![]() |
رواية سدفة ج2 (عن تراض) الفصل السادس والثلاثون بقلم أيه شاكر
وقفت «سراب» بالشرفة تتابع سقوط الأمطار، وهي تحمل بيدها كوبًا من مشروب دافئ ترتشف منه بشرود...
كانت السماء ملبدة بالغيوم، وأذان العصر يصدح بالأرجاء، لم يتوقع أحدًا أن تمطر فرغم أنهم في بداية فبراير إلا أن الجو كان معتدلًا في الصباح...
ولكن فجأة صار الهواء أبرد قليلًا، وازدادت قوة الرياح...
كانت قطرات المطر تغسل الشارع والرصيف، وتعلو معها رائحة التراب المبلول... بينما هناك من يهرول تحت المطر ليصل لبيته وفي الشرفات هناك من أسرع لجمع الغسيل، وآخرون وقفوا يشاهدون المشهد بصمت مثلما تفعل سراب...
-ادخلي يا سراب واقفلي البلكونه هتبردي...
كان صوت «عمرو» وهو يغلق أزرار قميصه ويبحث بعينيه عن ساعته ليستعد للخروج...
التفتت إليه ثم أغلقت الشرفة دون جدال كان متوقعًا منها كالعادة، واقتربت تضع المشروب الدافئ على الطاولة ثم جلست...
فجلس «عمرو» جوارها وهو يلف الساعة حول معصمه، ويخاطبها بمرح:
-اسم الله عليك يا مطيعة...
لم تبتسم كانت ملامحها متجهمة تشي بأن هناك أمر يزعجها، واتضح الأمر حين نطقت:
-أنا حامل...
حدق فيها «عمرو» لبرهة، ليستوعب ما نطقته، ثم ابتهجت ملامحه وقال باستغراب:
-ازاي ده؟
ردت في سرعة وبضجر:
-هو إيه اللي ازاي!!!
-الله! براحه يا سراب... أنا بس اتفاجئت... إنتي بتاخدي حبوب منع حمل ومحمود لسه يادوب مكمل سنه ونص!
نهضت واقفة وأخذت تفرك يدها باضطراب وهي تقول:
-أنا مش عارفه حصل ازاي... أنا أصلًا مش قادره... لسه مش مستعدة... وبعدين كمان تقى بقالها كم سنه بتجري على الحمل... هيبقا شعورها ايه لما تعرف إني حامل للمرة التانيه؟!
صمت «عمرو» هنيهة ثم تنهد وقال:
-اهدي وهوني على نفسك يا سراب، دا رزق وإن شاء الله ربنا يرزقها هي وعامر قريب يارب وتبقى الفرحه فرحتين...
-يارب.
تمتت بها سراب، وران عليهما الصمت شرد عمرو وعض على شفته السفلى يفكر، ثم قال:
-بس كده مش هنعرف نسافر عزبة جدك البدري!
عادت سراب تجلس جواره وقالت بسرعة وانفعال:
-لأ... مينفعش أنا لازم أروح... جدي البدري تعبان أوي ولو حصله حاجه وأنا مشوفتهوش مش هسامح نفسي... وبعدين إنت مينفعش تقول لحد لحد ما نسافر ونرجع كمان وتقى تعمل عملية الحقن المجهري... ويارب ربنا يكرمها المره دي يارب.
ربت «عمرو» على يدها وهو يقول:
-يارب... إن شاء الله أنا متفائل المره دي...
التفتت له فتلاقت نظراتهما، وارتسمت على وجه عمرو ابتسامة دافئة، كافية لزرع الطمأنينة في قلبها فافتر ثغرها معلنًا عن ابتسامة، امتزج فيها الحنين بالسكينة، وهمست بحب:
-تقى هتبقى أم حنينة أوي... دا محمود ابننا بيحبها ومش بيرتاح غير في حضنها... ربنا يعوض صبرها خير يارب.
رد «عمرو» بهدوء:
-يارب...
ظلّ يراقبها بعينين لا تفارقان تفاصيلها؛ حركة يدها وهي ترفع الكوب، لمعة البخار تلامس وجنتها، الشفاه المرتعشة وهي ترتشف المشروب...
ثم سألها، بنبرة فضول خافت لا يخلو من قلق:
-بتشربي إيه ده؟
توتّرت للحظة، بدت وكأنها ضُبطت متلبسة، غطّت سطح الكوب براحة يدها كأنها تحجب سرًا دفينًا، وقالت بتردد طفولي:
-دا... دا عليه عسل نحل و...
اتسعت عيناه بسرعة خاطفة، وقال بنبرة حادة:
-سراب... إنتي بتشربي سينامكى؟
ومد يده نحو الكوب بعفوية قَلِقة، لكن سراب قفزت واقفة، وتراجعت للخلف بخفة...
هدر بها بعصبية، وعروقه تغلي تحت جلده:
-يا بنتي هو أنا مش حذرتك من البتاعة دي؟!
قالت وهي تلوّح بالكوب كأنها تدافع عن قضيتها:
-والله يا عمرو مفيدة... وبعدين أنا تخنت اتنين كيلو!
رمقها من أعلى إلى أسفل، وعيناه تنطقان بالسخرية:
-اتنين كيلو إيه! ده إنتي محتاجة تتخني ستة سبعه كيلو...
رفعت حاجبيها وهدرت بمرارة تحمل تحتها غضبًا مكتومًا:
-أيوه عشان أبقى شبه الفيل وتروح تتجوز عليا، مش كده؟
زفر بضيق، واقترب منها خطوة، وهو يقول بغيظ:
-أتجوز عليكي إيه؟! وبعدين يا بنتي مش إنتي حامل؟
نطق كلمة "حامل" بوقع ثقيل على صدره، كأنه يُذكّرها ويذكّر نفسه بالمسؤولية، بالحذر، بكل ما يجب وما لا يجب...
لكن الغضب كان أسرع من التعقل إذ حاول انتزاع الكوب من يدها، فتشبثت به، وتعاركت الأيدي، حتى انسكب فجأة على صدره، فشهقت سراب وهتفت بخوف:
-ياااه! يالهوي!
ابتعدت خطوتين في قلق، حدجها بنظرة تشع غضبًا فاستدارت فجأة وركضت نحو باب الشقة، وركض خلفها، لكنها سبقته، وأغلقت الباب خلفها...
وقف هو لاهثًا، يحدّق إلى بقعة السائل على قميصه، ثم زأر بصوتٍ ارتطم بجدران الشقة:
-ماشي يا سراب... إن ما كنت أربيكي من أول وجديد...
عاد يفك أزرار قميصه، ثم سار نحو غرفته بخطوات ثقيلة، كأنما يجرّ أعوامًا من الإنهاك مع زوجته العنيدة، تمتم بنزق:
-أربيها إيه بس؟ بقالي خمس سنين بقول نفس الكلمة ولا بعمل حاجة... يا رب... الصبر يارب.
استغفروا 🌸
★★★★★
في شقةٍ يغمرها دفء الحب، كانت تقى تحتضن محمود، تُرضعه من الببرونة، ووجهها يفيض بحنان صامت، وهي تراقب تقاسيمه وكأنها تكتشفها لأول مرة...
بين كل رشفة وأخرى، كانت تبتسم؛ تلك الابتسامة التي لا تصنعها الشفاه فقط، بل القلب أيضًا.
كان عامر يراقبها من بعيد، بعينين تملأهما السكينة... اقترب، ثم جلس جوارها، وأطلق مزحة ممزوجة بفخر:
-الواد ده شبهي أوي...
رفعت رأسها ونظرت له بتحدٍ رقيق، قالت بخفة:
-لا على فكرة... ده شبهي أنا.
ضحك، ثم مسح على شعر الصغير بخفة وقال:
-ربنا يرزقنا يا رب ببنوّتة... أجوزهاله ويبقى زيتنا في دقيقنا.
كلمات بسيطة، لكنها اخترقت قلبها مثل نسمة باردة على جرح قديم...
ارتجفت ابتسامتها، وبهت الضوء في عينيها... تذكرت عمليتها القادمة، الثالثة، التي باتت على بعد شهر فقط....
كل تجربة كانت تحمل وجعًا وأملًا، لكن هذه... ربما تكون الأخيرة...
تمتمت برجاء خافت، تخنقه الذكريات:
-يارب...
أحس عامر بتغيرها، فربت على يدها برقة، وقال بنبرة دافئة:
-أنا هقوم ألقي نظرة أخيرة على اختراعي عشان أكون جاهز لبكره عشان العرض... بس هاخد دش وأغير هدومي الأول... ادعيلي يا تؤتؤ...
ابتسمت له في صمت، وأخذت تدعو له في قلبها دعوات صادقة، مُلئت بها روحها قبل لسانها.
اختفى عامر خلف باب المرحاض...
وبعد دقائق، دخل إلى غرفتهما...
بدأ يفتش في خزانة الملابس، يتأمل القمصان بلا تركيز، حتى سأل وهو لا يزال يبحث:
-مشوفتيش التيشيرت الزيتي يا تقى؟
جاء ردّها من بعيد، مشوبًا بالعفوية:
-لا والله...
وأثناء بحثه، جذب انتباهه شيء صغير تحت كومة ملابسها، ورقة مطوية بدقة، لكنها لم تُخفَ عليه... التقطها بفضول، وما إن فتحها حتى تجمّد الزمن في عينيه.
تحاليل... نتائج... كلمات طبية... ومعنى واحد لا يقبل التأويل...
جحظت عيناه، تتبّعتا السطور مرة تلو الأخرى كأنّه لا يصدق ما يقرأ، ثم جلس على طرف الفراش، وقد غمرته صدمة صامتة، كل شيء في داخله كان يهدر، لكن وجهه ظلّ ساكنًا، شاحبًا.
عاد فطوى الورقة وأعادها حيث كانت، بهدوء خادع، وكأنّ جزءًا منه ينهار بينما يُغطيه بصمت ثقيل.
الآن فقط... فهم.
عرف أنه هو السبب... وأن تقى، بحنانها وصبرها، خبأت الحقيقة في قلبها، لتُبقي عليه مرتاحًا، بلا ذنب، بلا شعور بالحزن... لتشرب من كأس الألم وحدها...
وهو الذي تجاهل انشغالها بأمر الحمل وخضوعها لعملية تلو الأخرى، وانشغل عنها، فقد كان يصب كل تركيزه مع إختراعه ومذاكرته، أصبح الآن أستاذًا جامعيًا.
