رواية عريس قيد الرفض بين الرفض والقدر الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم عفاف شريف


 رواية عريس قيد الرفض بين الرفض والقدر الفصل الثالث والثلاثون


وفي زحام الأيام، أتوقف لبرهة، أتساءل: أين أنا من كل هذا الصخب؟ أهو عالمي الذي أعيش فيه، أم أنني مجرد عابر بين صفحات كتاب يكتبه القدر؟
أحيانًا، أشعر أنني أركض خلف شيء لا أراه، أبحث عن معنى وسط ظلالٍ تراقصني ثم تختفي. أُمسك بيدي أحلامًا صغيرة، بعضها يبقى، وبعضها يذوب كندى الصباح.

لكن رغم كل شيء، هناك شيء في داخلي لا ينطفئ، شعلة خافتة تضيء الطريق حين تتلاشى الأنوار. هو الأمل، ذلك الرفيق الصامت الذي يهمس لي: "استمر، فالغد يحمل في طياته ما لا تتوقعه."

وفي النهاية، أدرك أن جمال الحياة لا يكمن في خلوها من الألم، بل في قدرتنا على رؤية النور وسط العتمة، وفي شجاعة القلب الذي يختار الحب رغم كل شيء
❈-❈-❈
كانت تهرول على السلم بسرعة لا تناسب  وضعها الحالي ابدا ، حتى كادت أن تتعثر وتنكب على وجهها.
لولا تشبُّسها بحاجز الدرج بقوة ورعب، لكانت السقطة حتمية.
وعند تلك الخاطرة همست بخفوت برعب وخوف حقيقي: بعد الشر... الحمد لله، الحمد لله.
ربنا يحفظك يا حبيبي، ربنا يحفظك.
قالتها وهي تمد يدها بسرعة تمسُّ صغيرها، تنظر له بأسف شديد واعتذار وأن لم يكن منطوقا، وصعدت المتبقي من الدرج ببطء رغم تأخرها الشديد.
وقفت أمام الباب تلتقط أنفاسها المتقطعة قبل أن تفتحه وتدلف للشقة.
وما إن خطت قدمها داخل الباب حتى قابلها هجوم سريع من أربع فروات صغيرة كادت أن توقعها أرضاً.
ابتسمت لهم بحنان وهي تغلق الباب بسرعة، وقد بدأوا في تسلقها بالفعل كالمعتاد.
نقلت عيناها حيث لوزة النائمة على الأريكة تناظرها بعيون ناعسة نصف مغمضة، كأنها تعترف لها ولنفسها بسوء حظ أمهات العالم، قبل أن تردد بسخرية واضعة حقيبتها على طاولة الطعام: أمهات نايمه متهنّيه.
وتابعت مشيرة لنفسها وهي تضحك، تخلع حذائها متأوهة بتعب : وأمهات في الهم مرمية.
نقلت عيناها للصغار، وهي تراقب الصغيرة رومي وهي تلقي بنفسها داخل الحذاء خاصتها، مندسة بداخله.
آه نعم... معلومة رقم واحد: رومي تعشق الأحذية، وسريرها المفضل حذاء عمر الرياضي ولا يجب أن يعلم .
انفلتت منها ضحكة بائسة مرددة بمشاكسة وهي تلاعب الصغيرة: يلهوي عليكي! إنتي إيه حبك في الشوزات يا بنتي إنتي؟
وتحرّكت بعدها بحرص لتنزل الصغار أرضاً، تخلع حجابها وسترتها، واضعة إياهم في مكانهم المعتاد.
نظمت البعثرة الخفيفة خلف الصغار، كرات فرو صغيرة خاصه للعب وضعتها محلها وتنظيم سريع ، وجلست لثوانٍ تلتقط أنفاسها المتعبة على الأريكة.
تشعر بالتعب... الكثير منه.
هي مرهقة بين عمل ومنزل وزوج وطفل.
حقهم جميعاً عليها أن تحارب، وهي حقاً تحارب
تحارب نفسها والظروف المحيطة بها.
التمعت عيناها وهي ترفع يدها تمسُّ صغيرها.
هي تفعل كل هذا لأجله... لأجلهم.
عمر والصغير هم أهم ما لديها، ولا أهم قبلهم.
لهذا هي صامدة لهم وبهم.

ابتسمت بخفوت، وهي تتحرك مرة أخرى تعدو للمطبخ دون حتى أن تبدل ملابسها، فرغم الإرهاق البادي على وجهها، إلا أنه لا وقت أبداً لديها، ويجب أن تعد طعام الغداء قبل وصول عمر.

وكالعادة كانت تتحرك تحضر الطعام، والصغار خلفها يلتفون حولها في دائرة لا تنقطع، ولوزة التي لحقت بها تحملهم واحداً تلو الآخر لتضعهم على سطح الرخام كما المعتاد.

حسناً، المعتاد هنا، والمعلومة رقم اثنين: أن الصغار يشاركونها كل شيء، ومن ضمن الكل شيء إعداد الطعام، وليس فعلياً، بل يجلسون بأدب يشاهدون ما تفعل، عليهم يلتقطون قطعة دجاج أو أي شيء متاح بين يديها.

كانت تراقب أدبهم الذي لا يمت لهم بصلة.
فالمعلومة رقم ثلاثة:
هي أن الأربع صغار، وتحديداً منذ تعلموا الحركة والركض هنا وهناك، وهم منطلقون في كل مكان، انطلاق جنوني، انطلاق ذهل له عمر وهو يرى أربع كرات صغيرة منتشرة في أرجاء منزله، وقد احتلته لوزة وصغارها.

انطلقت ضحكاتها متذكرة يوم حدث بينهم شجار عنيف، حينما استيقظ ليجد الصغيرة لوليتا تنام فوق رأسه، فوق رأسه فعلياً، تنام براحة غريبة، ويبدو أنها لم تشعر بالراحة سوى هناك.
فعلياً كانت على وشك أن تكتم أنفاسه، وقد استيقظ على شعور أن هناك شيء يتمطى فوق وجهه، وقد كاد زيلها أن يتدلى بفمه.
ولم تكن هي تشاغبه أو أي شيء من هذا القبيل، بل كانت لوليتا.
انتفض صارخاً يزيحها بحدة، وناظرته لوليتا بعبوس لأنه أيقظها.  «بيت مقرف!»
وتشاجر وأخبرها أنهم مزعجون، مقرفون، ويتبولون كثيراً أكثر مما يجب.
وناظرته لوزة بشر كأنها فهمت، وأصدرت أصواتاً مرعبة.
خافت هي، وصمت عمر، وأدعى أنه سيتركهم رفقاً بالحيوان، ورفقاً بها هي شخصياً.
ضحكت بيأس 

قبل أن تتحرك بحرص تحضر المقعد الجديد، مقعد خاص بالمطبخ ابتاعته منذ شهر تقريبا  لتجلس عليه، فبعد عودتها من العمل لا تقدر على الوقوف بشكل طويل، وكانت في أمسّ الحاجة إليه..
وبالفعل جلست تقطع الخضروات، والصغار بجانبها مستلقون يناظرونها كل منهم في هدوء وانتظار.

القرآن في الخلفية، شفتاها ترددان خلفه.
وبالفعل بعد نصف ساعة كان الطعام في الفرن، والأرز على الموقد.
وها هي أعدت الغداء.
مسحت وجنتها الحمراء مرددة بتعب:
يا الله،مش قدره ظهري...
قالتها وهي تمسّد ظهرها، حركت رأسها المتعب وهي تلاعب الصغار قائلة بحنان:
قلب ماما يا ناس، كلتم صح؟
هروح أشوف الأطباق.
قالتها وهي تتحرك تتفحص أطباق الأكل والماء، وعادت مرة أخرى تنظر نحوهم، تمس صغيرها وتهمس له بخفوت:
دلوقتي دورك أنت، أكل بابا جهز، ودورك انت كمان .
وبما إن نفسي في حاجة حلوة، فنعمل إيه يا صغنن؟
قالتها وهي تزم شفتاها مفكرة.
هي تشتم رائحة برتقال وليمون قوية منذ عدة أيام، وهمست لنفسها بتفكير: نعمل كيكة.
وتابعت بحماس: نعمل كيكة مكس بين نكهة البرتقال والليمون، ولا بالشوكولاتة، ولا بالفانيليا.
نعمل إيه؟ نعمل إيه؟
كمان كان في سيرب خفيف منعش دقته قبل كده في المحل بيكون رائع مع الكيك ممكن كمان نعمله هيكون لذيذ ، بس  محتاجين وصفة دقيقة عشان ينجح، أنا مش بعرف أعملها.
حسناً، هي ما زالت تتعلم، خطوة خلف أخرى وتتعلّم.
لذلك وقفت قليلا  تفكر، قبل أن تتحرك سريعاً تخرج المكونات، مقررة أنها ستعد كعكة خليط بين نكهتي البرتقال والليمون، والشوكولا والفانيليا في يوم آخر .

