رواية مداهنة عشق الفصل الثانى و العشرون بقلم اسماء ايهاب
اخذت تجول بالغرفة كاملة ، القلق يتأجج بداخلها ، وهي تمسك بالهاتف محاولةً التواصل مع شقيقتها دون فائدة . زفرت بضيق ، حاولت الاتصال بفارس ليطمئنها عليها ، لكن النتيجة ذاتها : " الهاتف مغلق او خارج نطاق الخدمة " .
نفت برأسها ، وقد تبدلت ملامحها إلى الخوف ، ثم أسرعت تأخذ الحاسوب المحمول لتحجز تذكرة سفر إلى دبي عبر الإنترنت .
حمدت الله على توافر طائرة متجهة إلى دبي بعد ساعتين فقط ، و همت بترتيب حقيبتها و الاستعداد للسفر لتذهب بنفسها للاطمئنان على شقيقتها .
على صوت طرقات الباب ، تلاه صوت العاملة تطلب إذن الدخول ، تنهدت بقوة و هي تأخذ حقيبة السفر الكبيرة تضعها على الفراش ، ثم توجهت لفتح الباب .
تحدثت العاملة على عجل ، مشيرة بيدها نحو الاسفل قائلة :
_ في ظابط عايز حضرتك تحت و مصمم يقابلك يا هانم
ضغطت على جفنيها بغيظ شديد ، و قد تعرفت على الفور علي هوية الضابط ؛ من غيره "قاسم" الذي يخرج أمامها بكل مكان ؟
اومأت إلى العاملة ، و هو تتحدث من بين اسنانها المطبقة بعنف :
_ تمام انا نازلة
أخذت أنفاسها بهدوء ، تبث في نفسها قليلاً من الشجاعة ، لتُنهي هذا الوضع برمته ، و تمزق صفحة الماضي دون عودة .
خطت خطى ثابتة نحو الاسفل ، لا يظهر علي وجهها سوى الجمود ، حتى وقفت أمامه .
كان يرتدي زي الشرطة الرسمي ؛ طلته البهية التي لم تراها من قبل ، جعل قلبها يخفق بقوة ، دون إرادة منها . عيناها المشتاقتان أخذتا تجولان علي وجهه الوسيم .
_ ازيك يا آسيا ؟
قالها بصوت هادئ ، لكنه مرتجف قليلاً ،او ربما متردد .. لتفيق من حالة الهيام التي كانت بها ، و تنظر إليه شزرًا ، تعقد ذراعيها أمام صدرها ، و ترد بحسم :
_ انا قولتلك مش عايزة اشوف وشك تاني ، اطلع برا
تنحنح مرتبكًا ، جالت عيناه على أنحاء الردهة قبل أن يتحدث من جديد :
_ انا جاي بصفة رسمية
قطبت حاجبيها بتعجب ، و انزلت يدها إلى جوارها بتوتر ، متسائلة :
_ صفة رسمية ازاي يعني !!
صمت هُنيهة ، يبتلع ريقه بصعوبة في محاولة منه للهدوء ، و تحدث بصوت هادئ حتى لا يفزعها :
_ أسيل محمود التهامي اختك عملت حادثة و هي في المستشفي و لأن محدش عارف رقم لأهلها قولت اجي ابلغك بنفسي
شهقت ، واضعة يدها علي فمها ، ارتجف جسدها بالكامل كأن عاصفة ضربته ، ثم اقتربت منه ببطء ، قدماها بالكاد تحملانها، لتسأله بصوت تخنقه العبرات :
_ هي كويسة حصلها حاجة
حاول التهرب من الإجابة التي قد تؤلمها أن علمت حقيقتها ، فربت على كتفها بحنو ، قائلاً :
_ انا جاي اخدك تطمني عليها بنفسك
هزت رأسها بإيجاب مرات عدة ، و قد شحب وجهها بخوف ، بينما راحت عبراتها تتساقط بصمت على وجنتيها .
توجهت معه نحو الخارج بصمت ، لم تشعر بنفسها و هي تصعد السيارة ، كانت غارقة في دوامة افكار سوداوية تكتب لها أسوأ السيناريوهات عن حادثة شقيقته ، لم تنتبه لتفاصيل الطريق ، فقط الشعور بالقلق يتضحم في صدرها حتى شعرت بتوقف السيارة .