نهض واقترب منها ببطء، وجدها مكانها ما زالت تُطالع ملامح محمود بعدما وضعته على الأريكة...
جلس جوارها دون أن ينطق... اكتفت عيناه بالكلام، حين نظر إليها، نظرة مليئة بالامتنان، والانكسار، وقال بصوت خفيض:
-إنتِ قولتيلي قبل كده... مشكلتك إيه عشان تحملي؟
ترددت، وقلبها بدأ يخفق بجنون...
شعرت بشيء غريب في نبرته، كأنّه يعلم...
نظرت إليه، تبحث عن شيء في ملامحه، شيء ينفي خوفها، ثم قالت بتلعثم:
-آآ... انسداد في الـ...
تاهت كلماتها، لم تستطع أن تكمل... قرأت الحقيقة في عينيه، كانت واضحة كالشمس، قال بانكسار:
-مشكلتك إن جوزك يبقى أنا يا تقى!
ازدردت ريقها بصعوبة، وقالت:
-عامر! دي مش مشكلتي ولا مشكلتك، دي مشكلتنا وأنا واثقة إن المرة دي العملية هتنجح...
قالتها بابتسامة مرتجفة، وهي تحاول أن تزرع الأمل من جديد...
أما هو، فاكتفى بأن مدّ يده نحو يدها، وقبض على يدها بلطف، وكأنه يعتذر... ويشكر... ويَعِد.
كان صوته مكسورًا، تختلط فيه الدهشة بالغضب بالحزن:
-كنتي بتصممي تروحي تجيبي التحاليل بنفسك... وكمان كنتي بتوريني تحاليل مزوّرة؟ ليه يا تقى؟ ليه ما قولتيليش؟ أنا ظلمتك... ظلمتك أوي... بهدلتك معايا يا تقى... بهدلتك أوي...
قالها عامر، ثم خفض رأسه بين يديه، وانفجرت دموعه أخيرًا، تسيل الآن بحرقة... ارتعش كتفاه تحت ثقل الألم الذي انكشف فجأة.
تجمّدت تقى للحظة، ثم نهضت وانحنت أمامه، وعيناها تغرقان بالدمع لكنها تحاول الثبات.
قالت بصوت رقيق، يحمل دفء الدنيا:
-متقولش كده... بالله عليك يا عامر، ما تعيطش... إنت بالنسبالي حاجة كبيرة أوي... وأنا اللي غلطانة، كان لازم أخبّي الورق ده بعيد... ما كانش المفروض توصله كده...
وضعت كفّها على رأسه، ثم جذبته نحوها برفق، وقبّلت جبينه قبلة طويلة كأنها تقول بها كل ما عجزت عنه الكلمات.
-عشان خاطري، ما تعيطش... يا حبيبي، دلوقتي كل حاجة ليها حل، والعلم اتطوّر... مفيش حاجة اسمها مستحيل.
رفعت وجهه بكفّيها، ونظرت في عينيه مباشرة، وتحولت نبرة صوتها لثبات ناعم:
-ده ابتلاء من ربنا يا عامر... وربنا هو الرزاق... ارضَ يا حبيبي ارضَ عشان ربنا يراضيك... واصبر... عشان خاطري...
هز عامر رأسه بيأس، واختنق صوته:
-أنا مش مهم... بس إنتي! إنتي ليه شايلة كل ده؟ ليه شايلة همي لوحدك؟ ليه محمله نفسك هم ذنب مش ذنبك.
-ذنب ايه! يا حبيبي مش ذنبي ولا ذنبك...
مدّت يدها تمسح دموعه بأناملها برقة، ثم شدّت على يده، ونبرة الحزم تلوّن صوتها:
-عامر! دي مشكلتنا إحنا الاتنين، مش مشكلتك لوحدك... وهنعدي منها بإذن الله... إهدى، وقوم شوف شغلك... الموضوع ده ما يستاهلش تضيّع فيه ثانية من وقتك... وإنت حلمك هيبدأ يتحقق بكره! أخيرًا اختراعك هيشوف النور!
هزّ رأسه نافيًا، وخرج صوته متهدّج:
-مش هعرف أعمل حاجة... مش هعرف...
نظرت إليه طويلًا، ثم ابتسمت ابتسامة دافئة، تمسكه بها من حافة الانهيار:
-أنا جوزي شخص قوي، وشاطر، وناجح... بيستعين بالله في كل خطوة، ومؤمن إن الرزق من عند ربنا... وإن الدنيا ما تساويش جناح بعوضة! قوم... قوم يا عامر، عشان ترفع راس بلدك وراس أهلك... عشان تثبت للناس إن الانفجارات اللي كنت بتعملها طلعت بفايدة!
قالتها ضاحكة، فشقّ وجهه أخيرًا ابتسامة واسعة باكية...
أمسك بيديها وساعدها على الوقوف، فأسرعت ووضعت وسادة بجوار الرضيع على الأريكة، ثم عادت تمسك بيده وتسحبه نحو غرفة الاختراع.
كان الجهاز ينتظر هناك، على سطح المكتب، يشبه مرآة صندوقية بأربعة أوجه... كل وجه يحمل سرًا: مرآة، مستقبل طيفي، سطح حساس للذبذبات، وشبكة دقيقة لرصد الجسيمات.
لمس عامر سطح المرآة، فظهر فورًا على زجاجها البارد لوحة مفاتيح ضوئية تعمل باللمس، تتصل بأي هاتف وتعرض على الهاتف ما تلتقطه بدقة تثير الدهشة.
نظرت له تقى، وعيناها تلمعان بفخر صادق:
-أنا فخورة بيك يا عامر... وواثقة فيك جدًا...
أمسكت بيده من جديد، فتنفّس عامر بعمق، كأنها بثّت فيه الحياة، وبدأ يشرح لها اختراعه بشغف وهو ينظر في عينيها.
لكن فجأة... سقط جالسًا، وانهمرت دموعه مرة أخرى. لم تتأخر، جثت بجانبه، وأجهشت بالبكاء معه...
بكيا معًا، واختلط صوت ألمهما، حتى قاطعهم جرس الباب.
مسحت تقى دموعها سريعًا، ربتت على كتفه في حنان، وهي تقول:
-كفاية يا عامر... عشان خاطري...
مسح عامر وجهه، وهو يومئ برأسه بينما نهضت تتجه نحو الباب، وعامر لا يزال جالسًا، يتنفّس بثقل، لكن عينيه... كان فيهما بريق جديد... سيطلقها... لن يسمح لها أن تتعذب جواره.
وحين فتحت تُقى الباب، كانت شيرين تقف هناك وفي اللحظة التي تلاقت فيها نظراتهما، اندفعت تُقى نحوها كمن وجد أخيرًا حضنًا يحميه من الانهيار، وانهارت بين ذراعيها، تبكي بكاءً مريرًا.
شدّت شيرين على كتفيها، تحاول أن تثبتها أمامها، وهمست بقلق مضطرب:
-في إيه؟ مالك يا تُقى؟
شهقت تُقى وبللت الكلمات بدموعها:
-عامر عرف... شاف التحليل.
رفعت شيرين يدها إلى صدرها، كأنها تحاول حبس فزعها داخله، ثم اندفعت إلى الداخل بخطوات متسارعة، تسبقها أنفاسها اللاهثة:
-هو فين؟
أشارت تُقى بصمت نحو الغرفة، فدلفت شيرين بخطى متوترة، وتبعتها تُقى دون كلمة.
كان عامر جالسًا على طرف السرير، منحنٍ بجسده، كأنه ينوء بثقل العالم فوق كتفيه...
وما أن لمح والدته حتى انتصب واقفًا فجأة، ثم انهار بين ذراعيها كما ينهار طفل تاه طويلاً وعاد ليجد قلبًا يعرفه.
ارتجف جسده بين ذراعيها، واهتز صدره مع كل شهقة، ففاضت عينا شيرين بالدمع، وضمته إليها أكثر. راحت تربت على كتفه بخفة، بإيقاع أمومي لا تعرفه إلا الأمهات في لحظات الانكسار، حتى بدأت أنفاسه تهدأ، وارتخى بين يديها.
همست شيرين لتُقى:
-معلش هاتيله عصير يا حبيبتي.
أومأت تُقى وخرجت مسرعة، وبقيت الأم وحدها مع ابنها.
رفع عامر رأسه قليلًا وهمس بصوت مكسور، كأن كل كلمة تجرح حلقه من الداخل:
-أنا... أنا مبخلفش يا ماما... مبخلفش...
سكت لحظة، كأنه يحاول استيعاب الصدمة التي لم تترك له مجالاً للهرب، ثم تابع بصوت أضعف:
-تخيلي... كنت فاكر إن المشكلة فيها هي، وكنت بقول لنفسي مفيش مانع أتجوز واحدة تانية أخلف منها... ماما أنا لازم أطلقها... مش علشان بكرهها، لكن مش عايزها تتبهدل معايا أكتر من كده...
وضعت شيرين يدها على فمه برفق، وقالت بحدة حنونة:
-اسكت، متقولش كده.
ثم نظرت إليه مطولًا، بعينين تمتلئان بحزن أم، وشعرت أن الوقت قد حان... حان ليعرف.
قالت بنبرة خافتة ولكن ثابتة:
-أنا كنت فاكرة إنك بتحب تُقى، بس الظاهر إن هي اللي بتحبك أكتر بكتير... يا حبيبي تُقى كانت عارفة من قبل الجواز إنك عندك مشكلة، ومع كده... ولا ترددت، ولا حتى طلبت تفكر... وافقت وقالت مش عايزه إلا عامر.
قطّب عامر حاجبيه، وحدّق فيها مشوشًا:
-مش فاهم... يعني إيه كانت عارفة؟
تنهدت شيرين تنهيدة طويلة، كأنها تطلق سرًا أثقل صدرها سنين، ثم بدأت تحكي... بصوت هادئ، متماسك، تحكي عن الحادث القديم، وعن التحاليل، وعن اعترافها لتُقى، وعن رد فعل الأخيرة الذي لم يكن فيه ذرة تردد.
استمع عامر في صمت، لكن عينيه كانتا تنطقان، تمتلئان بأسئلة وندم ودهشة، ثم سالت دمعة على خده، فمسحها سريعًا كأنه يخجل من انكساره، لكن وجهه بدأ يهدأ، كأن شيئًا انكسر ليبني فيه شيئًا آخر جديدًا.
