوا في مريم حاجه؟ إنت مستوعب اللي عملته؟

أطرق «آدم»، ليتفادى نظرات يحيى، ثم قال بصوت خافت متلعثم:

-الحاج البدري عارف... وعامر كمان... أنا متفق معاهم، والحاج البدري قال هيبعت ورا سراب رجالة... وأنا كمان ما استنيتش، بعت نادر وراها.

ثم رفع رأسه، ونظر بعيني يحيى، وقال بنبرة قلقة كمن يستنجد:

-أنا عارف إن دلوقتي سراب في خطر... بس والله الكتاب ده خطر كبير على العالم كله... لو وقع في إيديهم، أنا وعامر كمان هنكون في خطر... كبير أوي.

أطلق «يحيى» تنهيدة طويلة، أطرق برأسه يفكر، ثم قال بصوت متهدّج:

-إنت عارف إن رجالة حسين لمحوا رجالة الحاج البدري... وزاغوا منهم؟

أومأ «آدم» ببطء، وتنهد بعمق، بينما سحب الصمت عباءته الثقيلة على الغرفة...

لم يأخذ«يحيى» رأي أحد أمسك هاتفه واتصل بـ«رائد»: 

-تعالالي حالًا أنا في شقة آدم... متتأخرش الموضوع مهم.

لم تمر دقائق، حتى وصل «رائد» برفقة «بدر».

جلسا، والعيون تتناقل القلق بلا حاجة لكلمات...

راح «يحيى» يروي ما حدث بصوت متوتر، تخللته إشارات بيده وجُمَل غير مكتملة.

تقلص وجه «بدر» شيئًا فشيئًا حتى صارت ملامحه كتلة من الغضب، ثم هب واقفًا فجأة وصاح في «آدم»:

-فين الكتاب؟!

رفع «آدم» رأسه بثبات، ونطق بصلابة:

-محدش ليه دعوة بالكتاب... الكتاب مش هيخرج من هنا.

صرخ «بدر» بانفجار:

-هات الكتاب بقولك!

تقدّم نحوه باندفاع، بينما وقف «رائد» و«يحيى» يحاولان تهدئته، لكن الغضب كان قد تغلغل فيه كالنار في الهشيم.

اندفع «بدر» نحو «آدم»، وتشابّكا بالأيدي، تحوّلت الغرفة في لحظة إلى ساحة اشتباك، وتعالت الأصوات.

ركض «نادر» مذعورًا، سحب الكتاب من تحت الفراش حيث رآه مخفيًا من قبل، وبلا تفكير رفعه عاليًا.

صرخ «آدم» وهو يندفع نحوه:

-نادر! لاااااا!

جذب «آدم» الكتاب منه، محاولًا حمايته من يد «بدر» الذي هجم عليه كالصقر، اشتبكا، وتدخل الآخرون وهم يتخبطون بين الصدمة والفزع.

وبخفة مباغتة، سحب «بدر» الكتاب من بين أيديهم، تراجع خطوة، ثم اندفع نحو الباب وخرج... تاركًا خلفه فوضى من الأنفاس العالية والعيون المذهولة.

وقف «آدم» يلهث، ثم التفت إلى «نادر» بعينين تقدحان شررًا:

-إنت غبي؟! بتطلع الكتاب ليه؟ الكتاب لو وصل لحسين... العواقب مش هتبقى خير أبدًا!

ولم ينتظر جوابًا، بل ركض نحو الباب، القلق ينهش صدره، يتبعه الآخرون، والخوف يملأ أعينهم... كشررٍ يتطاير في عتمة المصير المجهول.


سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸 

                    ★★★★★★

كان «البدري» مستلقيًا على فراشه في شقته، يغمره التعب واليأس، الجدران من حوله بدت وكأنها تضيق عليه شيئًا فشيئًا، والقلق باديًا على ملامحه كظلٍ لا يغادر...

منذ مكالمة سراب الأخيرة، وهو لا يكاد يهدأ، يتخبط في أفكاره ولا يدري ماذا عليه أن يفعل!!

جلس «محمد»و«رامي» قربه في صمت مطبق، كأنهما يخشيان أن تحطم الكلمات ما تبقى من تماسك الرجل.

فقد كان شاحب الوجه، كأن الدم قد هجره، وكل دقيقة كان يمد يده المرتجفة نحو قنينة الماء، يرتشف ببطء ليبلل حلقه الجاف، كأن الخوف قد أحرقه من الداخل.

دقّ هاتفه، فارتجف قلبه قبل أن تمتد يده إلى الجهاز...

وعلى الشاشة لمع اسم بدر، فتح الخط بلهفة مشوبة بالخوف، وما إن سمع صوت بدر حتى زادت ضربات قلبه.

قال «بدر» بلهجة حاسمة لا تحتمل جدالًا:

-لقيت الكتاب... وهسلمه لنافع وراجي... وأجيب سراب.

انتفض «البدري» جالسًا، وخرج صوته مبحوحًا يحاول تهدئة بدر:

-بدر استنى... الموضوع ميتحلش كده... الموضوع أخطر من كده...

ولكن كان «بدر» قد حسم الأمر، أقسم بأعلى صوته:

-جدي متكبرش الموضوع دا مجرد كتاب! أنا مش راجع غير لما أسلّمهم الكتاب... وأرجع سراب...

ثم أغلق الخط...

سقط الهاتف من يد البدري، كأن الروح انسحبت منه للحظة، فانحنى محمد يلتقط الهاتف...

بينما سأل «رامي» بحذر:

-إيه اللي حصل؟ ماله بدر؟

ارتجف صدر «البدري» وحدق في وجه «رامي» دون أن يعقب، فلم يكن يمتلك الطاقة لأي جدال! بل فرغ عقله من أي كلمات تصلح لإنقاذ ما يُوشك أن ينكسر.