نزلت بصمت ، و تبعت خطواته داخل المشفى ، كلما اقترب خطوة ، كلما شعرت بقلبها يخفق اسرع ، و التهمها الخوف اكثر .
ثم .. توقفت أمام باب معين .
شخصت عيناها على اللافتة المعلقة علي الحائط المدون عليها "قسم الطب الشرعي"
ثقل تنفسها ، و اخذ صدرها يعلو و يهبط بقوة ، و قد استوطن الفزع ملامحها ، إذ ايقنت انها علي مشارف معرفة حقيقة مؤلمة .
التفتت إليه بسرعة ، و هي تنفي برأسها في رعب ، لكن ملامحه كان تحمل من الأسف ما لم تتحمله .
أدار المقبض و فتح الباب ببطء ، ثم همس بصوت خافت يعتذر أنه يقدمها للألم بيده للمرة الثانية :
_ أنا آسف
تقدم هو أولاً ، و تبعته بخطى مرتجفة ، حتي وصلا إلى طاولة مسطحة طويلة بمنتصف الغرفة .
مدت يدها المرتجفة تمسك بقطعة القماش البيضاء ، ترفعها ببطء كاشفة عن وجه شقيقتها الشاحب ، لم تحتمل .. خانتها قدماها ، فسقطت علي ركبتيها جوار الطاولة ، عيناها معلقتان علي وجه أسيل الفاقد لكل معالم الحياة الذي كان سابقًا ممتلئ بالحيوية ، و كأنها تنتظر منها أن تفتح عيناها و تخبرها أنها تمزح ليس إلا .
خرجت أنفاسها محملة بشهقات خافتة ، و تسابقت عبراتها علي وجنتيها .
مدت يدها نحو جسدها البارد تهزه ، لعلها تستفيق ، تهمس بصوت متحشرج :
_ أسيل ... قومي عشان خاطري
رفعت عيناها نحوه بتيه ، تنفي برأسها و كأنها تخبره أن شقيقتها لا تستفيق . تقدم يجلس إلى جوارها على الأرض ، حاوطها بذراعه يُربت علي كتفها بحنو .
حينها خرج منها تأوه متألم كصرخة مذبوحة قبل أن تنفجر في بكاء مرير ...
ارتفعت شهقاتها الباكية ، يدها تتشبث بتلقائية بسترته ، تتحدث إليه برجاء :
_ قولها أن لسة بدري اوي ، قولها إني مليش غيرها و الله
ضمها إلى صدره اكثر ، يشعر بالحزن على حالتها البائسة ، و قد وضح موت شقيقتها الضعف الكامن خلف قوتها الزائفة ، ثم همس متعاطفاً :
_ وحدي الله يا آسيا
ارتفع صوتها فجأة ، تردد توحيد الله مرارًا بانهيار تام .
ساعدها علي الوقوف علي قدميها حين حاولت ذلك ، فنظرت إلى وجه شقيقتها من جديد لدقيقة كاملة ، قبل أن تنحني لتحتضن جسدها المتجمد برفق ، كأنها تخشى أن تتألم ، تمرر يدها بحنو على خصلات شعرها ، تهمس متألمة :
_ انا بحبك اوي .. مكنتش عايزاكِ تسبيني بدري كدا
مرت دقيقة تلاها أخري ، و لم تتحرك ساكنة فوق جسد شقيقتها ، صوت أنفاسها العالي اصبح غير مسموع ، مما جعل القلق ينزع ثبات قاسم ، فاقترب منها يرفعها إليه ببطء ، لتسقط بين يديه فاقدة للوعي .
سقط قلبه صريع لرؤيتها بهذا الشكل ، فحملها بين ذراعيه متوجهًا نحو الخارج ، حتى يسعفها أحد الأطباء .
***********************************
بغرفة التحقيق الراقية التي يسودها اللون الأسود، كان يجلس فارس علي المقعد أمام المكتب ، و كان الضوء الأبيض يؤلم عينيه المتورمتين ، و تزيد من حدة صداعه الذي ينخر رأسه ، صوت بكائه مسموع ، ينظر إلى يده الملطخ بدماء زوجته ، عيناه متسعة غير مصدق إلى الآن أنه قضى علي حياة أسيل بيده .