دخلت تُقى في تلك اللحظة، تحمل كوب العصير، فوجدته جالسًا في هدوء، ينظر إليها نظرة جديدة... لم تفهمها هي ولا شيرين في البداية، لكنها كانت تعرف أن شيئًا قد تغيّر.
دوى جرس الباب فنهضت شيرين وهي تقول:
-أنا هشوف مين وهاخد محمود معايا وانا ماشيه...
جلست تقى جوار عامر تراقب ملامحه بترقب، بينما عند الباب حين فتحت شيرين ظهرت سراب، التي قالت:
-يرضيكي يا طنط ابنك بيزعقلي وباصللي في الأكل والشرب!
-إبني أنا!!
قالتها شيرين بدهشة فارتمت سراب في حضنها وتظاهرت بالبكاء وهي تقول:
-الجوازه دي كانت غلط من البداية يا ماما... بالله عليكي أنقذيني منه.
ربتت شيرين على ظهرها وتمتمت:
-يارب اهديهم يارب.
صلوا على خير الأنام🌸
★★ـــــــــــ★★
في صباح اليوم التالي
وقفت «رغدة» أمام حوض الوجه، تُدلك وجهها بلطف بالغسول المخصص لبشرتها.
سالت المياه الباردة على وجهها، ثم التقطت المنشفة القطنية، وراحت تجفف وجهها بحنان أمام المرآة بالردهة، ثم بدأت تُوزّع المرطّب على بشرتها بحركات دائرية خفيفة.
ومن خلفها، ظهرت فاطمة، تقف وذراعاها متشابكتان، وحاجبها الأيسر مرفوع في تعبير لا يخلو من التهكم والقلق، وقالت بنبرة متضجرة:
-البتاع اللي بتحطيه ده هيبوّظ وشك... قولتلك، وبقولك، وهفضل أقولك... الحاجات دي مُضره! وإنتي ما شاء الله زي القمر مش محتاجه.
ابتسمت رغدة، ودون أن تلتفت إليها، استمرت في توزيع الكريم وهي تقول:
-يا تيته، والله حاجات طبيعية، متقلقيش منها خالص.
في تلك اللحظة، دوى جرس الباب، فتنهدت فاطمة، ثم توجهت بخطى بطيئة نحو الباب...
وحين فتحته ورأت محمد واقفًا هناك، ارتسمت على وجهها ابتسامة تلقائية، صادقة، تحمل ما بين الحنين والطمأنينة؛ فمنذ وفاة صالح، بدأ هو يُخفف بعضًا من الألم الذي خلّفه.
قال محمد، وهو يدخل في صلب الموضوع دون مقدمات:
-إنتي جايه معانا عزبة البدري، مفيش نقاش.
رفعت فاطمة حاجبيها بدهشة مصطنعة، ثم قالت بنبرة ناعمة فيها لمحة دعابة:
-طيب ادخل الأول، دا أنا عاملة شوية بشاميل يدفوا معدتك في الجو ده.
ابتسم محمد بخفة، وهو يخطو إلى الداخل:
-أطمّن الأول إنك مش هتعترضي، وبعدها نتكلم في موضوع البشاميل.
ردّت، وهي تمشي نحو المطبخ بخطى خفيفة:
-طيب، والبنات؟
-هيجوا معانا طبعًا.
-ماشي يا محمد، بس ناخد رأي أبوك الأول.
قالتها فاطمة وهي تلوّح بيدها، فقال محمد بمرح:
-هو فيه كلمة بعد كلمتك يا عسل؟ احنا كلنا هنروح بباص... دول بيقولوا جو العزبه حلو أوي... فنعتبرها تغيير جو.
ضحكت «فاطمة»، وقالت باقتناع:
-ماشي يا سيدي عشان خاطرك...
-هو ده الكلام إلحقيني بقا بالبشاميل يا ست الكل.
قالها «محمد» وهو يصفق بيديه بحماس...
في هذه الأثناء، كانت «رغدة» تتابع الحوار بصمت وامتنان...
حين التقت عيناها بمحمد، غمز لها بخفة، فابتسمت، وهرولت نحوه، تضمّه بذراعيها بخفة وفرح، وقالت بصوت دافئ:
-إنت أحسن عم في الدنيا...
-أي خدمة... جهزوا الشنط بقى هنمشي بعد تلت أيام.
ما إن نطقها، حتى تركته مسرعة، وركضت إلى غرفة «رحمه» لتبشرها بقرار الموافقة...
أما هو، فاتجه إلى المطبخ وهو يرفع صوته مازحًا:
-فين البشاميل يا أمي؟
توقفت يد فاطمة عن تقطيع الطعام...
لم تكن الكلمة غريبة، لكنها خرجت من فمه لأول مرة.
"يا أمي"...
انفرطت دمعة من عينها دون أن تشعر، تساقطت داخلها سنين طويلة من الخذلان...
تذكرت صالح، ابنها الأول، الذي أنهى الطمع حياته... وتذكرت ابنها الآخر، الغائب، «مؤمن» المنشغل بالدنيا حتى عن صوتها.
أما محمد... فقد حضر، وبسط قلبه جوار قلبها، دون حساب.
اقترب منها وقد لاحظ تجمدها، قال بقلق صادق:
-حضرتك كويسة؟
لم ترد، فقط بدأت تبكي بصمتٍ موجِع، كأن جدارًا داخليًا انهار دون إنذار...
أفزعت دموعها قلبه، اقترب منها أكثر، ووضع يده على كتفها برفق:
-في إيه يا أمي؟ مالك؟
رفعت رأسها إليه، نظرت في عينيه نظرة أم لا تجد الكلمات، ثم تمتمت بصوت مرتعش:
-أول مرة تقول لي "يا أمي"...
ابتسم بخجل وارتبك:
-آآ... أنا آسف... مكنتش أعرف إنها هتزعلك، خلاص مش هقولها تاني.
هزت رأسها سريعًا، وقاطعته:
لأ، قولها... قولها تاني وتالت... إنت ابني يا محمد.
هو آه، أبوك غلط لما اتجوز من ورايا وخلفك من غير علمي... وجرحني وزعلني، بس... مش مهم... إنت طبطبت على قلبي.
ارتشفت دموعها وأضافت:
-أنا فهمت متأخر أوي إن الدنيا مش مستاهلة، وإنها رحلة، مهما طالت، قصيرة... وإني هقف قدام ربنا لوحدي، أنا سامحت أبوك، وسامحت أمك... يمكن ربنا يسامحني... الحمد لله إني فهمت قبل ما أمشي.
ثم شهقت بالبكاء، بكاء يخرج من أعماق قلب أنهكته السنين.
احتضنها محمد بقوة، قبّل رأسها وقال وهو يربت على ظهرها:
-طيب روّقي يا أمي، صدقيني إنتي ربنا بيحبك.
ظلّ يضمها، حتى هدأت أنفاسها...
ثم ابتعد قليلًا وهو يضحك بخفة:
-بس أنا حاسس إنك مش ناوية تأكليني بشاميل، وبتحاولي تدارِي الموضوع بالدموع.
ضحكت فاطمة وسط دموعها، ثم قطعت له قطعة صغيرة بيد مرتجفة، ووضعتها في فمه.
أغمض محمد عينيه بتلذذ، ومضغها ببطء وقال بفرحة طفل:
-الله... لذيذة أوي! تسلم إيدك والله.
وفي تلك اللحظة
فتح ضياء الباب بمفتاحه، ودلف إلى البيت وهو يحمحم بطريقته المعتادة.
لم يكد يغلق الباب خلفه حتى سمع صوت محمد يتحدث مع فاطمة، فارتسمت على وجهه ابتسامة عفوية... لكنها لم تلبث أن تلاشت، وتبدّدت حرارة اللحظة وهو يطيل النظر إلى الجدران.
جدران تعرفه جيدًا، وتحتفظ بصدى ضحكاتٍ لم تعد، ومشاهدَ أصبحت كالحلم البعيد...
هجمت الذكريات على عقله على حين غرة فحين كان يعود من السفر، فتتسابق إليه خطى صالح، يقبّل يده...
وفي زاوية الغرفة، ابنه الثاني «مؤمن»، ممسك بمسدس بلاستيكي، يرش به المياه على ريم، التي كانت تخرج مهرولة لتلتف بذراعيها حول ساقيه، ثم تظهر رغدة... ابنته التي ذُبحت غدرًا، وغاب صوتها إلى الأبد، وسميت ابنة صالح على اسمها...
ارتعشت عينه وسقطت دمعة خافتة.
تذكّر جسد صالح حين استلمه مشوهًا لكنه تعرف عليه...
يا الله، أي بلاء هذا؟
هل هو العقاب؟
هل هو عقاب لذلك اليوم، حين نازعته نفسه لإيذاء أبناء أخيه «دياب»، نعم! قد تكون هي لحظة الضعف التي فتحت أبواب الفقد!
اهتزت قامته، وشعر بجسده يخونه كما فعل يومها، حين بلغه خبر رغدة... وبعد أعوام خبر صالح!
لكن صوت ابنه محمد أنقذه من السقوط وانتشله من تلك البؤرة...
قال محمد بصوت بسيط، يعلو وهو يلوك الطعام:
-تعالى يا والدي... اتفضل يا بابا...
مسح ضياء وجهه سريعًا، والتقط أنفاسه كمن ينتزع نفسه من هاوية ثم سار إلى المطبخ يرسم على وجهه ابتسامة مصطنعة، لكنها ما لبثت أن تحوّلت إلى ابتسامة حقيقية حين رأى محمد وفاطمة يضحكان، مندمجين في لحظةٍ نقيّة، كأن اللحظة تخبره انها فرصة جديدة ليتنفس مجددًا.
وظل هناك سؤال معلق في الهواء؛ لماذا نستيقظ من غفلتنا بعد فوات الأوان؟ وفي أخر محطة من عمرنا!
**********
من ناحية أخرى في الزاوية الهادئة من غرفتها...
كانت «رحمه» مستلقية على فراشها، تلتف بالغطاء وتحتضن هاتفها بين يديها كأنها تخشى أن يهرب منها وعلى الشاشة، يدور مقطع فيديو لنادر ويحيى...
لم تكن الابتسامة على وجهها عادية... بل تحمل بين ثناياها ألف ذكرى وألف احتمال، وألف شعور.
فُتح الباب بغتة، ودخلت «رغدة»...
فأسرعت رحمه تغلق الفيديو بضغطة مرتبكة، واعتدلت جالسة كأنها ضبطت متلبّسة، وراحت تعبث بشيء وهمي في الوسادة.