استلقى مجددًا، وأطبق جفونه، وكأنه يهرب من كل شيء...

تجاهل أسئلة «محمد» و«رامي» التي بقيت في الفراغ بلا إجابة، فيما نهض «رامي» بتوتر متجهًا إلى الباب حين دوّى الجرس فجأة.

وحين فتح «رامي» الباب فوجئ بخاله «والد يونس» واقفًا أمامه.

كانت عينا الخال تنطقان بنظرات مشبعة بالتردد، بالحزن، وكأنها تخشى أن تنفجر الكلمات فتُحدث زلزالًا.

توجّس «رامي»، واقترب خطوة:

-خير يا خالو؟... إ... اتفضل.

دخل «والد يونس» البيت متردد الخطى، وكأن ما يحمله على صدره أثقل من أن يُقال بسهولة.

كان قد قرر إخبار «شيرين»، لكنه بدلًا من ذلك سألها عن «البدري» وأتى إليه ليواجهه أولًا...

كان رامي يناديه بينما كان شاردًا، وانتبه على قول رامي:

-يا خالي... خالي..

حمحم ثم سأل بصوت خفيض:

-الحاج البدري... صاحي يا رامي؟

-أيوه، اتفضل... تعالى يا خالي... هو فيه حاجه ولا اي؟

-كنت عايز اتكلم معاه شويه.

وفي الداخل

كان البدري مستلقيًا، عيناه مغمضتان، ووجهه ساكن كمن يتصالح مع وجعه، اقترب رامي منه وقال برفق:

-خالي بيقول إنه عايزك يا حاج.

فتح البدري عينيه ببطء، تلاقت نظراته بنظرات ابنه، لحظة طويلة، صامتة، لكنها نطقت بألف معنى.

ساعده «رامي» و«محمد» على الجلوس، وأشار «البدري» نحو المقعد المقابل وهو يقول بصوت مرهق:

-اتفضل اقعد... يا أبو يونس.

تردد «والد يونس» لحظة، ثم نظر إلى «محمد» «ورامي» نظرة خفيفة فيها رجاء مكتوم:

-معلش... سيبونا لوحدنا شوية.

تبادل محمد ورامي نظرة سريعة وخرجا...

جلس «والد يونس» في هدوء، ثم قال فجأة كمن يشق حجاب الصمت بسكين:

-سمعت إنك بتدور على عيالك؟

استيقظت حواس البدري فجأة وسأل بتلهف:

-أيوه... تعرف حاجة عنهم؟

أومأ ابنه بثقل، وقال بصوت مبحوح:

-كانوا بنت وولد... وأمهم اسمها صفية، صح؟

ارتعشت نظرة «البدري»، واتسعت حدقتاه، واندفع يسأل بصوت كسرته اللهفة:

-تعرف عنهم حاجة؟ عايشين؟

كانت الكلمات تهتز بين شفتيه، كأنها تبحث عن أمل وسط الرماد، قال والد يونس وقد اختنق صوته:

-ابنك... دور عليك كتير، من ساعة ما أمه قالتله... اسمه شاهين... بس إنت تعرفه باسم... أبو يونس.

تسمرت عينا البدري في وجه الرجل الجالس أمامه، كانت الدموع تقف على عتبة المقل، تنتظر إذنًا بالهطول، همس كأنما يختبر صدى ما سمع:

-أبو يونس؟... أبو يونس! إنت... ابني؟

أومأ شاهين، ثم أخرج بطاقته بيدٍ ترتعش، وسلّمها له.

أخذها البدري ببطء، وعيناه تمسحان الاسم مرة بعد أخرى، يقرؤه كمن لا يصدق، رفع يده المرتجفة نحو ابنه، وبصوت مخنوق قال:

-ابني؟... إزاي... إزاي ما عرفتكش؟!

سكت لحظة، كأنه يقاوم سيلًا داخليًا، ثم انفــ ــجرت كلماته:

-طيب يابني... أطلب منك إيه؟ تسامحني؟ ولا... ولا تقولي إيه؟ أنا... أنا تايه، وتعبان، وعقلي مش قادر يشيل أكتر من كده... أنا في آخر أيامي ومش لاقي غير وجعي.

اهتر جسد البدري وهو يبكى، لم يقل شاهين شيئًا، فقط أمسك بيد أبيه، وراح يُقبلها بحرارة، ودموعه تغسل ظهرها كما لو أنه يُطهّر بها ما مرّ بينهما من قطيعة، ثم رفع رأسه، واحتضن جسد البدري بقـــوة، وقال وهو يبكي:

-يا أبويا... أنا مسامحك من زمان... ومن ساعة ما عرفت إنك ممكن تكون عايش وأنا بدعي أشوفك، بس مرة... بس مرة!

قبّل يده من جديد، وقال بصدقٍ رقيق:

-ادعي لأمي وجوزها الله يرحمهم، ربوني على الإحسان... ربوني إني لو أقمت الحجة على أبويا وأمي أبقى ابن عاق... كانوا دايمًا يكرروا: "وبالوالدين إحسانًا"... الله يسامحك يا والدي، الله يغفر لك كل اللي فات... أنا مسامحك... أنا مسامحك.

انهار البدري باكيًا، وكان بكاؤه بكاء يهدم جدار الصمت، ويفتح شباك الرحمة.

لا تنسوا الدعاء لإخواننا في فلســ 🌸 ـطين 

لا شرط الآن لكن رجاءً لا تنسوهم.

**********

في الخارج دوى جرس الباب وفتح محمد ليدخل رائد مع نادر ويحيى وآدم يسألوا عن بدر...

