رواية علاقات سامة الفصل السابع والعشرون
ليل غاب فيه القمر، تاركًا الأرض تعج بسواد تترجف منه القلوب الحية، وتعيث فيه قلوب الطاَّغيَّة فسادًا، ليكشف الصَّباح مَرَجهم، أفاق الجميع من رحلة الذكريات على واقع أليم حفر الوجع بقلوبهم وتركهم بين مستسلم مرحب بالمَــوت، وبين مناضل ليحوز فرصة للنجاة.
أيقظه طارق صديقه مِن بحر ذكرياته، ليترك الماضي ويهتم بالحاضر والمستقبل:
- يا مؤنس ركز معايا.
- أنا ماشي.
- مش هينفع، ولا أقول لك روح اتفاهم مع مراتك.
التفت إليه بغَضَب
- مش مراتي طلقتها، وهوثق الطلاق طلقة بائنة وأخلص.
- متأكد من الخطوة دي.
- أكتر حاجة متأكد منها.
قطع رنين هاتفه رحلة شروده بماضيه، وأوقف سيل ذكرياته، أملًا في الحصول على عمل؛ فأجاب بلهفة:
- السلام عليكم.
- وعليكم السلام، أستاذ حسن رمزي، حضرتك قدمت للعمل بقسم الحسابات المقابلة بكرة الساعة ١١ صباحًا.
- هكون موجود في المعاد إن شاء الله.
ابتسم بأمل وسعادة أخيرًا شعاع ضوء ينير سماه، يتمنى أن يحالفه الحظ هذه المرة، وألا يعود بخفي حنين.
استعادت شيماء وعيها وليتها لم تفعل! غادرت المشفى بعقل شارد، لا تعلم ما يخبئه لها الغد، تحركت بقلب مقْــتول ألــما، ذهبت لقبر جدها تشكي حالها، بكت ضعفها ووحدتها ليس لها مَن يغيثها، مر عليها الكثير من الوقت ثم عادت للبيت، والمفاجأة وجدت ابن عمتها أسامة، صوت داخلها أخبرها أنه ينتظرها، هل أخبر والدها بفعلة طليقها الفار، مئات الأفكار دارت برأسها خلال ثوانٍ معدودة، كادت تغيب عن الوعي، مع خطوتها الأولى تحدث والدها بطريقته المعهودة:
- كنتِ فين؟ نهارك أسود لو خرجتي مع خطيبك.
تنفَّست الصعداء؛ لم يصله الخبر بعد، لن يرحمها إن علم، لم تقوَ على الحديث، وامتنَّت لأسامة عندما تدخل في الحوار:
- استحالة يا خالي، وإلا كانت استأذنت منك قبلها.
- أنا هقوم أصلي وراجع، اسألها على التحاليل اللي كنت عايزها.
جلست بثقل، لا بال لها الآن لأي سؤال، تود أن تعترض وتطلب منه تركها، لكنها لا تقوى، أنتظر حتى غاب سامح؛ فتنهد وحدثها بصوت منخفض:
- أنتِ كويسة؟ مش هقول حذرتك منه، لكن هتعملي أيه في اللي جاي؟
نظرت له بتساؤل فطنه فأجابها دون سؤال:
- والد غادة كلمني كانت عايزة تطمن عليكِ، خالي لما يعرف مش هيعديها على خير، وللأسف ماما مش هتهدي الأمور أبدًا، كلمتي نادية، لازم تكون معاكِ، وأنا كمان ما تقلقيش.
ابتسمت بإحباط وانسابت دموعها، تألم من أجلها وقدر عدم قدرتها على الحديث.
- هاتي رقمها وادخلي ارتاحي، بلاش تقولي لخالي لحد ما نادية تيجي، وعرفيني عشان أكون موجود، ما اضمنش رد فعله.
ازدادت دموعها الصامتة، واستمعا لخطوات سامح عائد إليهما؛ فطلب منها دلوف غرفتها ووقف أمامها يحول بينهما، كي لا يرى والدها دموعها:
- ما تيجي تتغدى معانا النهاردة يا خالي، بدل ما تستني شيماء تعمل أكل، مش هعزم على شيماء عشان عارف ردها.