جلست «رغدة» إلى جوارها بخفة، وقالت بحماس طفولي:
-تيته وافقت! هنروح العزبة معاهم.
لم ترد «رحمه» مباشرة، بل حدّقت في اللاشيء للحظات، ثم التفتت إليها وقالت بنبرة بدت حذرة:
-قوليلي يا رغدة... تعرفي حاجة عن مستر بدر؟
رفعت رغدة حاجبيها باستغراب، ثم نهضت واقفة كأن المكان أصبح ضيقًا فجأة، وقالت:
-لـ... لأ، ما إنتي عارفه بقاله سنين مجاش هنا! ليه بتسألي؟
أجابت «رحمه» بصوت خافت، وعلى وجهها ارتسمت ابتسامة ماكرة:
-يعني... متعرفيش إذا كان هيروح العزبة ولا لأ، أو اتجوز ولا لسه؟
انفجرت رغدة بنفاد صبر واضح، وكأن السؤال فتح عليها بابًا ظنته أُغلق منذ زمن:
-وأنا مالي؟ يروح مايروحش! يتجوز ولا يقعد!
لو قصدك عشان كنت معجبة بيه زمان... فأنا كبرت، وفهمت... وندمانة جدًا على اللي عملته زمان... وحتى لو اتقدملي دلوقتي، مش هوافق عليه.
كانت كلماتها كطلقات، سريعة وغاضبة، ثم خرجت من الغرفة وهي تنفخ بضيق...
بقيت «رحمه» وحدها، تنهدت ببطء، ثم ابتسمت ابتسامة خفيفة وهي تتمتم بسخرية لطيفة:
-قال مش هتوافق عليه... ومش مهتمة إذا كان رايح ولا لأ!
ثم عادت للهاتف، كأنها تعود لجزء منها، وضغطت زر التشغيل مجددًا، فعاد صوت نادر ويحيى يملأ الغرفة، لكن هذه المرة، كانت رحمه تستمع لا للحوار فقط... بل لما خلفه، لظلال نبرة، وتنهيدة في الخلفية، وضحكة قصيرة جعلت عينيها تلمعان في صمت، لكنها سُرعان ما انتبهت لما تفعل، فأغلقت الهاتف وألقته بعيدًا عن يدها، وهي تتمتم:
-وبعدين معايا! هنرجع لقديمه تاني...
ثم أطلقت تنهيدة عميقة علها تقذف كل المشاعر خارج قلبها... ثم بدأت تستغفر، وأخر شيء نهضت لتتوضأ وتصلي وتدعو الله أن يثبت قلبها على طاعته ولا يشغلها بما يفتنها...
★★★★★
بعد يومين
انقلب الهدوء إلى ضجيج من الفخر، والصمت إلى تصفيق حار.
فبعدما وقف عامر على منصات العرض يُقدّم اختراعه _تلك المرآة الصندوقية العجيبة_ أمام لجان علمية ورجال أعمال وإعلاميين...
كانت الدهشة تملأ العيون، والانبهار يتجلى على الوجوه...
فكل جزء من الجهاز كان يُظهر عبقريته، وكل كلمة قالها كانت تُعلن أن هذا الشاب فكر خارج حدود المألوف.
وبسرعة، تسابقت الشركات إلى بابه... أكثر من رجل أعمال عرض تبني المشروع، وتطويره، وتسويقه عالميًا... أصبح الجهاز حديث الأروقة العلمية، وعناوين الأخبار.
بدأت وسائل الإعلام تتناقل القصة، والعناوين تتراكم:
"شاب مصري يبتكر مرآة ذكية تحدث نقلة في عالم التكنولوجيا!"
"عامر... من الحلم إلى الواقع."
وفي الشوارع، بدأ الناس يشيرون إليه بفخر كما لو أن نجاحه أصبح وسامًا يعلّقونه على صدورهم.
رجل مسنّ قال لابنه وهو يشير إلى الشاشة:
-الشاب ده جارنا... ساكن في آخر الشارع، كانوا بيلعبوا كورة قدام بيتنا زمان!
وفي إحدى البيوت، وقفت فتاة تبتسم وهي تُري زوجها صورة عامر:
-دا كان المدرّس بتاعي قبل ما يبقى دكتور جامعي... كنت دايمًا عارفة إنه هيبقى حاجة كبيرة!
لكن الأكثر غرابة، والأكثر طرافة، كان ما قاله أحد اللصوص المشهورين «تختخ» على منصة للتواصل الاجتماعي...
حيث ضحك تختخ وهو يخرج سيجارة من جيبه، يشعلها بنفَس ثقيل، ثم قال:
-عامر؟ ده حبيبي... قابلته في السجن، كنا قاعدين جنب بعض! بس حلف لي إنه كان مظلوم... وصدقته... أقولكم على الكبيرة؟ أنا حضرت كتب كتابه... آه والله، أنا ورجالتي كلهم... كنا بنرقص.... هو يمكن مش فاكرني، بس أنا فاكره كويس! ومستحيل أنساه... كان طول الوقت يقول إنه عالم وبيخترعلنا حاجه.
ضحك وهو ينفث دخان سيجارته، ثم أكمل:
-بس برافو عليه، رفع راسنا.
★★★★★★★
وأمام بيت «دياب» كان الوقت بعد العشاء...
والهواء باردٌ يعضّ الأصابع بأسنان خفية، كانت الحافلة البيضاء الكبيرة تنتظر، لرحلة طويلة إلى عزبة «البدري»، القابعة في أطراف محافظة قنا.
انشغل الرجال يضعون الحقائب والصناديق في جوفها، فيما انشغلت النساء بتفقّد الأغطية وزجاجات الماء والأكل.
وقف عامر إلى جوار عمرو، يتشارك معه فيديو لـ «تختخ» يتحدث بفخر عن عامر وعلاقته به.
ضحك «عامر» بصوت مرتفع وهو يلوّح بيده، وقال بمرح مشوب بالامتنان:
-يعني حتى لو نسيت كل حاجة... مستحيل أنسى إن عمي تختخ خطفني يوم كتب كتابي، وحضر الحفله وهو والعصابة كلها!
قهقه «عمرو»، وعيناه تلمعان بخفة:
-أهو عمك تختخ ده اللي شهرك يا عامر!
ابتسم «عامر» وهزّ رأسه كأنما يستسلم لغرابة القدر، وقال:
-سبحان الله... الدنيا غريبة.
كانت ضحكته دافئة، لكن خلفها شيء خافت لا يُرى...
عاد يشغّل المقطع مرة أخرى، ومرّر الهاتف إلى البقية، وكأنّه يوزّع الفرح على عائلته
امتزج صوت «تختخ» الصادح من الهاتف مع ضحكات العائلة المتناثرة، فارتسمت على الوجوه ابتسامات واسعة، تحمل طيفًا من الذكرى...
التفتت الأنظار إلى «عامر»، كأنما هو البطل في لحظة انتصار.
رفع ذقنه بخُيلاء طفيفة، كمن يلتقط لنفسه صورة في قمة الحلم... لقد وصل، حقق ما أراد... لكنّ...
بُترت لحظة النشوة حين وقعت عيناه على «تقى»، خارجة من باب البيت تحمل محمود بين ذراعيها، تتظاهر بابتسامة واهنة، لكنها لم تخدع عامر.
رآها كما هي، ابتسامة مرهقة، ونظرةٌ تنوء بانكسار عميق، وكأن كل لحظة ضحكٍ تمر من حولها تؤكد أنها تقف في الهامش.
خفض «عامر» رأسه، وتكدر وجهه ببطء... تلك اللحظة البسيطة حوّلت ضحكته إلى صمت.
قالها في نفسه، دون صوت: لكنها الحياة... لا تعطي كل شيء. لكلٍ رزقه المقسوم.
*********
ومن ناحية أخرى ظهرت سعيدة ترشقهم بنظراتها الفضولية، وهي تدور حول الحافلة، تسألهم عن وجهتهم، فأجابت وئام:
-رايحين العزبة عند الحاج البدري.
-آه... إنتوا فعلًا كل سنه بتروحوا في الميعاد ده... بس المره دي رايحين كلكوا؟ خير؟ هو مات ولا ايه؟
قالتها سعيدة بفضول جارف، لم ترد وئام وتظاهرت بانشغالها بوضع الإمتعة داخل الحافلة، وحين رأت سعيدة، شيرين تخرج من البيت اتجهت إليها وقالت وهي تضحك:
-رايحه عند أبوكي؟! بالله عليكي تسلميلي عليه.
قالت شيرين بنزق:
-يا حجه سعيده هو أنا اللي هعيده هزيده... قولتلك مش أبويا طلع تشابه أسماء مش أكتر.
ردت سعيده في سرعة وبحذاقة:
-طيب والصورة بقا؟ تشابه صور برده؟! أنا مش عارفه إنتِ مخبية عني ليه هو أنا فتانه؟
-أنا مقولتش كده..
ربتت شيرين على كتفها وتركتها حين ناداها رائد...
وبعد دقائق صعدوا للحافلة، ووقفت سعيدة تلوح لهما وهي تقول بصوت مرتفع:
-بالسلامه يا متواضعين... متتأخروش علينا... وسلميلي على أبوكي يا شيرين.
٭٭٭٭٭
وداخل الحافلة
هزت «شيرين» عنقها مستنكره وهي تتمتم بغيظ من سعيدة، كانت تجلس جوار «فاطمة» التي قالت وهي تضحك:
-لسه مصممه إنه أبوكي! ربنا يهديها... والله ست طيبه بس هي محتاجه تربط فرامل شويه.
ضحكت شيرين وربتت على يد فاطمة بابتسامة عذبة، فلم تتخيل يومًا أن علاقتها بها ستتحسن إلى هذا الحد لكنها القلوب تتقلب من حال إلى حال!
كانت العائلة مرصوصة على المقاعد كأنهم صورة عائلية مرسومة...
«دياب» يجلس جوار «ضياء» يرتديان عباءة متشابهة باللون الكحلي، و«شيرين» تجلس جوار «فاطمة» التي أخرجت الطعام من حقيبتها، تمده لتقى، التي تجلس قبالتها جوار عامر وتناغش محمود الصغير...
وخلفهما كانت سراب تجلس جوار عمرو، الذي مال نحوها وهمس:
-خلي بالك على اللي في بطنك.
-لو تقصد قلبي فأنا إديتهولك.