تناهى إلى سمعهم صوت النشيج، فسأل رائد باستغراب:

-مين اللي هنا؟

قال رامي:

-دا خالك... بس مش عارف في ايه!! ولا بيعيطوا ليه! الواحد مبقاش فاهم حاجه خالص!

أدرك «رائد» أن خاله عرف بشأن علاقته بالبدري وراح يطرق الباب بلهفة، ثم دخل، فرأى خاله يحتضن البدري، وكلاهما غارق في البكاء...

يبكيان السنوات التي مضت، والقلوب التي انتظرت، والمسامحة التي جاءت متأخرة... لكنها جاءت.

استغفروا🌸

             ★★★★★

في الجهة الأخرى، كانت «شيرين» في شقة «عمرو»، جالسة على طرف الأريكة كمن يخشى السقوط من هاوية، تتشبث بالحافة ولا تدري إلى أين المصير.

كان صوت «عمرو» يتسلل من خلف الباب، خافتًا، منكسرًا، يمتزج بطرقات متوسلة تُقرَع برفق، كأنها تستجدي الرحمة:

-يا بابا... يا ماما... افتحولي... بالله عليكم، افتحوا... لازم ألحق سراب... يا عامر... افتحولي يا جماعة... أنا مش هسامحكم أبدًا...

شدّت «شيرين» ذراعيها حول جسدها، تضم نفسها كمن يحاول احتضان قلبٍ يرتجف داخله، وعيناها تائهتان في نقطة لا تراها، غارقتان في الفراغ.

كل شيء في داخلها كان مشوّشًا... الخوف، الذنب، الحيرة...

كانت هي من أقسمت ألّا يخرج «عمرو» من غرفته، خوفًا عليه مما يدور في الخارج، لكنها الآن تتساءل إن كانت قد أخطأت في منعه.

ارتجف قلبها وهو يسترجع نظرات أخيها الأخيرة... الحدة في نبرته حين سأل عن «البدري»، وقفت الكلمات في حلقها حين خطر السؤال المخيف، هل يمكن أن يكون البدري... والدها؟ كما زعمت «سعيدة»؟

لكن رغم غموض كل شيء، لم يكن في قلبها متسع لذلك الآن.

الخوف على «عمرو»... والخوف على «سراب» كان يطغى على كل شيء.

كأن قلبها لم يعد يعرف ترتيب الأولويات... فقط يعرف أن هناك من يتألم، من هو مهدد بالضياع، وأنها عاجزة.

رفعت عينيها إلى السقف، والدموع معلّقة في أطراف جفونها، ترتجف فوق عتبة الانهيار، ثم همست بصوت مبحوح، كأنه بكاء مكتوم:

-يارب... أغثنا... يارب نجّينا... احمِ ولادي... يارب...

***********

في داخل الغرفة، كان «عمرو» يسند جبينه إلى الباب، كأنّه يحاول أن ينقل روحه إلى ما خلفه.

كانت يده ترتعش فوق المقبض، يضغط عليه ثم يتركه، كأن الأمل في فتح الباب يتآكل ببطء، صوته كان يعلو ويهبط، كمن يغرق في بحر من العجز:

-بالله عليكم... افتحولي... أنا مش طفل... 

تراجَع خطوة إلى الخلف، ضرب الحائط بكفّه، ثم أدار ظهره للباب وجلس على الأرض، مسندًا رأسه إلى الخشب.

كانت أنفاسه مضطربة، وعيناه تمتلئان بالدموع التي لم تسقط، زعم بأن الجميع تخلّى عن الإنصات إليه... محبّ عاجز عن إنقاذ من يحب.

مدّ يده إلى جيبه، أخرج صورة صغيرة لسراب، وهمس وكأنه يخاطب الصورة:

-إنتي فين؟

نهض دفعة واحدة، استقام واقفًا، عينيه اشتعلتا بالعزم رغم الدموع...

ضرب الباب بكفّه مرة أخرى، هذه المرة لم تكن طرقات استجداء، بل نداء غاضب:

-يا بابا... يا ماما... مينفعش كده... مش هسامحكم.

ثم أسند جبينه من جديد إلى الباب، مغلقًا عينيه، كأنّه يُلقي بنفسه بين يدي الله، منتظرًا أن يسمع أحدٌ صوته... أو أن يحدث معجزة.

                   ★★★★★

ظل «آدم» يبحث عن «بدر» يدور في الشوارع وعينيه تجول بكل زاوية.

وكان «نادر» إلى جواره، لا يفارقه، يتحمّل عتابه وسكوته، ولم يحاول التبرير أو التوضيح

وحين خارت قوى «آدم»، عاد إلى الشقة يجرّ خطواته، وتبعه «نادر» صامتًا، كأنه يسير خلف صديقه في جنازة الرجاء الأخير.

دخل بعدهما «يحيى»، ولم ينبس أحدهم بكلمة...

قضوا ليلتهم في صمت ثقيل، كل واحد منهم استلقى في جهة من الغرفة، يحدّق في السقف أو الجدران، وكلٌّ غارق في دوّامة أفكاره.

أما «نادر»، توارد إلى ذهنه صورة «سارا»... تذكّر رسالتها حين طلبت رؤيته.

قرر أن يذهب إليها صباحًا، ليعرف ما تريده فهاتفه سقط منه... ومعه ضاعت الأرقام.

ظلوا هكذا لفترة حتى غرقوا في النوم...

************

مر الليل والبدري في شقته مستلقيًا وقد تنفس الصعداء، فأخيرًا انزاح جزء من همومه، بوجود ابنه الذي يستلقي جواره، رغم أنه لازال هناك مواجهة مؤجلة مع ابنته «شيرين»... فلم يطلب من ابنه بعد أن يتحدث معها.

