رواية عريس قيد الرفض بين الرفض والقدر الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم عفاف شريف


رواية عريس قيد الرفض بين الرفض والقدر الفصل الثاني والثلاثون  بقلم عفاف شريف 

هناك ابتساماتٌ مريرةٌ تقطرُ ألمًا،
وربما ندمًا،
كتلك التي أحيا بها،
كاذبةٌ لنفسي قبل الجميع،
أخادعُ روحي المُنهَكة أني تخطّيت،
أني بخير،
وأخبرها بكل حزمٍ أني تغيّرت،
ولم أكن كاذبة،
أو ربما كنت،
لم أعد أدري،
لم أعد أفهم.
فالخسارة تلك المرّة لم تكن قاتلة،
ما زالت حيّة،
لكن كمن دُفن حيًا ولم يمت.
نجَت،
حتى وإن لم تنجُ.
فتعلّم قلبُها كيف يتألّم دون صوت،
تبكي بقلبها،
وتضحك بوجهها،
فقد دهسوا ورودها،
ولم يتركوا لها سوى الأشواك.

❈-❈-❈
تخسر في حرب الحياة عندما تكون مغفلاً
تثق حد التغافل
تحب حتى التغاضي
وتعشق حتى الانكسار.
وفي كل الأحوال،
أنت خاسر.
افق عزيزي،
فأنت تستحق أن تحيا.
تستحق أن تحارب لتحيا.
فمن قال إن الحياة هي أن تحب؟
ليس هناك أكثر ممن خسَروا قلوبهم في حرب الحياة.
فقط لأنهم أحبوا أكثر مما يجب.
لذا القاعدة الأولى
أن تتعلم أن لا تحب
حتى تُحَبّ.

بعد مرور ثلاث أشهر

ثلاث أشهر وسبع أيام وأحد عشر ساعة،
ثلاث أشهر وسبع أيام وأحد عشر ساعة وسبع ثواني،
بل ثمانية.
بدقة أكثر سبع وتسعون يومًا واحد عشر ساعة،
وتسع ثوانٍ.
أصبحوا عشرة.
متى مرّوا وكيف مرّوا؟
لا أحد سيشعر بهم مثلها.
فللبعض تلك مدة قصيرة،
ولآخرين كانت كبيرة.
لكن لهذا المنزل تحديدًا كانت تحمل الكثير.
الكثير من الخوف،
الكثير من القلق والترقب،
والكثير من الصمت.
ولن ننسى أبدًا الكثير من العوض.
فالحياة لم تكن يوما وردية اللون،
ولا بسوادها القاتم كما يدعي البعض.
هي يوم لنا وآخر علينا.
هي أيام تسير ونسير معها كما كتب لنا.
فَتَأَدَّب في بلائك، فإنك لم تُبتلَ عبثًا،
ولا سُلبتَ شيئًا إلا ليُردَّ إليك أنقى،
أو ليُبدِّلك الله خيرًا منه.
تأدّب، فإنك في حضرة من لا يظلم،
ومن لا يُخطئ،
ومن يُدبِّر الأمر بحكمةٍ لو كشفت لك لذاب قلبك خجلًا من جزعك.
لا ترفع صوت الاعتراض، بل ارفع يديك بالدعاء،
وأخفض جناحك للرضا، وكن من الذين إذا امتحنهم البلاء،
زادهم أدبًا وحياء.

كالمعتاد منذ شهر ونصف،
أصبحت تجلس هنا معظم وقتها
في حديقة المنزل،
بعدما أصر تميم بشدة
على أن تخرج من عزلتها وقوقعته.
هيأ لها المكان ليصبح أكثر راحة وخصوصية،
بطقم أريكه كبير ومريح،
وشاشة عرض تعمل طول الوقت وإن لم تَرَ ما يُعرض أبدًا،
وأرجوحة جديدة لترفّه عنها وإن لم تمسها.

كانت تنظر أمامها بصمت قبل أن تغمض عيناها متذكرة كل شي، كل تفصله مرت منذ ذالك اليوم .

               عوده للوقت السابق 
       
فبعد إفاقتها وانهيارها التام بين أحضان تميم،
أخبرتهم بكل حزم وبعينيها نظرة جديدة،

وهي تخط بيدها كلمة النهاية: طلقني منه يا تميم،
مش عايزة أفضل على اسمه دقيقة واحدة كمان.
وتابعت بمرارة واشمئزاز وهي تمس جسدها المرتجف: "أنا قرفانة".
ولم تذكر اسمه.
حتى هذا أصبح أثقل من الجبال على لسانها قبل قلبها.
أومأ لها.

وبعدها،
صمتت ،
صمتت لسبع أيام.
قالوا: "خرس نفسي" بسبب ما تعرضت له.
وقالت هي لنفسها أنها بحاجة لترتيب أوراقها،
بحاجة للصمت.
يكفيها ثرثرة لا طائل منها.
حاولوا مرارًا وتكرارًا أن يخرجوها من تلك القوقعة،
لكنها لم تكن قادرة.
كانت بحاجة أن ترمم نفسها بنفسها.
أخبرها تميم أنها تحررت.
أنه طلقها،
وأصبحت حرة كما أرادت.
أن تبكي،
لعلها تخرج ما بقلبها،
إلا أنها لم تزرف دمعة واحدة.
وكان دموعها قد جفت كأرض قاحلة بلا ماء.

وفي تلك الأيام والليالي الطويلة،
اجتمع الجميع حولها،
وبين تناوب بينهم
أبيها،
حسام،
حتى أمير لم يغادر.
الجميع يخبرها بأسفهم،
ولكل منهم اسبابه الخاص.
لكن والوحيد الذي لم يمل من الحديث،
وقابل صمتها بقوة وإصرار على إخراجها منه،
كان تميم وهو يضمها.
يخبرها ويردد لها، مذكرًا إياها بذكريات الطفولة،
مراهقتهم،
أمهما رحمها الله ولذة طعامها التي أورثتها إياه.
وأنه مشتاق وينتظر أن تعود لتطعمه.
أن تعود بينهم.
أن تعود مشاكستهم.
وتعود لمقالبها التي لم تكن تنتهي.
وضحكاتها المزعجة،
يقولها مشاكسا.

وأخيرًا،
ما فعله لأجل أن تحيا واثقه أنه قد أخذ حقها ولم يتركه،
ولن يفعل يومًا حتى يأخذ الله أمانته.
وصوته الحنون يرددها دائمًا: أخوكي هنا.
جنبك.
مستحيل يسيبك.
مهما حصل، أنا في ضهرك.
قومي عشانا،
عشانك وعشان ولادك.
مفيش حاجة تستاهل أكثر من دول.
عيالك مستنين ترجعي،
تخديهم في حضنك.
تميم وعز وآية وإيلا.

التماع عيناها بذلك البريق،
كان يجعله يتابع بثقة أنها ستنهض من جديد.
أن الاء أقوى مما يظن الجميع.
قوية وإن سقطت،
سقوطها لا يعني هزيمتها.
سقوطها يعني نهوضها من جديد بل وأقوى.
ولسانه يتابع مرددًا:اجمدي عشانهم.
أوعي تنسي،
حقك جه.
ويرفع رأسها، ينظر إلى عينيها بحزم وحنان في آن واحد: ارفعي رأسك يا بت.
أخوكي خدلك حقك.