جلست ترتب المكونات مستمعة إلى الوصفة علي أحد مواقع الانترنت، وبعد التحضير كانت قد انتهت منها في عشر دقائق ، وألقتها في الفرن.
التفت لتنظف المطبخ المبعثر ، لتتسع عيناها وهي ترى الثلاثة صغار قد قفزوا في إناء الخليط الفارغ سوا من اشياء بسيطه جدا جدا  يلعقونها بسعادة ويتسابقون عليه .
فعلياً ينظفون الطبق.
رفعت يدها تمس فمها بصدمة وهي تردد:
Oh my God!
إيه اللي انتو بتعملوه ده؟
ده أنا لو مجوعاكم مش هعملوا كده!
نقلت عيناها للوزة كأنها تسألها العون من صغارها، لتناظرها الأخرى بصمت قبل أن تغادر المطبخ بملل.
وأسرعت هي تخرجهم من الطبق، وقد انتهوا وجلسوا في الطبق يلعقون بعضهم وقد أصبحوا قطط ملطخه بعجين الكيك.
تمتمت بصدق وهي تخرجهم موبخة إياهم:
ده غلط، مينفعش ناكل العجين، غلط عليكم.
وتابعت بحزم تنظر لصغير يبادلها النظر هو ببراءة وعين تلمع : ينفع اللي عملتوه ده؟
دلوقتي طبعا لازم تاخدوا شاور، وتشربوا ماء، الله يسامحكم!
قالتها بقلق حقيقي عليهم وهي تحملهم بين يديها متوجهة بهم للحمام لتنظفهم.
وبعد عشر دقائق، كانت تجلس ولوزة بجانبها على طرف حوض الاستحمام، والصغار في كومة صغيرة من الماء تنظفهم واحداً تلو الآخر، تجفف وتضع أرضاً ويركض للخارج.
وهكذا انتهت من الثلاثة، فرومي لم تكن معهم.
مؤدبه رومي.
وانتهى المشهد بوصول  عمر، يقف ينظر لها بابتسامة صغيرة، وهو يراها بهذا الشكل، مرهقة، متعبة، ومبللة.
اقتربت منه تهديه قبلة صغيرة،  قبل أن تسرع  من أمامه لتحصل على حمام هادي وسريع، فرغم كل شيء، حقه أن يراها كما تعود دائماً، جميلة، حتى وإن كانت متعبة.
وحقها عليه أن يراها جميلة حتى وإن كانت متعبة.

❈-❈-❈
التاسعة مساءً،
ووجبة غداء متأخرة قليلاً بفضل مدحت.
اجتمعوا كالعادة على طاولة الطعام.
وقت مقدس،
وقتهم معًا.

وقد أشرف أبيها اليوم على إعداد تلك الطاولة العامرة،
وجلس متفاخرًا يناظرهم بغرور،
وتميم يردد بدهشة وعيناه تتطلعان نحو الأطباق أمامه، وقد علم الآن سبب التأخّر:
حمام محشي،
ورق عنب بالكوارع،
رقاق،
وملوخية،
ودقّق بعيناه متابعًا بابتسامة مرحة: ستربس، وبطاطس، وكلوسلو؟
إيه جاب ده جنب ده بجد؟
قالها بتهكّم مشيراً إلي الطعام ،
وتابع بضحك 
أي علاقة زيد بعبيد يا مدحت؟

هز مدحت كتفيه بالاستسلام، وهو يشير نحو الصغيرتين آية وأيلا، وتحديدًا الأخيرة، والتي أشارت إلى الكوارع بتقزّز، قائلة برفض، وتميم يخبرها أن تتذوّق: لا لا!
ياكّي يا تيمو!"

ضحك تميم،
فهو لهم تيمو،
وليس خالو.

وحدجتها آلاء بحزم قبل أن تقول بهدوء وجدية: حبيبتي يا ايلو، عادي طبعًا يكون في أكل مش مناسب لينا ولذوقنا ،
بس مينفعش أبدًا أبدًا نقول ياكّي على نعمة ربنا أبدًا.
أوك؟

أومأت لها الصغيرة بطاعة شديدة، وهي تتناول البطاطس بهدوء، قائلة بتأكيد:
أوك، مامي.

أهدتها قبلة،
قبل أن تلتفت لأبيها متسائلة باستغراب هي الأُخرى: بس فعلًا يا بابا، ليه كل الأكل ده؟
هو حد جاي ولا إيه؟

هزّ رأسه نافيًا،
قبل أن يمدّ يده يربّت على يدها بحنان، قائلًا بهدوء، وعيناه تتابعان ذبول عينيها وإن حاولت أن تُخفي ولا تنجح:
مش قلتيلي من أسبوع وإحنا مشغّلين قناة الطبخ إنك بقالك كتير ما كلتيش الأكل ده؟
قلت النهاردة أعمله عشان عيونك الحلوين.

ابتسمت له بامتنان حقيقي،
وهي تشدّ على يده بقوة،
قبل أن يبدأوا في تناول الطعام.

مدحت على رأس الطاولة،
على يمينه تميم، وبجانبه أيلا،
وهي في الجهة الأُخرى، وبجانبها آية.

عزّ على ساقها، يرفض الجلوس على مقعد،
ويتدلل عليها،
وهي لا ترفض أبدًا،
تضمه، تطعمه، وتقبّله.

والصغير تميم، وكالعادة، يُطبق على أنفاس خاله.

حرّكت يدها تطعم عزّ وتضع ل آية وايلا الطعام ،قبل أن تسأل تميم الصغير بهدوء:
تعالى أكلك أنا يا تيمو،
وسيّب خالو يعرف ياكل.

قطّب تميم حاجبيه برفض تام،
وقبل أن يردّ،
كان الصغير يهزّ رأسه نافيًا، متشبثًا بخاله بقوة،
في رفض تام للابتعاد عنه.

أهداه تميم قبلة عميقة، قائلًا بحب: حبيب خالو!
في إيه يا آلاء؟ هو مانعني آكل يعني؟
سيبيه معايا،
ما بقيتش بعرف آكل من غيره.
صح يا تيمو؟ مش إنت بتحب تاكل مع خالو حبيبك؟

هزّ الصغير رأسه مؤكدًا،
لتضحك هي، قبل أن تشرد عيناها نحوهم،
وهي ترى الصغير يشير له علي الورق عنب.

أومأ له تميم، وهو يلتقط إصبعًا صغيرًا يدسّه في فمه بعد أن تأكد من حرارته،
هزّ الصغير رأسه مستحسنًا الطعام،
وتميم يتابع إطعامه حتى يشبع الصغير،
غافلًا عن نفسه،
هو فقط يطعمه، ويرى ماذا يريد،
وليأكل هو بعد أن ينتهي.

غامت عيناها في بحر من الأفكار المتشابكة،
تتسال في سرها عن معني وجود تميم في حياتهم
تميم،
أخاها،
أباها الثاني،
وصديقها الوفي ،
ورفيق أيامها الصعبة.

لمعت عيناها أكثر،
وهي تشدّد من ضمّ الصغير،
مفكّرة أنه والآن،
حتى صغارها ينالونه مثلها،
ينالوا حنانه بسخاء، دون كلل أو ملل،
فهو لم يعد خالهم فقط،
بل أصبح لهم أب أيضا ،
أب غائب فحلّ محلّه بأبهى صورة،
بأعظم صورة.