*********

وفي غرفة عمرو

جذبه النعاس وهو جالس ينتظر... 

بينما في الخارج كانت «شيرين» مستلقية على الأريكة بالخارج تبكي... 

★★★★★

أشرقت شمس الصباح على قلوبٍ ترتجف، وجراح خفية تنزف في صمت، لا يراها أحد ولا يلتفت إليها عابر.

وفي أحد الممرات المعزولة، التقى بدر بنافع...

لم يتبادلا سوى النظرات، لكنها كانت كافية لنقل ما خفي من توتر...

قال بدر ببرود ظاهر، يخفي وراءه عاصفة:

-الكتاب معايا... بس مش هتشوفه غير لما أشوف سراب، زي ما اتفقنا.

أشار نافع لحراسه، فتقدم اثنان منهم وفتحا باب السيارة الخلفي...

خرجت «سراب» ببطء، متكئة على نفسها كما لو كانت تحمل العالم على كتفيها...

كانت خطواتها ثقيلة، مترددة، وعيناها بالكاد تفتحان.

ما إن وقعت عينا بدر عليها، حتى تجمّد في مكانه. انسابت نظراته فوق هيئتها المتهالكة؛ ملابسها ممزقة عند الكتفين، وجهها مكدوم، خدها الأيسر منتفخ ويميل إلى الزرقة، وهناك خدش دامي عند زاوية فمها، وعلى جانب فكّها كدمة قاتمة...

أما عيناها، فكان فيهما انكسار تُحاول أن تخفيه... لكنها لم تكن تُجيد التمثيل... بدت وكأنها خرجت من معركة... معركة خاسرة بكل المقاييس.

زمجر بدر من بين أسنانه، صوته متحشرج بالغضب:

-عملتوا فيها إيه؟!

حين رأته سراب استجمعت كل قوتها ووقفت خلفه، سأل نافع:

-فين الكتاب؟

اندفع بدر نحو نافع، ولكمه في وجهه بكل قوته ف ترنح نافع خطوة إلى الوراء، ورفع يده ليمسك موضع الضربة بينما اقترب الحراس، لكن نافع أوقفهم بإشارة حاسمة من يده، ثم انتصب واقفًا وقال بجمودٍ بارد، كأن شيئًا لم يحدث:

-فين الكتاب؟

أشار «بدر» إلى السيارة التي استأجرها في الليلة الماضية، وقال باقتضاب:

-في العربية... 

أشار لسراب برأسه نحو السيارة المركونة على الرصيف لتسير أمامه، بخطى مثقلة، ويتبعهما رجلان...

ما إن دخلت «سراب» للسيارة حتى انكمشت على نفسها في المقعد الخلفي، تتنفس بصعوبة، وكأنها تجر جراحها معها إلى الداخل.

عاد «بدر» بالكتاب، ومدّه لنافع، وهو يراقبه بعيون متحفزة ويده على السلاح في جيبه، مستعدًا لأي غدر...

لكن على عكس المتوقع لم يفعل نافع شيء...

فقط، اكتفى بابتسامة شامتة وهو يتفحص الكتاب بين يديه، كما لو أنه أمسك بكنز انتزعه عنوة.

ثم اتجه نحو سيارته وركبها وانطلق مع رجاله...

بينما استقل «بدر» السيارة وانطلق بها في صمت، لم ينظر إلى المرآة، كأنه يخشى أن يرى وجه سراب، فتتهاوى أعصابه...

فقط، قال بصوت خافت، دون أن يلتفت:

-مين عمل فيكي كده يا سراب؟

تحركت شفتاها بصعوبة، وخرج الصوت منها مشوَّهًا، مرتجفًا كأنها تُفرغ فيه كل ما بداخلها من خوف:

-هو...

-مين؟

سقطت دمعة عنيدة من عينيها وهي تقول:

-اللي بيقولوا عليه أبويا...

ثم انفجـ.ـرت دموعها وارتفع نشيجها وأخذت تمسح وجنتيها بكمها...

ارتعش قلب «بدر»، لكنه لم ينبس بكلمة...

في تلك اللحظة كان الصمت أبلغ من أي شيء، فقط أخذ منديلًا من أمامه وأعطاه لها دون أن يلتفت ليرى ضعفها...

شعر برغبة في الصراخ، في التحطيم، في التراجع بالزمن... لكنه فقط زفر بعمق، وأكمل طريقه، بينما الأسئلة لا تتوقف عن الدوران بعقله؛ ما الذي سيأتي بعدُ؟ وماذا سيفعل عمرو عند رؤية زوجته هكذا!!

استغفروا 🌸 

                   ★★★★★

حين استيقظ «حسين»، من نومه وجد البيت خاليًا، حتى غرفة سراب فارغة...

انكمش وجهه في قلق، واتجه بخطوات سريعة إلى الباب، ثم ضربه بقبضته في غضب مكبوت، وهو يتخيل أسوأ السيناريوهات؛ ويستاءل هل هربت؟ أم أن نافع استدرجها ليأخذ الكتاب لنفسه؟

قبل أن تكتمل أفكاره القاتمة، سمع صوت المفتاح يدور في القفل، وانفتح الباب ببطء ثم دخل نافع، وعلى وجهه ابتسامة المنتصر، كأنما عاد من معركة يعرف تمامًا أنه ربحها.

انعقد حاجبا حسين، واندفع نحوه هادرًا بحدة: -متقوليش إن البت هربت؟

ومن دون أن يتأثر «نافع» بانفعاله، رفع الكتاب عاليًا كما لو كان غنيمة، وقال بنبرة واثقة:

-جيبتلك الكتاب الأصلي.