- ماشي، يلا بينا، أمك طابخة إيه النهاردة؟
جاراه أسامة بالحديث وتحركا معًا، أراد إعطائها مساحة لتنفِّس عن وجعها، أمَّا هي فظنَّت بخروج والدها ستنْـفَـجر باكية، لكنها لم تفعل؛ فطاقتها نفذت ولا حياة فيها، كأن روحها تركتها ورحلت، ترثي نفسها وافتقادها للأمان والأحباب، فأسامة آخر مَن تتوقع اهتمامه، لا أن يمد لها يد العون.
بوهن دلفت غرفتها، ثُمَّ بدَّلت ثيابها والقت بثقلها على الفراش ضمت نفسها بوضع الجنين وأغلقت عينها، لم تتعجب لعدم ملاحظة والدها لحالتها؛ فهو بالكاد يراها، تصارعت برأسها أحداث الماضي، كلمات جدها، وسيم، نادية حتى همسات زملائها عندما انتشر الخبر، شعرت بألم حاد وثقل بقلبها، الوحدة قاتلة، فمنذ وفاة جدها والوحدة رفيقتها المخلصة، ترسَّخ داخلها أن الجميع سيتركها ويرحل، لن يبقى جوارها أحد، تنتظر رحيلهم فردًا فردًا، حتى غادة بالرغم من ثقتها بها ويقينها من صدق مشاعرها إلا أنها تخَـاف رحيلها، ظلت بدوامة أفكارها، تؤلمها أكثر مما تعيش ولم يستطيع النوم اقتِــحام جفونها بسهولة.
تقلبت أحوال طيف فتارة تبكي، وأخرى تشرد وأحياناً أخرى يقْـتُـلها شوقها لابنتها، لم ترغب في طعام أو شراب، وبمنتصف اليوم استمعت لطرقات على بابها، اقتربت بخطوات ثقيلة، تملكها الرعب؛ فشهاب عزلها عن العالم لأعوام طويلة، عندما طال انتظار الطارق الذي لم يكن سوى مؤنس، قطع الصَّمت وبالكاد منع لسانه من ترديد اسمها دون ألقاب، موقن أنها لا تتذكره بالماضي ولا يريد إثارة خوفها منه:
- مدام طيف، أنا مؤنس جارك جبت لك عقد الإيجار.
أجابت دون فتح بابها، خرجت حروفها متقطعة:
- سيبه على الأرض وأنا هاخده.
- محتاجة حاجة، أرجو أنك تعتبرينا أهل.
- شكرًا.
لم تعلم ما عليها قوله؛ فآثرت الصَّمت، أما هو فمنّي نفسه بالمزيد ولم يجد سوى الإحباط، غادر مَطالبًا قلبه المتألم بالصِّمود، يشعر أن الألم سيظل رفيقه دومًا، ثم اتصل بطارق، يؤكد عليه مراعاتها إن احتاجت امرًا، وضرورة مُهاتفته أن حضر شهاب.
حاولت والدته إثنائه عن إتمام طلاق سارة، ولكنه أبى وأصر متمسكًا بقراره ولم يحد عنه بدرجة فاجأتها؛ فتركته غاضبة، مهددة بالقطيعة إن لم يرتجع، لا تدرك أنه لن يواصل حياته مع سارة، حتى لو لم يتزوج طيف.
تسربت الدقائق والساعات ثقيلة على البعض، سريعة على البعض الآخر، حل الصباح استعد حسن للمقابلة، يبتهل إلى الله ليوفقه ويرزقه القبول بالعمل، حاول الاتصال بوالده قبل الذهاب وككل مرة لا يجيب ثُمَّ يغلق الخط، طُـعَن قلبه مِن فعله، وعقله لا يعي لمَّا يعاقبه؛ هل ثقته في أخيه جريمة؟! أخطأ بعدم الرجوع إليه، بالرغم مِن امتلاكه لعذر، هو بالنهاية أخطأ ويستحق العِـقَـاب، ولكن ليس الهجر، حاول تجنب ألمه وحزنه وذهب للمشفى، وهو يدعوا طوال الطريق بالقبول.