فكان لهم أبًا وأخًا وصديقًا،
 ووطنًا يضمّهم بكل حب.

رفع رأسه ليلتقط نظارتها،
كان يعلم بما تفكر،
يعلم ويشعر،
لكن هي نفسها لا تفهم ما يمثّله هؤلاء الصغار له.

إن كان هو لهم ركن الأمان،
فهم له تلك الشعلة التي أضاءت عتمة،
عتمة وظلمة حلّت برحيل قطعة السكر.
غابت ورحلت بعيدًا،
أبعد من أن تطالها يدُه من جديد،
أميرة الأحلام،
وقد تُوّجت لغيره،
وبكل قسوة،
خسرها،
وحلّ الظلام.

❈-❈-❈
صمتٌ وسكون،
وهدوء يتخلله حفيف رياحٍ هادئة،
صفاءُ السماء،
وبريق ناعم لنجمة تزينها كضوءٍ لعتمتها،
وقمر متخف لم يكتمل بعد،
وكوبانِ من الشاي الساخن، يطفو أعلاهما أوراقُ النعناعِ الخضراء، تملأ المكان برائحةٍ توقظ شيئًا ناعمًا في القلب،
توقظ ذكرياتٍ نُقشت على قلوبهم منذ الصغر،
وأخيرًا، ها هم في جلسةٍ دافئة، مطمئنة، وساكنة بعد نوم الصغار،
جلسة قرر هو أن يمنحها إياها كفاصلٍ صغيرٍ للاسترخاء وتفريغِ ما بداخلها،
وإن غصّت الكلمات،
فحينها لا بأس من بعض البكاء،
لكن على صدره،
بين أحضانه،
هو هنا،
أخاها،
سندٌ بعد الله لها.
رفعت ساقها تضمّها لصدرها، قبل أن تسند ذقنها عليها بصمت،
صمتٌ كان هو لا يريدها أن تحاوط نفسها به،
لذا حرّك الأرجوحة قليلًا،
وهو يمدّ لها يده بكوب الشاي بالنعناع الخاص بها،
وما إن فتح فمه حتى ينطق،
حتى تسمر وهو يسمعها تهمس بخفوتٍ شديد:
 أنا عايزة أشتغل يا تميم.
وصمتت لثوانٍ،
قبل أن تمسد يدها بشرود، متابعةً بتقريرٍ تُبلغه ونفسها قبلا، وعيناها ما زالت تُطالع الفراغ:
أنا قررت أشتغل يا تميم.
صمتٌ وسكن،
قبل أن يُطرق رأسه للحظات، يأخذ نفسًا عميقًا، كأنه يحاول تجميع وتمهيد ما سينطق به،
ففعليًا هو سيسير على زجاجٍ مُحطم في هذا الحدث.
وبالفعل، اعتدل في جلسته،
وضع كوب الشاي على الطاولة الصغيرة أمامه،
قبل أن يمد يده، يُمسك بذقنها، لتُقابل عيناها الجامدة عيناه الحانية،
كادت أن تخفض عيناها لمحةً منها لإنهاء نقاشٍ لم يبدأ بعد،
إلا أنه لم ولن يسمح لها،
شدّد على ذقنها، وعيناه تخترق عيناها، قبل أن يتمتم بتساؤل: ليه؟
ليه عايزة تشتغلي يا آلاء؟
قابلت سؤاله بالصمت،
وصمت هو، لا يعلم ما يقول،
عقله في تلك اللحظة بدأ يُفكر دون توقف،
خائف،
ببساطة، خائف، بل مرتعب عليها من تلك الخطوة الآن تحديدًا،
ربما في وقتٍ آخر لكان أول المشجعين لها لتحقيق أحلامها،
أحلامٍ اندثرت بين التراب في وقتٍ مضى،
لكن الآن،
هو يخاف، يخاف أن يكون العمل خطوةً جديدة ضدها، وليست لها.
زفر بضيق،
قبل أن يفتح فمه متابعًا، بضيقٍ اجتاح صدره فجأة: ليه الشغل يا آلاء؟
في حاجة ناقصاكي؟ إنتِ أو الولاد؟
في حاجة طلبتيها واتأخرت فيها؟
أو في حاجة إنتِ محتاجاها ومكسوفة تطلبي؟
قالها وقد بدأ عقله في البحث عن الأمر،
وقد كاد أن يُتابع حديثه، لولا يدها التي ربتت على يده قائلة بهدوء:  قبل ما دماغك تروح وتيجي يا تميم،
وتفكيرك يروح إن سبب طلبي أو قراري تقصيرك في حقي أو حق الولاد،
أحب أقولك إنك غلطان.
وتنهّدت متابعة بابتسامةٍ صغيرة، مشددةً على يده بقوة وتأكيد:  إنت يا تميم عمرك ما قصرت معانا،
لا زمان ولا دلوقتي،
طلباتي كانت بتكون عندي قبل حتى ما أفكر فيها،
والولاد بيجيلهم أكثر بكتير من احتياجهم،
من كل الجهات،
وأنا نفسي كنت بقولك إنه كتير أوي،
إنت عمرك ما قصرت في حاجة،
بالعكس، إنت دايمًا موجود، دايمًا بتفكر فيا وفي الولاد،
مش ده السبب أبدًا، صدقني.
عقد حاجبه، ينظر لها بعدم فهم، قائلًا بهدوءٍ وعدم فهم: طيب... ليه يا آلاء؟
طالما مش ده السبب،
وماديًا إنتِ مش محتاجة أبدًا،
يعني بغض النظر إني مستحيل أسمحلك تصرفي ولا جنيه في أي حاجة،
بس حسابك كل أول شهر بيتحول عليه تلقائي نصيبك بتاع كل شهر زي ما بابا متعود معانا.
وصمت،
صمت لا يدري ما يقول،
قبل أن يُتابع مرةً أخرى بقلق: آلاء، 
إنتِ لسه يدوب بتخفي وبتقومي من أول وجديد،
يعني لسه بنقول يا هادي،
ويدوب بدأتي تكوني كويسة،
ليه؟
ليه تنزلي تشتغلي وإنتِ مش محتاجة ده يا حبيبتي؟
وكمان ما تنسيش، ولادك لسه صغيرين ومحتاجين ليكي.
أنا طبعًا مش بقولك احبسي نفسك عشان تربيهم،
إنتِ عارفة إن مش ده قصدي،
حقك تخرجي وتشتغلي وتشوفي الحياة من منظور تاني،
بس قصدي تعدّي المرحلة دي، وبعدين نفكر في الموضوع ده.
كان يتحدث ويتحدث بأي حججٍ تأتي في عقله،
هو لا يريد عملها،
ليس لأنه ذلك الشخص الجاهل ،
لكن آلاء،
آلاء في تلك المرحلة كزجاجٍ مهشّم، جُمِع ولُصِق ببعضه البعض بحرصٍ شديد،
أي هفوةٍ هواء،
قد تنثره ببساطة،
تنثره متحطمًا حطامًا لا رجعة فيه،
ولن تُداوى بعدها.
نعم، آلاء لم تكن يومًا ضعيفة،
لكن بعض التجارب تترك ندوبًا لا تُشفى أبدًا ندوب تحطم الروح ،
وما مرّت به، أحدها.
يراها هشّة في تلك الفترة،
فكيف يسمح لها بالعمل في وضعٍ كهذا؟
كانت تُقابل حديثه بصمتٍ هادئ،
وعيونٍ ساكنةٍ متفهمة،
تعلم أنه خائف، بل يكاد يكون مرتعب،
كأبٍ يخشى أن تنسلّ صغيرته من بين أحضانه.
هكذا يراها تميم،
وهي تُقدّر،
تتفهم خوفه،
ولن تُنكر، أبدًا، هي أيضًا خائفة،
خائفة من خطوةٍ تأجلت مرارًا وتكرارًا،
خطوة فكّرت بها ألف مرة،
وكل مرة تكون النتيجة عقدة من التردد، الخوف، والقلق.
لكن بداخلها امرأة تحتاج لذلك،
امرأة بحاجة لأن تكون قوية،
أن ترى نفسها بعينها أقوى وأشجع
من أن تظل متخفية بين جدران هذا البيت،
هاربة من نفسها،
والعالم أجمع.
لذا زمّت شفتيها، ملتقطة أنفاسها، قبل أن تهمس بثقة،
 بثقة، وعيناها تُؤكد ما بداخلها وإياه :  أنا عارفة إنك خايف،
وأنا كمان، صدقني،
إنت فاكر إن الخطوة دي سهلة؟
لأ، أبدًا،
الخطوة صعبة أوي،
صعبة عليا اوي كام...
أوي يا تميم،
بس أنا محتاجة.
محتاجة أخرج من القوقعة التي حبست فيها نفسي سنين.
في البداية عشان الجواز ومع أول طفل،
الباب الذي كان موارب اتقفل،
طفل ورا الثاني،
والاء بتضيع ومبقتش لاقياها يا تميم،
مبقتش لاقيه غير  الزوجة والأم،
بس الاء،
بدون القاب،
مبقتش موجودة.

