رواية مداهنة عشق الفصل الثانى و العشرون 22 بقلم اسماء ايهاب

 

رواية مداهنة عشق الفصل الثانى و العشرون بقلم اسماء ايهاب




اخذت تجول بالغرفة كاملة ، القلق يتأجج بداخلها ، وهي تمسك بالهاتف محاولةً التواصل مع شقيقتها دون فائدة . زفرت بضيق ، حاولت الاتصال بفارس ليطمئنها عليها ، لكن النتيجة ذاتها : " الهاتف مغلق او خارج نطاق الخدمة " . 
نفت برأسها ، وقد تبدلت ملامحها إلى الخوف ، ثم أسرعت تأخذ الحاسوب المحمول لتحجز تذكرة سفر إلى دبي عبر الإنترنت .
حمدت الله على توافر طائرة متجهة إلى دبي بعد ساعتين فقط ، و همت بترتيب حقيبتها و الاستعداد للسفر لتذهب بنفسها للاطمئنان على شقيقتها .
على صوت طرقات الباب ، تلاه صوت العاملة تطلب إذن الدخول ، تنهدت بقوة و هي تأخذ حقيبة السفر الكبيرة تضعها على الفراش ، ثم توجهت لفتح الباب . 
تحدثت العاملة على عجل ، مشيرة بيدها نحو الاسفل قائلة :
_ في ظابط عايز حضرتك تحت و مصمم يقابلك يا هانم 

ضغطت على جفنيها بغيظ شديد ، و قد تعرفت على الفور علي هوية الضابط ؛ من غيره "قاسم" الذي يخرج أمامها بكل مكان ؟
اومأت إلى العاملة ، و هو تتحدث من بين اسنانها المطبقة بعنف :
_ تمام انا نازلة 

أخذت أنفاسها بهدوء ، تبث في نفسها قليلاً من الشجاعة ، لتُنهي هذا الوضع برمته ، و تمزق صفحة الماضي دون عودة .
خطت خطى ثابتة نحو الاسفل ، لا يظهر علي وجهها سوى الجمود ، حتى وقفت أمامه .
كان يرتدي زي الشرطة الرسمي ؛ طلته البهية التي لم تراها من قبل ، جعل قلبها يخفق بقوة ، دون إرادة منها . عيناها المشتاقتان أخذتا تجولان علي وجهه الوسيم .

_ ازيك يا آسيا ؟

قالها بصوت هادئ ، لكنه مرتجف قليلاً ،او ربما متردد .. لتفيق من حالة الهيام التي كانت بها ، و تنظر إليه شزرًا ، تعقد ذراعيها أمام صدرها ، و ترد بحسم :
_ انا قولتلك مش عايزة اشوف وشك تاني ، اطلع برا 

تنحنح مرتبكًا ، جالت عيناه على أنحاء الردهة قبل أن يتحدث من جديد :
_ انا جاي بصفة رسمية 

قطبت حاجبيها بتعجب ، و انزلت يدها إلى جوارها بتوتر ، متسائلة :
_ صفة رسمية ازاي يعني !!

صمت هُنيهة ، يبتلع ريقه بصعوبة في محاولة منه للهدوء ، و تحدث بصوت هادئ حتى لا يفزعها :
_ أسيل محمود التهامي اختك عملت حادثة و هي في المستشفي و لأن محدش عارف رقم لأهلها قولت اجي ابلغك بنفسي 

شهقت ، واضعة يدها علي فمها ، ارتجف جسدها بالكامل كأن عاصفة ضربته ، ثم اقتربت منه ببطء ، قدماها بالكاد تحملانها، لتسأله بصوت تخنقه العبرات :
_ هي كويسة حصلها حاجة 

حاول التهرب من الإجابة التي قد تؤلمها أن علمت حقيقتها ، فربت على كتفها بحنو ، قائلاً :
_ انا جاي اخدك تطمني عليها بنفسك 