قبل أن يضم رأسها لصدره قائلاً بتنهيدة صادقة: وحشني صوتك يا لولو.
ارجعي نوري حياتي بصوتك ورغيّك اللي لم مكنش بيخلص

وهمس لها بصدق: أنا مكنتش متخيل أن رغيك مهم أوي كده،
ومالي حياتي.
واضح أن فعلاً في حاجات كثيرة مبنحسش بيها إلا لما بتبعد عننا أنا هنا دائما .

وكان هنا بالفعل،
ولم يتركها أبدًا.
ومع إشراق شمس اليوم الثامن،
تحدثت.
وقد اجتمع الجميع حولها.
ونطقت وصرحت بأولى حروفها،
وهي تخبرهم بما فكرت حتي قررت، مرددة بحزم وعين تلمع بقوة وإصرار غير قابل للنقاش: أنا هتنازل عن القضية.
عمّ الصمت لثوانٍ على الغرفة.
وقد ألقت قنبلتها.
متوقعة انفجارًا لها وبها،
تحديدًا والجميع يناظر بعضهم وإياها بجنون ودهشة حقيقية وعدم فهم.
إباها وقد ترك يدها بصدمة كمن صعق وعيناه  تناظرها حادة.
حسام وقد وضع كوب قهوته بجانبه يحاول أن يفهم.
وأمير وقد ترك هاتفه بصدمة.
حتى أنه أغلق في وجهه محادثة.
ما عدا هو،
كان يقف عند النافذة يوليهم ظهره كما هو،
دون أن يتحرك،
مبتسمًا بصمت.
كان يعلم،
دون أن تتكلم، كان يعلم.
ومن قد يفهم ما تفكر به الاء مثله.
إلا أن الهدوء لم يدم طويلًا.
وأمير يقف يصيح بجنون ويلوح بيده بانفعال:
إيه،
أنتي بتقولي إيه يا الاء؟
يعني إيه تتنازلي؟
بعد كل اللي عمله فيك؟
أنتي أكيد اتجننتِ!
قالها بغضب،
وقد وقف بعدها يلهث بعنف،
قبل أن يتابع بحدة مستاءً بعصبية: الاء، أنتي لسه...
ولم يكمل عبارته وصوت تميم الحازم يصدح بحزم فاق غضبه: أمير!
وتابع بقوة وهو يشير له بعينه أن يحفظ لسانه وينتبه لكلماته: افهم الأول،
وبعدين اتكلم.
وصمت،
ليكمل ببساطة مشيرًا له: اسمعها الأول.
ناظرته الاء بعين ممتنة،
قبل أن تفيق على يد والدها وهي تمس يدها مرة أخرى متسائلًا بهدوء رغم غضبه و رفضه لما نطقت به: ليه يا الاء؟
ده حقك يا بنتي،
والشخص ده لازم يتحاسب على اللي عمله فيك.
ليه تتخلي عن حقك بالطريقة دي؟
إيه السبب؟
أكيد في سبب صح يا بنتي.
قوليلي يا حبيبتي.

وتابع بحنان هو يمس خصلاتها وعيناه تناظرانها بحنان مهما حدث: أنا هسمعك،
اتكلمي يا حبيبتي.
اخفضت نظراتها عن الجميع،
وهي تفرك يدها متنهدة بصمت،
قبل أن تبدأ في البوح بما فكرت به على مدار تلك الأيام حتى أخذت قرارها: أنا مش هعمل كده عشانه يا بابا أبدًا.
صدقني، أنا ولا يفرق معايا .
عقد مدحت حاجبه يحثها على المتابعة مشددًا على يدها بدعم كامل،
لتتابع بحزم وهي تنظر نحو أمير: هعمل كده مش عشان لسه ب...
وصمتت لا تقدر حتى على نطقها،
قبل أن تتابع بضيق وعيناها تؤنباه: مش زي ما أنت فاكر يا أمير.
وعادت بعينيها نحو والدها قائلة بهدوء: أنا هعمل كده عشان ولادي يا بابا.
عشان ولادي وبس.
قالتها بتأكيد وقوة،
قبل أن تتابع بنبرة حزينة وعيناها قد بدأت في الشرود: ولادي اللي نصيبهم وذنب أمهم إنها اختارت شخص زي ده أب ليهم.
شخص لا يصلح يكون أب،
وأكملت بسخرية: لا يصلح يكون إنسان أصلاً.
بس أولادي ذنبهم إيه يا بابا؟

قالتها متسائلة وهي تناظرهم متابِعة:
ذنبهم إيه إنهم يكبروا وأبوهم رد سجون؟
لو اتسجن هو مش هيخسر لوحده أبدًا،
ولادي هيخسروا كمان،
ويمكن أكثر منه بكثير.
وأنا أضحي بالدنيا عشانهم ولو أيه كان الثمن.
عشان كده لما يجي يتكلموا معايا،
أنا مش هقول إنه رامي.
مفيش دليل عليه،
هو آه مشتبه، لكن بكلامي وبدون دليل،
مش هيستجن،
هيتحبس فترة عشان التحقيقات،
بس في النهاية هيخرج،
بس،
نقطة آخر السطر.
وصمتت قبل أن ترتسم على شفتها ابتسامة لا مبالية وهي تردد بقوة: وهي دي نهاية القصة.
وغلطة كان لازم أدفع تمنها.
قالتها وهي تشعر بيد أبيها تشد علي يدها،
وعيناه تكتم دمعة.

اقترب منها تميم، يجلس عند ساقها يناظرها بدعم كامل،
يخبرها أنه هنا،
هنا دائمًا وأبدًا،
بجانبها مهما حدث،
ومهما قررت،
هو لن يتركها.
أومأت له وإن لم يتحدث.
قبل أن يسألها حسام بحذر وعيناه عليها:
والولاد ؟
ردت بمرارة دون مواربة: مالهم الولاد يا حسام؟
كده كده هو مجرد اسم أب في الأوراق الرسمية،
وبس
غير كده مفيش.
هو مكنش في حياتهم أول،
عشان أخاف يبعد دلوقتي.
ولادي أبوهم مات،
من زمان مش من دلوقتي.
صدقني هو مكنش موجود عشان أخاف يختفي،
وجوده زي عدمه،
وياما أطفال عاشت من غير أب وهو عايش حي يرزق.
قالتها بسخرية،
عشان كده،
أنا أخدت قراري.
أنا مش عايزة أسجنه.
عيالي يستحقوا ده.
قالتها بثقة وتأكيد،
وبالفعل،
هو يستحق وإن كان لا يستحق.

❈-❈-❈
ومن تلك اللحظة بدأت الإجراءات كيفما أرادت.
وبعد عشر أيام أخرى، كانت فعليًا قد بدأت قليلاً في التعافي، وإن لم يكن بشكل كامل، إلا أنها تظل قد تخطت المرحلة الحرجة.
وبعد أن ظلت مستيقظة طوال اليوم، وقد تجهزت منذ الصباح الباكر وأعدت نفسها خصيصًا بمساعدة تميم والممرضة، بفستان يشرق ملامح وجهها، وقد ابتاعه لها تميم خصيصًا،
وبعض مستحضرات التجميل لإخفاء المتبقي من الكدمات بوجهها.
وقد مشط لها والدها خصلاتها برقة وحنان.