وصل وانتظر دوره، تمت التصفية الأولى، ثم طلبوا منه الانتظار لحين إعطاء القرار الأخير، بعد فترة خرجت السكرتيرة معتذرة بلباقة، ابتسم بحزن وخرج من المكتب وجلس بالردهة المقابلة له وقد تملك الحزن منه، انحنى للأمام وسند مرفقيه على ساقه، مرَّت دقائق لم يشعر بها، انتبه على صوت يعلمه، لم يكن مدرك مدى اشتياقه له إلا حين سمعه.
- حسن! رجعت مِن السَّفر امتى؟ وقاعد كدة ليه؟ في حد تعبان؟
رنا إليها ببصره ووجدانه، هي حُب الطفولة والمراهقة الذي سجنه داخله جبْرًا، وظهر للسطح بنظرة؛ فطغى على ألامه التي تجددت بتذكر كلمات والده الرافضة للارتباط بها؛ لعدم امتلاكه المال أو عمل يؤهِّله للزواج، لما طال صمته، أحرجت وحاولت تبرير سؤالها:
- مش تطفل مني، أنا ممكن أساعدك.
- أنا آسف، متضايق شوية، كنت مقدم على وظيفة واترفضت.
- أنت استقريت هنا! طنط ما قالتش أنك رجعت.
ابتسم بحزن، فعلاقتهما شبه مقطوعة منذ أن سافر، يتصل بها فتجيب مرة وترفض أخرى:
- ماما ما تعرفش، حصلت مشاكل كدة ورجعت مضطر، ومن وقتها بدور على شغل.
- طاب هات ورقك.
- ليه؟ رفضوه خلاص.
- هات بس وتعالى معايا.
تحرك معها، فطال شعوره بالراحة الذي ذاق حلاوته منذ أن وقعت عينه عليها، فهو في أمسّ الحاجة لهذا الشعور، عاد لنفس الغرفة بصحبتها، تحدثت مع السكرتيرة بود، ثُمَّ طلبت منه الانتظار قليلًا، مرت دقائق بسيطة شعر بها كأمد طويل، ثم خرجت إليه ببسمة بشوشة صافية وطلبت منه مرافقتها لداخل المكتب، جلسوا ثُمَّ تحدث المدير بصراحة:
- أستاذ حسن رمزي، واسطة حضرتك قوية، د. نيرة تلميذتي النجيبة والحقيقة ما اقدرش أرفض لها طلب، بس في سؤال يهمني إجابته.
رمقها حسن بشكر مهديًا لها بسمة ممتنة، أومأ منتظرًا سؤاله:
- مدوَّن ملاحظة بشهادة الخبرة أنك تركت العمل فجأة وقدمت الاستقالة بعد ما نزلت إجازة، وطبعًا ملاحظة زي دي تقلق أي جهة عمل، بالرغم من سنين الخبرة والكفاءة اللي مشهود بها في الورق.
- والله يا فندم ظروف قهرية! أسباب خارجة عن إرادتي، أكيد لو حاسبها أو ناوي عليها كنت انتظرت اتقبل في شغل الأول، لكن زي ما حضرتك شايف بقالي فترة من وقت ما نزلت بدور على شغل.
- واضح أنك مش حابب توضح الأسباب، وأنا هحترم ده، لكن أتمنى تكون قد الثقة، وما تحرجش د. نيرة.
غمرته السعادة واحْــتلت قسمات وجهه وأضاءته بسمة عريضة شاكرة:
- إن شاء الله أكون عند حسن ظنكم!
- أهلًا بك في بيتك التاني، تقدر تستلم العمل مِن بكرة.
لم تختلف حالتها عنه، فبهجته طبعت بقلبها غبطة من أجله، وقفت شاكرة لأستاذها وتحركت مع حسن خارج المكتب، وأمام الباحة المقابلة للمكتب هنَّأته:
- مبارك يا حسن بقينا زملا.
- شكرًا، مش عارف أقول لك إيه!