قالتها بحزن شديد وقد بدأ جسدها في الارتجاف،
إلا أنها لم تتوقف، بل تابعت بمرارة ساخرة هامسة بخفوت: لما كنت بتكلم مع حد في موضوع الشغل،
كان بيتقلي كلام قاسي أوي يا تميم،
كلام يوجع
عيالك أولى،
بيتك أولى،
انتي أم جاحدة،
إزاي تفكري تسيبيهم وتخرجي تشتغلي؟
محدش هيربي عيالك زيك،
هتقصري في حقهم،
هتندمي لما تضيعي عمرك في الشغل،
على إيه؟ مش مستاهلة،
في حد يسيب الراحة ويروح لوجع القلب
وكلام كثير لمجرد فضفضة خرجت مني.
يمكن من وجهة نظرهم هم صح،
بس أنا كنت بترعب فعلاً أكون أم مقصرة،
أظلم ولادي عشان أكون أنا سعيدة.

قالتها بعين حزينة غائمة،
إلا أنها تابعت بنبرة مؤكدة بالم: بس اكتشفت أني كنت غبية،
كنت أكبر غبية،
حياتي، قراراتي مش لازم ليها فضفضة،
محدش بيشيل شيلة حد،
لو أنا خرجت أو لا،
أنا اللي هشيل المسؤولية كاملة،
حلوة كانت أو وحشة.
بس كنت أضعف إني أخد خطوة مرعبة ليا كام أوي كده.

صمتت مرة أخرى،
وتنهد تميم يطالعها بقلب يتألم لألمها،
لا ينطق،
يفهم،
يعلم،
ويعرف،
لكن خائف،
يخاف بشدة،
ورغم خوفه،
نحى كل شيء جانبًا في تلك اللحظة،
وصمت،
تاركًا إياها لتتحدث،
لتخرج كل ما بداخلها.

وبالفعل تابعت هي بنبرة بعيدة كأنها تتذكر شيئًا ما: بس كنت كل ما أقعد مع نفسي،
أسأل،
إزاي الإنسان يقدر يدي سعادة للناس وهو نفسه مش سعيد؟
إزاي يدي أمل وطاقة وهو مش كده؟
أنا كان عندي أحلام كثير  أوي يا تميم،
أحلام أدفنت واحدة ورا التانية لما اتجوزت،
وكنت اقول بيتي وولادي،
بس اكتشفت إني ظلمت نفسي وظلمتهم كمان.

انحنت عيناه بألم شديد،
ألم يحرقه،
يحرق أحشائه،
وهي تتابع وقد بدأت أظافرها تخرمش يدها دون وعي منها أو منه: طلبت منه في وقت اشتغل،
ووقتها حسسني قد إيه أنا وحشة أوي،
وإن أنا مش بس أم وحشة ومقصرة،
لا أنا أنانية ومبفكرش غير في نفسي.

وأطلقت ضحكة خافتة تقطر ألمًا،
متابعة بتعجب وعيناها تناظره وتتساءل بضيق: طيب وإيه المشكلة إن الإنسان يفكر في نفسه شوية يا تميم؟
هل الست حياتها بتقف بعد الجواز والخلفة؟
يعني خلاص لازم نفكر في الولاد وبس؟
هكون كذابة لو قلت إنهم مش أهم حاجة عندي في الدنيا،
لأنهم الأهم،
مفيش أهم قبلهم،
دول قطعة مني،
إزاي هظلمهم؟
بس أنا لو تعيسة هم كمان هيعيشوا تعسة،
هعيش معاهم حاسة إني مش أنا،
إني مجبرة على حاجة أنا مش عايزها،
كان ممكن أجرب ولما أحس إني هقصر مني لنفسي أقرر أوقف شغل،
لأني مش هسمح لنفسي أظلمهم حتى لو الثمن حريتي، رغبتي، أحلامي،
بس حتى التجربة كانت أمر غير قابل للنقاش،
لأني ببساطة أم،
أم تضحي،
وتسكت،
وتتنازل.

وطبعًا لو حد سمعني هيديني كلمتين في جنابي،
إن غيري ستات شقيانة بيتمنوا يقعدوا في بيوتهم وسط عيالهم.
نفسي بس حد يفهم أن ربنا خلقنا مختلفين،
وإننا مش لازم نكون شبه بعض،
في ستات زوجات وأمهات بتشتغل وحياتها رائعة،
وفي ناس برضه بتشتغل ومقصرة جدًا مع ولادها،
في ست تقدر وست لا،
ست هتعرف إن خروجها ليه مقابل،
ثمن غالي بتدفعه،
وثمن غالي بتاخده،
يعني واحد + واحد = اتنين،
مش ثلاثة أبدًا.

أنا مش عايزة أشتغل عشان الاحتياج المادي يا تميم،
مش عشان الفلوس،
ولا عشان محتاجة،
وغيري يتمنى يتوفر ده كله عنده ويقعد معزز مكرم،
أنا عندي الحمد لله،
وعارفة ومتأكدة إنكم كده كده مش هتسمحولي أشارك بأي حاجة،
بس أنا عايزة أحاول،
أعافر،
عايزة أقوم من جديد،
وأحس إن حياتي ما وقفتش لأي سبب كان،
من نفسي لو قصرت هرجع،
في النهاية مفيش أهم من ولادي،
وهرجع وأقولك حتى أنا مش أهم منهم يا تميم.

يمكن ده غباء للبعض،
بس مشاعر الأمومة متناقضة مع مشاعر الست اللي عايزة تحارب عشان نفسها، روحها، كينتها، واسمها.
أنا مش عايزة أسيب نفسي لدماغي،
مش عايزة أبص لورا،
عايزة أبص لقدام.
يمكن كلامي متلغبط مش مترتب وعلي بعضه 
بس لاني حاسه اني مشوشة،
وصدقني، أنا ما خدتش قراري غير لما كنت متأكدة إن الولاد هيكونوا بخير هنا،
هنا معاكم ووسطكم.
أنا وولادي بخير ومش هيحصل تقصير ابدا من غيابي أن شاء الله،
ولو حصل هقعد بدون اي تردد هرجع لعيالي  وبس يا تميم ،
مفيس اهم منهم ابدااا،
بس في حاجة بتقولي أن كل حاجة هتكون بخير ،
بيكم يا تميم إحنا بقينا بخير وفي أمان.

قالتها بعيون دامعة ويده تشدد على يديها،
قبل أن تهمس أخيرًا بانهاك: أنا طول عمري عشت بحلم،
وأحلامي دي أدفنت وسط التراب.

قالتها بخذلان وألم،
وصمت،
وهو يحجدها بجمود،
راغبًا في تخليصها من هذا الألم،
يود وكم يتمنى لو يستطع.

رفعت عيناها نحوه تناظره بعين تغلفها دموع أبَت أن تغادرها: تظن مش من حقي؟
تظن أنا أنانية؟
أني عايزة أتحرر،
أنا عايزة أطير يا تميم.

زفر بقوة،
قبل أن يجذبها فجأة نحو صدره،
ضامًا إياها،
مؤكدًا لها بصدق:لا يا الاء،
أنتي مش أنانية،
يا بخت ولادك بيكي،
لو ماما الله يرحمها كانت عايشة كانت،
هتكون فخورة بيكي،
كانت هتقولك طيري يا الاء،
اخرجي وطيري،
مفتاح حياتك معاك،
وأنا في ظهرك،
عشان كده...