وأخيرًا، بعد الكثير من الانتظار، الكثير من الدعاء أن تحظى بتلك اللحظة من جديد، وقد جبر الله قلبها، وضمت الصغار بين أحضانها لأول مرة منذ الحادثة.

تميم الباكي فوق صدرها بحرص شديد، رغم آلامها، لكنها لم تقدر، لم تقدر أبدًا أن تبعده.
وهي ترى لومه العنيف على اختفائها غير المبرر، وثرثرة الصغار على كل شيء وأي شيء.
وآية وآيلا يقصان لها ما فعلا بالتفصيل.
وأخيرًا، عز العابس، عابس ويرفض الحضن، يرفض أنها لم تتواجد ليلاً، وقد رآى عو اخافه ، وأنها لم تحكي له قصة كل ليلة.

وبعد الكثير من الدلال، وهي تهمس له بدلال وحب الكثير منه: عز حبيبي تعالِ، تعالِ في حضن ماما حبيبتك.
قالتها وهي تمد ذراعها له بشوق حقيقي.
وأخيرًا، وافق،
واندس بجانبها تضمه بذراعها، يغفو مشتاقًا لها بعد الكثير من الليالي الباكية.
أخيرًا، تضم صغارها، الأهم لقلبها وروحها المنهكة.
فكان، رغم بساطة المشهد للكثير، كان آخر بالنسبة لهم.
كان مشهدًا بكت له العيون.
مشهد يستحق أن يُخلد في ذاكرتهم لسنين.

إخوتها أمير وحسام وتميم أمام الفراش كدرع حامي.
ومدحت على مقعد بجانبها بدعمه الكبير.
وصغيريها بين أحضانها،
وآية وآيلا جالسان بجانب ساقيها في أمان تام.
كانت وسط عائلتها، بينهم وبقلبهم.

وهنا كان القرار، وإن تأخر
ستكون بخير، لهم وبهم.

❈-❈-❈
بعد عدة أيام،
قد أصبحت مؤهلة للسفر والعودة إلى منزلها الحقيقي، منزل أبيها حيث الأمان.
فلا حياة لها هنا، لا لها ولا لصغارها.
غادر أمير عائدًا إلى عائلته،
تبعه حسام وحور والصغيرة شمس،
في وداع قاسي،
وداع بكت فيه بين أحضانهم حتي اكتفت لم ترد أن يذهبوا ولا أرادوا هم 
الا انهم غادروا مبتعدين عائدين لحياتهم مرة أخري ،
فقد ليكونوا بخير ولا تريد هي أكثر من هذا ،
أما ملك فهي لم تعلم حتى الآن بما حدث،
ولا تعلم حتى إن كانوا سيخبروها أم لا،
خوفًا عليها وجنينها.
وأخيرًا هي،
حيث كانت على متن أول طائرة متجهة نحو أرض البلاد،
أرض غادرتها منذ سنوات طالبة الأمان،
ولم تحصد سوى الهلاك.
أرض كانت لها وطنًا.
وحان موعد احتضانها من جديد ،
فأهلا ببداية جديدة،
اهلا يا وطني،
قالتها لنفسها و
قبل أن تشعر بيد تمس يدها بحنان تخبرها بحزم أنه هنا،
هنا دائمًا وأبدًا،
تميم،
أخاها،
سندها، وإن مالت الدنيا لا يميل.
❈-❈-❈
               عودة للوقت الحالي 

كان يقف يراقبها من بعيد،
وقد عاد من عمله ليجدها كما تركها،
يطالعها بعينٍ حزينة، لها وعليها
شرودها،
صمتها،
ذبولها وإن أنكرت،
جمود عيناها،
حالها يُحطم قلبه.
تدّعي أنها بخير،
تضحك مع الصغار، ومعهم،
وحينما تنفرد بنفسها،
تسقط كل أقنعتها،
تتجرّد منها واحدة تلو الأخرى،
حتى تُصبح هي،
هي بروحها الساكنة بصمتٍ تام.

لن ينسى أبدًا بداية وصولهم،
وتأهيل البيت وكل شيء لعلاجها،
تحديدًا مع صعوبة حركتها،
وقد أصبح يحملها في كل مكان، ولكل مكان،
ليُسهِّل انتقالها بسعادة وضحكات لطالما رافقتهم.
وكان هذا دون أن تطلب حتى،
بادر هو منذ أول لحظة،
يحملها كطفلة صغيرة من هنا لهناك،
إلى أن اضطُر في النهاية مُجبرًا، وتحديدًا بعد وقوعها في الحمام، وهرعهم نحوها وهي وحدها ليلاً،
لذلك كان يجب مُجبرًا على أن يستعين بممرضة خاصة مقيمة، تساعدها في أمورها الخاصة وان لم يفضل ذالك .

ومع ذلك، إلا أنه لم يتوقف عن حملها حتى الآن، بعد أن أصبحت بخير.
طبيًا، هي في تحسّن كبير بفضل الله،
ونفسيًا، هو لا يعلم،
لا أحد يعلم.
الجميع حولها باهتمام هادئ، دون مبالغة أبدًا،
أبيها،
والصغار حولها في ثرثرةٍ دائمة لا تسمح لها بالابتعاد كثيرًا.
أما هو،
فيجرّها جَرًّا، مُجبرًا إيّاها على التخطي،
شاءت هي أم أبت.
هو لها عصا تستند عليها،
هو لها سند، طالما في صدره نفس يتردد.

اقترب منها ببطء، يُريد أن يُفزعها بمشاكسة كالعادة،
وكانت هي  ما زالت في شرودها،
ولم تلاحظ اقترابه،
كالعادة،
حتى جلس بجانبها،
لتنتفض هي مذعورة، تنظر له متفاجئة بوجوده، متسائلة متى وصل؟ 
والآخر يرفع لها حاجبه بمشاغبة،
لتهز هي رأسها يائسة، تميم هو نفسه لن يتغيّر،
قبل أن تبتسم له بهدوء، وهو يقترب منها، مُقبّلًا رأسها في تحية هادئة حنونه،
قبل أن يرفع يده، يُلوّح بالحقيبة البلاستيكية السوداء الكبيرة أمام عيناها.
نظرت نحوه باستفهامٍ صامتٍ شاردٍ لوهلة،
متذكرة حالها من قبل، حينما كان يُفاجئها تميم بأي هدية مهما كانت بسيطة، صغيرة،
كانت مختلفة،
كانت أُخرى.
والآن بدّلتها الأيام،
أطفأت بداخلها شيءً هي نفسها عاجزة عن إصلاحه،
مهما حاولت.