اتسعت حدقتاه وقال:
-ليه؟ هو قلبك في بطنك؟!
-أيوه أومال فين؟
-لأ... إحنا نسكت أحسن... قلبها في بطنها!!
غمغم بأخر جملة وهو يشيح وجهه بعيدًا عنها، فلكزته بمرح وقالت:
-بهزر معاك يا عم...
ضحك وهو ينظر إليها وقال:
-أنا فرحان أوي إنك بدأتي تستعيدي روحك المرحه... بس ياريت نبطل استظراف يعني أنا ممكن أستحملك لكن ذنبها إيه العيله.
-ملكش دعوه بالعيله... عيلتي حبيبتي بتحب كل حاجه مني...
ضحك وأمسك يدها وهو يدعو لها بالهداية...
بينما كان البقية يحيى ووئام ومحمد وهيام ورائد ونداء وأولادهم من حولهم يتبادلون أحاديث أخرى.
وكانت رحمه بالخلف تجلس جوار رغدة ومريم، تتحدث فيديو عبر الهاتف مع ريم ورامي، فقد سافروا لكندا مع أولادهم...
تتحدث بابتسامة:
-كلنا بخير... أيوه مسافرين...
انحنت رغدة تتحدث هي الأخرى:
-هاااااي...
وتدخلت مريم لتخبرهم أنهم في الطريق لعزبة البدري...
*********
❤❤❤❤❤
الحلقة الأخيرة (٢)
#رواية_عن_تراض
🍀🍀🍀🍀🍀
قبل البداية...
لا تنسوا الدعاء لإخواننا في فلســ 🌸 ـطين في هذه الأيام المباركة.
🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀
صلوا على خير الأنام🌸
***********
كان ليل الشتاء في وجه قبلي يخلّف وراءه بردًا ناعمًا في الصباحات، تصاحبه نسمات عليلة تفوح منها رائحة الطين والماء، ودفء شمس خجولة تنسلّ بين سعف النخل وأغصان الليمون...
ومع إشراقة شمس الصباح سار «نادر» بالعزبة فقد وصل مساء الأمس من القاهرة مع «بدر» لقضاء بعض الوقت في هذا المكان الهادئ الذي أصبح يعشقه ويأتي إليه كل فترة...
تأمل هدوء المكان من حوله كانت عزبة البدري فسيحة تمتد على مرمى البصر، حيث تكتسي الأرض وشاحًا أخضر من الحقول اليانعة، يتوسطها بيت البدري، بيتٌ شامخ الطلعة، يشبه القصر، كأنما نُزع من زمنٍ قديم ووُضع في قلب هذا السكون.
حوله تناثرت بيوت حجرية، لا يزيد أحدها عن طابق أو اثنين، تتجاور كأحجار شطرنج ناعسة تحت سماء فبراير.
النخيل أيضًا كان يقف في خشوع، باسقٌ كشاهدٍ على حياةٍ لا تنقطع، تتمايل سعفه ببطءٍ كأنه يُصغي لما تقوله الأرض.
والحقول من حوله ترتدي عباءتها الشتوية، يملأها القمح والفول، وتتناثر بقع خضراء لزراعات البرسيم والبصل والثوم، بينما يسير الفلاحون بخطًى وئيدة، يحملون مع معاولهم صبر السنين وأحاديث الجدود...
وبين الحقول، تجري مياه الري في جداول ضيقة، تلمع تحت الشمس، وتُسمع من بعيد خريرها الهادئ، أشبه بنغمة قديمة يعرفها كل من نشأ على هذه الأرض.
عاد للبيت مرة أخرى
وقف أمام سلمه الطويل، يلمس التمثال الحجري الذي يشبه أسد، عظيم الهيئة، جامد النظرة، كأنما نُحت ليحرس هذا المكان لا من الناس، بل من النسيان...
جلس على درجة السلم وفتح هاتفه ليتصفح اليوتيوب قليلًا فوقع أمامه مقطع ريلز لـ «سارا» تتحدث بحب عن زوجها «إسلام» فقد مرت الأعوام واشتُهرت «سارا» جدًا بمجال الفن والتمثيل وكذلك «إسلام» وأصبحوا حديث المنصات لأعوام...
همس نادر لنفسه:
-لو كنت كملت تمثيل مش كان زمانك مكان إسلام! وكان زمان منصات التواصل كلها بتقول الممثل الشهير نادر العميد يحب زوجته حبًا شديد.
قالها ساخرًا وضحك...
انتابه الفضول فأخذ يبحث عن أخر أخبارهما إلى أن وجد خبر بإدمان سارا للمـ.ـخد.رات، ودخولها المصحة كما كان هناك خبر أخر أن اسلام طلقها وأخذ ابنهما وسافر بل وتزوج بممثلة أخرى...
-لا حول ولا قوة الا بالله... الحمد لله الذي هدى قلبي، ربنا يهديهم... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
قالها «نادر» ثم ترك هاتفه ومسح وجهه وهو يستغفر الله...
وما هي إلا لحظات حتى لاحت له الحافلة تقترب من القصر، تثير الغبار وتُحرّك السكون.
ابتسم، ونهض واقفًا حين لمح «أروى» _ابنة نداء _ تُلوّح له من خلف النافذة الزجاجية، بعفويتها التي اعتادها.
لكن ابتسامته تلاشت سريعًا، وارتبك وجهه حين ظهرت على المقعد الخلفي، تلك التي قضى سنوات يتجنّب رؤيتها… «رحمة».
تسارعت نبضاته، ومرّت في خاطره كل تلك الليالي التي أمضاها في الفرار منها، لا كرها، بل خشية من شبح الماضي.
أيعقل أن اللقاء قد فُرض عليه الآن؟
ألم يأن لقلبه أن يبرأ؟
أليس من الإنصاف أن يمنح نفسه فرصة للسلام؟
أم أن الحكمة تقتضي الرحيل مجددًا؟
فقلبه لم يخذله يومًا في حنينه إليها،
ولم يتوقف، ولو للحظة، عن تتبّع أخبارها من بعيد، بصمت، وبلهفة لا تليق برجل ادّعى النسيان.
********
ترجلوا من الحافلة بخطى هادئة، تتناثر على جوانبها ابتسامات الفلاحين العذبة، لوّح لهم طفل صغير كان يختبئ خلف والده وسط الزرع، ثم انطلق يعدو نحو البيت، يصيح بحماس وهو ينادي كارم والبدري مبشّرًا بوصول الضيوف.
وما إن انفتح باب القصر حتى انطلق «بدر» هابطًا الدرج بخفة ولهفة، وعلى وجهه ابتسامة ترحيب...
ما لبث أن تبعه بقية الخدم، يصطفّون واحدًا تلو الآخر، يلقون التحية ويهرعون لحمل الأمتعة.
ورغم الحفاوة، بدا التوتر واضحًا على حركات «نادر»، تسلّل إلى ملامحه كضوء خافت يرتجف... لم يلبث أن انسحب من بين الجمع بخفة مرتبكة...
لاحظ «بدر» ارتباك صديقه، فقد كان يعرف قلب نادر ويقرأ صمته...
وفي غمرة الزحام، التقت عيناه بنظرة من «رغدة»، خاطفة، مشبعة بأكثر مما قيل...
رمقها بنظرة سارع بإخمادها، وبدورها لم تجرؤ على رفع عينيها مرة أخرى.
سرعان ما التقط بدر أنفاسه، وانتشل نفسه من دوامة اللحظة، فابتسم محاولًا كسر الصمت:
-آآ... اتفضلوا... العزبة كلها نورت بوصولكم.
تقدّم «يحيى» بخطوة واحتضن كتف بدر بمحبة صادقة، قائلاً:
-إنتوا هنا من إمتى؟
-وصلنا من القاهرة امبارح... كويس إنك جيت يا شيخ يحيى، عشان تصور مع نادر هنا بدل الشغل اللي عبر المسافات دي.
تجول بصر «يحيى» في المكان، مستنشقًا عبق الهواء العذب، ثم قال بانبهار صادق:
-فعلاً... المكان حلو أوي.
استغفروا 🌸
************
دلف البقية إلى البيت وانبهروا بجماله من الداخل؛ الأثاث الفخم، الإضاءة الدافئة، والرائحة الخفيفة التي تعبق بالمكان...
لكن ما أبهر سراب لم يكن البيت... بل هي.
«نرمين»...
كانت تقف هناك، بثبات غريب، ترتدي حجابًا بلون رمادي هادئ، لم يتغيّر فيها الكثير سوى لمعة في عينيها تشي بأنها صارت غير تلك الفتاة التي كانت تُسمي نفسها «هند»...
أقبلت نحو «سراب» بابتسامة صافية، كأنها تطوي بها سنوات الصمت، لكن سراب لم ترَ سوى شبح الماضي ينهض من تحت ملامحها، يقترب كلما اقتربت هي... وكأن قلبها ارتطم بجدار من الذكريات؛ أول لقاء، ثم اختفاء جدّها كارم، ثم حسين، وكل ما فعله بها...
ابتلعت «سراب» ريقها في توتر، تراجعت خطوة بخوف لا يُرى، ونظرت نحو «عمرو« تستنجد بعينيها المرتبكتين، لكنه كان منشغلًا بالسلام على البدري، لا يراها، لا يشعر بها.
ثم جاءت اللحظة، حين وقفت «نرمين» أمامها تمامًا، وقالت بصوت بدا طبيعيًا، لكنه طعن «سراب» في هشاشتها:
-أخيرًا اتقابلنا... إزيك يا سراب؟
وقبل أن تجيب سراب، اندفعت «نرمين» واحتضنتها...
هنا، مادت الأرض تحت قدمي «سراب»، تهدّل جسدها كأنه فقد كل قوامه، وغامت الرؤية في عينيها...
لم تُكمل العناق...
تهاوت فجأة، لكن «عمرو» لمحها في اللحظة الأخيرة، فانطلق نحوها قبل أن تصطدم بالأرض، محتضنًا جسدها المرتخي، وهو يصيح بفزع:
-سراب!
أخذ يربّت على خدّيها برفق، يحاول إيقاظها، بينما أسرع أحد الحضور بجلب قارورة عطر، ينثر منه على وجهها.
أما «نرمين»، فكانت قد تراجعت خطوتين، وقد أطبقت يدها على فمها، تنظر إلى ما يحدث بعينين ممتلئتين بالخوف، والندم، والشك.
بينما وقف باسل، زوجها، إلى جوارها، يربّت على كتفها دون أن ينطق...