لا يستجيب إلى تكرار أسئلة المحقق ، كأن الكلمات تتناثر حوله دون ان تخترق أذنه ، و كأنه بعالم آخر ، لا يتكرر أمام عينه سوى مشهد دمائها التي هُدرت علي الأرض .
كرر المحقق سؤاله على مسامع فارس لعله يجيب هذا المرة ، حين قال :
_ اية اللي دفعك لقتل زوجتك المجني عليها أسيل محمود التهامي ؟
نفى برأسه مرات عدة ، و كأنه بذلك سينفي التهمة عن نفسه.
راقب المحقق وجهه الباكي ، و عينه المتورمة يحاوطها كدمة زرقاء ، و جانب شفتيه مجروح يتراكم عليه الدماء الجافة ، ثم هتف من جديد :
_ اهدى من فضلك عشان تقدر تحكي تفاصيل الواقعة
الجملة كانت قاسية عليه كصفعة قوية افاقته من دوامة ذكرياته السوداء . انتفض قلبه من مضجعه ، التفت إلى المحقق بسرعة ، يتحدث بتلعثم :
_ انا عمري ما اعمل كدا في أسيل
استند المحقق بظهره إلى الخلف ، يعبث بالقلم بين أصابعه ، ثم تحدث متسائلاً :
_ طب يبقي مين اللي عملها و قتل المجنى عليها ؟
اعتدل فارس بجلسته من جديد ، لكم فخذيه بقوة ، ارتسمت الحسرة و الأسى علي ملامحه :
_ أمير السبب .. أمير هو السبب في كل حاجة
تحدث المحقق مستفسراً :
_ مين أمير و ازاي هو السبب ؟ وضح كلامك
اومأ اليه فارس ، و أخذ أنفاسه بهدوء ، و بدأ يسترسل الحديث يروي كل ما حدث :
_ أمير البدراوي دا رجل أعمال كان خطيب أسيل الاولاني ، هو كان خاطف أسيل و هو بعتلي مكانها و لما روحت حبسني معاها انا كان معايا مطواة عشان ادافع بيها عن نفسي و عنها .. امبارح قررنا نهرب بأي شكل عشان كدا دخلنا الراجل اللي كان بيحرسنا عشان احبسه مكانا و نخرج احنا بس هو كان اقوى مني
أشار إلى وجهه المكدوم و اردف قائلاً :
_ بس انا قومت بعد كدا حاولت اهجم عليه بالمطواة و فجأة لقيت أسيل وقفت بنا و المطواة جت بالغلط فيها و ماتت في دقيقتين
حين انهى حديثه ، تجدد انهياره و عادت عبراته تتساقط من عينه بألم أصاب قلبه ، اومأ إليه المحقق و سأل بهدوء :
_ في حد شاهد معاك علي كلامك
نفى فارس برأسه ، يمرر يده علي وجهه يمحو دموعه ، ثم أجاب :
_ الحارس ذات نفسه كان شايف كل حاجة و لما لقاها بتموت قفل علينا الباب و مشى و سمعته بعدها بيبلغ عنى و قبل ما البوليس يجي فتحلنا الباب .
تنهد المحقق ، ثم التفت إلى الشاب الذي يجلس جواره يدون ما يُقال ، و أملى عليه قائلاً :
_ يتم حبس المتهم اربعة ايام علي ذمة التحقيق و يراعى التجديد في الميعاد
***********************************
فتحت عيناها بغتة ، و شهقت بفزع ، تخترق حدة الظلام الذي يبتلعها . جلست على فراش المشفى تنظر حولها بتيه .
ثم ، بدون سابق إنذار انفجرت بالبكاء بحدة .
كانت تعتقد أنها تهرب من كابوس داهم نومها الهادئ ، فوجدته واقعًا مؤلمًا يعتصر قلبها علي فراق شقيقتها الوحيدة .