تجمدت تعابير حسين لوهلة، ثم تسللت الدهشة إلى وجهه، وسرعان ما تبعتها ابتسامة تتسع شيئًا فشيء.

ثم خطف الكتاب من يد نافع، يتصفحه بعينين تلمعان، وعندما تأكد أنه هو، رفع نظره نحو نافع بإعجاب صادق:

-جيبته ازاي؟ إيه اللي حصل وأنا نايم؟

رد نافع وهو يريح ظهره على الحائط، وكأنه يحكي شيئًا عابرًا:

-بدر كلّمني، وقال إنه هيسلّمني الكتاب وأسلّمه سراب... نفذت المهمة من غير ما أقلق نومك.

اقترب منه حسين وربت على كتفه بإخلاص، وقال بصوت مفعم بالثقة:

-برافو عليك يا نافع... يلا، كلم أخوك وكلم اللي اسمه صالح ده... لازم نكون جاهزين للطقوس.

ثم اتجه بخطوات واثقة نحو الداخل، وهو يقبض على الكتاب كمن يقبض على مصيره، بينما بقي نافع واقفًا لثوانٍ، يبتسم بفخر، قبل أن يُخرج هاتفه ويبدأ الاتصال.

                      ★★★★★

انتفض «عمرو» من نومه بعدما رأى كابوس عن سراب وأن حسين يضـ.ـربها، نهض واقفًا وصرخ وهو يطرق الباب بعــنف، هدر بغضب مكبوت:

-هتفضلوا حابسيني لحد إمتى؟! هو أنا عيل صغير؟!

نظرت مريم إلى جدتها شيرين، الجالسة بصمت على الأريكة، وجهها غارق في التجاعيد وهمّ ثقيل يُطبق على صدرها.

قالت مريم برجاء:

-افتحي له يا تيتة... عشان خاطري.

هزّت شيرين رأسها بيأس، وردّت بنبرة متعبة:

-بس يا مريم... أنا مش ناقصة وجع قلب، الله يكرمك.

كان قلبها يعتصر ألمًا على ابنها وما يمر به لكنها تخاف عليه...

اقتربت مريم وجلست بجوارها، أمسكت يدها وهمست بصوت مرتعش:

-طيب... طيب دخّليني ليه، أتكلم معاه... عشان خاطري، يا تيتة.

تعلقت عينا «شيرين» بوجه حفيدتها، لمحت في نظراتها لهفة وصدقًا لم تعد تقوى على مقاومته... فمنذ مطلع الفجر وقد أتت إليها وأخذت تُلح وتطلب منها أن تطلق سراح «عمرو».

ومن خلف الباب، كان صوت عمرو يملأ الصالة برجفة توسل وغضب:

-يا بابا... يا ماما... يا وئام... يا رائد... حد يردّ عليا!

تنهّدت شيرين بعمق، ثم سلّمت المفتاح إلى مريم. تهلّلت عينا الأخيرة ونهضت بسرعة نحو الباب...

أما شيرين، فنهضت بدورها ببطء، تناولت مفاتيح الشقة وخرجت، ثم أغلقت الباب وراءها بالمفتاح، في صمتٍ ثقيل.

فتحت مريم الباب لعمرو، وما إن انفرجت فتحة الخروج، اندفع كالعاصفة نحو باب الشقة، فوجده مغلقًا، فراح يطرق عليه بقبضته ويصرخ:

-إنتو بتعملوا فيّا كده ليه؟!

كانت مريم تقف خلفه، تتأمله بصمت... هيئته البائسة، شعره الطويل المشعث، كأنما نسيه منذ زمن، وملامحه التي يكسوها الغضب والخذلان...

التفت نحوها بعينين تقدحان نارًا:

-فين المفتاح يا مريم؟

هزت عنقها نافية:

-مش عارفة... تيتة أخدته... اهدى يا خالو عشان خاطري.

التفت حوله بجنون وهو يقول:

-أهدى!! أهدى إزاي؟ هو فين موبايلي؟

اندفع يفتش عنه يفتح الأدراج، يقلب فوق الطاولات، حتى وجده...

التقطه بسرعة، وقبل أن يطلب أي رقم، أضاءت الشاشة... "بدر يتصل".

فتح الخط بسرعة وقال بلهفة:

-بدر! حابسينني في الشقه و...

قاطعه بدر:

-عمرو اهدى واسمعني كويس... سراب معايا.

توقف الزمن لوهلة...

ارتسمت على وجه عمرو ابتسامة باهتة، أقرب للدهشة منها للفرح، قال:

-بتتكلم بجد؟ يعني... سراب معاك؟

-أيوه، معايا... وداخلين على البيت أهوه... أنا قلت أطمنك.

تنفس عمرو الصعداء وقال:

-ربنا يطمنك يا بدر... طيب، خلّيني أكلمها.

-لحظة... خدي يا سراب طمني عمرو إنك بخير.

كان صوت بدر وانتظر عمرو للحظة ثم جاءه صوتها... ذلك الصوت الذي اشتاقه، والذي نفض عن قلبه الغبار:

-عمرو...

أخذ يتلفت حوله باضطراب وهو يسألها:

-إنتي كويسه؟

خرج صوتها مختنق بالعبرات وهي تقول:

-آه... أنا كويسة.

ارتعش جسده، أثر صوتها ذاك، وسالت دموعه بصمت، كأنه شعر بوجعها يتسلل من بين الحروف...

لم يتمكن من الرد، وكانت هي من أنهت المكالمة سريعًا، تاركة الهاتف لـ «بدر» يطمئنه:

-ماتقلقش، هي بخير... صدقني، بخير... إحنا جايين أهوه.