إلا أنها نفضت تلك الذكريات والأفكار عن رأسها،
متابعةً ما يفعله أخيها،
بعينٍ حزينة،
مُفكّرة به هو في تلك اللحظة،
تميم، أخاها،
من ترك كل شيء لأجلها،
حتى أنه في ليالٍ طويلة نام بجوارها أرضًا،
من شدة إرهاقه وخوفه،
كان بينها وبين عمله،
في الصباح للعمل، وباقي اليوم لها ولصغارها.
لا يتركها،
لا يتركها لرأسها،
كأنه يخشى،
يخشى أن تبتعد فيندم،
يشعر بالذنب،
وتعلم،
وتحزن،
تحزن لأجل حزنه.
ولهذا، لا تُحب أن تُحزنه،
أبدًا، أبدًا.

رسمت على وجهها ابتسامة،
وهو يبتسم لها بمشاغبة، بعد أن أفرغ محتوياتها على الأريكة بسعادة وطفولية،
يُريها إياهم قطعةً قطعة.
كانت تُطالعهم بعينٍ متسعة،
قبل أن تبتسم بغير تصديق،
وهي تُقلب فيهم بدهشة،
من أين أتى بهم؟
قالتها لنفسها، وهي تتمسك بقطعة حلوى كانت تعشقها منذ سنوات،
لقد أتى بكل ما تُحب،
ولم ينسَ أي شيء،
ولا أي شيء.
أتى بكل ذكريات الطفولة،
ذكريات لن تُغادرهم، مهما مرّت السنوات،
وإن أصبحوا أجدادًا.
اتسعت ابتسامتها أكثر، رغم تلك الغصة بداخلها، وهو يُمسك بأحد قطع الحلوى، قائلًا بتفكير وهو يُشير لها:  تخيّلي جِبت الحاجات دي منين؟
أومأت برأسها مُردّدة باستغراب:  أنا فعلًا استغربت،
أنا دورت عليهم كثير قبل كده،
وكل مرة مكنتش بلاقي خالص.
 لاقيتهم فين بجد؟
أنا افتكرت إنهم بطلوا يعملوهم.

هزّ كتفيه قائلًا بابتسامةٍ مُتفاخرة:  وهو أنا أي حد يا بت؟
أنا تميم.
قالها وهو يرفع رأسه بغرورٍ مُبالغ،
ضربته على كتفه بيأس،
ليتابع هو بتأكيد:  فضلت أدور كثير، لحد ما أحمد كان بيكلّمني، وقلتله يمكن يعرف،
بس قالّي مستحيل ألاقيهم طبعًا في المناطق هنا،
ومش موجودين غير في المناطق الشعبية،
وفعلًا، أول ما رُحت، لقيتهم، وفي كل حتة.
أومأت له بابتسامة صغيرة،
وقد عاد شرودها،
وهي تُمسك حلوَاها بصمتٍ وروحٍ ابتعدت كثيرًا،
كانت مُشتتة،
خائفة،
كطفلة صغيرة دلَفت بسعادة لعالم الكبار،
سعيدة ومتحمسة له،
حتى عاجلها بصفعة من أرض الواقع، بقوة وعنف،
قبل أن تعود راكضة بسرعة، وتعثر نحو عالمها، بخوفٍ ورعب، وهي ترى بابه قد أُغلق.

فأصبحت مُعلّقة بين اثنين،
أحدهم تُريده، وآخر أصبح واقعًا لا يقبل التغيير،
وروحها تصرخ أنها تُريد أن تعود حيث كانت،
دون هموم،
دون حزن،
دون أي شيء،
فقط طفلة لا تحمل خوفًا من الغد.
لكن، لم تكن يومًا كل الأماني مُجابة،
وحان الأوان أن تتقبّل اختياراتها بنفسٍ راضية،
راضية بقضاء الله وقدره،
فمن هي لتقنط؟

كان يُناظرها بشفتين مزمومتين، مستاء،
شردت،
ابتعدت من جديد.
حسنًا يا آلاء،
قالها لنفسه، وهو يتحرك من محله بعزم على إعادتها من تلك البؤرة الملعونه،
قبل أن ينحني نحوها فجأة، حاملًا إياها بين ذراعيه بسرعة ودون تمهيد،
حتى إنها انتفضت، تُناظره بهلع، قائلة بتجلّج:
إيه ده! في إيه؟
نزّلني يا تميم، أنا همشي لوحدي،
أنا بقيت كويسة،
نزّلني بقولك،
نزّلني،
يا بااااباااااا!
بااااابا!
بااااااابا!
الحقني 

قالتها صارخه وهي تُحرّك ساقيها، تركل بهما بعنف وحنون،
إلا أنه لم يهتم، وهو يُردّد بحزم، دالفًا للداخل:
 هششش،
بس يا ماما،
بس،
مسمعش نفسك.

كانت تُناظره بغيظٍ شديد، ووجهٍ أحمر،
قبل أن تمد يدها بسرعة، تقرصه بخبثٍ وقوة من ذراعه، عقابًا له،
وقف في محله فجأة،
ينظر لها بصدمة، قائلًا بعينٍ متسعة:
 إنتي قرصتيني؟
هزّت رأسها بسرعة بنفي، وعين وقحة،
وهو يُطالعها بغيظ،
قبل أن يرفع حاجبه بمكر، مرددًا بحاجبٍ مرتفع:عايزة تنزلي؟
تحبي أنزلك؟
ها؟
قالها، وهو يُرخي يده قليلًا، كأنه سيُوقعها أرضًا،
لتتشبث به صارخة بأسفٍ طفولي، قائلة برجاء: خلاص أنا آسفة،
آسفة،
خلاص سماح.
قالتها برجاءٍ طفولي، وهي تتشبث بعنقه بقوة،
حتى سعل، يكاد يختنق،
وهو يُطلق ضحكاته الشريرة،
متابعًا حملها للداخل،
حتى التقى بوالده، وقد كان قادمًا على صوت صراخها،
إلا أنه عاد لمحلّه مُطمئنًا حينما شاهدهم معًا،
والصغار حوله في جلستهم المعتادة.

ابتسم له مدحت بامتنان،
وقد هلّل الصغار،
وتميم يُصفق بحماس لخاله،
ناظرهم تميم، غامزًا قائلًا بمشاكسة للصغار:
 ها، أرميها؟
ضحك الصغار،
وانطلقت صرخاتها، تضربه على ذراعه بقوة،
وتوعد،
وتميم الصغير قد بدأ بالزقزقة والبكاء، يُطالب بحمله هو الآخر.

ارتفعت ضحكات تميم وآلاء معًا،
للصغير الغيور،
قبل أن يقترب منه الآخر، قائلًا بحنان وحب:
إنت كمان يا تيمو، عايز خالو يشيلك زي ماما؟
أومأ الصغير بسرعةٍ وحماس،
ليُهديه الآخر ابتسامة كبيرة، حنونة، تخصّه دائمًا،
قبل أن يتحرك بها، يهبط لمستواه، وهي ما زالت بين ذراعيه،
مشيرًا لها أن تحمله، وهي بين يديه.