وكان الخوفُ متجلّيًا على الوجوه، صامتًا لكنه حاضر، يثقل الصدور ويعقّد الأنفاس.
الكل يترقّب، يحدّق في ملامح «سراب» المغمى عليها، إلى أن تحركت جفونها ببطء... ثم فتحت عينيها.
لم تنطق...
بمجرد أن أدركت أين هي، تسلّلت يدها المرتجفة إلى ملابس عمرو، تشبثت به وكأنها تغرق، ثم انفــجرت باكية بصوت مكتوم...
لم يقل عمرو شيئًا، فقط أحاطها بذراعيه بحذر، كأنها شيء هشّ، يكاد يتفتت من اللمس.
اقترب منها «كارم» وما أن وقعت عيناها عليه أفلتت «عمرو»، واندفعت نحوه، احتضنته بذراعين مرتجفتين، دفنت وجهها في صدره، وتعلّقت بملابسه كما لو كانت تعود إلى بيتها الأول… بيتها الآمن...
وكان هو، رغم صدمته، يربت على ظهرها بصمت، وقد بدا التأثر جليًّا في عينيه الواسعتين...
ظل «عمرو» يراقب المشهد، دون أن يحاول التدخّل.
كان يعرف جيدًا… يعرف حجم ما تحمله.
هناك جرح في قلبها لم يندمل، جرح لم يُفتح مرة واحدة، بل تكرّر انشقاقه مع كل صدمة...
حاول كثيرًا أن يقنعها بالذهاب إلى طبيبة نفسية...
لكنها كانت تبتسم ابتسامة باهتة وتهمس:
"أنا كويسة يا عمرو… والله كويسة."
وهو يعرف… أنها ليست كذلك.
لم تكن بخير يومًا منذ بدأ الخوف يسكن نظرتها… ويطفئ صوتها، لكنه جوارها يحاول قدر استطاعته التعامل مع هشاشتها تلك....
رددوا
سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر 🌸
************
خارج البيت،
وقف «يحيى» على بُعد خطوات من الباب، ينتظر حتى دلف الجميع إلى الداخل...
ألقى نظرة سريعة على المكان من حوله، ثم التفت إلى «بدر» وهمس بنبرة دافئة تخالطها دعابة حانية:
-إيه بقى يا بدر؟ مش ناوي؟ مش هنفرح بيك ولا إيه؟
رفع «بدر» حاجبيه وابتسم ابتسامة شاحبة وهو يُخرج تنهيدة ثقيلة من صدره، ثم رد:
-هو أنا كنت في إيه ولا في إيه يا شيخ يحيى؟!
أومأ يحيى بتفهم، وملامحه تميل إلى الجد هذه المرة:
-عارف إنك مريت بفترة صعبة... بس أنت اتقدمت لـ«رغدة» زمان وسكت، ماكملتش ليه؟
ثم اقترب منه قليلًا وخفض صوته أكثر:
-عمي ضياء سألني عنك، عشان في عريس متقدملها.
انعقد حاجبا بدر، واتسعت عيناه بدهشة حقيقية:
-عريس؟!
-أيوه، البنت كبرت... لو مش واخد بالك!
قالها يحيى ثم مط فمه بينما سكن بدر للحظة، كأن شيئًا ما استيقظ داخله...
نظر أمامه دون تركيز، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة، فيها من الحنين قدر ما فيها من تسليم:
-طيب يا شيخي... أنا هكلم عمي ضياء.
ابتسم «يحيى» مطمئنًا، ووضع يده على كتف بدر برفق، ثم همس وكأنه يُلقي سرًا:
-وياريت تقول لـ«نادر» كمان يتوكل على الله،
مش هيلاقي حد زي رحمه...
ضحك «بدر» وهو يهز رأسه:
-والله يا شيخ، الواد ده واضح عليه أوي...
دا لما بييجي سيرة «رحمه»، عينه بتطلع قلوب!
ولا لما شافها دلوقتي؟ حاله اتشقلب، ووشه اتغير خالص...
ثم انفجر «بدر» بالضحك، بينما مدّ «يحيى» يده ولكزه في كتفه بخفة، وقال ضاحكًا بنبرة لا تخلو من العتاب المرح:
-خلاص بقى، مش هنشتغل نمامين! هو إحنا نحذر الناس من الغِيبة ونقع فيها؟!
ضحك «بدر» و«يحيى»، وتمايلت ضحكاتهما مع نسمات الصباح التي لفحتهما بلطف، فدخلا سويًا إلى البيت وهما يتبادلان نظرات ودّ صافية.
وما إن وطأت أقدامهما العتبة حتى تدارك «بدر» وجود باسل ونرمين في الداخل ولقائهما الأول مع العائلة، كانا يقفان في صمت متوتر قرب أحد الأركان...
بينما عمرو وسراب وكارم يجلسون جوار البدري وسراب تتشبث بملابس كارم...
وفي ركن أخر كان «شاهين» يقف متلبكًا قبالة «شيرين»، التي تعقد ذراعيها وصوتها يحمل نبرة استغراب ممزوجة بحدسٍ أنثوي لا يخطئ:
-غريبة! بتعمل إيه هنا يا شاهين؟
رمش عدة مرات، كمن فاجأه الضوء فجأة، ثم ردّ متلعثمًا وهو ينظر بعيدًا:
-آآ... كنت في شغل قريب وقلت أعدّي.
رفعت حاجبها، ولم تُجِب، فقط أومأت برأسها ببطء، ونظراتها تراقب وجهه، تبحث فيه عن صدقٍ لم تجده.
قالت أخيرًا، بنبرة أقل لِينًا:
-هو فيه إيه يا شاهين؟
تراجع خطوة للوراء، وكأن السؤال أربكه أكثر من اللازم، وابتلع ريقه بصعوبة، قبل أن يردّ:
-مـ... مفيش... هيكون في إيه يعني؟ أنا بس مستغرب إن كل العيله جت يعني إنتي ودياب عمركم ما جيتوا هنا!
أطرقت شيرين قليلًا، ثم رفعت عينيها ونظرت إليه بثبات:
-يعني يا أبو يونس مش عاوز تقولي حاجة مخبيها عني؟
سكت شاهين... تحركت شفتاه كمن همّ بالكلام، ثم تراجع...
ومرّت لحظة صمت طويلة، ثم تنهد وقال بصوت خافت:
-هقولك يا شيرين… بس توعديني الكلام ده يفضل بيننا.
نظرت إليه طويلًا، ثم أومأت، ونظرة القلق لم تفارِق وجهها.
أشار برأسه نحو غرفة جانبية، فتح الباب، ودخل أولًا، ثم وقف ممسكًا بالمقبض ينتظرها، قبل أن يُغلق الباب عليهما، ويبدأ في البوح...
بوحٌ ظلّ مؤجلًا لسنين، والآن لم يعُد يحتمل الكتمان.
لا حول ولا قوة الا بالله 🌸
*********
كان البدري يتأمل البيت وقد امتلئت أركانه بالحياة، واختلطت الضحكات بالأصوات...
جلست «سراب» إلى جوار «كارم»، تبتسم وقد هدأت أنفاسها، ثم ناولته «تقى» «محمود»، فضحك كارم بسعادة وهو يلاعبه...
ولكن لازال الندم ينهش قلبه لأنه تركهما وفكر يومًا في الإنتقام.
استجمعت «سراب» شجاعتها، ونهضت ببطء متجهة نحو «نرمين»، بينما كان «باسل» يجلس بين الرجال يراقب ابنه الصغير، ذو الخمسة أعوام، يركض في أرجاء البيت...
وكان بقية الأبناء يجولون في الأركان، يلتقطون الصور معجبون بجمال المكان..
*******
في إحدى الشرفات، وقفت سراب بجوار نرمين، تطالعان الأفق في صمتٍ ثقيل لكنه مريح، قبل أن تقطعه «سراب» بنبرة صافية:
-مبارك الحجاب، شكله جميل أوي عليكي.
ابتسمت «نرمين» بخجلٍ ناعم وقالت:
-لبسته من سنتين، أنا وباسل سافرنا واتبهدلنا شويه بس الحمد لله... أنا اتغيرت كتير و... وهو صبر عليا... وربنا رزقنا بـ مروان... عارفه يا سراب أنا كنت بدعي طول الوقت أشوفك عشان أعتذرلك... إحنا لما عرفنا إن حسين مات، رجعنا... ودلوقتي عندنا بيت في القاهرة.
-يعني بقالكم فترة هناك؟
-أيوه، وباسل بيشتغل مع بدر في الشركه.
قالتها نرمين، فنظرت إليها سراب برهة، تلمع في عينيها مشاعر مختلطة، ثم ابتسمت وقالت:
-فرحتلك... بجد... ربنا يوفقك يا نرمين.
ابتسمت نرمين وقالت برقة:
-ويوفقك إنتي كمان يا سراب.
ثم مدت نرمين يدها لتصافحها، فصافحتها سراب وضمتها...
********
وعلى نحوٍ أخر
ارتفع رنين هاتف «رحمة»، فقطّبت جبينها قليلًا قبل أن تنظر إلى رغدة وتقول:
-دي ماما...
بادرتها «رغدة» بابتسامة مشجعة وهمسة دافئة:
-ردي عليها، طمنّيها...
هزّت «رحمة» رأسها بخفة، ثم نهضت وخرجت بهدوء، تبحث عن ركن هادئ بعيدًا عن صخب الأصوات والضحكات...
وقفت عند السلالم، وضغطت على زر الرد.
-إزيك يا ماما... إحنا كويسين... آه، سافرنا... لأ، كله تمام... هكلمك تاني، ما تقلقيش.
أغلقت الخط، ثم وقفت لحظة تستجمع أنفاسها، كأن المكالمة القصيرة أيقظت فيها شيئًا دفينًا، تذكرت والدها فأطرقت لبرهة ومسحت دمعت تسللت لخارج عينيها قبل أن تستدير وتدخل للبيت...
من بعيد، كان «نادر» يراقبها من الشرفة...
لم يكن قريبًا بما يكفي ليسمع، لكنه رأى طريقة وقوفها، ارتباكها الخفيف، ولحظة الصمت التي أعقبت المكالمة...
ابتسم لنفسه، ثم تنفّس بعمق كمن يستعد لعبور خط لا عودة منه، وهمس داخله:
-كفاية كده... خد قرارك بقا يا نادر...