- ولا حاجة، أنتَ مش قاعد مع طنط ليه؟ اتجوزت يا حسن؟
تعمَّق النظر بخلجاتها، يحاول التأكد من شعوره، لا يعلم أهي أمنية تجددت؟! أم رغبة تجعله يفسر ما يراه حسب هواه، أجابها وهو يشعر بالتَّخبط والتيه:
- لأ، وأنتِ؟
- ليه مش قاعد مع طنط؟ ما شوفتكش هناك خالص.
- مش بترد على مكالماتي بقالها أكتر مِن سنة، ما أنتِ عارفة طول عمري مقسوم نصين.
- شكلك تعبان يا حسن، لو حابب ممكن تتكلم معايا.
طالعها بامتنان تحدَّثت به العيون وعجز اللسان عن البوح، علت وجهه بسمة سعيدة مرتاحة، هو بأمسّ الحاجة لها، منذ الصغر نظرته لها تطيب جراحه واللهو معها يبهجه، وعندما أصبحا بسن المراهقة مجرد نظرة منها بأي لقاء عابر تداوي قلبه كالسحر، وها هو الآن بفضلها سيعود لاستقراره، هي فقط مَن شعرت بألمه في الصغر وحاليًا تود مشاركته أوجاعه، طال صمته ولم ينتبه إلا على حمرة وجهها حرجًا؛ فبادر بالحديث ليزيل عنها الحرج:
- من زمان قوي ما حدش سألني عن حالي، مِن آخر مرة سألتِني وأحنا صغيرين، فاكرة؟!
لم يزل حمرة وجهها، بل حول سببها لتصبح خجلًا مِن تلميحه، لم يدرك أنه قد أيقظ مشاعرها التي احتفظت بها كسِر حربي لا تشاركه مع أحد، وقبلها يسألها أملًا في إجابة تريحه: ألم ينسَ؟!، فهو فارس أحلامها بالطفولة والمراهقة، حتى بعد سفره، لم ترَ سواه، تقدم لها الكثير خصوصًا مع حصولها على لقب دكتورة، ولم تستطع تخيل نفسها مع أيًا منهم، قطع شرودها وصرف ذهنها عن خجلها كلماته:
- لو كنا في وقت تاني، وظروفي أحسن كنت قولت كلام مختلف، يفرحنا أحنا الاتنين، لكن النحس دائمًا ملازمني، عارفة أنا تأذيت مِن أقرب مَن ليَّا.
رغم تألمها لليأس الساكن بنبرته، إلا أن حديثه كشربة ماء بجو باحوراء ملتهب بقلب الصحراء، تساءل راجيًا:
- هشوفك الصٌّبح.
- لا، شغلي الأساسي في مستشفى عسكري، هنا في العيادة أو العمليات، فمش باجي كل يوم.
- مش بقول لك نحس.
- ما تقولش على نفسك كدة يا حسن، أكيد هنتقابل كتير، إن شاء الله.
- إن شاء الله.
بصباح يوم جديد، استيقظ حسن بهمة ونشاط، لقد طرق الحظ بابه أخيرًا، ذهب إلى عمله الذي حصل عليه أخيرًا، يدعوا الله أن يكون فاتحة خير له، وبداية لقطة حب ظنَّه مستحيل.
أما مؤنس فحاله على النقيض تمامًا، مشغول البال وقلق على طيف وما سيحدث معها، عدم تذكرها له جعله في خانة الغرباء، عاد لنقطة الصفر من جديد، يخشى إن حاول التقرب تسيء فهمه، أربكه ما توصل إليه ولم يستطع التفكير أو العمل بذهنٍ صافٍ، بين كل جملتين يسأل طارق عنها، مما جعل الآخر يخرج كل ما يزعجه دفعة واحدة:
- مش كده يا مؤنس، ارحم نفسك، طلعت مش فاكراك، ساعدتها وأجرت لها شقتك ببلاش تقريبًا، ورحت لها إمبارح وما رضتش تفتح لك الباب حتى، خلاص بقي ركز في شغلك هو اللي باقي، احنا مش بنهزر، لازم نركز، احنا مستقبل وطن فوق بقى أو على الأقل افصل بين الشغل وحياتك الشخصية، أنت على وش ترقية، مش عايزينها تتأخر تاني.