نظرت له لوهلة، بعين دامعة،
قبل أن يتعلق بها الصغير بسرعة، يندس بين أحضانها بأمان،
فأصبح صغيرها بين أحضانها،
وهي بين أحضان أخيها،
وأخيرًا، دون ضحكٍ ومزاح،
مالت تُقبّل وجنته بامتنان،
دون حديث، دون أي شيء.
ولم يكن هو بحاجة إليه.
إلا أنها، وفي تلك اللحظة تحديدًا،
كانت بخير،
وقد كان لها تميم في تلك اللحظة،
ركن أمانٍ في ظُلمة أيامها.

ابتسم مدحت يراقبهم بسعادة،
مُفكرًا بيقين
ابنته بخير،
وإن لم تكن،
ستكون،
بهم، ولهم.
بهم، ولهم.

❈-❈-❈
لحظة،
فقط لحظة واحدة قادرة على أن تَمَسّنا وتهمس لنا، بحزمٍ وصدقٍ في آنٍ واحد
أننا بخير،
أننا وصلنا...
حين قالوا إننا لن نصل.
وها نحن هنا.

من هم؟ ومن نحن؟
لا يهم.
فقد كنتُ على يقين وأنا أردد دائمًا
أن جبرَ الله آتٍ لا محالة،
وها أنا اليوم،
وللمرة التي لا أعلم عددها...
جُبرت.
جُبر قلبي.

وبس كده،
دي هتكون خطة المشروع القادم إن شاء الله،
واللي واثقة إنه هيكون بيكم على أكمل وجه.

قالتها بثقة ورأس شامخ، وعينٍ مبتسمة رغم خجلها وتوترها للوهلة الأولى، ولن تنسى ارتجاف جسدها، وقد اخفته بمهارة وحرص طوال الوقت.
وها هي تنهي عرضها الأول، بعد الكثير والكثير من التحضيرات والتدريبات والمحاولات التي دامت طويلًا،
ويبدو أنها قد بدأت تأتي بثمارها،
وهي تشاهد التصفيق الحار،
ليس فقط من زملائها في القسم،
بل وأيضًا من رئيسها ومدير الشركة
ياسر الفاروقي
وهو يردد بهدوء: براڤو يا بشمهندسة، براڤو.

اتسعت ابتسامتها الخجولة، وهي تتلقى مدحه بسعادة وفرحة حقيقية،
وعيناها تلمعان بفخر،
مرددة لنفسها قبل الجميع
لقد نجحت.
بفضل الله، تخطت المرحلة الأولى،
وقد كان فضل الله عليها عظيمًا.
دائما 
دائما 

❈-❈-❈

انتهى الاجتماع،
وخرج الجميع، تتبعهم هي بهدوء بعد أن حيوها ، وقد غادر كلٌّ منهم عائدًا لعمله،
قبل أن تتحرك هي أيضًا نحو مكتبهم المشترك الخاص بكل المهندسين الجدد ،
مفكرة بما وصلت إليه في تلك المدة.

ثلاثة أشهر،
قد تبدو قصيرة للبعض،
إلا أنها كانت لها مختلفة كانت طويلة طويلة للغاية بسهرها ليلا وعملها صباحا ،
حيث عملت بأقصى طاقة لديها،
ثلاثة أشهر من التدريب والعمل الشاق لتثبت نفسها لنفسها و ولهم ،
لتثبت جدارتها وقدرتها على المتابعة والوصول،
ثلاثة أشهر تبدلت فيهم هي لأخرى،
أخرى تعلّمت الكثير، وستتعلم الأكثر،
ثلاثة أشهر من مهندسة تحت التدريب،
وفقط منذ أسبوع واحد،
أصبحت رسميًا
تعمل هنا.

بشكل رسمي، أثبتت أنها تستحق.
وها هي اليوم قد وقفت تقدم أولى عروض مشروعهم الجديد،
وقد وكل إليها ياسر تلك المهمة، لما رآه منها من مثابرة تستحقها هي وبجدارة.

تحركت بهدوء حتى وقفت في انتظار المصعد،
وما إن وصل، حتى دلفت،
ولم ترَ الواقف خلفها،
وقد دلف معها،
دون أن تنتبه له من الأساس 
 من شدة إرهاقها الواضح للأعمى،
وهو لم يكن اعمي .

مست ظهرها بألم حقيقي،
ألم لا تظهره هي أبدًا،
ألم وإرهاق وتعب تخفيه بداخلها متشبثة بدرع القوة التي ترتديه.
هي قوية لكن منهكة متعبة،
فهي امرأة حامل،
في قاموس العالم أم،
وامرأة عاملة تثابر لتصل.
وكأنها قررت أن تبدأ طريقها الجديد وهي حامل،
ورغم مثابرتها،
هي بكل بساطة متعبة،
منهكة،
بين طرفين كل منهما ذا أهمية كبيرة لها،
وكان هذا ظاهرًا للأعمى ،
قبل أن تنتفض على صوته الهادئ، وهو يردد بهدوء وحزم جعلها تنتفض تضع يدها علي قلبها برعب حقيقي من وجوده :ده مش اجتهاد، ده استنزاف.
مش لازم عشان تثبتي جدارتك،
تموتي نفسك.

قالها وهو يواجه عينيها بحدة، قابلتها هي بتوتر وقد ظهر لها الرفض في صوته،
قبل أن يتابع بحزم وتأكيد: مش هقبل تقصير في الشغل أكيد،
وصمت.
صمت وترها،
قبل أن يتابع مردد بقوة وحزم وعيناه تغيم في لمحة لم تعلم أنها لم تكن تخصها من الأساس: لكن أكيد برضو مش هقبل تعرضي حياتك وحياة طفلك للخطر عشان الشغل.
شغلك أولوية،
وهو كمان أولوية.

قالها مشيرًا لطفلها قبل أن يغادر المصعد، وقد وصل للطابق الخاص به،
وهي تقف محلها، تنظر له بنظرات محرجة.

فـياسر الوحيد من يعلم بخبر حملها ورغم علمه لم يعاملها يومًا بأفضلية ولم تردها هي،
وكان قرار حازم بداخلها حينما صارحته بالأمر في بداية عملها وأخبرته أنها حامل،
وقد أرادت أن تكون صريحة وواضحة معه،
فالعمل عمل،
وإن كان لن يقبل، فليقل وينهي الأمر.

ولن تنسى أبدًا ذلك اليوم،
وذلك الحديث يومها

عودة لوقتٍ سابق

كانت تجلس أمامه بعد أن طلبت أن تراه بشكل ضروري،
إلا أنه، ورغم انشغاله، خصص لها ثلاث دقائق ليرى ماذا تريد .
وبعد دقيقتين صمت،
ردد لها ببساطة، وعيناه تتابع توترها الملحوظ:
فاضل دقيقة.

ارتفع حاجبها وهي تعي الوضع،
سمح لها بثلاث دقائق،
وكان جادًا وليس مجازًا،
لذلك التقطت أنفاسها، قبل أن تخرج ما في جعبتها مرة واحدة، وهي تخبره بصدق وإن كانت خائفة هي لا تخشى أن تخسر العمل لكن ربما تخشى أن تُردم أحلامها بسبب فقط أنها حامل وهذا ما لن يقبله الجميع، لذلك رددت بهدوء: أنا اتبلغت إني هكون معاكم إن شاء الله،
بس قبل ما أبدأ الشغل، لازم أبلغ حضرتك حاجة مهمة.