هزت رأسها بإيجاب مرات عدة ، و قد شحب وجهها بخوف ، بينما راحت عبراتها تتساقط بصمت على وجنتيها .
توجهت معه نحو الخارج بصمت ، لم تشعر بنفسها و هي تصعد السيارة ، كانت غارقة في دوامة افكار سوداوية تكتب لها أسوأ السيناريوهات عن حادثة شقيقته ، لم تنتبه لتفاصيل الطريق ، فقط الشعور بالقلق يتضحم في صدرها حتى شعرت بتوقف السيارة .
نزلت بصمت ، و تبعت خطواته داخل المشفى ، كلما اقترب خطوة ، كلما شعرت بقلبها يخفق اسرع ، و التهمها الخوف اكثر .
ثم .. توقفت أمام باب معين .
شخصت عيناها على اللافتة المعلقة علي الحائط المدون عليها "قسم الطب الشرعي" 
ثقل تنفسها ، و اخذ صدرها يعلو و يهبط بقوة ، و قد استوطن الفزع ملامحها ، إذ ايقنت انها علي مشارف معرفة حقيقة مؤلمة .
التفتت إليه بسرعة ، و هي تنفي برأسها في رعب ، لكن ملامحه كان تحمل من الأسف ما لم تتحمله .
أدار المقبض و فتح الباب ببطء ، ثم همس بصوت خافت يعتذر أنه يقدمها للألم بيده للمرة الثانية :
_ أنا آسف 

تقدم هو أولاً ، و تبعته بخطى مرتجفة ، حتي وصلا إلى طاولة مسطحة طويلة بمنتصف الغرفة .
مدت يدها المرتجفة تمسك بقطعة القماش البيضاء ، ترفعها ببطء كاشفة عن وجه شقيقتها الشاحب ، لم تحتمل .. خانتها قدماها ، فسقطت علي ركبتيها جوار الطاولة ، عيناها معلقتان علي وجه أسيل الفاقد لكل معالم الحياة الذي كان سابقًا ممتلئ بالحيوية ، و كأنها تنتظر منها أن تفتح عيناها و تخبرها أنها تمزح ليس إلا .
خرجت أنفاسها محملة بشهقات خافتة ، و تسابقت عبراتها علي وجنتيها .
مدت يدها نحو جسدها البارد تهزه ، لعلها تستفيق ، تهمس بصوت متحشرج :
_ أسيل ... قومي عشان خاطري 

رفعت عيناها نحوه بتيه ، تنفي برأسها و كأنها تخبره أن شقيقتها لا تستفيق . تقدم يجلس إلى جوارها على الأرض ، حاوطها بذراعه يُربت علي كتفها بحنو .
حينها خرج منها تأوه متألم كصرخة مذبوحة قبل أن تنفجر في بكاء مرير ...
ارتفعت شهقاتها الباكية ، يدها تتشبث بتلقائية بسترته ، تتحدث إليه برجاء :
_ قولها أن لسة بدري اوي ، قولها إني مليش غيرها و الله 

ضمها إلى صدره اكثر ، يشعر بالحزن على حالتها البائسة ، و قد وضح موت شقيقتها الضعف الكامن خلف قوتها الزائفة ، ثم همس متعاطفاً :
_ وحدي الله يا آسيا 

ارتفع صوتها فجأة ، تردد توحيد الله مرارًا بانهيار تام .
ساعدها علي الوقوف علي قدميها حين حاولت ذلك ، فنظرت إلى وجه شقيقتها من جديد لدقيقة كاملة ، قبل أن تنحني لتحتضن جسدها المتجمد برفق ، كأنها تخشى أن تتألم ، تمرر يدها بحنو على خصلات شعرها ، تهمس متألمة :
_ انا بحبك اوي .. مكنتش عايزاكِ تسبيني بدري كدا 

مرت دقيقة تلاها أخري ، و لم تتحرك ساكنة فوق جسد شقيقتها ، صوت أنفاسها العالي اصبح غير مسموع ، مما جعل القلق ينزع ثبات قاسم ، فاقترب منها يرفعها إليه ببطء ، لتسقط بين يديه فاقدة للوعي . 
سقط قلبه صريع لرؤيتها بهذا الشكل ، فحملها بين ذراعيه متوجهًا نحو الخارج ، حتى يسعفها أحد الأطباء .