- بطمن عليها يا أخي.
- تفتكر حصل لها أيه في سواد الليل، تعالى اتعشى معانا النهاردة، واطمن بنفسك، نركز بقي ولا ايه؟!
لم تستطع الذهاب إلى عملها بعكس عادتها، لن تتحمل كلمات زملائها ونظراتهم سواء المشفقة أو الشَّامتة، سمعت بعض كلماتهم الجارحة وتدرك كيف ستترجم عقولهم ما حدث، سألها والدها عن سبب غيابها غير المعتاد منها، تحججت بشعورها ببعض التَّعب، لم يقتنع، لكنه صمت وهو ينوي أمرًا.
صُـدِم أسامة من رد نادية، حين هاتفها وقص لها ما حدث لشيماء، تلعثمت الكلمات بحلقها وتوترت ثُمَّ اعتذرت عن الحضور متعللة بظروف عملها، ستكتفي بالاطمئنان عليها بمكالمة هاتفية، لم يستوعب حالتها وردها؛ فهما بخلاف ما سمع عنها وعن قوة علاقتها بشيماء وصلابة شخصيها، وأنها لا تهاب مواجهة والدها؛ فلمَ رفضت الحضور؟!
يكاد رامي أن يجن، بعد انتشار الخبر روِجَت الأقاويل الكاذبة، والأغلبية تتهم شيماء بما ليس فيها، أتناسوا حُسن خُلقها الذي طالما مدحوه؟!! حتى صديقتها غادة لم تسلم من غيبتهم، ضَــرَب رامي كفًا على كفٍ، متعجب من طبيعة تفكير البشر.
تكاد تموت حزنًا، اشتاقت لابنتها حد الجنون، ولا تعلم ماذا سيحدث لها باللحظة التَّالية، فلولا ذلك الجار لكانت الآن بالطرقات بلا مأوى، تتساءل: هل أخطأت بفرارها من حياتها السابقة؟ صوت داخلها يؤكد أنها فعلت الصواب وقد تأخرت أعوام طويلة، وآخر يصْـرُخ فيها بما غرسه شهاب، صراع ضَرُوس نشب داخلها؛ جعلها تحدث نفسها بصوت مرتفع كأنها شخصين، تارة تدافع عن نفسها، وأخرى تهاجمها، ظلت على حالتها، حتى غلبها النوم فرأت نفس الحلم واكتمل جزء منه.
«تتحسس طريقها المظلم، مع كل خطوة يتضح الصوت أكثر فأكثر، حتى وصلت إلى باب مغلق، موصد بإحكام، حاولت فتحه عدة مرات دون نتيجة، لم تيأس وواصلت محاولاتها غير عابئة بألم كفيها، بدأ عقلها يربط الصوت بصورة شخص مِن الماضي، حاولت التركيز أكثر، إنه.. إنه الشخص الوحيد عاملها كإنسان، إنه هذا الضابط الشاب، زادت حماستها وتضاعفت لإزالة ما يحول بينهما، وكلما أقترب الصوت زادت عزيمتها، اقترن النِّداء بطرق على الباب الفاصل بينهما، ثُمَّ تحول لطرقٍ مستمر متداخلًا مع طرق حقيقي بواقعها».
اختلطت الحلم مع الواقع؛ رغم تضادهما، فبالواقع استيقظت فَـزِعَه على طرقات ورنين متتالي ومزعج، مقترنة بصرخات باسمها وسُباب توقن هوية صاحبه، تسمَّرت قدميها رافضة الحركة، لكن استمرار الصراخ الغاضب جعلها تتحرك مُسيرة برُعْب جلي.
كأنَّ الماضي يعيد نفسه، اندفع والدها إليها يكيل لها السُّبَاب، صدمتها الحقيقة ليست معرفة والدها لمكانها، بل لظهور شهاب خلفه، هوى قلبها، هي ميتة لا محالة، فقط تتمنى أن يُعجل بالموت سريعًا، تراجعت قدميها وأسود وجهها فَـزعًا، دلفا بهالةٍ سوداء قاتمة، ورماها والدها بنظرات حارقة متجَـهِّمة، بخطوة واحدة وصل إليها، لطمها بعنف، لطمة تلو الأخرى، لم يوقفه أو يمنعه تراجعها، كان أسرع منها، وقعت فريسة سهلة، تسارعت أنفاسها صعودًا وهبوطًا، لم تشفع حالتها لديه، بل زادته إصرارًا وتجبرًا.