جذبت انتباهه لوهلة،
لتتابع هي بتقرير وعيناها أرضا في البداية قبل أن ترفهم مواجهه بحسم : أنا حامل.

وكان رد فعله
لا شيء.
ولا أي شيء.
فقط ناظرها بهدوء وصمت،
قبل أن ينظر للملف أمامه، موقّعًا عليه بسرعة،
وهو يمد يده لها به .

ناظرته بعدم فهم،
ليردد هو: الثلاث دقائق خلصوا.
وتابع: مبروك.

على إيه؟
قالتها بتشتت حقيقي وعدم فهم ،
ليتابع هو:على البيبي...
وصمت لوهله
قبل أن يكمل :والشغل.

ووافق.
بتلك البساطة.
بل بكل بساطة.

ويومها رأت بعينيه لمحة غريبة
لمحة لم تكن لها
كانت لشيء آخر
لم تفهمه
لم تفهمه أبدًا

عودة للوقت الحالي

ابتسمت فالبشمهندس ياسر نعم لا يعاملها بأفضلية أبدًا لكن تكن له بعض اللمحات المراعية، هو يراعي صغيرها،
قالتها وهي تمس بطنها الصغيرة التي لا تظهر من الأساس،
وأنه رغم أنها أمس قد بدأت شهرها الخامس،
إلا أنه لم يعرف أو يلاحظ أحدهم الأمر حتى الآن،
فمع بدلاتها النسائية المتحشمة،
هي لا يظهر عليها بسبب ضعفها،
ولم يظهر لها سوى بطن صغيرة في ملابسها البيتية،
ولا تصدق سارة أنها حامل من الأساس، وتخبرها ممازحة أنه انتفاخ.

فُتح باب المصعد، لتخرج سريعًا،
متوجهة نحو المكتب المشترك بينها وبين عدة مهندسين آخرين،
لتنهي باقي اعمالها سريعًا.
فهي لا تريد التأخير،
بل أصبحت تخاف أن تتأخر.

❈-❈-❈
وقف أمام واجهة معرض ملابس نسائية لطالما أحبت هي أن تبتاع منه.
كانت عيناه تدققان في المعروض، تلمعان بدقة وحنان، تبحثان عن الأرقى، الأجمل، والأغلى... لها.
ابتسم بهدوء، مفكرًا بجدية
هي تستحق.
ومن يستحق أكثر منها؟
حور تستحق كل قيم يشبهها.
قالها لنفسه بتأكيد، بل وبكل تأكيد.
وعيناه تتوقفان وتستقران أخيرًا على أحدهم، وقد لمعتا بشدة.
هذا هو.
وجده.
أخيرًا.
التمعت عيناه أكثر، وقد بدأ عقله يرسم الفستان عليها، منسدلًا برقة تناسبها.
وكان التخيل في حد ذاته...
رااااااائع.
بل وأكثر.
تحرك للداخل بهدوء وثقة، مقررًا أنه، واليوم،
اليوم سيهديها شيئًا مميزًا.
فقط لأجل عينيها.
دون مناسبة.
ولِمَ ينتظر؟
اسرعت العاملة نحوه مرددة باحترام: اتفضل يا فندم، حضرتك بتدور على حاجة معينة؟

أومأ لها ويده قد ارتفعت مشيرًا بإصبعه على قطعة بعينها كانت مثالًا للتميز، قائلاً برفق: عايز ده لو سمحتي.
أومأت له متسائلة بهدوء: لزوجة حضرتك؟
اتسعت ابتسامة قليلاً قبل أن يجيب: أيوة.
عايز مقاس...
فيه منه ألوان تانية غير اللون المعروض ده؟
أجابته بهدوء مشيرة له أن يتبعها قبل أن تسير وهو خلفها حتى صعدت للطابق الأعلى مرددة: متوافر من أربع ألوان فقط يا فندم، وهم أربع قطع فقط وأربع ألوان من الكولكشن ده، وهم أغلى وأشيك القطع في السيزون ده،

 وعموماً كل القطع المميزة بتكون في الطابق ده.
قالتها بتوضيح وهي تتحرك من أمامه قبل أن تغيب لثلاث دقائق.
وها هي تعود تدفع استند كبير يضم جواهر، وليس فساتين، كانوا ماسات.
تحرك يقترب منهم بإعجاب حقيقي، وهو يمسهم بتفحص وعيناه تلمعان.

فكان الأول والمعروض بالاسفل ذا لون أخضر زمردي ناعم، تُطرّزه خيوط حريرية بالكاد تُرى، كأن الطبيعة صاغته بأطراف أصابعها.

والثاني أزرق نيلي عميق، يخطف الأنفاس بهدوئه، يشبه السماء حين تخبئ أسرارها في آخر لحظات النهار.

الثالث عنابي مخملي، بثنيات دقيقة أشبه بأسرار مخبأة.

أما الرابع، فكان ذهبيًا كهرمانيًا متوهجًا، تتلاعب خيوطه بالضوء، يمنح من ترتديه حضورًا لا يُمكن تجاهله.