فقد أراد بدر أن يمهد له قبل أن يراها لكنه لم يستطع.

وما إن أنهى عمرو المكالمة، حتى بادر بطلب رقم والده ليخبره أن «سراب» في طريقها إلى البيت، ثم طلب رقم والدته التي صعدت فورًا وفتحت له الباب، وهرعت إليه تضمّه بين ذراعيها، وعيناها تلمعان بالدموع.

قالت بصوت مرتجف:

-سامحني يا ابني... كنت خايفة عليك، والله... خوفت عليك من نفسك.

أجابها وهو يربّت على كتفها:

-مش مهم يا ماما... مش مهم أي حاجة... أهم حاجة إن سراب بخير.

قالها، ثم اتجه نحو أحد الأدراج، فتحه سريعًا وأخرج منه رباط شعر، لملم شعره في سرعة، ثم غادر البيت بخطوات متسارعة، وقلبه يخفق كطبول المعركة.

وتبعته مريم بلهفة وترقب...

وقف «عمرو» أمام البيت، يروح ويجيء، ونظراته معلّقة بأول الشارع، ينتظر...

مرت الدقائق ثقيلة، تكاد تُسمع أنفاسها حتى لمح سيارة تدخل الشارع.

توقّف، حدّق بها بترقّب، حتى تبيّن وجه «بدر» خلف المقود، فانتبهت كل حواسه حتى توقّفت السيارة أمامه، وانفتح الباب ببطء... ثم خرجت سراب.

كانت بالكاد تجرّ قدميها ووجهها شاحب كأن الحياة فارقته.

تجمّد «عمرو» مكانه، يتأملها بذهول، بصدمة، وشيء يشبه الانكسار...

اقتربت هي منه بخطوات متعثرة، حتى وقفت أمامه مباشرة.

لم يتبادلا كلمة، فقبل أن تخرج الحروف من بين شفاههما، خارت قواها وكادت تسقط إلا أنه احتواها بين ذراعيه بقــوة، كما لو كان يحاول حمايتها من كل شيء... من كل ماضٍ وكل يدٍ امتدت عليها...

رفعها بذراعيه، وركض بها إلى الداخل، وملامحه تفيض بوجع لم يعرفه من قبل.

بينما وقفت النساء الست مشدوهات؛ وئام، وهيام، وشيرين، ونداء، وريم، ومريم...

كل واحدة منهن تخيلت مشهدًا لما حدث لسراب.

كانت «شيرين» أول من أفلتت من الصدمة... اقتربت من «بدر» بخطى سريعة وعيناها تلمعان بالقلق والغضب، ثم سألت بصوت خفيض لكنه ينطوي على عاصفة:

-مين اللي عمل فيها كدا يا بدر؟

نظر «بدر» إليها نظرة مختلطة بين الحرج والغضب، تنهد، ثم قال بصوت متهدج:

-حسين… 

شهقت «شيرين»، ووضعت يدها على صدرها، كأن قلبها تلقّى طعنة، ثم خرجت الكلمات من فمها غاضبة:

-لا حول ولا قوة إلا بالله… بنتك يا حسين؟! إزاي؟!

دخل الجميع للبيت، خلف عمرو، ارتفع التوتر في الأجواء، وساد صمت ثقيل، كأن البيت كله توقف عن التنفس...

كان «عمرو» يجلس على الفراش، و«سراب» بين ذراعيه، يحاول أن يوقظ فيها شيئًا من الأمان... شيئًا من الحياة.

ومن حوله «نداء» تجلب العطر و«ريم» تمسح وجهها بالماء، و«وئام» تردد آيات من القرآن...

أما «مريم» و«هيام» و«شيرين» فكانت دموعهن تنهمر وهن يراقبن.

وما إن فتحت «سراب» عينيها، حتى انكمش جسدها فجأة وبدأت تتقيأ بعنــف.

ودون تفكير حملها «عمرو» بذراعين مرتجفتين نحو الحمّام، يتبعه «وئام» و«شيرين» و«نداء» على عجل، تحاولان دعمه، تسندانه، وتهرعان لجلب ثياب نظيفة لها.

وحين شرع في تبديل ملابسها، انكشفت الحقيقة القاسية؛ خطوط حمراء متقاطعة، كدمات داكنة، وتورمات تعجز الكلمات عن وصفها.

ارتجف قلب «عمرو» وهو يُحدّق بها، ثم التفت إلى والدته، وعيناه تتسعان رعبًا، وصوته يخرج مبحوحًا، لا يكاد يُسمع:

-إيه ده... إيه ده يا ماما؟

اقتربت «وئام» ببطء، مدّت يدها المرتعشة، ولمست بإصبعين حذرين أثر الكدمات على جسد «سراب»، قبل أن تهمس، كأنها تخشى سماع نفسها:

-يا حبيبتي... هما كانوا بيجلدوها؟!

ارتد «عمرو» إلى الخلف فجأة، كأن المشهد صفعة قذفته من مكانه...

خرج من المرحاض يتعثر في خطواته، ثم دفن وجهه بين يديه، وانفـ.ـجر باكيًا.

أسرعت إليه شقيقته «هيام»، جذبته بين ذراعيها، وهمست بصوت مكسور:

-معلش يا حبيبي... معلش.

ظل جسده يهتز أثر البكاء، حتى شق الهواء صوت سراب وهي تصرخ:

-ماما! عايزة ماما! مامااا!

غهرع عائدًا إلى داخل المرحاض...


وبعد دقائق مرت كالدهر، عاد «عمرو» يحملها مجددًا بين ذراعيه نحو الفراش، جسدها كريشة لا وزن لها، ووعيها يتأرجح بين الحضور والغياب. كانت تهذي بكلمات تُقطّع القلب:

-حرام عليك... ابعد عني... أنا بنتك...