دخل شهاب بخطًى ثابتة، ووجه بارد بلا معالم، أغلق الباب ثُمَّ جال بعينه في المكان واستقر جالسًا بموضع يمكِّنَه من كشف كل التفاصيل، وضع جانبه حقيبة متوسطة يطالعها بفخر، متأكدة مِن نصر قريب، راقب طيف التي سقطت أرضًا باكية، ووالدها منْقَض عليها يَرْكــلها ولم يتوقف لسانه عن بذئ الكلمات، التجأت لبعض قطع الأثاث لتحول بينها، لعلها تحميها مِن بطْـشِه! فسقط كل لجأت إليه محدثة جلبة صاخبة، شقت سكون المنطقة وهدوئها ولم يمنعه عنها، أحكم قبضته على خصلات شعرها يسحبها منه، وهي تحاول تخليص نفسها، تترجاه ليسمعها، تتوسل الرَّحمة، وهو أصم عن رجائها لا يسمعها، رفعها من خصلاتها يجلسها أمامه ليستجوبها، بنبرة مخيفة غاضبة تحدَّث:
- بتهربي، فاكرة مش هعرف أوصل لك؟! هتتمني الموت يا طيف ومش هتطوليه، عشان تتأكدي إن شهاب كان الجنَّة ونعيمها، انطقي وقولي كل حاجة مِن الأول، مشيتي مع مين؟ وهو اللي جاب لك الشقة دي؟
- والله ما عملت حاجة غلط! الشقة دي أجرتها، والله!
لم يقتنع، أو بالأصح يحاول إرضاء شهاب لعله يردها لعصمته! كما أن قناعته أن المرأة لابد من ترهيبها دومًا، اشتد نحيبها:
- اجرتي منين؟ لما تحبي تكذبي ألِّفي كذبة تتصدق، ولا الهانم كانت بتسرق جوزها!
- والله مش بكذب!
- جبتي الفلوس منين؟
كيف تخبره بعدم علمها لهوية مَن ترك لها المال؟! لم يكن والدها يستجوبها بلسانه فقط، بل عاثت يده تحــرق جيِـدها وتكيل لها ضَـرَبَـات موجعة، ثُمَّ بلا مقدمات وجدت نفسها تحت أقدامه، لا تعلم من أين تأتيها الضربات، تمنَّت الموت وما عادت تتحمل.
هدوء المنطقة جعل أصوات ما يحدث عندها تنتشر بوضوح، ووصلت لزوجة طارق التي تعجبت بالبداية، ثم استشعرت الخطر وتملكها القلق بتذكرها بعض ما سمعت عن جارتها الجديدة؛ فاتصلت بزوجها طارق وقصت له ما سمعت عن الأصوات التي ما زالت تدوي بالأرجاء.
قطع رنين هاتفه نقاشهما بالعمل، ولأن زوجته لا تتصل به وقت العمل إلَّا للضرورة، فأجابها مسرعًا، تبدلت حالته من الاهتمام إلى اللا مبالاة، رمق مؤنس بنظرة سريعة يستكشف فهمه لفحوى الحديث أم عدمه، حاول جعل كلماته مقتضبة وغير واضحة:
- الأصوات دي من امتي؟
- انتبهت من حوالي نص ساعة، ولسه مستمرة، فى زي صِــريخ مكْتُـوم.
انتبه مؤنس لكلماته، يتوقع أن المكالمة تخص طيف، يعلم أن طارق يود إبعاده عنها؛ لأنها تؤذيه دون أن تشعر؛ فسأله باهتمام يتأهب للذهاب إليها:
- بتكلمك عن طيف؟
لم يجبه، وواصل كلماته مع زوجته:
- ما تدخليش ولا تفتحي الباب لأي سبب، لأ، مش جاي.