دخل قاسم إلى الداخل سريعاً حين أستمع إلى صوت بكائها بعدما كان يتحدث بالهاتف . جلس على طرف الفراش يحاوط وجهها بين كفيه ، و همس بحنان :
_ اهدي يا آسيا و خدي نفس
صرخت بحرقة ، رغم تعثرها بشهقات بكائها المرتفعة ، تضرب علي صدره بقبضتها بوهن :
_ هي ماتت ازاي حصلها اية في دبي
أمسك بيدها يمسد عليها برفق حتي تهدأ ، ثم تحدث بجدية :
_ أسيل مكنتش في دبي ، فارس بيقول في التحقيقات أنها كانت مخطوفة
اتسعت عيناها بذهول ، لقد أخبرتها شقيقتها أنها ...
كانت تتحدث عبر الإنترنت ، لذلك لم يكن هناك رقم تعلم منه أن كانت بمصر ام غادرت البلاد ، صوتها كان غريبًا ، لم يكن مرهقًا من السفر بل كان مرتجفًا من الخوف !
لم تلاحظ اي من ذلك ، اغرورقت عيناها بالعبرات من جديد و هي تهتف مستفسرة :
_ مين خطفها مين اللي موتها ؟ .. اتكلم
تحدث بهدوء مختصرًا :
_ فارس ضربها بالغلط بالمطواة و ماتت
صاحت بصدمة :
_ فارس !!
أبعدته عنها بعنف ، لتبتعد عن الفراش مسرعة نحو باب الغرفة . أمسك بيدها يوقفها شاعرًا بالقلق عليها ، ثم سأل :
_ رايحة فين بس انتِ لسة دايخة
دفعته إلى الخلف بقوة ، ليتراجع خطوة مبتعدًا ، قالت بحدة :
_ اوعى ، هروح لفارس
اقترب منها مجددًا ، يربت علي كتفها ، قائلاً :
_ طب اهدي انا هاخدك القسم
ذهبت معه بخطى متعثرة ، كأنها ستسقط بأي لحظة . لذا أمسك بيدها يعاونها علي السير ، حتي وصل إلى سيارته .
ما أن صعدا السيارة حتي انطلق سريعًا نحو قسم الشرطة ، وصلا بعد عدة دقائق ، و كانت تتأجج بهم نيرانها المستعرة .
اتجهت فور توقف السيارة إلى الداخل ، و تبعها هو سريعاً محاولًا السيطرة على غضبها . حين كانت على وشك السؤال عن مكان فارس ، وجدته يخرج من أحد الغرف يأسره الجندي بالأصفاد . تقدمت بكل ما بداخلها من حقد اتجاهه ، صفعته صفعة قوية ، دوى صوتها بالمكان ، تلاه صوت أنفاسها اللاهثة متبوعًا بصوتها الحاد ، تصرخ به :
_ أقسم بالله ، هقتلك و اجيب حقها يا فارس !
اقترب قاسم سريعاً ، طرق ذراعيها خلف ظهرها ، مكبلًا حركتها ، في حين مر فارس الذي لم يأخذ اي ردة فعل من أمامها ، ينظر إليها بحزن قد ارتسم بعيناه ، و صوتها يعلو كلما ابتعد حتي يصل إليه :
_ انا حذرتها منك مليون مرة .. مسمعتش كلامي ، و الله العظيم ما هسيبك يا فارس لو فيها موتي مش هسيبك .