تحسست وئام جبين سراب ثم نظرت لعمرو، وقالت:

-المفروض نوديها المستشفى؟ حرارتها عليت فجأة.

هزّ رأسه بسرعة، ثم قال دون تردد:

-أنا هروح أجيب لها دكتورة... حالًا.

خرج في سرعة بينما ظلت «سراب» تنتحب على الفراش، تنادي باسم أمها فاقتربت منها «شيرين» ببطء، جلست إلى جوارها على الفراش، ولفّتها بذراعيها، تحتضنها بكل ما تبقى من دفء في قلبها.

ارتمت «سراب» في حضنها كطفلة فقدت كل شيء، وصرخت من قلبها:

-متسيبينيش... يا ماما...

أغمضت «شيرين» عينيها، والدموع تسيل على وجنتيها دون مقاومة، وهمست تخاطبها كأمّ حقيقية:

-مش هسيبك يا بنتي... مستحيل أسيبك.

ظلّت «سراب» في حضن «شيرين» تبكي حتى خارت قواها، ثم استسلمت لصمت ثقيل، لا تُقطعه إلا أنفاسها المتقطعة...

جلست النساء حولها في دائرة من الذهول، كل واحدة منهن تُخفي وجعها بصمت، كأن الكلمات خانتهن.

دخل «عمرو» بعد دقائق، يتبعه الطبيبة، تحمل حقيبتها بجدية، وعيناها تتفقدان الأجواء بقلق مدروس....

اقتربت من الفراش، جلست إلى جوار «سراب» وبدأت بفحصها، بينما كان «عمرو» يقف خلفها كتمثال، لا يتحرك إلا بعينيه.

وصلت لها محلولًا لخفض الحرارة وكان عمرو يساعدها بتركيبه ثم قالت بصوت خافت:

-أنا إديتلها خافض هي محتاجة راحة... ربنا يعافيها يارب... 

كتبت علاج في ورقة وهي تقول:

-هتجيب العلاج ده وإن شاء الله ارجع ابص عليها بالليل.

أخذت نداء الورقة منها وأوصلتها للباب بينما بقي «عمرو» يُطالع سراب مغمضة العينين، كامنة بلا حراك، مال نحوها وهمس قرب أذنها بصوت بالكاد يُسمع:

-أنا هنا... ومش هسيبك.

لم تجب لكن دمعة انحدرت من طرف عينها كانت كافية.

                ★★★★★★★

في المستشفى أمام غرفة العناية المشددة 

كانت «تقى» تجلس جوار «عامر» على المقعد الملاصق لجدار الانتظار، تُحدّق في الأرض بعينين زائغتين، عيناها محمرّتان، جافتان من الدموع، كأن البكاء نضب ولم يترك سوى أثره... تحيط بهما هالات سوداء عميقة، ووجهها شاحب، بلا لون، وكأن الدم هجره.

فقد عاد «كارم» إلى غرفة العناية المركزة، وما لبثت حالته أن تدهورت مجددًا وعاد لغيبوبته...


كان «عامر» بجوارها، يتابعها بعينين قلقَتين، ثم مدّ يده وربّت على كتفها برفق، وقال بصوت منخفض:

-إنتي محتاجة ترتاحي، يا تقى... شكلك مرهق أوي.


هزّت رأسها نافية بينما كانت يداها ترتجفان، وعيناها مفتوحتين لكن بصعوبة بالغة، ترفض أن تغمضهما، كما لو أن النوم خيانة في هذا الوقت...

وكلما غفت لدقائق سرعان ما تنتفض فجأة وتقوم لتسأل عن جديد، عن حالة والدها، وكأنها تقـ.ـاتل النعاس، تمتمت وهي تُطالع وجه عامر الذي لم تخف كدماته بعد:

-أرتاح إزاي؟! أبويا بين الحياة والموت، وسراب... مش عارفة عنها حاجة لحد دلوقتي.


ارتبك عامر، وتعثّرت كلماته وهو يقول:

-هـ... هكلم ماما، إن شاء الله تكون رجعت.


حمل هاتفه ليحدث والدته بيد ترتجف، وهو يرمق تقى بتوجس، فلو علمت بما يخفيه عن السحر والكتاب الذي أخفاه عن سراب لا يعلم ما سيكون رد فعلها!

حدث والدته التي أخبرته عن حالة سراب، فتغيرت ملامحه بينما كانت تقى تستمع لصوت شيرين وهي تحكي... وما أن أغلق عامر الهاتف، انفرطت دموع تقى كأنها كانت تنتظر إشارة، وانفجر صوتها المرتعش:

-أنا تعبت... آه يارب... تعبت...

اقترب منها عامر واحتواها بذراعه في حذر، وهو يهمس بكلمات طمأنة لم تكن تقوى على سماعها.

همس لها:

-هنرجع البيت لازم تريحي شويه يا تقى وتشوفي سراب وأنا هكلم رامي يجي يقعد هنا...


لم يكن أمامها خيار إلا الموافقة اومأت وغادرا معًا وتقى تحاول كبح دموعها كي لا تلفت أنظار الناس إليها...

                    ★★★★★

أسدل الليل ستاره الثقيل على الشارع، كأن السماء أغلقت جفونها على أحزان اليوم.

كان القمر مكتملًا، يعلو بهدوء وسط السواد، يُلقي ضوءه الخافت على النوافذ المغلقة، فيكاد يحيلها إلى مرايا صامتة... والهواء ساكن، إلا من نسيم خفيف يتسلل بين الأغصان، كأن الليل يهمس للأرض بأشجانه.