أنهى المكالمة بهدوء شديد خلاف مؤنس الذي يأكله القلق:
- ما تتكلم يا طارق؟ طيف مالها؟ ما تنطق يا أخي.
- مؤنس اتكلم كويس، ما فيش حاجة يلا نكمل شغلنا، مش فاضيين.
تفرسه لوهلة، ثم تحرك ليغادر، منعه طارق متسائل:
- رايح فين؟
- أنا متأكد أنها كلمتك عن طيف، ومش هسألك عشان واضح أنك مش هتتكلم؛ فهروح على طول.
زفر طارق بضيق وتحرك خلفه، يناديه دون جدوى، وبالكاد لحقه قبل ركوب سيارته:
- طيب تعالى أوصَّلك، بلاش تسوق وأنت في الحالة دي.
- حاسب يا طارق أنا رايح يعني رايح، ما تحاولش تعطلني، لأني بجد لو حصل لها حاجة بسبب عدم اهتمامك ده ممكن أخسرك حقيقي وأنا مش عايز ده.
- مش هحاسبك على كلامك ده ومقدر حالتك، هروح معاك، مش هسيبك لوحدك.
قصت لوالدها جبرًا كل ما مرت، بداية من فقد جنينها حتى استئجارها الشَّقة، وخلال ذلك نالت منه الكثير والكثير، حتى انهكت ونفذت طاقتها، وقف الأب بتجبر وأعين مشتعلة دفعها أرضًا:
- كل ده وما عملتيش حاجة ومظلومة! شهاب كان عنده حق، لازم عقابك يكون قد غلطتك، وغلطك كبير قوي، يا شهاب، قولت معاك حاجة مناسبة لأفعالها.
رمقها بنظرة مُسْتَـحْقِرة شَـامِتة، وأومأ له مشيرًا للحقيبة جانبه، فأخذها والدها مخرجًا ما بها، صَــدماتها اليوم مُفْـجِعة، إنه السَّـوْط مُجَدَّدًا، تذكرت احتراق جَسَــدها أسفله؛ فتراجعت للخلف وزحفت أرضًا تحاول الوصول للباب، لعلها تتمكن من الفرار منهما.
بنفس الوقت وصلا للبيت، فأسرع مؤنس يأكل الدرج ليصل إليها، لن يسمح لذلك الشهاب بمواصلة أذيتها، يتمنى ألا يكون تأخر كثيرًا، صف طارق السيارة سريعًا ثم لحق بصديقه، الذي كان على بُعْد بضْع درجات حين دوت صرختها بالأرجاء بعد أن سقطت عليها الضَّـربة الأولى، اتسعت عينه بفزع وانطلق إلى باب شقتها يدفعه بكل ما أوتي مِن قوة، أفاق طارق من صدمته مع صرختها الثانية، فساعد مؤنس حتى انكسر الباب مع صرختها الثالثة قبض مؤنس على يد والدها بقبضة حديدية قوية محكمة، ورمقه بأعين يتطاير منها ألسنة الهب، وبنبرة مرعبة جعلت جسَـده يقشعر تحدَّث:
- إياك تفكر تمد ايدك عليها تاني، وهتدفع تمن اللي حصل غالي قوي.
حاول دفعه للخلف ليخفي خوفه من نبرته، لكن ما فعله جعله هو يرتد للخلف دون أن يتأثر مؤنس، فسأل بصوت مهتز وكأنه ما زال يحتفظ بقوته:
- أنت مين؟ اللي ماشية معَاه.
تعالت أنفاس مؤنس الغاضبة، تدخل طارق مهدئا للموقف:
- احنا جيرانها، اهدى خلينا نتكلم.
سيل نظرات متبادلة مميته قاتلة من مؤنس يقابلها نظرات تحاول الحفاظ على الندية من والدها، قطعها أنين طيف الخافت، فالتفت إليها مؤنس وصدم من سوء حالتها؛ فوجهها متورم، ملون بالأزرق والبنفسجي، شعر مكشوف مشعث، قُطعت ملابسها من قوة الضَّـرَبـات، حملها وأدخلها الغرفة، لم يهتم لصرَاخ والدها عليه أو غَضَب شهاب الذي لم يشعر بوجوده حتى هذه اللحظة، هم والدها للتحرك خلفهما، فمنعه طارق موقن أن مؤنس أراد سترها عن أعينهم فقط.