كان كل منهم ينافس الآخر من شدة جماله،

ولم يتردد لأكثر من دقيقة مرددًا بهدوء: حلوين أوي، هاخدهم كلهم لو سمحتي.
اتسعت عينا العاملة قبل أن تردد بابتسامة: بسم الله ما شاء الله تبارك الله، محظوظة بيك زوجتك يا فندم، ربنا يحفظكم لبعض يا رب.
اتفضل، أنا هجهزهم لحضرتك.
وتحرّكت سريعًا لتحضر المطلوب وقلبها يدعو: اللهم زوج مثله.
أما هو فتحرك بهدوء ينظر من الحائط الزجاجي متطلعًا للطريق أمامه، مفكرًا بتأكيد
حور تستحق،
تستحق أكثر.
هو عادة يهديها دائمًا،
فكل أيامه الهادئة بها ومعها مناسبة بحد ذاتها.
لكن تلك، تحديدًا، لأجلها، من قلبه.
فهي لم تخذله.
حور تشبثت به، بثقته بها.
ثلاثة أشهر وأكثر مروا، وها هي صامدة.
فعليًا، لا تفعل شيئًا سوا ان تكون بجانبه تدعمه تشد أذرة بعدما حدث ما حدث ،
رغم مكالمات أمها الكثيرة،
رغم توبيخها،
وقد سمعه في إحدى المرات، وقد جن جنونه وكاد أن يتدخل،
لولا تمسكه بصمته فقط لكي لا يجرح حور .
هي صامدة.
متمسكة به.
ولم ولن تخذله.
يثق.
لذلك،
لقد قرر بينه وبين نفسه قرارًا وأصدر الفرمان
طالما هي تشعر بالعجز،
تخجل أن تصارحه،
وتريد أن تمد يد العون لأهلها،
وتحيا بين جهتين، لكل منهما مكانته الخاصة،
لذلك، لن يتركها تحيا بتلك الطريقة.
سيساعدها.
سيفعلها.
لأجلها.
ولأجل ميرڤت.
فلم يرَ منها شيء.
هي، نعم، حادة الطباع، منزعجة أغلب الوقت، تحديدًا بعد انفصالها،
لكن تظل شقيقة زوجته،
أي... شقيقته.
لذا، سيحل الأمر، وإن كان بطريقة غير مباشرة.
لن يضعها في موقف محرج.
لن يشعرها بالخجل منه.
أبدًا.
لن يحدث أبدًا.
وابتسم متذكرًا،
وأنه بعد تعافي آلاء،
قد بدأ يفكر بجدية في حل لتلك المعضلة،
تحديدًا وهي بجانبه وتعتني بالصغار.
قرر حل المشكلة.
وأساس المشكلة هنا
أمها.
تريد المال لزواج ميرڤت.
حسنًا.
لن يفسد الزيجة،
ليس لأجلها، لا والله،
هي لا تعني له ولا أي شيء.
لم تعد تستحق أن  تنال منه سوى احترامٍ مُجبر هو على أن يكنّه لها.
لكنه لن يغفر لها أبدًا،
أنها هي من كانت السبب الرئيسي في حدوث الكثير من المشاكل بينه وبين حور،
ولا تتوقف أبدًا.
أبدًا.
لكن، ولأجل زوجته، سيفعلها.
لكن بطريقته هو.
هي طلبت المال من حور، في التو والحال،
وهو سيعطيه لهم... في الوقت المناسب.
مر ثلاث اشهر والزفاف بعد شهرين،
وهذا هو الوقت المناسب.
تعمد التأخر،
لم يكن ليعطيها مرادها.
لن يرضخ كما تريدهم هي.
سيفعل حينما يناسبه.
ويا ليته يقدر على أن لا يفعل.
لكن حتى هو... لن يقدر.
لن يسمح بظلم فتاة، كان ذنبها الوحيد أن تلك المرأة أمها.
لا ذنب لميرڤت،
ولا ذنب لزوجته.
ذنبها هي.
ذنبها هي فقط.
لذلك، قرر، وخلال تلك الأيام،
أنه سيبتاع عقدًا ذهبيًّا ضخمًا،
بقيمة ما تريد، وأكثر،
ليصبح هدية زواج ميرڤت.
وبتلك الطريقة، يكون قد أوصل لهم المال،
على هيئة هدية،
ولم يشعرهم بشيء.
ولن تشعر حور بشيء، هي الأخرى.
وهكذا تُحل المشكلة.
ستصمت حماته.
وترتاح زوجته.
وتتزوج ميرڤت.
فقط، ونقطة آخر السطر.
ولينتهِ هذا الأمر،
فقد أخذ أكثر مما يستحق،
بفضل امرأة،
ظنت حقها حيث لا حق لها.
❈-❈-❈
رفعتْ يديها تدقُّ على الباب،
ثلاث دقات، وتدلف سريعًا.
صوت خطوات حذائها العالي، ورائحة عطرها النفاذ تسبقها كالعادة.
تُعرِّف عن نفسها لشوكت، ولكل شخص.
مميزة هي منذ يومها الأول،
بعين ثاقبة نحو هدفها،
وابتسامة محتقرة يفهمها البعض بشكل آخر.
أغبياء،
حمقى،
ولا تهتم هي.
هي أتت لهدف، وهي تراه وتضعه صوب عيناها.
ابتسمت له بهدوء، وعيناها تناظره بجدية قبل أن تمد له يدها بالملف، قائلةً بجدية واحترافية: ده الملف اللي حضرتك طلبته للمشروع رقم ...
أنا راجعته، واتأكدت من كل البنود زي ما حضرتك طلبت.
كل تمام،
مفيش أي مشكلة،
أنا راجعته بدقة أكثر من مرة.

ورأيك؟
قالها بهدوء وهو يتفحّص الملف أمامه، مشيرًا لها بالجلوس.
جلست ببساطة، ترفع ساقًا على الأخرى، وهي تجيبه بتقرير: مشروع كبير،
هيحتاج سيولة كبيرة طبعًا،
وهتعمل شوية مشاكل للأسف،
بس من جهة تانية، هيدخل عائد ضخم،
هيغطي مصاريف الشركة ما لا يقل عن سنتين قدام ،
فأنا شايفة إنه مناسب جدًا طبعًا.

أومأ لها بصمت قبل أن يُغلق الملف،
مرجعًا ظهره للخلف، متطلعًا نحوها،
كان يظن أنه وبعملها معه ستهمل،
ستعتمد على كونها قريبته،
وتتكبّر على الجميع،
مغرورة بنفسها.
أمم...
من جهة الغرور،
فهي لم تطوّع تلك الصفة بعد،
مهما حاولت أن تبدو متواضعة،
تفشل وبشدة.
لكن من جميع الجهات الأخرى،
كانت عكس ما فكّر تمامًا.
آسيا، تلك الصغيرة،
أثبتت له وللجميع من هي.
اقتحمت الشركة منذ أول يوم،
بقوة وبشموخ،
تتعلّم وتثابر،
رغم ثقل العبء، لم تشتكِ.
كانت تعمل بجهد وقوة، رآها هو بعينه.
ثلاثة أشهر تدريب لم يقبل بأقل منهم،
وأثبتت هي أنها تستحق.
ففي النهاية، هي أرادت وحصلت.

وأصدر الفرمان أخيرًا، وهو يُخبرها، وعيناه تتابعانها:  برافو يا آسيا.
وعشان كده،
تدريبك انتهي،
من بكرة تنقلي مكتبك الجديد،
مع الموظفين.

اتسعت ابتسامتها بظفر،
وهي تناظره مفكرةً بانتصار.
ثلاثة أشهر من التعب،
ثلاثة أشهر من كل شيء مُرهِق وممكن،
ثلاثة أشهر من المجهود،
الكثير منه...
وانطفأت لمعة عينيها فجأة،
وهي تشدُّ على يدها بقوة وغيظ،
تغرز أظافرها في كفها حتى كادت أن تجرحه،
مفكرةً باحتراق.
ثلاثة أشهر لم ترَه،
لم تسأل حتى عنه،
ولم ترَ والده،
ولم تسأل عنه هو الآخر.
لم تقدر،
لم يكن وقته أبدًا،
لم تكن غبية لتفعل،
إذا فعلت، لانكشفت.
لتقترب ،
لتصل لما تريد،
يجب أن تُثبت نفسها أولًا،
ولتُثبت نفسها، يجب أن تكون أقسى على قلبها،
وتتمهّل.
تحتاج للتمهّل،
ففي التأنّي السلامة كما يُقال.
وهي، هي تسير بتمهّل،
لتصل،
لتصل له... وقلبه.
وهنا لمعت عيناها بحزم وقوة
ستحصل عليه،
وحصدت أولى خطواتها اليوم نحوه،
وأخيرًا نالتها،
إلى أن تناله،
وتنال قلبه...
تميم،
حبيب القلب.