***********************************
بغرفة التحقيق الراقية التي يسودها اللون الأسود، كان يجلس فارس علي المقعد أمام المكتب ، و كان الضوء الأبيض يؤلم عينيه المتورمتين ، و تزيد من حدة صداعه الذي ينخر رأسه ، صوت بكائه مسموع ، ينظر إلى يده الملطخ بدماء زوجته ، عيناه متسعة غير مصدق إلى الآن أنه قضى علي حياة أسيل بيده .
لا يستجيب إلى تكرار أسئلة المحقق ، كأن الكلمات تتناثر حوله دون ان تخترق أذنه ، و كأنه بعالم آخر ، لا يتكرر أمام عينه سوى مشهد دمائها التي هُدرت علي الأرض .
كرر المحقق سؤاله على مسامع فارس لعله يجيب هذا المرة ، حين قال :
_ اية اللي دفعك لقتل زوجتك المجني عليها أسيل محمود التهامي ؟

نفى برأسه مرات عدة ، و كأنه بذلك سينفي التهمة عن نفسه. 
راقب المحقق وجهه الباكي ، و عينه المتورمة يحاوطها كدمة زرقاء ، و جانب شفتيه مجروح يتراكم عليه الدماء الجافة ، ثم هتف من جديد :
_ اهدى من فضلك عشان تقدر تحكي تفاصيل الواقعة 

الجملة كانت قاسية عليه كصفعة قوية افاقته من دوامة ذكرياته السوداء . انتفض قلبه من مضجعه ، التفت إلى المحقق بسرعة ، يتحدث بتلعثم :
_ انا عمري ما اعمل كدا في أسيل 

استند المحقق بظهره إلى الخلف ، يعبث بالقلم بين أصابعه ، ثم تحدث متسائلاً :
_ طب يبقي مين اللي عملها و قتل المجنى عليها ؟

اعتدل فارس بجلسته من جديد ، لكم فخذيه بقوة ، ارتسمت الحسرة و الأسى علي ملامحه :
_ أمير السبب .. أمير هو السبب في كل حاجة 

تحدث المحقق مستفسراً :
_ مين أمير و ازاي هو السبب ؟ وضح كلامك 

اومأ اليه فارس ، و أخذ أنفاسه بهدوء ، و بدأ يسترسل الحديث يروي كل ما حدث :
_ أمير البدراوي دا رجل أعمال كان خطيب أسيل الاولاني ، هو كان خاطف أسيل و هو بعتلي مكانها و لما روحت حبسني معاها انا كان معايا مطواة عشان ادافع بيها عن نفسي و عنها .. امبارح قررنا نهرب بأي شكل عشان كدا دخلنا الراجل اللي كان بيحرسنا عشان احبسه مكانا و نخرج احنا بس هو كان اقوى مني 

أشار إلى وجهه المكدوم و اردف قائلاً :
_ بس انا قومت بعد كدا حاولت اهجم عليه بالمطواة و فجأة لقيت أسيل وقفت بنا و المطواة جت بالغلط فيها و ماتت في دقيقتين 

حين انهى حديثه ، تجدد انهياره و عادت عبراته تتساقط من عينه بألم أصاب قلبه ، اومأ إليه المحقق و سأل بهدوء :
_ في حد شاهد معاك علي كلامك 

نفى فارس برأسه ، يمرر يده علي وجهه يمحو دموعه ، ثم أجاب :
_ الحارس ذات نفسه كان شايف كل حاجة و لما لقاها بتموت قفل علينا الباب و مشى و سمعته بعدها بيبلغ عنى و قبل ما البوليس يجي فتحلنا الباب .

تنهد المحقق ، ثم التفت إلى الشاب الذي يجلس جواره يدون ما يُقال ، و أملى عليه قائلاً :
_ يتم حبس المتهم اربعة ايام علي ذمة التحقيق و يراعى التجديد في الميعاد 

***********************************
فتحت عيناها بغتة ، و شهقت بفزع ، تخترق حدة الظلام الذي يبتلعها . جلست على فراش المشفى تنظر حولها بتيه .
ثم ، بدون سابق إنذار انفجرت بالبكاء بحدة .
كانت تعتقد أنها تهرب من كابوس داهم نومها الهادئ ، فوجدته واقعًا مؤلمًا يعتصر قلبها علي فراق شقيقتها الوحيدة .
دخل قاسم إلى الداخل سريعاً حين أستمع إلى صوت بكائها بعدما كان يتحدث بالهاتف . جلس على طرف الفراش يحاوط وجهها بين كفيه ، و همس بحنان :
_ اهدي يا آسيا و خدي نفس 