خرج مؤنس بزوبعة غاضبة، أراد التهامهم جميعًا، قطع كلمات طارق المهدِّئة، فكيف يهدئ والدها وهو الجاني، فصرخ فيه مهددًا:
- لو حد المفروض يتحاسب فهو أنت، ممكن أعمل لك محضر وأثبت حالتها، كونك والدها مش هيعفيك من الحساب، ولمَّا يكون الشهود رائد ومقدم ويوصوا عليك تخيل اللي ممكن يحصل لك.
- أنت بتهددني!!
- بالظبط كدة، وفكر، بس فكر، تقرب منها تاني وشوف هعمل أيه.
تحدث طارق يخفف الوضع:
- اهدى يا مؤنس، تعالوا نتكلم أحسن للكل.
- مفيش كلام بعد اللي حصل، المدام أجرت الشقة والعقد معَاها، وهو تهجم عليها، علامات التعدي واضحة، أنا وأنت شهود، يعني هيتسجن.
لم تختلف حالة شهاب عن مؤنس سوى بهالته الباردة الثابتة، رغم تضاد أسبابهما، يردد داخله: لقد وجدت مّن يُدافع عنها باستماته، شغل تفكيره أتعلم طيف هويته؟ أم أن حِدة ملامحه وشدتها التي اكتسبها مِن عمله جعلتها لا تتذكره، قطع حبل أفكاره التفاف الأنظار إليه؛ فبعدما أنهى مؤنس كلماته، رمقه والدها مستنجدًا ليعزز موقفه، وقوبل بلا مبالاة منه، لن يهتم إن حُبِس، أراده يده الضَّـاربة ليس إلَّا، تراشقت نظرات مؤنس وشهاب، امتلأت بالتحدي والندية، لم تخفَ عن طارق المتابع للموقف من بدايته، ساد الصَّمت للحظات، حتى قطع حالتهم صوت والدها مهتز برهبة:
- كنت بأدبها، عيارها فلت، وواضح أنها بتحب تمشي مع ظباط سواء زمان أو دلوقتي.
بالرغم من خوفه إلا أن لسانه ما زال يسبق تفكيره يداري بحدته هشاشته وضعفه، لم يعلم أنه زاد الأمر اشتعالًا بقوله، واخرسه كلمات مؤنس المشْتعلة:
- كلمة كمان ووالله العظيم! أكلم القسم، وهناك نشوف الظباط بيعملوا إيه؟
خرس والدها، بينما زادت حدة النظرات المتبادلة بين مؤنس وشهاب التِـهـابًا، فكلاهما يعلم أن ضابط الماضي هو نفسه ضابط الحاضر، لزم شهاب صمته لتوقعه عدم معرفة طيف، يريدها ضعيفة دون حامي أو درع يدرأ عنها السُّوء أو ربما حبيب، أما مؤنس فصمت كي لا يؤكد لوالدها ظنونه.
رحل شهاب وهو يستشيط غَضَبا، ثم حدث نفسه، مهلًا سيكتمل عذابها حين يسلبها ابنتها إلى نهاية العمر.
كاد والد طيف أن يلحق شهاب، لكن طارق طلب منه الانتظار حتى يطمئنوا على ابنته، ثُمَّ اتصل بزوجته لتبقى معها حتى يحضر الطبيب، ساد الصَّمت حتى حضر الطبيب وبعد رحيله، غادر والدها خلفه مباشرةً، قام مؤنس ببعض الاتصالات حتى وفر لطيف مَن ترعاها وتعاونها، ثُمَّ صعد مع طارق، الذي أبدى اعتراضه على كل ما حدث، وقلقه على رفيقه وصديقه، لم يكن مؤنس يستمع له من الأساس، فعقله وجوارحه مع طيفه، من أسرته منذ زمن.
،،،،،،,,