وإن كانت ناظرت شوكت بهدوء،
فبداخلها انطلقت المفرقعات،
تكاد تقفز صارخةً
ها نحن ذا...
❈-❈-❈
وضعت صغيرتها شمس وسط ألعابها، والوسائد تحيطها بشكل تام خشية أن تقع أو تصطدم بالأرض.
وقد حظيت الصغيرة بحمام هادئ ودافئ.
جلست بجانبها تمشط خصلاتها القصيرة بحنان وحب كبير.

شمس شمسها شمسهم.

رفعت الصغيرة رأسها تنظر لأمها،
تهديها ابتسامة رقيقة تدغدغ قلبها،
قبل أن تميل هي تهديها قبلة، ردتها لها الصغيرة بحضن صغير يناسب حبها.

التمعت عيناها وهي تضمها بقوة،
تفكر بها،
بهم،
وهي تكاد تشعر بعقلها يشتت.
تنهار...

تشعر بالقلق أربعة وعشرين ساعة.
ضغط يتبعه آخر ،يتضاعف،يتراكم.....

أمها لا تكف،
لا تتوقف أبداً،
وماذا هي بفاعلة؟
ما الحل؟

الحل أن تسرق.
كم هي كلمة ثقيلة قاسية،
لكن حتى وإن كانت قاسية، هذا هو الواقع.
أتفعلها؟

بهتت ملامحها عند تلك الخاطرة،
وهي تردد بوهن: لا، لا، مستحيل...
مستحيل،
لن تفعلها،
لن تستطيع.

رددت بعيون دامعة وهي تناظر الصغيرة: أعمل إيه يا شمس؟
أعمل إيه؟
المفروض أعمل إيه؟
أنا مش عارفة أتصرف،
حاسه بالعجز،
بالوجع،
ومش لاقيه طريق.

انزلقت من عيناها دمعة،
وازاها ارتجاف جسدها وهي تحدث نفسها تكاد تصرخ: ما هي مش راضية تسكت!
هي مش راضية توقف،
وتفهم إن ده غلط،
وغلط كبير كمان!
كل شوية تكلمني،
بتقولي هتتبرى مني،
هتدعي عليا،
هتوصي ما أحضرش دفنتها،
ولا غسلها!

ليه بتعمل كده؟
ليه بتحطني في الموقف ده؟
أنا بإيدي إيه؟
بإيدي إيه يا شمس؟

قالتها بتيه وتشتت.

كيف تفعلها؟ كيف؟
وهو من يعطيها كل هذا الأمان،
كيف لها أن تطعنه بخنجر الخذلان؟

شدت من ضم الصغيرة، مفكرة
كم مرت باختبارات؟
الكثير...
لكن هذا،
كان
الأصعب،
الأقسى.

بين جحيم عشقها لزوجها،
وجحيم برها لأمها،
تحيا هي في قاع الرعب.

أفاقت من شرودها التعيس
على تهليل وتصفيق الصغيرة بحماس،
وقبل أن تفهم ما يحدث،
كانت الصغيرة تنظر أمامها بفرحة، محاولة التحرك من بين أحضانها .

أدارت رأسها سريعاً،
لتتسمر عيناها،
وهي تجده هو،
يقف يناظرهم بعين لامعة،
يحمل الكثير من الحقائب،
وقد وضعهم أرضاً في استقبال شمسه المشرقة،
وهي تحبو بسرعة وحماس نحوه بعد أن تحررت من بين ذراعيها،
تلقي بنفسها بين أحضانه ،
أباها وكل ما لها،
حيث كان وسيظل لها وطن لم ولن تعرف سواه.

ضمها بقوة، يمرمغ أنفه بها، يستنشق رائحتها النقية...
قطعة منه،
ومنها.

رفع عينيه يطالع تلك الواقفة تناظره بعين لامعة صامتة،
يفهم،
يشعر،
لذلك سيفعلها،
لأجلها هي فقط.

اقترب منها يضمها والصغيرة لقلبه،
وكم كانت بحاجة لذلك العناق،
كم باتت بحاجة إليه.

أخرجها من بين أحضانه،
يطالعها بحب وحنان،
قبل أن يرفع يده الحرة يمس وجنتها،
لتميل هي عليها بعيون لامعة،
تحب حبه،
تعشق حنانه.

أهدي وجنتيها قبلات حنونة،
واعترضت الصغيرة،
ليناظرها بعين مشاكسه،
قبل أن يرفعها، يلقيها في الهواء مرددا بمشاغبه: قلب بابا اللي وحشه!
قلب بابا اللي غيران!
وحشتي بابا...
قلب وروح بابا يا ناس،
إنت قلبي!

شوفوا بابا جاب إيه!

صفعته الصغيرة على وجهه تناظره بخصلات متناثرة بجنون وابتسامة متحمسة.

لينظر لها بعبوس قائلاً بمشاكسة: كده تضربي بابا؟
كده يا شمسي؟

ناظرته لثوانٍ،
قبل أن تعيد فعلتها، وهي تضحك بقوة،
انطلقت ضحكاته يشاركها الجنون،
قبل أن يمسك يد "حور" يشدها خلفه،
مشيراً للحقائب،

قائلاً بغرور: شوفي بقى وقوليلي بقى ذوقي حلو ولا؟

عقدت حاجبها،
وهي تميل تفتح الحقيبة الأولى،
قبل أن تتسع عيناها،
وهي تمسك بين يديها قطعة بالغة الجمال،
خطف أنفاسها.

رفعت عيناها تنظر له بعيون لامعة،
وكادت أن تحتضنه،
إلا أنه ردد بمشاكسة وضحك وهو يبتعد خطوة: لا لا استني!
إنتي هتضحكي عليا ولا إيه؟
شوفي الباقي،
عشان آخد حقي مرة واحدة!

قالها بغمزة عابثة ومشاكسة.

وبالفعل...
فستان، اثنين، ثلاثة، أربعة...
أحضر أربعة فساتين ينافس كل منهم جمال الآخر.

ولم ينسَ شمسة بالطبع وكيف ينسي 
اربع فساتين مثلها واجمل وارق 
واخيرا الحقائب الصغيرة 
حذاء رياضي رائع،
وآخر عالي الكعبين،
وأخيراً حقيبة يد مذهلة،
وبالطبع الحجاب المناسب لكل منهم.

كانت تضم الملابس بقوة وتمسك،
ولوهلة،
صمتت،
جمدت عيناها،
واختفى هو،
اختفى كل شيء،
وحل صوت أمها...
كلماتها،
طلبها،
كل شيء.

ارتجف جسدها بقوة،
وزرفت عيناها الدموع،
وظن هو أنها سعيدة متفاجئة دون أن يلاحظ شحوب ملامحها الخاطف،
وكانت هي...
كانت سعيدة بدرجة تعيسة،
تعيسة بدرجة خائفة.

ضمها بقوة، والصغيرة بينهم،
ضمها إلى صدره،
بحنان وحب وانتماء،
وأخفت هي وجهها به،
تضمّه بقوة،
بكل قوتها،
متمسكة به،
بحياتها،
وبعينيها عزيمة وإصرار تتمنى أن يدوما.

ولسانها يكاد يصرخ بأعلى صوت
انها لن تسمح بهدم حياتها،
لم تسمح ابدا ،
وستحارب لأجلهم،
لأجل نفسها .

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1