ثم تحرك للداخل، وقد بدا على ملامحه أنه أخيرًا اتخذ قراره...
استغفروا 🌸
★★★★
وفي المساء، وقبل أن تودّع الشمس السماء بلحظاتها الذهبية الأخيرة، اجتمعت العائلة في شرفة فسيحة تُطل على أراضٍ زراعية خضراء تمتد حتى الأفق...
كان الجو ساكنًا، تتخلله نسمات باردة لكنها عذبة، تعبق برائحة التراب والنبات، بينما جلسوا جميعًا يتابعون تصوير البودكاست الديني، حيث ظهر يحيى ونادر برفقة ضيفهما الثالث، «رائد».
وبدأ «نادر» بألقاء السلام ورحب بهما برسمية مذيع ثم قال:
"حين تثقل خُطانا نحو مكانٍ لم نرغبه، نجدنا هناك نبتسم بسعادة، وكأنّ المفاجآتِ الجميلة لا تُحبُّ من يسبقها بالتوقّع...
وحين نُرتّب اللقاء في خيالنا، ونرسمُ المشهد والموقف والكلمات، نفاجأ بأن كل شيءٍ جاء باهتًا، كأن الترقبَ يسرقُ من اللحظة سحرها.
لعلّ السرَّ أن الأقدار تميلُ إلى العفوية، وأننا حين نُفرِطُ في انتظاراتنا وخيالاتنا نُفسد على أنفسنا جمال الوصول.
عجيبٌ أمرُ القلب... يسعدُ حيث لم نرد، ويتعثّرُ حيث تمنّينا الوصول."
ابتسم «رائد» بعدما انتهى «نادر» وقال مازحًا:
-عميق جدًا... شكلك هتنافسني بعد كده يا نادر.
ضحك الثلاثة للحظة، لكن سرعان ما عادوا إلى الجدية... قال «نادر» بنبرة هادئة:
-والنهارده حلقتنا مهمة جدًا... هنتكلم عن الخيال، وتأثيره على الواقع... وازاي الإفراط فيه ممكن يفسد علينا حياتنا، وإزاي ممكن يكون شخص مدمن خيال ومحتاج يتعالج منه... ونبدأ بالسؤال الأول...
أخذ «نادر» نفس عميقًا ثم نظر إلى «يحيى» وسأله:
-بحس أحيانًا إني لما أتحمس لحاجة وأفكر فيها كتير، أرتب لها وأحلم بيها، أول ما أوصل لها مش بحس بالسعادة اللي كنت متخيلها؟ يعني مثلًا، لو أنا متحمس لسفرية أو زيارة مكان جديد، ممكن أفضل طول الليل صاحي من الفرحة، لكن لما أوصل ألاقي الموضوع عادي، أو حتى أقل من العادي... ساعتها بحس إن في حاجة غلط، كأنّي كنت في السما ونزلت فجأة على الأرض... هل الخيال هو السبب؟ هو اللي خلاني أتعشم وأطير، وبعدين سابني أقع مثلًا؟
تبادل «يحيى» نظرة سريعة مع «رائد» وابتسم قائلًا بمرح:
-الإجابة عند الكاتب الكبير... الروائي المعروف، صاحب رواية "ردي حتب".
ابتسم «رائد»، لكنه صمت هنيهة...
مرّ شريط الذكريات في ذهنه؛ الكابوس الذي اجتاح أسرته قبل سنوات، والكتاب الذي اختفى فجأة، والرواية التي كتبها بعدها كنوعٍ من التحذير لمن قد يمرّ بنفس ما مرّوا به.
نظر «رائد» إلى «نادر» مطولًا، كأنّه يستعد ليختار كلماته بدقة ثم ابتسم وقال بصوت هادئ فيه لمحة من الألم المألوف:
-إنت مش لوحدك... كلنا مرينا بالإحساس ده، وده طبيعي أكتر مما تتخيل... اللي بيحصل يا نادر، إن العقل البشري لما يتخيل حاجة، بيديها ألوان زاهية، تفاصيل مثالية، إحساس مصقول بالأمل وبيمحي أي لمحة ألم... لما بتعيش في في الخيال بيبقا كأنك بترسم لوحة جميلة... بس للأسف الواقع مش لوحة... الواقع مهما كان حلو فيه لمحة تعب، عشان كده لوحة الخيال مهما كانت صح هتكون تفاصيلها ناقصة... فلما ندخل المشهد الحقيقي بنتصدم... أو زي ما إنت قولت كده تبقى طاير في خيالك ولما تفتح تلاقي نفسك على الأرض عادي...
قال نادر:
-يعني كده معنى الكلام ده أبطل خيال؟
-أنا مقولتش كده... الخيال مطلوب جدًا...
قالها «رائد» ثم نظر ليحيى وقال مبتسمًا:
-إيه رأيك يا مولانا؟ إدلي بدلوك.
تحدث يحيى بحكمة:
-فعلًا الخيال مطلوب، إحنا محتاجين ندرك إن أي حاجة في الدنيا لو زادت عن حدها، بتتقلب ضدها... الخيال شيء ضروري... بنتخيل وإحنا بندعي، وإحنا بنخطط، وإحنا بنتمنى... بنتخيل الجنة علشان نشتاق ليها ونعمل اللي يقربنا منها، وبنتخيل النار علشان نخاف منها ونبعد عن اللي يجرنا ليها وكمان بنتخيل المستقبل علشان نتحرك... لكن المشكلة بتبدأ لما الخيال يتحول من أداة لتحفيزنا، لهروب دائم من الواقع... أو لو بقى بديل عن التجربة الحقيقة.
سكت قليلاً، ثم تابع:
-الخيال نفسه مش مشكلة المشكلة بتكون في الناس اللي عايشه أصلًا في الخيال، طول الوقت بتحلم... والمشكله الأكبر لما الخيال يبني توقعات مش موجودة، ومستحيل تبقى موجودة فيحكم علينا بالإحباط قبل ما نبدأ نعيش أصلًا.
قال نادر:
-والسؤال نعمل إيه يا شيخ يحيى؟
تنهد يحيى ثم قال بهدوء:
-اولًا عليك أن تُدرك أن للخيال أوقات! يعني مش طول الوقت عايش في الخيال وفي عالم لوحدك من أحلام اليقظه وبتجيلنا الواقع في المناسبات...
ابتسم «يحيى»، حمحم ونظر لرائد ثم قال:
-كثيرًا ما كان رائد يسألني عن الخيال وعالم الروايات وكنت أقول له؛ إياك وإدمان الخيال احرص أن تتحكم في نفسك، وفي وقتك لأنك ستُسأل عليه حين تلقى الله، وأن تعرف لماذا تقرأ وما رسالتك حين تكتب؟ ثم افعل ما تشاء...
سأل نادر:
-يعني يا شيخ أتحكم في وقتي وأقرأ بقا أي حاجه.
رد يحيى في سرعة:
-أن تقرأ رواية أو كتاب يعني أن تسلّم قلبك وعقلك لكاتب، ليقوده حيث يشاء؛ يبكيك، يضحكك، يسعدك أو يحزنك... فاختر جيدًا لمن تمنحه هذا الامتياز... كم سمعنا عن شخص تغير قلبه وتزعزع دينه بعد قراءته كتاب أو رواية... القراءة زاد العقل فاختر زادك جيدًا...
تدخل نادر متظاهرًا بالإعتراض:
-بس معلش يا شيخ يحيى... أنا بقرأ كنوع من الترفيه والتسلية يعني لما أقرأ رواية بكون عارف إني داخل أتسلى شويه... يعني بغض النظر عن الدين والمجتمع والعادات والتقاليد وحدود المنطق يعني لو مثلًا كانت بتحكي عن أرنب بيطير فأنا هكون بقرأ كتسلية لكني متأكد إن الأرنب عمره ما هيطير...
ابتسم يحيى ورد:
-طيب إن الأرنب يطير ممكن نتقبلها عادي لكن.... ازاي هنتقبل نقرأ روايه بتحكي مثلًا عن بقرة والناس بتعبدها وإنت مستني طول الروايه ومتشوق جدًا عشان البقره دي تنقذ الناس والكاتب خلاص برمج عقلك إنك تستنى... وعلى فكرة دا مثال من دماغي فيه حاجات تانيه أطم من كده... يعني لو رواية بتحكي عن عادات محرمة وبتقول إنها عادية زي الرقص والغنى وشرب الخمر.... ها إي رأيك؟
صمتوا هنيهة، فأردف يحيى مخاطبًا نادر:
-اتفضل رد...
-ما هو مش واقع بقا... دا خيال... هو حتى الخيال هتحرموه علينا!
قالها نادر وهو يضحك، فتدخل رائد:
-طيب أرد أنا... يا نادر للخيال حدود كما أن لكل شيء حدودًا، فيجب أن نعي أن لكل شيء نهاية يجب الوقوف عندها... ومجال لا يجب تجاوزه... فالعين ترى، لكن لا تبصر كل شيء... والأذن تسمع، لكن لا يصلها كل الأصوات... حتى العقل، يقف مشدوهًا أمام أسئلة لا يملك لها جوابًا... وسأظل أردد، لعلّ صوتي يصل، الخيال بلا حدود الدين كبيتٍ بلا أسوار، لا يمنع ولا يحجب، ولا يُقيَّد، وما أجمل أسوار الدين حين نقف عندها لنتأمل...
ظلوا فترة يتحدثون في سكينة ووقار، تنبع من كلماتهم طمأنينة تشبه ذلك المساء البسيط المليء بالسكينة والانتماء.
حتى نظر نادر للكاميرا وقال:
-الخلاصه يا جماعه ناخد بالنا من اللي بنتخيله أو بنقراه لانه بيأثر علينا حتى لو احنا مش حاسين بده... وفي فترة من الفترات هيطفو على السطح...
وقال رائد بابتسامة:
-وزي ما حصل في رواية "ردي حتب" لما الكتاب كان بيأثر على اللي بيقرأه فيتعمى ومكنش بيرجع نور عينه إلا بالقرآن اعرفوا إن لو فيه رواية أو كتاب عمى بصيرتك سواء كنت ملاحظ أو مش ملاحظ، مش هيرجعلك النور إلا بالقرآن... فقوم اسمع قرآن واقرأ قرآن... وإياك ياخدك الترفيه من عبادتك اللي إنت مخلوق عشانها.
وقال يحيى:
-وتذكر أن المباح لغيرك قد يكون ممنوع لك، وإن زاد المباح عن حده قد يتحول إلى حرام، فاستفتي قلبك... استفتي قلبك... استفتي قلبك...