في إحدى الغرف الهادئة، كانت «سراب» تفتح عينيها فجأة، تصرخ باسم والدتها بصوت متهدج يقطع سكون الليل، ثم تعود لتغرق في نوم متقطّع...

بجوارها، تمددت «تقى» بجسدٍ منهك، وجهها شاحب كشمعة أوشكت على الانطفاء.

وكلما صرخت سراب، كانت «تقى» تنتفض من نومها، تنحني عليها سريعًا، تضع يدها المرتعشة على كتفها، تُربّت عليها برفق، تهمس باسمها بلطف...

ثم تعود إلى الوسادة بلا نوم حقيقي، نصف واعية، نصف غائبة، في حالة بين الحياة والكوابيس.


وكانت نساء العائلة يدخلن الغرفة بهدوء كل حين، يتبادلن النظرات والهمسات، يطمئنن على الفتاتين ويرحلن في صمت، كأن الحزن علّم الجميع لغة بلا صوت.

استغفروا 🌸 

★★★★★★★

وبالأسفل في شقة «دياب»

اجتمع الرجال في المجلس، والوجوه متجهمة، مشحونة بالتوتر.


وقف «عمرو» كالبركان، يزمجر غاضبًا، يُحملق في «آدم» و«نادر» بعينين مشتعلتين، ثم صب غضبه الكامل على «عامر»:

-يعني لو تقى كانت مكان سراب... كنت هتتصرف كده يا عامر؟!

نهض «آدم» بحدة، اقترب من عمرو حتى كادت أنفاسهما تتشابك:

-يا عمرو، إنت مش فاهم خطورة الموقف!


زأر عمرو:

-ومش عايز أفهم!

ثم أشار بإصبعه نحو عامر، بعينين تضجّان باللوم:

-هو اللي غلط، ويستاهل اللي يجراله... إحنا مالنا؟!


حاول «عامر» أن يتحدث:

-أنا فعلًا غلطت... بس كنت عايز...


قاطعه «عمرو» بحدة:

-اسكت! اسكت يا عامر، متبررش.


استدار «عمرو» ليغادر الغرفة، لكن «عامر» أمسك بذراعه، وبعينين متوسلتين وصوت مخنوق، قال:

-سامحني بالله عليك... والله ما كان قصدي.


أفلت «عمرو» يده بعـ ـنف، وخرج دون أن ينظر خلفه.

لكن... فجأة تجمّد في مكانه عند عتبة الباب، إذ دوّى صراخٌ حاد من الداخل...


كان صراخ «عامر»، وقد جثا على الأرض، يده تحاوط أذنيه، يطبق عينيه بشدة، وجهه يتلوى من الألم، صارخًا:

-الأصوات رجعت.

أسرع الجميع نحوه، حتى «عمرو» عاد، وقلبه يسبقه...

وفي خضم الفوضى... لم يلحظ أحد ارتجافة جسد «آدم»، تلك الرجفة التي أعقبها سكون غريب.

ثم... نهض فجأة، كأن كيان أخر سكنه.

كانت عيناه زائغتين، يتلفّت حوله بجنون، أنفاسه متسارعة، وكأنه يرى ما لا يُرى...


نظر نحو الطاولة، لمح سكينًا صغيرًا بجانب طبق فاكهة، التقطه ببطء، كأن يده لا تخصه...

وبخطوات ثقيلة، بدأ يقترب من «عامر»...

وفي عينيه نية... لا يخطئها أحد.

استغفروا 🌸 

                        ★★★★★

في غرفة «رغدة» و«رحمة» التي لم تغادراها منذ البارحة، خيّم الحزن كسحابة لا تنقشع.

حتى الطعام لم يلمساه، وكأن الشهيّة غادرت مع من غادرت.

جلست «رغدة» على الأرض، طاوية ركبتيها إلى صدرها، تحيطهما بذراعيها بينما على الأريكة، كانت «رحمة» ممدّدة بجمود، رأسها مائل، وعيناها مثبتتان في السقف بشرود كأنها تبحث عن إجابة بين الشقوق.

قطع السكون صوت «رحمة»، خافتًا متقطّعًا، كأن كل كلمة تُنتزع من صدرها:

-تيته داليا هتوحشني أوي.


ردّت «رغدة» دون أن ترفع رأسها، تهزّه ببطء كأنها تؤكد كل حرف:

-كانت دايمًا شايلة همّنا... الله يرحمها يا رب.


ترددت «رحمة» قليلًا، ثم سألت بصوت يملؤه الخوف:

-هو... بابا عمل فيها إيه يا رغدة؟


اشتعلت النار في عيني «رغدة»، انفجرت:

-متقوليش بابا... والله ما هسامحه طول عمري!


ارتعشت شفتاها، وانهمرت دموعها بحرارة، لتهمس بانكسار:

-ربنا ينتقم منه ويكسر قلبه زي ما كسر قلبنا.


ساد الصمت لفترة، أرادت «رحمة» أن تفرّ، أن تهرب من هذا الطوفان ولو لبعض الوقت، فتناولت هاتفها المرتجف، وبدأت تمرر إصبعها على الشاشة بلا هدف، فقط لتُشغل نفسها عن الانهيار.


لكن... لم تمر سوى لحظات، حتى شهقت واتسعت عيناها، وهي تهمس:

-إيه دا...؟

رفعت الهاتف أمام وجهها، تنظر إليه كأنها لا تصدق ما تراه...

نهضت «رغدة» من مكانها بفزع، اقتربت منها بسرعة وقالت:

-في إيه يا رحمة؟ مالك؟!


لم تُجب رحمه فقط كانت تحدق في الشاشة بعينين مرتجفتين، والهاتف يضيء بين أصابعها.

الفصل الرابع والثلاثون من هنا

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1