قالها وهو يخرجها من بين أحضانه،
متابعًا بتأكيد:أنا في ظهرك.

ابتسمت له ابتسامة كبيرة رغم لمحة الحزن  بعيناها،
وصمتت وصمت هو،
إلا أنه اضطر أن يتابع أخيرًا،
قائلًا بحرص وحذر رغم علمه وخوفه من القادم: اختاري تشتغلي عندي ولا عند بابا؟

والإجابة كانت كما توقع تماما ،
وهي ترفع عيناها تناظره بحزم وقوة وقرار غير قابل للرجوع أبدًا مهما حاولوا:
بس أنا مش هشغل لا عندك ولا عند بابا يا تميم،
أنا هشتغل في أي مكان تاني،
مش مهم فين،
بس مش هينفع عندكم،
أنا عمري ما هتقدم خطوة واحدة،
ولا هنزل أرض الواقع طول ما أنا معاكم.

فتح فمه لينفي تلك التهمة عنهم،
رغم أنه يعلم بداخله أنها صحيحة،
أما هي فتابعت بثقة وابتسامة مؤكدة:
أنا وأنت عارفين إنها الحقيقة،
لا إنت ولا بابا عمركم ما هتعملوني زي أي موظف،
وأنا مش عايزة كده،
أنا عايزة أكون ست عادية جدًا بتشتغل،
أكيد أنا مش هسمح إن شخص يعاملني وحش،
طالما بعمل شغلي تمام،
أنا مش منتظرة غير توفيق ربنا،
عشان كده،
أنا مش هشتغل معاكم يا تميم،
أنا هخرج برة الدائرة دي،
لو سمحتم احترموا ووافقوا يا تميم،
ده قراري،
لو سمحتم.

قالتها بعين راجية،
ضمها لصدره مرة أخرى بصمت ودون رد،
مفكرًا بظهور المعضلة الجديدة،
وهي إيجاد عمل لها،
بعيدًا عنه وعن أبيه،
لكن أيضًا تحت جناحيه،
بأمان.

والسؤال الأكثر أهمية وصعوبة في تلك اللحظة،
هو أين ستعمل الاء؟
أين يا تميم؟

قالها لنفسه بتفكير وقد بدأ عقله في العمل من الجديد.
والإجابة تلك المرة 
كانت في غاية الصعوبة
حيث لا توجد إجابة من الأساس 
❈-❈-❈
تحرّكت بهدوء، بين يديها فنجان قهوة مُرّ، دون سكر أو أي إضافات،
وهي تراقب الفتيات يقمن بتجهيز طاولة الطعام بسرعةٍ ونشاط،
فقد أوشكت آسيا على الوصول من الشركة.
هاتفتها منذ ساعة تُخبرها أنها على وشك المغادرة،
وها هي قد أمرت بإعداد الطاولة،
حيث قد أصبح موعد الطعام غير محدد،
كل يوم بموعد مختلف ومتأخِّر.
ورغم حفاظها لسنوات طويلة على تلك المواعيد والعادات،
تغيّرت،
بل بدقةٍ أكبر تغيّر كل شيء.

همهمت بجمود، وملامح متخشّبة، تطلب منهم الانصراف: جهّزوا باقي الأطباق،
والعصير،
والباقي يطلع يخلّص تنظيف الدور اللي فوق،
وبعدين تقدروا تروحوا تناموا،
 اتفصلوا، يلا.

أومأ لها الجميع باحترام، مغادرين سريعًا بصمت،
وقد ارتفع حاجب أحدهم بسخرية،
متمتمة لزميلتها: اللي يشوفها دلوقتي،
ما يشوفهاش زمان، والصرخة منها تقطّع الخلف!
ضحكتا كلتاهما،
قبل أن تُسرعا في المغادرة بخوفٍ ورعبٍ حقيقي،
خوفًا من إيقاظ وحش صفية القديم.

أما هي، فما إن غادروا،
حتى وضعت الفنجان الفارغ بلا مبالاة على الطاولة،
قبل أن تُلقي بنفسها على المقعد بإهمالٍ شديد،
إهمالٍ لم يكن يومًا لديها.
هي أصبحت كما لم تُصبح يومًا،
أصبحت مختلفة،
جامدة،
صامتة،
ووحيدة.

وعند تلك الخاطرة شعرت بثقلٍ غريبٍ يجثم على صدرها،
صفعةٌ قوية لقلبها وروحها
وحيدة.
كم أصبحت كلمة قاسية شديدة الألم.
وحيدة؟
منذ متى؟
منذ متى وضعت نفسها في هذا الوضع؟
منذ متى كانت وحيدة؟
منذ امتنعت وابتعدت عن الجميع دون أي اهتمام ولا مبالاة؟
متى آخر مرة خرجت وذهبت للنادي،
أو أحد الجمعيات والاجتماعات كما المعتاد؟
متى آخر مرة فعلت أي شيء مما اعتادت فعله؟

أغمضت عينيها، تضغط على رأسها بقوة.
لا تتذكّر.
منذ الكثير،
بدأت في الابتعاد،
الرفض متحجّجةً بحجج واهية،
الانزواء بكل هدوء.
ولا تعلم السبب،
ولا تعلم متى،
أو... تعلم.
منذ تزوجت فريدة.
أو حتى قبلها.
غادرت،
وغادر معها شيء لم تفهمه إلى الآن.
ورغم إنكارها، وغضبها، ونقمها عليها،
إلا أن قلبها الخائن يحنّ إليها في بعض الأوقات،
يُطالع صورها بصمت،
وتقف بالدقائق تنظر لغرفتها،
متذكرةً طيفًا قديمًا ابتعد كثيرًا.
في لحظات اشتياق تأتي لتغلبها،
لحظات خائنة تمقتها.
كيف تشتاق لمن خذلتها ووضعت رأسها في التراب؟
فريدة حطّمت كل أحلامها وآمالها بها،
حطّمت كل ما خططت له هي على مدار تلك السنوات،
حطّمت كل شيء.

ارتعش جسدها،
ولمعت عيناها بدمعٍ لعين،
دمع خائن لا تريده،
قبل أن ترفع يدها المرتجفة تمسح وجهها بعنف.
لا تقبل،
لا تقبل أبدًا بتلك الدموع،
إلا أنها لم تقدر على منعها.
كانت عيناها تبكي،
تتحدّاها دموعها أن تقدر على منعها من التحرّر.

شهقة باكية،
أفاقتها من انهيارها،
قبل أن تنتفض تنظر حولها في هلع.
كيف سمحت لنفسها أن تنهار بتلك الطريقة،
وقد يراها أحدهم؟
كيف لها أن تسمح بضعفها؟
حرّكت قدميها الثقيلة،
متجهة نحو غرفة المكتب المغلقة.
دلفت وأغلقت الباب خلفها،
قبل أن تتحرك تجلس على الأريكة بصمت،
وعيناها تلمع في ظلام الغرفة،
وعقلها لا يكفّ عن التفكير.

فريدة خذلتها.
تحرّرت من بين يديها،
وذهبت.
غادرت ببساطة،
دون أن تلتفت خلفها.
ببساطة خرجت عن المسار الخاص بها،
فخسرتها.
لكن لماذا تتألم؟
لماذا تشعر بتلك المشاعر الغريبة؟
لماذا تدمع عيناها حينما تتذكرها،
وهي جالسة وحدها وبمفردها، كمعظم الوقت؟
هل هي الوحدة؟
أم ماذا؟
أصبحت تشعر بالخواء،
وكأن كل شيء ينسلّ من بين يديها.

فريدة،
شوكت،
والآن آسيا.
جميعهم.
فريدة قد تزوجت ورحلت.
لم ترها منذ أشهر، ولم تسمع صوتها حتى.
لم تهاتفها، كأنها نسيتها.
ولن تفعلها هي.
لن تخضع لها،
مهما حدث.
ستعود نادمة،
ستعلم أنها أخطأت، تثق في هذا.
سيخذلها ذلك ال عمر،
ستأتي باكيةً نادمة.