صرخت بحرقة ، رغم تعثرها بشهقات بكائها المرتفعة ، تضرب علي صدره بقبضتها بوهن :
_ هي ماتت ازاي حصلها اية في دبي 

أمسك بيدها يمسد عليها برفق حتي تهدأ ، ثم تحدث بجدية :
_ أسيل مكنتش في دبي ، فارس بيقول في التحقيقات أنها كانت مخطوفة 

اتسعت عيناها بذهول ، لقد أخبرتها شقيقتها أنها ...
كانت تتحدث عبر الإنترنت ، لذلك لم يكن هناك رقم تعلم منه أن كانت بمصر ام غادرت البلاد ، صوتها كان غريبًا ، لم يكن مرهقًا من السفر بل كان مرتجفًا من الخوف !
لم تلاحظ اي من ذلك ، اغرورقت عيناها بالعبرات من جديد و هي تهتف مستفسرة :
_ مين خطفها مين اللي موتها ؟ .. اتكلم

تحدث بهدوء مختصرًا :
_ فارس ضربها بالغلط بالمطواة و ماتت 

صاحت بصدمة :
_ فارس !!

أبعدته عنها بعنف ، لتبتعد عن الفراش مسرعة نحو باب الغرفة . أمسك بيدها يوقفها شاعرًا بالقلق عليها ، ثم سأل :
_ رايحة فين بس انتِ لسة دايخة 

دفعته إلى الخلف بقوة ، ليتراجع خطوة مبتعدًا ، قالت بحدة :
_ اوعى ، هروح لفارس 

اقترب منها مجددًا ، يربت علي كتفها ، قائلاً :
_ طب اهدي انا هاخدك القسم 

ذهبت معه بخطى متعثرة ، كأنها ستسقط بأي لحظة . لذا أمسك بيدها يعاونها علي السير ، حتي وصل إلى سيارته .
ما أن صعدا السيارة حتي انطلق سريعًا نحو قسم الشرطة ، وصلا بعد عدة دقائق ، و كانت تتأجج بهم نيرانها المستعرة .
اتجهت فور توقف السيارة إلى الداخل ، و تبعها هو سريعاً محاولًا السيطرة على غضبها . حين كانت على وشك السؤال عن مكان فارس ، وجدته يخرج من أحد الغرف يأسره الجندي بالأصفاد . تقدمت بكل ما بداخلها من حقد اتجاهه ، صفعته صفعة قوية ، دوى صوتها بالمكان ، تلاه صوت أنفاسها اللاهثة متبوعًا بصوتها الحاد ، تصرخ به :
_ أقسم بالله ، هقتلك و اجيب حقها يا فارس !

اقترب قاسم سريعاً ، طرق ذراعيها خلف ظهرها ، مكبلًا حركتها ، في حين مر فارس الذي لم يأخذ اي ردة فعل من أمامها ، ينظر إليها بحزن قد ارتسم بعيناه ، و صوتها يعلو كلما ابتعد حتي يصل إليه :
_ انا حذرتها منك مليون مرة .. مسمعتش كلامي ، و الله العظيم ما هسيبك يا فارس لو فيها موتي مش هسيبك .

انتزعت نفسها من بين يدي قاسم ، أخذت أنفاسها اللاهثة ، تبعد بعصبية خصلات شعرها إلى الخلف ، لتتحرك بخطوات سريعة خارج قسم الشرطة ، في حين تنهد قاسم بثقل و اتبعها حتي لا تسبب لنفسها بأذى او يصيبها مكروه 

***********************************
خرج آدم من غرفته ، يتبع خطوات والدته ، بعد أن طلب منها الذهاب معه لخطبة رُقية . جلست السيد سحر علي الاريكة ، وقد ارتسم الغضب علي ملامحها . اغمض عينيه بقوة ، متحدثًا بإصرار :
_ لو سمحتِ يا ماما ، انا مصمم علي رقية مهما حصل ... لو مجتيش معايا براحتك بس هتبقي خسرتيني للابد