انتزعت نفسها من بين يدي قاسم ، أخذت أنفاسها اللاهثة ، تبعد بعصبية خصلات شعرها إلى الخلف ، لتتحرك بخطوات سريعة خارج قسم الشرطة ، في حين تنهد قاسم بثقل و اتبعها حتي لا تسبب لنفسها بأذى او يصيبها مكروه
***********************************
خرج آدم من غرفته ، يتبع خطوات والدته ، بعد أن طلب منها الذهاب معه لخطبة رُقية . جلست السيد سحر علي الاريكة ، وقد ارتسم الغضب علي ملامحها . اغمض عينيه بقوة ، متحدثًا بإصرار :
_ لو سمحتِ يا ماما ، انا مصمم علي رقية مهما حصل ... لو مجتيش معايا براحتك بس هتبقي خسرتيني للابد
التفتت إليه بسرعة ، تتحدث بضيق :
_ انت بتهددني يا آدم ؟
نفى برأسه ، و أجابها بهدوء :
_ لا يا ماما انا مبهددش بس انا مش هسمح لاي حد يبوظلي حياتي تاني
اتسعت عيناها بصدمة ، و أشارت إلى نفسها ، متسائلة :
_ انا اللي بوظتلك حياتك يا آدم
وقف آدم عن الأريكة ، يواليها ظهره ، يتحدث بجدية :
_ اظن انك عارفة دا كويس ، انتِ اكتر واحدة عارفة انا بحب رقية قد اية و مع ذلك بوظتي جوازتي منها
تحرك بخطواته الهادئة نحو باب غرفته الموصد ، يستند عليه ، يعقد ذراعيه أمام صدره ، و يردف بتحذير :
_ و دا اللي مش هسمح بيه تاني ، لو متجوزتش رقية مش هتجوز غيرها
ضربت السيد سحر الطاولة أمامها بكف يدها بقوة ، و صرخت بحدة :
_ و أنا مش هقبل اجوزك واحدة اقل منك في كل حاجة
ضحك بتهكم ، و قد وضحت إليه الأمور . افسدت زواجه ممن يحب لأجل حديث الأصدقاء و الجيران ، فسدت حياته فقط لأنه اكمل دراسته الجامعية و أصبح طبيبًا ، بينما هي لم يكن لها عائل لتكمل دراستها الثانوية !
أشار بسبابته في دائرة وهمية ، متحدثًا بغضب :
_ يعني كل اللي حصلنا انا و هي عشان أنا ظروفي سمحت ادخل جامعة !
رفع رأسه إلى الأعلى يلتقط أنفاسه بهدوء ، حتى لا يتطاول بحديثه ، ثم همس بصوت يغلب عليه الأسى :
_ دا أنتِ الوحيدة اللي شوفتي حالتي لما عرفنا أنها اتخطبت ، انا كنت حاسس أن هيجرالي حاجة
تجلى الندم علي ملامح والدته للحظات ، قبل أن تخفيه ببراعة ، تشيح برأسها عن مرمى بصره ، ليتقدم نحوها من جديد ، قائلًا :
_ أنا هروح أتقدم لرُقية بليل ، لو غيرتي رأيك و حبيتي تيجي معايا بلغيني
انحنى يأخذ مفاتيحه عن الطاولة ، و تحرك متجهًا إلى باب الخروج ، انتفضت مستقيمة ، تسأل بلهفة :
_ أنت رايح فين ؟
تنهد بثقل ، و فتح باب المنزل ، قائلًا دون أن يلتفت إليها :
_ رايح عند خالتي ، هقعد عندها يومين
أغلق الباب خلفه بقوة ، تاركًا إياها تنصهر من أشتعال الندم برأسها ، تنهشها ذكرى خطبة رُقية برأسها ، و كيف كانت حالة آدم وقتها .
************************************
دلفت إلى منزلها متشحةً بالسواد ، عبراتها عالقة على وجنتيها المتوهجتين بالاحمرار ، عيناها شاخصتان لا تحيدان عن أمامها . لقد انتهت للتو من مراسم دفن جثمان شقيقتها . صعدت الدرج بخطى هادئة ، و ببال شارد كأنها مغيبة عن الواقع ، لم تسمع حتى صوت جدها الذي يناديها ، و لم تشعر بصديقتها التي تسير خلفها .
فتحت باب غرفتها ، و توجهت بخطوات متعثرة نحو الفراش الذي استقبل جسدها المرهقة برحابة صدر ، تسطحت علي ظهرها ، و أغمضت عينيها المتورمتين من أثر البكاء .
تقدمت جنة منها ، و جلست إلى جوارها علي الفراش ، انحنت و أحاطت كتفها تضمها بحنان إلى صدرها ، و ألقت علي مسامعها بعض الكلمات التي تدخل الهدوء إلى نفسها .