ورغم ثقتها،
هناك غصّة لا تفهم سببها،
غصّة تُحاوطها وهي وحدها،
تخنقها،
وتجثم على صدرها،
تُخبرها أن هناك شيئًا خاطئًا.
لا تفهم،
ولم تحاول أن تفهم.
استسلمت لما يحدث،
كما اعتادت دائمًا.

لكن، لم تكن فريدة وحدها السبب فيما تمرّ به.
بل حتى آسيا تخيفها.
هوسها بتميم أصبح غريبًا،
هوسٌ خفت لثلاثة أشهر،
خفت ولم ينتهِ.
لم تكن بغبية لتظن أنه انتهى،
كانت تعلم السبب،
تعلم سبب صمتها وانتظارها،
فصمتت،
ليس لشيء سوى أنها لا تقدر على الحديث،
لم تعد قادرة على شيء من الأساس.

وأخيرًا شوكت.
الحاضر الغائب.
متى آخر مرة جلسوا سويًا؟
متى آخر مرة تحدثوا؟
متى آخر مرة فعلوا أي شيء من الأساس؟
لا تتذكر.
حقًا لا تتذكر.
مرّ الكثير.
شوكت ابتعد عنها،
ابتعد بطريقة غريبة،
دون حديث،
دون أي شيء، فقط... ابتعد.
عمل، عمل، عمل، والكثير من العمل.
الكثير من السفر،
الكثير من الاجتماعات،
والكثير من التأخر والانشغال.
والإجابة دائمًا العمل.
وكأنه تزوّج العمل.
يحضر وهي نائمة، ويغادر وهي نائمة،
وهكذا كل يوم.

قلّة قليلة ما أن يجتمعوا سويًا على طاولة الطعام،
طاولة تُعدّ يوميًا،
وحضوره أمر غير محدد.
هو ابتعد،
وهي لا تفهم،
لكن قلبها،
روحها تُخبرها أن هناك شيئًا،
شيء لا تعرفه،
لا تعرفه أو تحاول ألّا تعرف.
لا تدري هي نفسها، فهي لم تعد تفهم نفسها.
شيء بداخلها يُخبرها بسوءٍ قادم،
شكٌّ يزداد يومًا بعد يوم،
شكٌّ كأشواك تُدسّ بقلبها يومًا بعد آخر.
لا هي قادرة على إخراجها،
ولا هي قادرة على إيقافها،
وأيضًا... لا تتحرك.
هي تخشى، بل ترتعب أن تنبش به،
خوفًا من مواجهة شيء يُحطّمها.

ولأول مرة منذ سنواتٍ عديدة،
تحيا تلك المشاعر القاتلة.
تحيا خائفة،
تتنفّس رعبًا،
وتُحاوطها الكوابيس دون رحمة.

وعند تلك الخاطرة،
ارتعش جسدها بشدة،
وانطفأ لمع عينيها،
وكأن قلبها يعلم القادم،
يعلم ما سيحيا،
يعلم أن القادم...
ليس انطفاء،
القادم
احتراق.
وستكون هي أول الضحايا.
❈-❈-❈
دلفت آسيا للمنزل، تُحرِّك كتفها بتعب، وإرهاقٌ بادٍ على وجهها من ضغط العمل،
قبل أن تقابلها صفية، وهي تنظر لها متسائلة بخفوت، وحدة لم تلاحظها آسيا:  إنتي جيتي لوحدِك؟
أومال فين شوكت؟

اقتربت آسيا منها، تُقبّلها بابتسامة، قائلة بهدوء وهي تتخطّاها: قالي أروح أنا،
عشان وراه اجتماع مهم،
وقال منستنهوش على العشاء،
لإنه احتمال كبير يتأخّر.

وتابعت حديثها، وقد بدأت في صعود السلم بالفعل: أنا هروح أنام يا صافي،
مش قادرة أفتح عيني من كتر التعب والضغط.

وتابعت بأسف، وهي تلتفت برأسها تنظر لها، مرددة بإرهاق واعتذار: Sorry،
بس مش هقدر آكل معاكي، مش قادرة خالص،
هاكل لما أصحى، ok؟
تصبحي على خير يا صافي...

واختفى صوتها،
باختفائها.

وظلت صفية كما هي،
متجمّدة محلّها،
تنظر إلى اللا شيء،
فقط... جامدة.

قبل أن تتحرك من محلها، تمسك هاتفها، ترفعه إلى أذنها، تهاتفه: مرة، اثنين، تلاتة...
لا يرد.
إلا أنها لم تتوقّف،
بل تابعت بإصرار حازم،
وفي نهاية الرنين الرابع،
أتى صوته هاتفًا بحزم وضيق، ظاهرَين بكل وضوح: أيوة يا صفية،
في إيه؟
طالما رنيتي مرة ومردّتش، يبقى مشغول،
أنا مش بحب الإصرار،
وإنتِ عارفة ده كويس،
في إيه؟

جمُدت عيناها،
وتجاهلت حدّته وتوبيخه، قبل أن تتساءل بهمس خافت: إنت فين يا شوكت؟

عمّ الصمت لدقيقة،
قبل أن يردّ عليها بلا مبالاة: ما أنا قلت لآسيا... ورايا اجتماع،
واحتمال أتأخّر،
متستنينيش،
نامي إنتِ.

وأغلق،
دون أن يسمع ردّها،
أو يسمح لها بالحديث،
دون أن يسمح بأي شيء،
فقط... أغلق بلا مبالاة،
كأنها... ولا شيء،
ولا أي شيء.

وفي تلك اللحظة،
انفلتت من عينيها دمعة خائنة،
دمعة تُخبرها أنها تستحق.
❈-❈-❈
تَمدَّدَت على الأريكة، تضمُّ الصغار المشاغبين بين أحضانها:
لوليتا،
بندق،
سكر،
رومي...
أربع سكاكر،
أربع مصائب على قول عمر.
كان الصغار يعشقونها،
ويعشقون جلسة نهاية اليوم مثل أمهم.

نقلت فريدة عينيها نحو لوزة النائمة على الوسادة الكبيرة بهدوء وسكينة،
تناظرها بعين ناعسة مطمئنة،
قبل أن تلتقط عيناها اقتراب عمر،
يحمل كوبين من العصير لها وله،
بعد أن صرحت له بإرهاقها الشديد اليوم،
وعدم قدرتها على فعل أي شيء، ولو "الحكّ في راسها"،
فقرَّر هو أن يتولى تلك المهمة اليوم.

ابتسمت له وهو يتخذ مكانه،
لتتخذ هي بعدها مكانها المعتاد
هي بين أحضانه،
والصغار بين أحضانها.

وطال صمتهم كما المعتاد مؤخرًا،
صمت هادئ،
سوى من ثرثرة بسيطة تنتهي سريعًا،
أسرع مما تود وتريد هي،
ولا تدري أبدًا سبب هذا الصمت.
ربما إرهاقهم،
ربما خبر حملها المفاجئ صنع بينهم فجوة...
لا تفهم،
ولم تفهم.

فعمر أصبح أبعد،
صامت،
هادئ،
بعيد...

وكالعادة، كانت تبادر هي بالسؤال،
ويقابل هو كل أسئلتها بإجابة واحدة فقط
أنه بخير، وما به فقط من ضغط العمل.

وهي لا تدري،
هل هو فعلًا؟
أم أن هناك شيئًا آخر،
شيء لا يريد البوح به؟

حرَّكت يدها تمسّ صغيرها بحنان،
قبل أن تشعر بيده تمسّ يدها،
حيث صغيرهم.

ابتسمت بصمت،
هو يتقبله،
هي تعلم،
حتى وإن لم يُبدِ الحماس الذي كانت تنتظره،
لكنها، رغم كل شيء،
تُقَدِّر ما يمرُّ به.

تنهيدة ثقيلة،
تبعها همسه الخافت لها بآخر ما قد تودُّ سماعه في تلك اللحظة، وهو يسألها برفق ويداه ما زالتا تمسدان يدها بحنان وشرود:  فريدة، مش ناوية تقولي لباباكي ومامتك على الحمل؟

أغمضت عينيها، متنهدة مرة أخرى،
ولم ترد،
ليس لرغبتها بذلك،
بل لأنها لا تمتلك الإجابة.