التفتت إليه بسرعة ، تتحدث بضيق :
_ انت بتهددني يا آدم ؟

نفى برأسه ، و أجابها بهدوء :
_ لا يا ماما انا مبهددش بس انا مش هسمح لاي حد يبوظلي حياتي تاني 

اتسعت عيناها بصدمة ، و أشارت إلى نفسها ، متسائلة :
_ انا اللي بوظتلك حياتك يا آدم 

وقف آدم عن الأريكة ، يواليها ظهره ، يتحدث بجدية :
_ اظن انك عارفة دا كويس ، انتِ اكتر واحدة عارفة انا بحب رقية قد اية و مع ذلك بوظتي جوازتي منها 

تحرك بخطواته الهادئة نحو باب غرفته الموصد ، يستند عليه ، يعقد ذراعيه أمام صدره ، و يردف بتحذير :
_ و دا اللي مش هسمح بيه تاني ، لو متجوزتش رقية مش هتجوز غيرها 

ضربت السيد سحر الطاولة أمامها بكف يدها بقوة ، و صرخت بحدة :
_ و أنا مش هقبل اجوزك واحدة اقل منك في كل حاجة 

ضحك بتهكم ، و قد وضحت إليه الأمور . افسدت زواجه ممن يحب لأجل حديث الأصدقاء و الجيران ، فسدت حياته فقط لأنه اكمل دراسته الجامعية و أصبح طبيبًا ، بينما هي لم يكن لها عائل لتكمل دراستها الثانوية !
أشار بسبابته في دائرة وهمية ، متحدثًا بغضب :
_ يعني كل اللي حصلنا انا و هي عشان أنا ظروفي سمحت ادخل جامعة ! 

رفع رأسه إلى الأعلى يلتقط أنفاسه بهدوء ، حتى لا يتطاول بحديثه ، ثم همس بصوت يغلب عليه الأسى :
_ دا أنتِ الوحيدة اللي شوفتي حالتي لما عرفنا أنها اتخطبت ، انا كنت حاسس أن هيجرالي حاجة 

تجلى الندم علي ملامح والدته للحظات ، قبل أن تخفيه ببراعة ، تشيح برأسها عن مرمى بصره ، ليتقدم نحوها من جديد ، قائلًا :
_ أنا هروح أتقدم لرُقية بليل ، لو غيرتي رأيك و حبيتي تيجي معايا بلغيني 

انحنى يأخذ مفاتيحه عن الطاولة ، و تحرك متجهًا إلى باب الخروج ، انتفضت مستقيمة ، تسأل بلهفة :
_ أنت رايح فين ؟

تنهد بثقل ، و فتح باب المنزل ، قائلًا دون أن يلتفت إليها :
_ رايح عند خالتي ، هقعد عندها يومين 

أغلق الباب خلفه بقوة ، تاركًا إياها تنصهر من أشتعال الندم برأسها ، تنهشها ذكرى خطبة رُقية برأسها ، و كيف كانت حالة آدم وقتها .

************************************
دلفت إلى منزلها متشحةً بالسواد ، عبراتها عالقة على وجنتيها المتوهجتين بالاحمرار ، عيناها شاخصتان لا تحيدان عن أمامها . لقد انتهت للتو من مراسم دفن جثمان شقيقتها . صعدت الدرج بخطى هادئة ، و ببال شارد كأنها مغيبة عن الواقع ، لم تسمع حتى صوت جدها الذي يناديها ، و لم تشعر بصديقتها التي تسير خلفها .
فتحت باب غرفتها ، و توجهت بخطوات متعثرة نحو الفراش الذي استقبل جسدها المرهقة برحابة صدر ، تسطحت علي ظهرها ، و أغمضت عينيها المتورمتين من أثر البكاء .
تقدمت جنة منها ، و جلست إلى جوارها علي الفراش ، انحنت و أحاطت كتفها تضمها بحنان إلى صدرها ، و ألقت علي مسامعها بعض الكلمات التي تدخل الهدوء إلى نفسها .
طرقات على باب الغرفة ، تلاها دخول السيد نجيب ، و خلفه قاسم . جلس الجد إلى جوارها من الطرف الآخر ، يربت علي كتفها بحنو ، قائلًا :
_ استهدي بالله و ادعيلها بالرحمة يا آسيا 