كررها يحيى أكثر من مرة ثم أضاف:
"و... دع الأوهام واستيقط، واترك طريق الشيطان، واعلم بأن الأيام تحلو برضا الرحمان ولا تتبع الهوى، واسلك طريق القرآن."
وما أن انتهى التصوير صفق الجميع...
كان كارم يجلس جوار البدري يحمل محمود، وكان البدري يبدل نظره بين تلك العائلة التي ملئت البيت حياة، والإبتسامة تزين محياه...
وتمتم:
-الحمد لله.
وتداخلت الأصوات والتساؤلات عن الخيال، وانقسموا أربعة فرق؛ مؤيد ومعارض، ولم يفهم، ولا يكترث...
استغفروا 🌸
**********
في الخلف، كانت رغدة تقف وحدها، تقرض أظافرها بتوتر.
قبل دقائق، انسحب جدها «ضياء» بصحبة «بدر» إلى زاوية بعيدة وانخرطا في حديث بدا جادًا من ملامحهما.
زحفت عينا «رغدة» نحوهما بتوجّس، وفور أن التقت نظراتها بنظرة جدها، أشار لها بإيماءة هادئة أن تقترب، تظاهرت بأنها لم تفهم لكنه رفع يده يشير لها وهو يناديها...
شعرت بلعابها يثقل في حلقها، فابتلعته بصعوبة، ثم سارت بخطوات مرتبكة نحوهما، وقلبها يكاد يثب من بين أضلعها.
وما إن وصلت، حتى بادرها جدها بنبرة مباشرة:
-البشمهندس بدر اتقدملك يا رغدة.
اتسعت عيناها في صدمة، ولم تلتفت حتى إلى بدر، بل اندفعت تقول بسرعة متعثّرة:
-هه! لأ... آآ... أنا مش موافقة.
بدا على بدر أنه لم يُفاجأ، بل ابتسم بهدوء وكأنّه توقّع ردها، وقال بلطف:
-ممكن أعرف السبب؟
ترددت، ارتبكت، ثم قالت وهي تتجنب النظر إليه:
-عشان... عشان أنا كبرت وفهمت... وبعدين... أنا مش عايزة أتكلم الموضوع انتهى... عن إذنك يا جدو...
واستدارت فجأة، تكاد الدموع تقفز من عينيها، فهرولت مبتعدة حتى لا تنهار أمامهما.
تنهّد بدر، ثم التفت إلى ضياء واستأذنه بإيماءة قصيرة، قبل أن يلحق بها مناديًا:
-رغدة! استني بس...
ظل ضياء واقفًا في مكانه، يتابع بنظره خطوات بدر السريعة، وصوتيهما البعيدين، وهما يتحادثان...
في عينيه تأمل عميق، كأنه يرى مشهدًا يعرف نهايته لكنه لم يتدخل...
********
كان «يحيى» و«رائد» يتحدثان مع «نادر» يشجعانه على أخذ خطوة أيضًا، ورغم أنه قد قرر سلفًا أنه سيأخذ خطوة لكنه تظاهرًا بلإعتراض ثم قال وكأنه اقتنع بكلامهما:
-ماشي يا جماعه اللي تشوفوه بقا... اتفقوا مع بابا وماما وجدها وجدتها وأنا موافق... أمري لله... عشان خاطركم.
ضحكوا وعبث يحيى بشعر نادر وهو يقول:
-يا سلام عشان خاطرنا!... على الله هي بس توافق عليك.
رفع نادر يديه لأعلى ودعى بلهفة:
-يارب يارب... يارب يا شيخ.
فضحك الثلاثة، وفجأة أضاء هاتف يحيى برسالة من آدم:
«عندي طلب وأتمنى مترفضش، أنا لسه شايف الحلقة بتاعت الخيال دي وقررت أعيش في الواقع بقا، أستحلفك بالله يا شيخي توافق أنا بقالي سنين مابنامش من الخيال وذنبي في رقبتك لو رفضت لأني عايز أتوب، من غير مقدمات كتير أنا معجب ببنتك، جوزني مريم يا شيخ يحيى وأنا مش هطلب منك حاجه تاني خالص طول ما أنا عايش.»
ابتسم يحيى، وابتعد قليلًا ثم سجل على الفور:
"انزل من السفر الأول ونتكلم في الموضوع ده... وكمان نشوف موضوع الخيالات اللي عندك دي."
ارسل آدم في سرعة نصًا:
"نازل الأسبوع الجاي... بس لو قولت انك موافق."
كتب يحيى:
"لو عليا موافق، بس هشوف مريم!"
أرسل آدم:
"طيب ماينفعش أشوفها أنا؟"
كتب يحيى على الفور:
"لأ مينفعش إلا لو أنا قاعد جنبها."
"طيب ينفع تقعد جنبها دلوقتي وأتصل عليك؟"
ابتسم يحيى، وصمت هنيهة وهو يبحث بعينيه عن مريم كانت تجلس على طرف المقعد الخشبي، وحدها، تقرأ في مصحفها الصغير بصوت خفيض، وكأن العالم قد انزوى عنها تمامًا...
فأرسل:
"دقيقتين واتصل ياخويا."
ثم تقدم نحوها بخطى وئيدة، جلـس إلى جوارها بهدوء فرفعت رأسها، وابتسمت على الفور...
ردّ الابتسامة بمثلها، ثم مال نحوها وقال بصوت خافت:
-متقدملك عريس، إيه رأيك؟
اتسعت عيناها قليلًا، ثم أطرقت، وقالت بعد لحظة تردد، بصوت خجول أقرب إلى الهمس:
-الرأي رأيك يا بابا.
-طيب مش تسألي مين العريس؟
هزت كتفيها بخفة دون أن ترفع نظرها عن الأرض:
-طالما قولتلي إن فيه عريس يبقا حد مناسب.
-مش عارف الصراحه مناسب ولا ايه؟
قبل أن ترد، قطع رنين الهاتف اللحظة... نظر يحيى إلى الشاشة، ثم قال ضاحكًا:
-أهو العريس بيرن أهوه...
احمر وجه مريم، وأطرقت حياء، تلمست طرف عباءتها بأصابع مضطربة...
رفع يحيى الهاتف وردّ، وهو لا يزال ينظر إلى وجهها:
-عليكم السلام إزيك يا دكتور آدم...
نطق الاسم ببطء، وهو يراقب تعبير وجه ابنته، التي لم تقوَ على كبح الابتسامة الصغيرة التي أفلتت منها رغم محاولتها الواضحة. رآها، وفهم، فابتسم بعمق وقال:
-اتفضل معاك مريم...
هزت رأسها سريعًا، تنفي رغبتها في الحديث، وشفتيها تتحركان بشيء خافت لم يسمعه، لكنه فهمه.
قال يحيى بمرح، وهو يرفع صوته قليلًا ليسمع آدم:
-معلش بقا يا آدم مريم شكلها مش موافقه.
فهمست مريم:
-هصلي استخاره الأول.
-طيب هنستخير الأول يا آدم...
واصل الحديث مع آدم، يسأله عن أحواله وأخباره، بينما كانت مريم لا تزال تطرق، تعبث بأطراف المصحف وقد غطى الحياء ملامحها...
وحين أغلق يحيى الهاتف، التفت إليها، وضمها في حضنه بحنان أبٍ يعرف ما يدور في قلب ابنته، ثم طبع قبلة دافئة على جبينها، وهمس:
-ربنا يكتبلك الخير يا مريوم...
كانت مريم في حضنه، تبتسم بصمت، وقلبها يخفق بصوت لا يسمعه سواها.
*********
وعلى نحوٍ آخر،
وقف «عامر» فجأة، صفق بيديه ليطلب الانتباه، ثم صاح:
-يا جماعة ركزوا معايا... أخيرًا، بعد تفكير طويل، قررت أسمي الاختراع بتاعي: "اختراع عن تراضٍ".
ساد لحظة صمت خفيفة، ثم تداخلت الأصوات:
-لأاا...
-الله!
-حلو الاسم.
-يعني إيه؟
-مش لايق.
بدأت الحوارات الجانبية تتصاعد، كلٌّ يفسّر الاسم من زاويته.
وقف عامر في المنتصف، يلتفت من صوتٍ إلى آخر، يبتسم أحيانًا، ويعبس أحيانًا أخرى، لكنه كان يستمع للجميع، كان يود مشاركة الجميع... لكن داخله كان هناك ما يؤرق فؤاده ولا يستطع مشاركته مع أحد.
على الطرف، كان كارم يجلس إلى جوار البدري، يتابعان الموقف من بعيد...
التقت نظراتهما، وابتسما في هدوء...
كانت تلك الابتسامة تحوي شيئًا أكبر ربما امتنانًا خفيًّا، وسلامًا ناعمًا يغمر الصدر، كأن كل شيء وصل أخيرًا إلى مكانه الصحيح.
أما بدر، فحانت منه التفاتة نحو رغدة التي أطرقت خجلًا وابتسمت...
كانت قد أخبرته بأنها ستفكر، لكن نظراتها الوادعة قالت ما لم تجرؤ الكلمات على الإفصاح به.
نعم، كانت موافقة... دون أن تنطق.
التفت بدر ناحية نادر، فرآه جالسًا إلى قبالة رحمة وضياء، يتحدث مع رحمه...
ابتسم بدر برضا، ثم همس لنفسه بخشوع:
-اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك.
ثم رفع عينيه نحو شاهين، الجالس بجوار شيرين،
وكان واضحًا، في ملامحها الهادئة، أنها تقبلت ما قاله بصدرٍ رحب...
وكيف لا؟
وهي التي اعتادت أن تفهم الجميع، أن تضمّهم تحت جناحها، وتمنحهم من حنانها ما يكفي لشفاء صدورهم الصامتة.
وقضت العائلة وقت ممتع بعزبة البدري بين ضحكات وأحاديث ودعابات بعيدًا عن صخب الحياة وأوجاعها، يتذكرون ما مروا به ويبتسمون وهم يحكون عنه.
ــــــــــــــ
وستظل الحكايات تُروى، ما دامت الحياة تهمس في الآذان كل صباح،
وما دامت القلوب تنبض بالأمل، ولو خافتًا.
لن تُكتب كلمة "النهاية"،
لأن كل فجرٍ بداية،
وكل خطوة، فرصة أخرى...
لأن نبدأ من جديد.