إجابة سؤال تردد في رأسها على مدار الشهور السابقة،
والإجابة أنه لا توجد إجابة،
فقط تفكير،
الكثير منه،
والكثير من الخوف.

نعم، تخاف،
تخاف أن تبوح،
وتخاف أن تظل صامتة.
وفي الحالتين، هي خائفة،
مرتبكة من ردّ فعلهم.

وللصدق، تخيلته مرارًا وتكرارًا،
لكن الواقع دائمًا يظل مختلفًا،
مختلفًا ومرهقًا.

تستيقظ كل يوم،
وبداخلها رهبة من هذا اليوم،
تخشى أن تتألم أكثر مما تألمت،
وهي لا تريد هذا.
تريد أن تحيا أيامها بهدوء وسكون،
وتلك الصفات لا تناسب عائلتها أبدًا،
لا تناسبهم أبدًا، للأسف الشديد.

كانت عيناه تراقبها،
التماع عينيها بدمعٍ حزين،
وارتجاف لطالما رافق كل ما يخص والديها.
يعلم ما يدور في رأسها،
هو نفسه يخشى عليها،
نعم، هي زوجته،
لكن أيضًا ستظل ابنتهم.
ويعلم أنها تريد أن تخبرهم،
أن تشاركهم،
لكن يظل الخوف منهم أقوى من رغبتها.

لكن أيضًا، حقهم عليها أن يعلموا بمثل هذا الخبر،
فهو نفسه قد أخبر عمته منذ أول يوم.

وعند تلك الخاطرة،
غامت عيناها بجمود وشرود.
عمته، والتي رغم ردّ فعلها الغريب والفاتر،
والمنافي تمامًا لطلبها اللحوح في فحص فريدة والاطمئنان عليها وعلى تأخر الحمل،
ورغم كل هذا، كان ردّ فعلها مختلفًا عمّا توقّع.
تلقى منها صمتًا دام دقيقة،
تبعه تنهيدة لم تغفلها أذنه،
ومباركة هادئة وغريبة لم يتوقّعها.
وبرّرتها هي أنها متعبة،
وصدّق،
وإن كان بداخله لم يصدق، أو حتى أن يفهم.
لكن وفعليًّا، لم يكن في رأسه محل للتفكير والتحليل،
فما به يكفيه.

أفاق من شروده،
وعيناه تناظر فريدة بهدوء،
قبل أن يتابع بتأكيد وإصرار: لازم يعرفوا يا فريدة.
الموضوع مش هيستخبى.
إنتِ في الخامس.
يعني أربع شهور إن شاء الله وتولدي.
مينفعش أبدًا ميعرفوش لحد دلوقتي.
ضروري، بجد ضروري تبلغيهم.

وتابع بحنان ورفق، ويده تُشَدِّد على يدها كثيرًا: تحبي نروح سوا نبلغهم؟

هزّت رأسها نافية بسرعة وقوة،
وهي ترد برفض قاطع: لا،
لا يا عمر،
لا...

وارتجفت شفتاها، وعيناها تشرد بعيدًا، متابعة بوهنٍ وإرهاقٍ شديد: مش هينفع يا عمر،
مش هينفع مواجهة زي دي تاني أبدًا.

كفاية أوي اللي حصل يوم كتب الكتاب.
أنا مش هسمح لده يتكرر.

مش هسمح لحد يجرح مشاعرك بالطريقة دي،
ولا إنه يتهمك الاتهامات دي.
خليك بعيد إنت،
أنا كفيلة بيهم،
وكمان أنا مش عايزاك تتوجع.

قالتها بخفوتٍ هامس،
هي حقًا تخشى عليه،
لا تريد أن تُعرّضه لهذا الألم مجددًا.

تلك الاتهامات الباطلة،
والنظرات الحارقة...
تقتل.

ومن مثلها  يفهم هذا الشعور،
لذلك، فليبقَ بعيدًا،
ولتتحمّل هي.

مسح على خصلاتها برقة وحنان، متابعًا بهدوء: أنا عارف إن الموضوع صعب،
حاسس بيكي يا حبيبتي.

وتابع مبررًا موضّحًا:  بس في حاجات مبتستخباش يا فريدة.
لازم تتقال.
خبر زي ده لازم يكونوا أول ناس يعرفوا.
أنا مقدّر سبب تأجيلك للموضوع،
بس أظن الوقت المناسب اللي إنتِ مستنياه،
مش هييجي أبدًا بالطريقة دي.
وفي الأول والآخر...
دول أهلك يا ديده،
ولازم يعرفوا.
خدي الخطوة، وسيبيها على الله.

وتابع هامسًا لها بأمل: مش يمكن الخلاف اللي بينكم يتحل لما يعرفوا إن هيجلهم حفيد؟

انقشعت الغمامة عن عينيها،
حينما أتت سيرة صغيرها،
لتضحك مرددة بمشاغبة، وعيناها تلمع بحنان كبير:  أو حفيدة!

أرجع رأسه للخلف، ضاحكًا بقوة،
وهو يُحرّك رأسه يأسًا،
فحتى تلك اللحظة، لم يعلموا نوع الجنين.
أصرت فريدة أنها لا تريد أن تعلم،
هي لا تهتم، كان صبيًّا أو فتاة،
فقط ليأتِ بخير،
ولا يهم أي شيء آخر.

تنهدت برقة،
قبل أن تسأله بخفوتٍ ودلال،
سؤال يتكرر مرارًا وتكرارًا:  ولد ولا بنت يا عمر؟
نفسك في إيه؟

والإجابة، كالعادة،
قبلة على الجبين، وهمس دافئ مؤكدًا:
 كل اللي يجيبه ربنا كويس يا ديده.
مش مهم نوعه إيه،
المهم إنتِ وهو تكونوا بخير وبس.

وإن كان صادقًا،
لكن، وفي تلك اللحظة،
كان متوترًا،
وبداخله قلق غريب يجتاحه منذ الصباح بطريقة غريبة.

وإن كان لا يعلم،
أن قلقه في محلّه.

وقبل أن يفتح فمه مصرّحًا لها بما يجول في خاطره،
صدح هاتفه برنين مفاجئ،
رنين انتفض على أثره كلاهما،
فالوقت قد قارب منتصف الليل.
رنين...
كان بداية لليلة،
ليلة لم يظن أحدهم أبدًا أنها ستنتهي بتلك الطريقة.
ليلة ستقلب كل شي .
❈-❈-❈
صفّ سيارته بهدوء أمام إحدى البنايات، بأحد المناطق السكنيّة الراقية الجديدة، ليخرج منها بعدها بهدوء، دالفًا إلى البناية أمامه بهدوء وثقة، بعد أن حيّاه الحارس بحرارة شديدة.

قابلها هو بنظرات صامتة متعالية، قبل أن يستقلّ المصعد صاعدًا حيث الشقة المنشودة.

طابق، اثنان، ثلاثة...
وفي الطابق الخامس، حيث وجهته المعتادة، خرج وأخرج من جيبه المفتاح.
نظر له لثوانٍ، قبل أن يضعه في الباب ويفتحه، دالفًا للشقة بعدها.