طرقات على باب الغرفة ، تلاها دخول السيد نجيب ، و خلفه قاسم . جلس الجد إلى جوارها من الطرف الآخر ، يربت علي كتفها بحنو ، قائلًا :
_ استهدي بالله و ادعيلها بالرحمة يا آسيا
لم يصدر منها حرف ، عبراتها تتسابق نحو الوسادة ، تنظر إلى الأعلى دون أن ترمش حتى . نظر قاسم إليها بقلق بالغ ، سأل بتوتر :
_ آسيا أنتِ سمعانا ، مش كدا ؟
ظلت صامتة تحدق في الفراغ دون إعطاء أي ردة فعل ، حتى نهش الخوف قلبهم عليها .
اضطجعت على جانبها كزهرة ذابلة من شدة الألم ، وهمست بخمول :
_ عايزة أنام ، سيبوني لوحدي .
اغمضت عينيها مستسلمةً للنوم ، وسط ذهولهم من ردة فعلها ، تبادلوا النظرات لوهلة ، قبل أن يغادر ثلاثتهم الغرفة . أغلق الجد الباب خلفه بهدوء ، و نظر إلى قاسم ، قائلاً :
_ شكرًا على تعبك معانا ، ياريت تبلغني بأي تطور في القضية
أومأ إليه قاسم ، و مد يده ليحيي السيد نجيب ، ثم أنصرف خارج المنزل ، تاركًا عقله و قلبه لديها ، يود لو أخبره أنه سيبقى هنا حتى تفيق ، و لكنه لم يجرأ على ذلك .
وصل بسيارته إلى منزل والديه ، استقبلته والدته التي هللت ببهجة لقدومه ، ابتسم ببهوت ، يجلس إلى جوارها علي الأريكة . حدقت والدته في وجهه الذي يرتسم عليه الحزن و الألم ، متسائلة بقلق :
_ مالك يا قاسم ، أنت تعبان ؟
نفى برأسه ، و تنهد بثقل شديد يجثو فوق صدره ، ثم تحدث بهدوء :
_ أنا محتاج اتكلم معاكِ كدكتورة أمل مش كأمي
رحبت السيدة أمل بالفكرة ، و اقتربت منه ، تربت علي كتفه برفق تحثه على الحديث . أعاد رأسه إلى الخلف ، ثم بدأ يسترسل لها قصته مع آسيا ، و كيف اتضح له أنه قد حقق انتقامًا وهميًا منها . انتهى من سرد كامل التفاصيل ، يختم حديثه بضيق :
_ أنا عارف اني غلطت و أن دا تهور ميجيش من ظابط ، بس ابنك السبب هو لو كان معرفنا كل حاجة عن حياته مكنش كل دا حصل
مسدت السيدة أمل علي ذراعه ، و تحدثت متسائلة :
_ طب و هي أخبارها اية دلوقتي بعد موت اختها ؟
أن بقهر ، يميل بجسده نحو الأمام ، قائلًا :
_ في دنيا تانية .. حاسس إني شايف واحدة تانية قدامي مش آسيا اللي عرفتها .. ضعفها النهاردة زود إحساسي بالذنب
ابتسمت السيدة أمل ، ثم أمسكت بيده تضغط عليها برفق ، قائلة :
_ بكرا كل حاجة هتتصلح ، أنا هروحلها و أتكلم معاها يمكن تخرج من الحالة اللي هي فيها .
تنهد بارتياح ، دنى يقبل يدها بحب ، قائلًا :
_ أنا واثق أنك هتقدري تخرجيها من حالتها دي
التفت حوله ، يبحث بعينه عن عُدي ، متسائلًا :
_ عدي فين ؟ نايم و لا اية ؟
نفت والدته ، ثم أجابته بهدوء :
_ لا عدي أخد البنت اللي كانت شغالة معانا هنا ، و راح البيت التاني بيقول أن أنت اللي قولتله
كاد أن يتحدث ، حتى وجد صوت الهاتف يصدح بجيب سترته ، أخرج الهاتف ، و أجاب بحماس حين وجد رقم صديقه عمرو :
_ أيوة يا عمور ، اية الأخبار عندك طمني ؟
ابتهج وجهه ، و اتسعت ابتسامته باغتباط ، قائلًا :
_ جايلك حالاً ، دا أنا مستني اللحظة دي من زمان .