لم يصدر منها حرف ، عبراتها تتسابق نحو الوسادة ، تنظر إلى الأعلى دون أن ترمش حتى . نظر قاسم إليها بقلق بالغ ، سأل بتوتر :
_ آسيا أنتِ سمعانا ، مش كدا ؟

ظلت صامتة تحدق في الفراغ دون إعطاء أي ردة فعل ، حتى نهش الخوف قلبهم عليها . 
اضطجعت على جانبها كزهرة ذابلة من شدة الألم ، وهمست بخمول :
_ عايزة أنام ، سيبوني لوحدي .

اغمضت عينيها مستسلمةً للنوم ، وسط ذهولهم من ردة فعلها ، تبادلوا النظرات لوهلة ، قبل أن يغادر ثلاثتهم الغرفة . أغلق الجد الباب خلفه بهدوء ، و نظر إلى قاسم ، قائلاً :
_ شكرًا على تعبك معانا ، ياريت تبلغني بأي تطور في القضية 

أومأ إليه قاسم ، و مد يده ليحيي السيد نجيب ، ثم أنصرف خارج المنزل ، تاركًا عقله و قلبه لديها ، يود لو أخبره أنه سيبقى هنا حتى تفيق ، و لكنه لم يجرأ على ذلك . 

وصل بسيارته إلى منزل والديه ، استقبلته والدته التي هللت ببهجة لقدومه ، ابتسم ببهوت ، يجلس إلى جوارها علي الأريكة . حدقت والدته في وجهه الذي يرتسم عليه الحزن و الألم ، متسائلة بقلق :
_ مالك يا قاسم ، أنت تعبان ؟

نفى برأسه ، و تنهد بثقل شديد يجثو فوق صدره ، ثم تحدث بهدوء :
_ أنا محتاج اتكلم معاكِ كدكتورة أمل مش كأمي 

رحبت السيدة أمل بالفكرة ، و اقتربت منه ، تربت علي كتفه برفق تحثه على الحديث . أعاد رأسه إلى الخلف ، ثم بدأ يسترسل لها قصته مع آسيا ، و كيف اتضح له أنه قد حقق انتقامًا وهميًا منها . انتهى من سرد كامل التفاصيل ، يختم حديثه بضيق :
_ أنا عارف اني غلطت و أن دا تهور ميجيش من ظابط ، بس ابنك السبب هو لو كان معرفنا كل حاجة عن حياته مكنش كل دا حصل 

مسدت السيدة أمل علي ذراعه ، و تحدثت متسائلة :
_ طب و هي أخبارها اية دلوقتي بعد موت اختها ؟

أن بقهر ، يميل بجسده نحو الأمام ، قائلًا :
_ في دنيا تانية .. حاسس إني شايف واحدة تانية قدامي مش آسيا اللي عرفتها .. ضعفها النهاردة زود إحساسي بالذنب 

ابتسمت السيدة أمل ، ثم أمسكت بيده تضغط عليها برفق ، قائلة :
_ بكرا كل حاجة هتتصلح ، أنا هروحلها و أتكلم معاها يمكن تخرج من الحالة اللي هي فيها .

تنهد بارتياح ، دنى يقبل يدها بحب ، قائلًا :
_ أنا واثق أنك هتقدري تخرجيها من حالتها دي 

التفت حوله ، يبحث بعينه عن عُدي ، متسائلًا :
_ عدي فين ؟ نايم و لا اية ؟

نفت والدته ، ثم أجابته بهدوء :
_ لا عدي أخد البنت اللي كانت شغالة معانا هنا ، و راح البيت التاني بيقول أن أنت اللي قولتله 

كاد أن يتحدث ، حتى وجد صوت الهاتف يصدح بجيب سترته ، أخرج الهاتف ، و أجاب بحماس حين وجد رقم صديقه عمرو :
_ أيوة يا عمور ، اية الأخبار عندك طمني ؟

ابتهج وجهه ، و اتسعت ابتسامته باغتباط ، قائلًا :
_ جايلك حالاً ، دا أنا مستني اللحظة دي من زمان .

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1