وقف لوهلة ينظر لها بصمت، وشبح ابتسامة صغيرة جامدة، قبل أن يتحرك بهدوء جالسًا على الأريكة أمامه، واضعًا ساقًا فوق أُخرى بلا مبالاة فعلية.
ثوانٍ، وظهرت هي أمامه بخطوات بطيئة مرتبكة، بثوبها الطويل للغاية ووجهها الطفولي المتوتر.
ارتفعت عيناه يطالعها.
كانت...
صغيرة،
صغيرة وجميلة، ولن يُنكر.
هشّة، قد يحطمها بقبضة يده.
ارتجف جسدها وهي تلاحظ نظراته، بعينين تنبضان خوفًا وارتباكًا معتادًا،
ارتباك لا يُغادرها أبدًا.
اقتربت منه بحذر، بعد أن رفع إصبعه مشيرًا لها آمرًا بالاقتراب والجلوس.
وبالفعل، تحرّكت صاغرة، قبل أن تجلس وعيناها تراقبه بحذر شديد.
وهنا تجمّدت عيناها وهي تراقب نظراته البرّاقة اللامعة بزهو،
ولم تكن جديدة عليها، بل معتادة،
فهي لم تكن نحوها أو لها،
بل حيث انحدرت عيناه ببريق منتصر نحو بطنها المسطحة.
رفعت يدها المرتجفة تمسّ بطنها بسرعة وخوف وقلب ينبض بسرعة،
وعيناها تنظران نحوه بملامح شاحبة قلقة.
وهنا، اتسعت ابتسامته أكثر، بظفر وانتصار غريب وقاتم،
يطالع بطنها المسطحة الفارغة للجميع ما عدا سواه.
فمنذ شهرين فقط، تأكّد هو من الخبر،
وها هي تجلس أمامه، تحمل بين أضلعها...
وريثًا.
وريث قرر هو الحصول عليه، وإن تأخّر كثيرًا.
صبي، ويثق، وإن لم يتأكّد بعد،
لكن يثق هو بنفسه.
وقريبًا جدًا،
سيمنحه كل شيء،
سيمنحه كل ما يملك،
سيمنحه اسمه.
أبٌ سيحيا متفاخرًا به.
وأمٌ كان يجب أن تأتي به منذ الكثير، وفشلت،
فكان جزاؤها وعقابها ما نصّه هو لها.

ارتفعت عيناه نحوها، هي تلك المرّة، يطالعها بجمود.
فالصفقة كانت: زواجٌ بغرض الإنجاب،
رَحمٌ يحتضن وريثه.

وفي الأوراق الرسمية
الأب شوكت،
والأم صفية،
وإن لم تكن أمه،
سيجعلها هو كذلك،
شاءت أم أبت.
هو اتخذ قراره، وقُضي الأمر.

❈-❈-❈
رنينٌ لم يدم طويلًا،
وبعدها حدث كل شيء في ثوانٍ معدودة.
قطب حاجبيه، وقد ردد لها بحيرةٍ واستغرابٍ أنها عمته، وقد كان عندها اليوم.
وقبل أن تسأله بخفوت لما لم يخبرها بذهابه لها؟
حدث ما حدث دفعةً واحدة:
إجابة الهاتف،
اتساعُ عيناه وجحوظها،
شحوبُ ملامحه،
وارتجافُ جسده بشدة،
وانتفاضةٌ بعدها بهلعٍ ورعبٍ شديد، وهو يصيح بجنونٍ انتفض الجميع علي اثرة وعيناه تنبضان خوفًا وتوترًا:
ـ إيه؟!
إزاي حصل ده؟!
اقفل! أنا جاي،
جاي حالًا!

قالها وهو يتحرك بسرعة، متعثرًا في المقاعد،
حتى كاد أن يسقط أرضًا،
إلا أنه لم يهتم، بل تابع راكضًا، مغادرًا الشقة برعبٍ وهلعٍ كان واضحًا للأعمى.
فركض كما هو،
دون حتى أن يبدل ملابسه أو يرتدي حذاء،
بل سارع بالركض كما هو، بالخف المنزلي،
دون أن يسمعها أو أن يرد على أيٍّ من تساؤلاتها القلقة،
وانطلق بملامحَ مرتعبةٍ شاحبة،
كمن يلاحقه أحدهم،
وهي خلفه، تنظر نحوه برعبٍ وجسدٍ مرتجف،
لا تفهم شيئًا،
لا تفهم شيئًا أبدًا.
ابتلعت ريقها برعب،
قبل أن ترفع يدها، تمس قلبها النابض بعنف،
وجسدها المرتجف بشدة،
وحدسها يخبرها بسوءٍ شديد قد حدث.
كل ما فهمته أنها عمته،
وهذا في حد ذاته مقلقٌ وبشدة.
هذا في حد ذاته مخيف.

❈-❈-❈
ثلاث ساعات
ثلاث ساعات من القلق والرعب،
ثلاث ساعات انهالت عليه بالاتصالات المرتعبة والقلقة،
لكن لا رد،
دون أي رد،
فقط رنين طويل مقيت ينتهي دون رد.
حتى هي لا تعرف ماذا تفعل حتى،
ولا كيف تتصرف.
لوهة فكرت أن تلحق به،
لكن الوقت قد تخطى منتصف الليل،
وقد أوشك أذان الفجر أن يعلو.
كيف لها أن تتحرك في مثل هذا الوقت وفي وضعها هذا؟
دوار عنيف هاجمها فجأة، وقد بردت حبات العرق على رقبتها،
والأفكار لا تترك رأسها أبدًا،
لتجلس بعدها بحرص على الأريكة،
تمسح وجهها الشاحب المرتعب،
وعيناها قد بدأتا بالبكاء من شدة رعبها 
كبحر ثائر من الدموع 
خوف أن يكون حدث ما هو أسوأ.
رأسها لا يكف عن التخيل،
والتخيل قاتل.
مسحت دموعها بإرهاق شديد،
قبل أن تنتفض مرة أخرى،
لكن تلك المرة،
على طرقات ودق عنيف على باب الشقة،
جعلها تندفع بسرعة تضع الرداء عليها ،
وهي تفتح الباب بسرعة ولهفة دون مراعاة أن تسأل من الطارق حتى، بكل غباء، وفي مثل هذا الوقت.
وكانت الصدمة من نصيبها أقوى تلك المرة،
وهي تقابل وجه سلمي الملطخ بسواد كسواد الرماد،
وملابسها البيتية المتسخة، وقد أُلقي حجاب صغير فوق رأسها.
طالعتها بذهول وفم مفتوح بصدمة،
وقبل أن تفهم أي شيء،
كان صوت الأخرى يصيح بها بعصبية وغضب، مردده بحدة، وهي تدفعها للخلف: ابعدي إيه انتي اتعميتي؟
ارتدت للخلف بصدمه وهي تتشبث بالمقعد خوفًا من أن تقع،
قبل أن تزيح نفسها بسرعة وهي لا تفهم شيء،
متابعة دخول سلمي الغاضب.
تبعها اتساع عيناها أكثر  ،
وهي ترى ظهور عمر وحارس البناية،
وكل منهما يحمل مقعدًا من جهة،
مقعد تجلس بداخله عمته الواهنة بتعب بادي عليها.
تسمرت محلها بجسد مرتجف وهي لا تفهم شيء،
قبل أن ترفع يدها بسرعة تمس صغيرها بتوتر،
كأنها تستجدي منه العون أو الفهم.
وقد استقرت عيناها على عمة عمر الجالسة بوهن،
وقد غادر الحارس بسرعة،
وهي كما هي محلها،
متجمدة، كأنها فقدت القدرة على التحرك أو الاستيعاب.
همهمات وهمسات لم تفهم منها أي شيء،
مع اتساع طفيف في عيناها وهي ترى تحرك سلمي السريع نحو مطبخها،
ترمقها بحدة ونظرات غاضبة مشتعلة،
وفي ثوانٍ،
وجدت نفسها تُسحب بواسطة يده،
وعيناه في عينها،
وفمه المطبق يرتجف،
كأنه يخشى أن يفصح عما بداخله،
كان يراقب ملامحها بعيني متوترة،
وعقله يفكر بطريقة إخبارها بتلك المصيبة،
ولم تكن هناك طرق.
فقد أطرق رأسه لثوانٍ،
قبل أن يرفعها ويناظرها بعين جامدة،
مرددًا بأسى وقهر وتقرير، وقد غشت عيناه الحزن والتعب كمن سكب فوق ملامحه عمرًا كعمره، وبصوت ضعيف همس لها بخفوت:
البيت وقع يا فريدة.
بيت عمتي وقع.
اتسعت عيناها تشهق بهلع ورعب، كاتمة شهقتها بيدها الأخرى بسرعة،
وقل أن تنطق بحرف واحد.
كان هو يباغتها متابعًا بحزم وبتقرير لا جدال فيه: عمتي وسلمي هيعيشوا معانا يا فريدة.
وهنا كانت الصدمة،
باثنين،
كانت كارثة.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1